والصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم ، كما لا يجوز عليه الأكل والشرب ؛ لأن النوم من توابع المزاج ، والملك لا مزاج له . وأما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم فخارج عن هذا الباب ، لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية ، لا يجوز تبدلها ، والملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا ، بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة ويبوسة ، وحرارة وبرودة ، يحصل من اجتماعها مزاج ، ويتبع ذلك المزاج النوم . فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا ، فهو كقولك : الماء بارد ، أي ما دام ماء ؛ لأنه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا ، فلا يكون باردا ، لأنه ليس حينئذ ماء . والبارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير ، فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة ، مع أنه حي ، ومن هذا إنشاء التمدح . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ' إن الله خلق الخلق أربعة أصناف : الملائكة ، والشياطين ، والجن ، والإنس . ثم جعل الأصناف الأربعة عشرة أجزاء . فتسعة منها الملائكة وجزء واحد الشياطين والجن والإنس ، ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء ، فتسعة منها الشياطين وجزء واحد الجن والإنس ، ثم جعل الجن والإنس عشرة أجزاء ، فتسعة منها الجن وواحد الإنس ' .
وفي الحديث الصحيح : إن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين وتزوره ، ثم افتقدها ، فقال : يا رسول الله ، إن رجالا كانوا يأتونني لم أر أحسن وجوها ، ولا أطيب أرواحا منهم ، ثم انقطعوا . فقال صلى الله عليه وسلم : ' إن أصابك جرح فكنت تكتمه ' ؟ فقال : أجل ، قال : ' ثم أظهرته ' ؟ قال : أجل ، قال : ' أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت ' ؛ وكان هذا الجرح أصابه في سبيل الله .
وقال سعيد بن المسيب وغيره : الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث ، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون ، والجن يتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون ، والشياطين ذكور وإناث ويتوالدون ، ولا يموتون حتى يموت إبليس .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أبي ذر : ' إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط فما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله . والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله . والله لوددت أني كنت شجرة تعضد ' .
قلت : ويوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر .
مخ ۶۳