فتمكن اليأس، وعظم البأس، وسقط في أيدي الناس، فضجوا بالدعاء، ونقص لهم النصف من تلك الجرعة التي كانوا يأخذونها من الماء، واختلفت إليهم أنواع الهلاك والبلاء، فلما رأيت تلك الشدة، جمعت الأصحاب من قراء القرآن فاجتمع منهم نحو الثلاثين رجلا، فقلت لهم ما لنا إلا اللجوء إلى الله عزل وجل، وأتوسل إليه بكتابه وبرسوله فصلينا العشاء الأخيرة وقسمت عليهم القرآن مجزئا، وأقمنا على التلاوة والقراءة ليلتنا تلك فلم يكن إلا أمد يسير وشفع الله فينا كتابه العظيم، ونبيه الكريم، وهبت ريح سرنا بها حتى أنعم الله سبحانه وظهر منار الإسكندرية فأعلم الناس بذلك، فضجوا سرورا بالدعاء والبكاء، وأعلنوا بالحمد والشكر لله تعالى والثناء، وكادوا أن يقضي عليهم ذلك الأمل ومن فرح النفس ما يقتل.
خفقت قلوبهم سرورا بعدما ... باتوا بأفئدة يراع خوافق
فما رأيت قبلها بشارة أحلى في النفوس، أوقع في القلوب، ولا أعظم سرورا من سرور الخلق بها في تلك الساعة، وما ظنك بساعة أعلنت بالكرم والجود، وأعلمت بالخروج من العدم إلى الوجود، وفيها نطق لسان الشكر بما تيسير على الفكر فقلت:
بشراكم لاح المنار إلا سعد ... ودنا على اليأس المرام إلا بعد
وتنفس الكرب الذي كنا به ... في حالة البلوى نقوم ونقعد
وافتر من إسكندرية ثغرها ... قد أخصب المرعى وطاب المورد
واستقبلوا النعم العظام بشكرها ... فبشكرها أبدا لكم تتزيد
ما خاب قصدكم وطبية قصدكم ... وشفيعكم خير الأنام محمد
فوصلنا وجفن الظلام قد انطلق على عين الشمس، ومضى اليوم مضي الأمس، ودخلنا المرسى بقرب المنار، في ليلة الجمعة الثالث عشر لجمادى الأخرى من عام سبعة وثلاثين المذكور، ولما بدأ من الفجر سفور، ونثر الصبح كافور، وركبت إلينا زوارق المدينة، وخرج الناس لمشاهدتنا في أحسن الزينة، نزلنا البر لا نلوي على جريج ولا نصبر ريثما يسكن البحر من ماء وريح، وأقبلنا الساحل قاصدين تائبين من ركوب البحر أبد الآبدين فلما وطيئنا الرمل وسلمنا على الأخوان احتضنا بالشرط والاهوان، وحملنا بأجمعنا إلى الديوان هناك شاهدنا الحساب وأرينا العذاب، وملئوا منا البيوت والرحاب ثم أمرت اليد على القليل الكثير، والحقير والنقير، والدفتر والقطمير، والرفيع الوضيع والغني والفقير، وفتشت الأوساط، وعم الزحام والاختلاط، وكثر الهياط والمياط، حتى خرج المخزون والموزن، وبرز المعكوم والمختوم، وعند الله تجمع الخصوم، فأخذ من كل عشرة دنانير ديناران ومن كل عشرة دراهم درهمان، ظلما وعدوانا وجورا وطغيانا فاستشعرت الأسف، ونسيت كل رزء سلف، وودت للنزر الحاضر لو كان مع الشيء الآخر ذهب وتلف وجعلت أنشد:
رمى بي البحر درا في بلادكم ... لكنني لم أصادف فيكم صدفا
أصبحت بين أناس ضعت بينهم ... كالزهر في كف مزكزم فوا أسفا
وبعد مرارة تلك المواقف المهينة، أعقبت حلاوة تلك المدينة:
فنسينا ما لقينا ... وكأنا ما شقينا
وخلصت من حجر الأسى لمسرة ... فتنت بها الأبصار والأسماع
وظفرت من زمني بحظ لم يزل ... بيني وبين الدهر فيه نزاع
فانتظم الشمل بقصر الموضوع، بديع المجموع، يعجب بقطعه المتجاورات، وحدائق فيها من كل الثمرات ونخل كالكتائب قابلت الكتائب، والعذارى أرخين الذوائب، فيها قنوان من البسر وألوان تعدى على العسر، وتهدى إلى اليسر فلم أر مدينة أحسن منها وضعا ولا أبدع ربعا، ولا أسع مسالك ولا أعلى مباني ولا أسمى مراقى، ولا أجمل مراسم، ولا أوضح معالم، ولا أملح أزقة، ولا أعجب رونقا ورقة، ولا أحسن تفصيلا وجملة.
هي القصور البيض لا ما حدثوا ... عن أرم وغيرها من البنا
تخطف الأبصار من لالائها ... والليل قد ألقى القناع الادكنا
1 / 23