ثم تهيأ زادي، وكمل للسفر استعدادي، وخرجت بعد الاستخارة المشهورة، ومن حضرة تونس المذكورة في صبيحة يوم السبت السابع عشر شهر ربيع الثاني عام سبعة وثلاثين وسبعمائة، وقد نثر المركب بنوده، وقلد شراعه وأحكم شدوده، فركبت في اليوم المذكور، ثم أحصى الراكبون فكمل في المركب منهم نحو ألف راكب، ثم رفع الشراع وسرنا خارجين من المرسى إلى ان جزنا جزيرة) قوسرة (ووصلنا إلى جزيرة) ملطة (، ثم هبت ريح اقتلعتنا واسرعتنا، واشتدت وحامت فروعتنا وأزعجتنا، حتى أدخلتنا مرسى جزيرة) أفريطش (فأقمنا فيها خمسة أيام، وهي جزيرة للروم، وطولها نحو ثلاثمائة ميل ثم خرجنا منها فلما توسطنا المواسط اشتدت الريح المختلفة، وعظمت الأمواج المضطربة، وأتت الأنواء من كل جانب، وجاءنا الموج من كل مكان أمثال الجبال السائرة، فاظلم الجو وتراكم النوء، وارتفع الصحو، وتبدل بالكدر الصفو، واهتاج البحر اهتياجا، واربدت الآفاق سوادا، وانتشرت الرياح عصوفا، وتدفقت الأمواج، وعظم الارتجاج، وهمى الغمام، واستشعر الحمام، وأرسلت شئاييب الأمطار كأنها السهام، وكان ذلك الخطب أعظم من ان يحيط به الوصف، فرجفت القلوب، وخرست الألسن، وجرت الرياح بما لا تشتهيه السفن، واتصلت الحال في الزيادة إلى أن قربنا) من جزر الرومانية (، وتفاقم الأمر وتعاظم حتى انتهينا إلى جزيرة) أشقرباطة (فركبنا إلى مرساها، وأرسينا به فتزايد الأمر وعظم، حتى قطع المراسي جملة واحدة، وخرج المركب رغما على الأنواف واستقبل عظيم تلك البحار فأيقنا بالهلاك، وغلب اليأس على الأمل، وقلت) أنا الغريق فما خوفي من البلل (وكم يسير بنا في غير طريق، والهول يزيد ويعظم، حتى تفتح المركب من جميع جهاته وصار الماء يدخله من كل جانب حتى ملاء الجو الأسفل واستوى على ظهر الطبقة الثانية من المركب، وتزايد فيها حتى قرب من الطبقة العليا، فاستغاث الناس ولم يبق شك في الهلاك، وإذا بالرئيس والبحريين قد أقبلوا عليهم وقالوا ما بقي في الحياة من طمع إلا ان قدرتم على ميح الماء ورمى الوسق، فقام الخلق بأجمعهم كبيرا وصغيرا وذلك بين العشائين، وأقبلوا على الميح والرمى، فلما رجع أحد عن رمي ما قام في وجهه شيء كان، ما عدا النفس خاصة، والقليل من الشدائد يصير عند المشاهدة له كثيرا، كما ان الكثير من الشدائد يصير عند سماعه قليلا، وأهوال البحر لا تحصى ولا تحصر، والشيء يسمع فيحقر حتى يبصر:
هو البحر حدث عنه غير مكذب ... فما تنقضي آياته وعجائبه
فأقاموا كذلك حتى ظهرت) جزيرة قبرس (وهي جزيرة كبيرة معمورة بالنصارى كالجزر التي قبلها، فما انفصلنا عنها إلا وقد أدركهم الجهد والإعياء، ولحقهم العطش الشديد والعناء، وقد كانوا رموا جميع ما كان بقي لهم من الماء المعد للشرب فطلبت قطرة من الماء توجد، فما رض ضلوعي ولا فض دموعي إلا أطفال يضطربون بالبكاء ويستغيثون من العطش ومن الماء حتى أشرف الناس على الهلاك بالعطش، وتجزع بعضهم من ماء البحر فكنت أراهم مطروحين يعالجون سكرات الموت، فعند ذلك قام صاحب المركب إلى شيء يسير كان بقى له ولرجاله من الماء لشربهم، وحضره إلى ناحية وأحصى جميع ما كان في المركب اسما وعينا بالزمام، وصار يدفع لهم جرعة واحدة ظهر كل يوم قدرها نحو ثلاث أواقى، فبينما يتمسكون بتلك العلالة، ويترمقون بتلك المصة والبلالة، التي كان الناس يتجرعونها، كرها، والعطش أشهى للنفس منها، إذ أمر الله تعالى الرياح ان تسكن. والبحار أن تبيض، فلم تتحرك فيها للنسيم حركة:
وقد كان بحرا قبل ذلك زاخرا ... فغدا بذلك، وهو بر مقفر
1 / 22