دخلت الحضرة وقد كساني البين تلك الغمرة، فنبهني منه أخ شقيق وفرج به عني أزمة وضيق، وقد كان يتشوقني على السماع، وينشط للاتصال له والاجتماع، فلما علم بوصولي وصل في لمة من اخوانه الأعلام، وأعيان ذلك الصقع المتصلين بالسؤدد اتصال الألف بالام، فالتقينا هنالك التقاء النفس والأمل، وانتظمنا انتظام القول والعمل، وأقمت معه في منزل واحد، وأمل وافد، لا يستأثر أحدنا بمقسوم، ولا ينفرد عن الآخر بمكتوم ولا مختوم، وهو في كل ذلك يؤنسني غاية الإيناس، ويأخذ بضبعي إلى معرفة أكابر الناس، ويفيدني بأجل الفوائد، ويأتي من مرسوم فضائله بالزوائد، الخارقة للعوائد، وكثيرا ما كنت أعجب من تطلعه إلى المعالي وتحصيله، وأنجب باحتذائي حدوه في جملته وتفصيله، واقتفائي سننه في دقيق الأمر وجليله، والمرء على دين خليله وما زلنا بتلك الحاضرة، نتجلى أنوار المحاضرة، ونجتني نوار المذاكرة، إلى أن جاء يوم الفراق، باخترام ذلك التلاق، واحتدام ذلك الأعلاق، فسبحان من أوجد العهود ثم أعدمها، ووصل تلك الأسباب ثم حذفها، وهذه شيمة الليالي في أعقاب تجميعها بتفريقها وإشراقها كل نفس بريقها، لا تجمع شملا إلا شتته، ولا تصل حبلا إلا بتته، من أطاعها عصته ومن أدناها أقصته ومن وصلها قطعته، ومن نزع إليها نزعته، ومن أرضاها أغضبته وأحرجته، ومن سكن دارها أزعجته وأخرجته، والغبطة بها مع ذلك شديدة، والآمال فيها على أنها دار البلاء جديدة، حتى كأن حقيقة ما يعلم من استحالتها ارتياب، والرحلة عندها إياب، لقد حق أن يرفضها البصير، ويعد لما إليه تصير، ويسئل الله في أمره فنعم المولى ونعم النصير، ألهمنا الله تعالى طريق إرشادنا، وأعاننا على الأعداد لمعادنا، وقضى في العاجل والآجل بإسعادنا، أنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وارجع إلى تتميم ما بدأت عن الأعلام بفضل هذا الفاضل وجلالته، والالماع من ذكر روايته والرواية عنه بما لا يخشى من ملالته، فأقول: أني قرأت عليه جميع تآليفه في العروض الذي سماه بالروض الاريض في علم القريض، وجميع تآليفه في الأدب الذي لخص فيه رسالة أحكام صنعة الكلام من إنشاء الوزير الكاتب أبى عبد الله ابن عبد الغفور، وكتبها لي بخطه، وأجاز لي جميع ما رواه وألفه من تآليفه التي أبدع فيها تلخيص مشكل الحديث لابن فورك، وكتاب حديقة الناظر في تلخيص المثل السائل في علم البيان، وشرح كتاب المصباح لابن مالك، وكتاب إيضاح السبيل والقصد الجليل في علم الخليل في شرح قصيدة ابن الحاجب العروضية، وله تآليف غيرها مما عرف بحمد الله قدرها، وأشتهر على الألسنة ذكرها،
وسارت مسير الشمس في كل بلدة ... وهبت هبوب الريح في البر والبحر
وأنشدني وقال: أنشدني الشيخ الإمام الأوحد أبو عبد الله محمد بن راشد، رحمه لله تعالى، قال: أنشدني لنفسه معين الدين ابن تولواء التوزى، رحمه الله تعالى ورضى عنه:
يا أهل مصر رأيت أيديكم ... عن بسطها للنوال منقبضة
لما فقدت القرى بأرضكم ... أكلت كتبي كأنني أرضة
وأنشدني لغيره:
لحا الله مصر وسكانها ... وفتت أكبادهم بالحسد
متى يرتجى مفلس عندهم ... غني، وعلى كل فلس أسد
وأنشدني الشيخ المحدث الفاضل فتح الدين بن عمر بن سيد الناس رحمه الله تعالى:
بالله ان جزت بواد الأراك ... وقبلت عيدانه الخضر فاك
فأبعث إلى المملوك من بعضها ... فأنني والله مالي سواك
وأنشدني لبعضهم:
جعلت هديتي لكم سواكا ... ولم أقصد به أحد سواك
بعثت إليك عودا من أراك ... رجاء أن أعود وأن أراكا
وأنشدني قال أنشدني الشيخ الإمام الأوحد ناصر الدين أبو علي منصور بن عبد الحق المشذلى ﵀، قال أنشدني أبو عبد الله بن أبى الفضل السلمى المرسي لنفسه:
عابوا الجهالة وازدروا بحقوقها ... وتهاونوا بحديثها في المجلس
وهي التي ينقاد في يدها الغنى ... وتجيئها الدنيا برغم المعطس
ان الجهالة للغنى جذابة ... جذب الحديد حجارة المغنطس
وأنشدني له أيضا:
تنقل فلذات الهوى في التنقل ... ورد كل صاف لا تقف عند منهل
وان سار من تهوى فسر عن جنابه ... ولا تسكبن دمعا على مترحل
1 / 20