الجزء الأول | الحمد لله [ الواحد العدل ] الحمد لله الذي تفرد بالكمال ، فكل كامل كامل سواه منقوص ، واستوعب عموم المحامد والممادح ، فكل ذي عموم عداه مخصوص ، الذي وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه ، واقتضت حكمته أن نافس الحاذق في حذقه فاحتسب به عليه من رزقه وزوى الدنيا عن القفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه ، ولا السابق بسبقه ، وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف ، واختص الأفضل من جلائل المآثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه ، ويجل عن التكييف ، وصلى على رسوله محمد ، الذي المكنى عنه شعاعه من شمسه ، وغصن من غرسه ، وقوة من قوى نفسه ، ومنسوب إليه نسبة الغد إلى يومه واليوم إلى أمسه ، فما هما إلا سابق ولاحق وقائد وسائق وساكت وناطق ، ومجل ومضل ، سبقا لمحة البارق ، وأنارا سدفه الغاسق ، صلى الله عليهما ما استخلب خبير ، وتناوح جراء وثبير . وبعد ، فإن مراسم المولى الوزير الأعظم ، الصاحب ، الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد ، المرابط ، مؤيد الدين عضد الإسلام ، سيد وزراء الشرق والغرب ، أبي طالب محمد بن أحمد بن محمد العلقمي ن نصير أمير المؤمنين _ أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها ، وأحله من مراقب السعادة ومراتب السيادة أشرفها وأعلاها _ أيما شرقت عبد دولته ، وربيب نعمته بالاهتمام بشرح ' نهج البلاغة ' على صاحبه أفضل الصلوات ، ولذكره أطيب التحيات - بادر إلى ذلك من بعثه من قبل عزم ثم حمله أمر جزم ، وشرع فيه بادي الرأي شروع مختصر ، وعلى ذكر الغريب والمعنى مقتصر ، ثم تعقب الفكر ، فرأى أن هذه النغبة لا تشفى أواما ، ولا تزيد الحاتم إلا حياما ، فتنكب ذلك المسلك ، ورفض ذلك المنهج ، وبسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان ، وما عساه يشتبه ويشكل من الإعراب والتصريف ، وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشباه ، نثرا ونظما ، وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والأخحداث فصلا فصلا وأشسار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة خفيفة ، ولوح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الأنساب والأمثال والنكت تلويحات لطيفة ، ورضعه من المواعظ الزهدية ، والزواجزالدينية ، والحكم النفسية ، والآداب الخلقية ، المناسبة لفقره ، والمشاكلة لدرره ، والمنتظمة مع معانيه في سمط ، والمنسقة مع جواهره في لط ، بما يهزأ بشنوف النضار ، ويحجل مع الروض غب القطار وأوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية ، وبرهن على أن كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية ، لاشتمالهاغ على الأخبار الغيبية ، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية . وبين من مقامات العارفين ، التي يرمز إليهخا في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون ، ولا يدركه إلا الروحانيون المقربون ، وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظة يرسلها ، ومعضلة يكنى بها ، وغامضة يعرض بها . وخفايا يجمجم بذكرها ، وهنات تجيش في صدره فينفث بها نفثه المصدور ، ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب . فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه ، واحدا بين أبناء جنسه ، ممتعا بمحاسنه ، جليلة فوائده ، شريفة مفاصده ، عظيما شأنه ، عاليبة منزلته ومكانه ، ولا عجب أن يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك ن ، وبجامع الفضائل إلى جامع المناقب ، وبواحد العصر إلى أوحد الدهر ، فالأشياء بأمثالها أليق ، وإلى أشكالها أقرب ، وشبه الشئ منجذب ، ونحوه دان ومقترب . | ولم يشرح هذا الكتاب قبلي - فيما أعلمه - إلا واحد ، وهو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي ، وكان من فقهاء الإمامية ، ولم يكن من رجال هذا الكتاب ، لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده ، وأنى للفقيه أن يشرح هذه الفنون التنوعة ، ويخوض في هذه العلوم المتشعبة لا جرم أن شرحه لا يخفى حاله عن الذكي ، وجرى الوادي فطم على القرى ، وقد تعرضت في هذا الشرح لمناقضته في مواضع يسيرة اقتضت الحال ذكرها وأعرضت عن كثير مما قاله ، إذ لم أر في ذكره ونقضه كبير فائدة . وأنا قبل أن أشرع في الشرح أذكر أقوال أصحابنا رحمهم الله في الإمامة والتفضيل والبغاة والخوارج ، ومنبع ذلك بذكر نسب أمير المنؤمنين عليه السلام ، ولمع بسيرة من فضائله ، ثم أثلث بذكر نسب الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله ، وبعض خصائصه ومناقبه ، ثم أشرع في شرح خطبة ' نهج البلاغة ' التي هي من كلام الرضي أبي الحسن رحمه الله ، فإذا انتهيت من ذلك كله في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام شيئا فشيئا . | ومن الله سبحانه أستمد المعونة ، وأستدر أسباب العصمة ، وأستميح عمائم الرحمة ، وأمتري أخلاف البركة ، وأشيم بارق النماء والزيادة ، فما المرجو إلا فضله ، ولا المأمون إلا طوله ، ولا الوثوق إلا برحمته ، ولا السكون إلا إلى رأفته ، ^ ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ) ^ | |
مخ ۱۰
القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة والتفضيل والبغاة
والخوارج
مخ ۱۱
اتفق شيوخنا كافة رحمهم الله ، المتقدمون منهم والمتأخرون ، والبصريون والبغداديون على أن بيعتة أبي بكر الاصدبق بيعة صحيحة شرعية ، وأنها لم تكن عن نص ن وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع ، وبغير الإجماع كونه طريقا إلى الإمامة . | واختلفوا في التفضيل ، فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد ، وأبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام ، وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وأبي معن ثمامة بن أشرس ، وأبي محمد هشام بن عمرو والفوطي ، وأبي يعقوب يوسف بن عبد الله السحام ، وجماعة غيرهم ، إن أبا بكر أفضل من علي عليه السلام ، وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة . | وقال البغداديون قاطبة ، قدماؤهم ومتأخروهم ، كأب يسهل بشر بن المعتمر ، وأبي موسى عيسى بن صبيح ، وأبي عبد الله جعفر بن مبشر ، وأبي جعفر الإسكافي ، وأبي الحسين الخياط ، وأبي القاسم عبد الله بن محمود البلخي وتلامذته . إن عليا عليه السلام أفضل من أبي بكر . | وأبي هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أخيرا ، وكان من قبل من المتوقفين ، كان يميل إلى التفضيل ولا يصرح به ، وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته ، وقال في كثير من تصنيفاته ، إن صح خبر الطائر فعلي ذهب إلى الوقف في مصنفاته ، وقال في كثير من تصانيفه ، إن صح خبر الطائر فعلي أفضل ، ثم إن قاضي القضاة رحمه الله ذذذكر في شرح ' المقالات ' لأبي القاسم البلخي أن أبا علي رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل عليه اعليه السلام ، وقال : إنه نقل ذلك عنه سماعا ، ولم يوجد في شيء من مصنفاته ، وقال أيضا : إن أبا علي رحمه الله يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه ، وكان قد ضعف عن رفع الصوت ، فألقى إليه أشياء من جملتها القول بتفضيل علي عليه السلام . | وممن ذهخب من البصريين إلى تفضيله عليه السلام أبو عبد الله الحسين ابن علي البصري رضي الله عنه ، كان متحققا بتفضيله ، ومبالغا في ذلك ، وصنف فيه كتابا مفردا . | وممن ذهب إلى تفضيله عليه السلام من البصريين قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه الله ، وذكر ابن متويه عنه في كتاب الكفاية في علم الكلام أنه كان من المتوقفين بين علي عليه السلام وأبي بكر ، ثم قطع على تفضيل عليه عليه السلام بكامل المنزلة . ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله عليه السلام أبو محمد الحسن بن متويه صاحب ' التذكرة ' نص في كتاب الكفاية على تفضيله عليه السلام على أبي بكر ، واحتج لذك وأطال في الاحتجاج . | فهذان المذهبان كما عرفت . | وذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف فيها ، وهو قول أبي حذيفة واصل ابن عطاء ، وأبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف ، من المتقدمين ، وهما وإن ذهبا إلى التوقف بينه عليه السلام وبين أبي بكر وعمر قاطعان على تفضيله على عثمان . | ومن الذاهبين إلى الوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي رحمهما الله والشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله . | وإما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون ، من تفضيله عليه السلام وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل ، وهل المراد به الأكثر ثوابا أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة ، وبينا أنه عليه السلام أفضل على التفسيرين معا ، وليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لتذكره ، ولهذا موضع هو أملك به . | وأما القول في البغاة عليه والخوارج ، فهو على ما أذكره لك . أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلا عائشةى وطلحة والزبير رحمهم الله فإنهم تابوا ، ولولا لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي . | وأما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكونت كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم إلا بالنار لإصرارهم على البغي وموتهم عليه رؤساؤهم والاتباع جميعا . | وأما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه ، ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار | وجملة الأمر أن أصحابنا يحكمونه بالنار لكل فاسق مات على فسقه ، ولا ريب في أن الباغي على الإمام الحق والخارج عليه بشبهة أو بغير فاسق ، وليس هذا مما يخصون به عليا عليه السلام ، فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الإسلام العدول لكان حكمهم من خرج على علي صلوات الله عليه . وقد برئ كثير من أصحابنا من قوم من الصحابة أحبطوا ثوابهم ، كالمغيرة بن شعبة وكان شيخنا أبو القاسم البلخي إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير ، يقول : لا خير فيه ، وقال مرة : لا يعجبني صلاته وصومه ، وليسا بنافعين له مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : ' لا يبغضك إلا منافق ' وقال أبو عبد الله البصري رحمه الله لما سئل عنه : ما صح عندي أنه تاب من يوم الجمل ، ولكنه استكثر مما كان عليه . | فهذه هي المذاهب والأقوال ، أما الاستدلال عليها فهو مذكور في الكتب الموضوعة لهذا الفن . | |
مخ ۱۳
القول في نسب أمير المؤمنين علي عليه السلام وذكر لمع بسيرة من فضائله
. | هو أبو الحسن علي بن أبي طالب ، واسمه عبد مناف - ابن عبد المطلب . واسشمه شيبة - ابن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف بن قصي . الغالب عليه من الكنية عليه السلام أبو الحسن . وكان ابنه الحسن عليه السلام يدعوه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أبا الحسين ، ويدعوه الحسين عليه السلام أبا الحسن ، ويدعوان رسول الله صلى الله عليه وآله أباهما ، فلما توفي النبي صلى الله عليه وآله دعواه بأبيهما . | وكناه رسول الله صلى الله عليه وآله أبا تراب ، وجده نائما في تراب ، قد سقط عنه رداؤه ، وأصاب التراب جسده ، فجاء حتى جلس عند رأسه ، وأيقظه ، وجعل يمسح التراب عليه ، وكان يفرح إذا دعي بها ، وكانت ترغب بنو أمية خطباءها أن يسبو بها على المنابر ، وجعلوها نقيصة له ووصمة عليه ، فكأنما كسوة بها الحلي والحلل ، كما قال الحسن البصري رحمه اللله . | وكان اسمه الأول الذيس سمته به أمه حيدرة ، باسم أبيها أسد بن هاشم ، والحيدرةالأسد - فغير أبوه اسمه ، وسماه عليا . | وقيل : إن حيدرة اسم كانت قريش تسميه به ن والقول الأول أصح ، يدل عليه خبره يوم برز إليه مرحب ، وارتجز عليه فقال :
أنا الذي سمتني أمي مرحبا
فأجابه عليه السلام رجزا :
مخ ۱۴
أنا الذي سمتني أمي حبدرة
ورجزهما معا مشهور منقول لا حاجة لنا الآن إلى ذكره . | وتزعم الشيعة أنه خوطب في حياة الرسول صلى الله عليه وآله بأمير المؤمنين خاطبة بذلك جلة المهاجرين والأنصار ولم يثبت ذلك في أخبار المحدثين ، إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى ، وإن لم يكن اللفظ بعينه ، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله له : ' أنت يعسوب ' الدين الدين والمال يعسوب الظلمة ، وفي رواية أخري ' هذا يعسوب ' المؤمنين ، وقائد الغر المحجلين ، واليعسوب ، ذكر النحل وأميرها ، روى هاتين الروايتين أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني في المسند في كتابه فضائل الصحابة ، ورواهما أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء . | ودعي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بوصي رسول الله ، لوصضايته إليه بما أراده ، وأصحابنا لا ينكرون ذلك ، إنها لم تكن وصية بالخلافة ، بل بكثير من المتجددات بعده ، أفضى بها إليه عليه السلام ، وسنذكر طردا من هذا المعنى فيما بعد . | وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أول هاشمية ولدت لهاشمي ، كان علي السلام أصغر بنيها ، وجعفر أسن منه بعشر سنين ، وفاطمة بنت أسد أمهم جميعا . | وأم فاطمة بنت أسد فاطمة بنت هرم من رواحة بن حجر بن عبد بن معيص ابن عامر بن لوي ، وأمها حدية بنت وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن معيص بن عامر بن لوي وأمها سلمى بنت عامر بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر . وأمها عاتكة بنت أبي همهمة ، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي وأمها حبيبة ، وهي أمة الله بنت عبد يا ليل بن سالم بن مالك بن خطيط بن جشم بن قسي ، وهو ثقيف ، وأمها فلانة بنت مخزوم بن أسامة بن ضبع بن وائلة بن نصر بن صعصعة بن ثعلبة بن كنانة بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر . وأمها ريطة بنت يسار بين مالك بن خطيط بن جشم بن ثقيف وأمها كلة بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن وأمها حبي بنت الحارث بن النابغفة بن عميرة بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن ، ذكر هذا النسب أبو الفجر علي بن الحسي الأصفهاني في كتاب ' مقاتل الطالبيين ' | أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشرة من المسلمين ، وكانت الحاتدية عشرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرمها ويعظمها ويدعوها : ' أمي ' وأوصت إليه حين حضرتهاغ الوفاة ، فقبل وصيتها ، وصلى عليها ، ونزل في لحدها ، واضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه ، فقال له أصحابه : إنا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها ، فقال : ' إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها ، وإنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة ن واضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر ' . | فاطمة أول امرأة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله من النساء . | وأم أبي طالب بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وهي أم عبد الله ، والد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله , وأم الزبير بن عبد المطلب وسائر ولد عبد المطلب بعد لأمهات شتى . | واحتلف في مولد علي عليه السلام اين كان ؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة ، والمحدثون لا يعترفون بذلك ، | ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي . واختلف في سنة حين أظهر النبي صلى الله عليه وآله الدعوة ، إذ تكامل له صلوات الله عليه أربعون سنة ، فالأشهر من الروايات أنه كان ابن عشر ، وكثير من أصحابنا المتكلمين يقولون : إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة ، ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخي وغيره من شيوخنا . والأولون يوقولن : إنه قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة ، وهؤلاء يقولون : ابن ست وستين ، والروايات في ذلك مختلفة ، ومن الناس من يزعن أن سنة كانت دون العشر ، والأكثر الأظهر خلاف ذلك . | وذكر أحمد بن يحيى البلاذري وعلي بن الحجسين الأصفهاني أن قريشا أصابتها أزمة وقحط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعميه ، حمزة والعباس : ' الا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل ' فجاؤوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم ، فقال : دعوا لي يعقيلا وخذوا من شئتم ، وكان شديد الحب لعقيل فأخذ العباس طالبا ، وأخذ حمزة جعفرا ، وأخذ محمد صلى الله عليه وآله عليا ، وقال لهم : قد اخترت من اختار الله لي عليكم عليا ' قالوا : فكان علي عليه السلام في حجر رسول الله عليه وآله ، منذ كان عمره ست سنين . | وكان ما يسدي إليه صلوالت الله عليه من إحسانه وشفقته وبره وحسن تربيته ، كالمكافأة والمعاوضة لصنيع أبي طالب به ، حيث مات عبد المطلب وجعله في حجره وهذا يطابق قوله عليه السلام : لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين وقوله : كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا ، ورسول الله صلى الله عليه وآله حينئذ صامت ما أذن في الإنذار والتبليغ ، وذلك لأنه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة ، وتسليمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من أبيه وهو ابن ست ، فقد صح أنه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين ، وابن ست تصح من العبادة إذا كان ذا تمييز ، على أن عبادة مثله هي التعظيم والإجلال ، وخشوع القلب ، واستخداء الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه وآياته الباهرة ، ومثل هذا موجود في الصبيان . | وقتل عليه السلام ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان ، سنة أربعين في رواية أبي عبد الرحمن السلمي وهي الرواية المشهورة ، وفي رواية أبي مخنف أنها كانت لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان ، وعليه الشيعة في زماننا . | والقول الأول أثبت عند المحدثين ، والليلة السابعة عشرة من شهر رمضان هي ليلة بدر ، وقد كانت الروايات وردت أنه يقتل في ليلة بدر ، عليه السلام ن وقبره بالغرى . | وما يدعيه أصحاب الحديث من الاختلاف في قبره ، وأنه حمل إلى المدينة ، أو أنه دفن في رحبة الجامع ، أو عند باب قصر الإمارة ، أو ند البعير الذي حمل عليه فأخذته الأعراب ، باطل كله ، لا حقيقة له ، وأولاده أعرف بقبره وأولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب ، وهذا القبر الذي زاره بنوه لما قدموا العراق ، منهم جعفر بن محمد عليه وغيره من أكابرهم وأعيانهم . | وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بإسناد ذكره هناك أن الحسين عليه السلام لما سئل : أين دفنتم أمير المؤمنين ؟ فقال : خرجنا به ليلا من منزلة بالكوفة ، حتى مررنا به على مسجد الأشعث ، حتى انتهينا به إلى الظهر بجنب الغري . | وسنذكر خبر مقتله عليه السلام فيما بعد . | فأما فضائلة عليه السلام ن فإنها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغا يسمح معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ، فصارت كممما أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقانت وزير المتوكل والمعتمد : رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك ، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر ، والقمر الزاهر ن الذي لا يخفى على الناظر ، فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز ، مقصر عن الغاية ، فانصرفت عن الشاء عليك إلى الدعاء لك ، وتوكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك . | وأما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ، ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها ، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره ، والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة ، أو يبرفع له ذكرا ، حتى حظروا أن يسمىأحد باسمه ، فما زاده ذلك إلا رفعه وسموا ، وكان كالمسك كلما سترانتشر عرفه ، وكلما كتم تضوع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار إن حجبت عند عين واحدة ، أدركته عيون كثيرة ، | وما أقول في رجل تعزى إلأيه كل فضيلة ، وتنتهي إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلي حلبتها ، كل من برع فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى . | وقد عرفت أنه أشرف العلوم هو العلم الإلهي ن لأن شرف العلم بشرف المعلوم ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم ، ومن كلامه عليه السلام اقتبس وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ ، فإن المعتزلة - الذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن ، تلامذته وأصحابه ، لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذه عليه السلام وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي ، وأب علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالأشعرية ينتهون بآخرهن إلى استاذ المعتزلة ومعلمهم ، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام . وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر . | ومن العلوم علم الفقه وهو عليه السلام أصله وأساسه ، وكل فقيه في الإسلام فه عيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأحذوا عن أبي حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ، فيرجع فققه أيضا إلى أبي حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي ، فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام ، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام ، وينتهي الأمر إلى علي عليه السلام ، وأما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي ، وقرأ ربيعة ، على عكرمة ، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس ، وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب ، وإن شئت فرددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الأربعة . | وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر ن وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، وكلاهما أخذ عن علي عليه السلام ، أما ابن عباس فظاهر وأما عمر فقد عر كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله غير مرة ، ' لولا علي لهلك عمر ' وقوله ' لات بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن ' وقوله ' لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر ' فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه . | وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله : ' أقضاكم علي ' والقضاء هو الفقه ، فهو إذا أفقههم وروى الكل أيضا أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا ' اللهم اهد قلبه وثبت لسانه ' قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين ، وهو عليه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر ، وهو الذي أفتى في الحامل الزانية ، وهو الذي قال في المنبرية ' صار ثمنها تسعا ، وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة ، واقتضبه ارتجالا | ومن العلوم علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ، ومنه فرع ، وإذت رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك لأن أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه وأنه تلميذه وخريجه ، وقيلف له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كسبه قطرة من المطر إلى البحر المحيط . ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون ، وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي ، والجنيد وسري ، وأبو يزيد البسطامي ، وأبو محفوظ معروف الكرخي ، وغيرهم . ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام . | ومن العلوم علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله ، من جملتها : الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف ، ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة ، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم ، وهذا بكاد يلحق بالمعجزات ، لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ، ولا تنهض بهذا الاستنباط . وإن رجعت إلى الخصائص الخلفية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها . | وأما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إبى يوم القيامة وهو الشجاع الذي ما فر قط ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلى قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية ، وفي الحديث : ' كانت ضرباته وترا ' ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال لهن عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم ، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ، وكانت العرب نفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر قالت أخت عمرو ابن عبد ود ترثيه : |
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
بكيته أبدا ما دمت في الأبد
مخ ۱۹
لكن قاتله من لا نظير له
وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وانتبه يوما معاوية ، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد ، فقال له عبد الله يداعبه ، يا أمير المؤمنين للو شئت أن أفتك بل لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر قال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب قال : لا حرم ، إنه قتلك وأباك بيسرى يديه ، وبقيت اليمنى فارغة ، يطلب من يقتله بها . وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادي في مشارق الأرض ومغاربها . | وأما القوة والأيد فيه يضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبة في المعارف : ما صارع أحدا قط إلا صرعه ، وهو الذي قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة وكان عظيما جدا ، وألقاه إلى الأرض ، وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها ، وأنبط الماء من تحتها . | وأما السحاء والجود فحاله فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، وفيه أنزل : ^ ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) ^ وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا وبدرهم علانية ، فأنزل فيه : ^ ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) ^ | وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتى مجلت يده ، ويتصدق بالأجرة ، ويشد على بطنه حجرا . | وقال الشعبي وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبه الله : السخاء والجود ، ما قال لا لسائل قط . | وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس ، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن لأنفذ ببره قبل تبنه . | وأما الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسئ ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم ، وكان أعدى الناس له ، وأشدهم بغضا ، فصفح عنه . وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب ، وكان علي عليه السلام يقول : ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله ، فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه ، وقال فلا أرينك ، لم يزده على ذلك . | وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة ، وكان له عدوا ، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا . | وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها ، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم وقلدهم بالسيوف ، فلما كانت الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به ، وتأففت وقالت : هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي ، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن ، وقلن لها : إنما نحن نسوة . | وحاربه أهل البصرة ، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف ، وشتموه ةولعنوه ، فلما ظفر رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر ، ألا لا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن ، ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو ، وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد ، والإساءة لم تنس . | ولما ملك عسكر نعاوية عليه الماء ، وأحاطوا بشريعة الفرات ، وقالت رؤساء الشام له : اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا ، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء ، فقالوا لا والله ، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه ، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع ، سقطت منه الرؤوس والأيدى وملكوا عليهم الماء ، وصار أصحاب معاوية في الفلاة ، لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته . امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم أفسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك ، فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام . | وأما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له . وقد عرفت أنه أعظم غزاة غزاها رسول الله عليه وآله ، وأشدها نكاية فيالمشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي نصفهم ، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر وإذا رجعت إلى مغلزيس محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك ، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه ، لأنه من المعلومات الضرورية ، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما . | وأما الفصاحة فهو عليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين ، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثم فاضت ، وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده إلا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل منمواعظ علي بن أبي طالب . | ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ، قال له : ويحك كيف يكون أعيا الناس فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره ، ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة علىأنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة ، وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر مما دون له ، وكفاك في هذا الباب ما يوله أبوو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه . | وأما سجاحة الأخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيا والتبسم ، فهو المضروب به المثل فيهع ، حتى عابه أعداؤه ، قال عمرو بن العاص لأهل الشام : إنه ذو دعابة شديدة ، وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة ، وأني امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس ، وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك إلا أن عمر اقتصر عليها ، وعمرو زاد فيها وسمجها . | قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين الجانب ، وشدة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه . وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا الحسن ، فلقد كان هشا بشا ، ذا فكاهة . قال قيس : نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء ، وتعيبه بذلك ، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام . | وقد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك . | وأما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد ، وبد الأبدال ، وإليه تشد الرحال وعنده تنفض الأحلاس ، ما شبع من طعام قط . وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ، قال عبد الله بن رافع : دخلت عليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الوليدن أن يلتاه بسمن أو زيت . | وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وليف أخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرباس الغليظ ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ، ولم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمه له . وكان يأتدم إذا اتئدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ، ويقول لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان ، وكان مع أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا ، لا ينقص الجوع قوته ، ولا يخون الإقلاق منته ، وهو الذي طلق الدنيا ، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام ، فكان يفرقها ويمزقها . ثم يقول :
مخ ۲۳
هذا جناي وخياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه
وأما العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلي عليه ورده ، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يوقم حتى يفرغ من وظيفته وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنه البعير لطول سجوده . | وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لغزته واستخذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت . وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام ، وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله . | وأما قراءته القرآن واشتغاله به فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ، ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو | أول من جمعوا ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر ن فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخ مخالفة للبيعة ، بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن ، فهذا يدل على أنه أول من جميع القرآن لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وآله . وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه ، كأبي عمرو بن العلاء وعاصم ابن أبي النجود وغيرهما ، لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه ، وعنه أخذ القرآن ، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا ، مثل كثب مما سبق . | وأما الرأي والتدبر فكان من أس الناس رأيا ، وأصحهم تدبيرا ، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار ، وهو الذي أشار على عثمان المأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث ، وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ، لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه ، وقد قال عليه السلام : لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب وغيره من الخلفاء كان يعمل بنقتضى ما يستصلحه ويستوقفه ، سواء أكان مطابقا للشرع أم لم يمن ، ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه من اجتهاده ، ولا يقف مع ضوابظ وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب . | وأما السياسة فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات الله ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به . وأحرق قوما بالنار ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي ، وقطع جماعة وصلب آخرين . | ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان ، وفي أقل القليل منها مقنع ، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه . | فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله ، والرئيس المقتفي أثره . | وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة ، وتصور ملوك الفرنج والروم في بيعها وبيوت عباداتها ، حاملا سيفه ، مشمرا لحربه ، وتصور ملوطك الترك والديلم صورته على سيأفها كان علة سيف عضد الدلو بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته ، وكان على سيف إلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته ، كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر . | وما أقول في رجل أحب كل واح أن يتكثر به ، وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه ، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك ن فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه ، وصنفوا في ذلك كتبا ، وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إلأيه ، وقصروهخ عليه ، وسموه سيد الفتيان ، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي ، أنه سمع من السماء يوم أحد :
مخ ۲۵
لا سيف ذو الفقار
ولا فتى إلا علي
وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء ، وشيخ قريش ، ورئيس مكة ، قالوا : قل أن يسود فقير وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له ، وكانت قريش تسميه الشيخ . | وفي حديث عفيف الكندي ن لما رأى النبي صلى الله عليه وآله يصلي يفي مبدأ الدعوة ، ومعه غلام وامرأة ، قال : فقلت للعباس : أي شيء هذا ؟ قال هذا ابن أخي ، يزعم أنه رسول من الله إلى الناس ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام ، وهو ابن أخي أيضا ، وهذه المرأة وهي زوجته ، قال فقلت : ما الذي تقولونه أنتم ؟ قال : ننتظر ما يفعل الشيخ ، يعني أبا طالب ، وأبو طالب هو الذي كفل رسول الله صلى الله عليه وآله صغيرا ، وحماه كبيرا ، ومنعه من مشركي قريش ن ولقى لأجله عنتا عظيما ، وقاسى بلاء شديدا ، وصبر على نصره والقيام بأمره ، وجاء في الخير أنه لما توفي أبو طالب أوحى إليه عليه السلام وقيل له : اخرج منها ، فقد مات ناصرك . | وله مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين والآخرين وأخاه جعفر ذو الجناحين ، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله ، ' أشبهت خلقي وخلقي ' فمر بحجل فرحا ، وزوجته سيدة نساء العالمين ، وابنيه سيدا شباب الجنة ، فآباؤءه أباء رسول الله ، وأمهاته أمهات رسول الله ، وهو مسوط بلحمه ودمه ، لم يفارقه منذ خلق الله آدم ، إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله وأبي طالب ، وأنهما واحدة ، فكان منهما سيد الناس ، هذا الأول وهذا التالي ، وهذا النتذر وهذا الهادي . | وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى ، وآمن بالله وعبده ، وكل من في الأ { ض يعبد الحجر ويجحد الخالق لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله صلى الله عليه وآله . ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وآله إيمانا به ، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون ، وقد قال هو عليه السلام : أنا الصديق الأكبر ، وأنا الفاروق الأول ن أسلمت قبل إسلام الناس ، وصليت قبل صلاتهم ، ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك وعلمه واضحا ، وإليه ذهب الواقدي وابن جرير الطبري ، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كاتب الاستيعاب . | ولأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقص ، وجب أن يختصر ونقتصر فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد بمائل حجم هذا بل يريد عليه ، وبالله التوفيق . |
مخ ۲۶
القول في نسب الرضى أبي الحسن رحمه الله وذكر طرف من خصائصه ومناقبه
. | هو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن جعفر الصادق عليه السلام ، مولده سنة تسع وخمسين وثلثمائة . | وكان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر ، عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه ، ولقب بالطاهر ذي المناقب ، وخاطبه بهاء الدجولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد ، وولي نقابة الطالبيين خمس دفعات ، ومات وهو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض ، وذهب بصره ، وتوفي عن سبع وتسعين سنة ، فإن مولده كان في سنة أربع ثلثمائة ، وتوفي سنة أربعمائة ، وقد ذكر ابنة الرضي أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها ، وأولها :
وسمتك خالية الربيع المرهم
وسقتك ساقية الغمام المرزم
سبع وتسعون اهتبلن لك العدا
حتى مضوا وغبرت غير مذمم
لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما
أملوا فعاقهم اعتراض الأزلم
إلا بقايا من غبارك أصبحت
غصصا وأقذاء العين أو لهم
إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا
فالذنب يعسل في طريق الضيغم
ودفن النقيب أبو أحمد أولا في داره ، ثم نقل منها إلى مشهد الحسين عليه السلام وهو الذي كان السفير بين الخلفاء وبين الملوك من بني بويه والأمراء من بني حمدان وغيرهم وكان مبارك الغرة ميمون النقيبة مهيبا نبيلا ، ما شرع في إصلاح أمر فاسد إلا وصلح على يديه ، وانتظم بحسن سفارته ، وبركة همته ، وحسن تدبيره ووساطته . والاستعصام عضد الدولة أمره ، وامتلاء صدره وعينه به حين قدم العراق ما قبض عليه وحمله إلى القلعة بفارس ، فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة ، فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شيرذيل بن عضد الدولة ، واستصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد ، وملك الحضرة ، ولما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة ، فكتب إلى أبيه وهو معتقل بالقلعة بشيراز :
أبلغا على الحسين الوكا
أن ذا الطود عهدك ساخا
والشهاب الذي اصطليت لظاء
عكست ضوءه الخطوب فباخا
والفنيق الذي تذرع طول الأرض
خوى به الردى وأناخا
إن يرد مورد القذى وهو راض
فيما يكرع الزلال اللقاحا
والعقاب الشعواء أهبطها النيق
وقد أرعت النجوم صماخا
|
مخ ۲۷
أعجلتها المنون عنا ولكن
خلفت في ديارنا أفراخا
وعلى ذاك فالزمان بهم عاد
غلاما من بعد | ما كان شاخا
وأم الرضي أبي الحسن فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم ، أبي طالب عليهم السلام ، شيخ الطالبيين وعالمهم وزاهدهم ، وأديبهم وشاعرهم ، ملك بلاد الديلم والجبل ، ويلقب بالناصر للحق ، جرت له حروب عظيمة مع السامانية ، وتوفي بطبرستان سنة أربع وثلاثمائة ، وسنة تسع وسبعون سنة ، وانتصب في منصبه الحسن بن القاسم بن الحسين الحسني ، ويلقب بالداعي إلى الحق . | وهي أم أخيه أبي القاسم علي المرتضى أيضا . | وحفظ الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة ، وعرق من الفقه والفرائض طرفا قويا ، وكان رحمة الله عالما أديبا ، وشاعرا مفلفا ، فصيح النظم ، ضخم الألفاظ ، قادرا على القريض متصرفا في فنونه ، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب ، وأن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق فيه غباره ، وإن قصد في المرائي جاء سابقا والشعراء منقطع أنفاسها على أثره ، وكان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية ، وكان عفيفا شريف يالنفس ، علي الهمة ، ملتزما بالدين وقوانينه ، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة ، حتى أنه رد صلات أبيه ، وناهيك بذلك شرف نفس ، وشدة ظلف ، فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قوبله صلاتهم فلم يقبل . | وكان يرضى بالإكرام وصيانة الجانب وإعزاز الأتباع والأصحاب ، وكان هو أشد حبا وأكثبر ولاء للطالع منه للقادر ، وهو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها ، منها : |
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في المعالي معرق ) |
مخ ۲۸
إلا الخلافة شرفتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
فيقال : إن القادر قال له : على رغنم أنف الشريف . | وذكر الشيه أبوة الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقية المالكي ، قال : كان شيخ الشهود المعدلين ببغداد ومتقدمهم ، وسمع الحديث الكثير ، وكان كريما مفضلا على أهل العلم ، قال : وعليه قرأ الشريف الرضي رحمه الله القرآن وهو شاب حدث السن ، فقال له يوما : أيها الشريف ، اين مقامك ؟ قال : في دار أبي بباب محول ، فقال : مثلك لا يقيم بدار أبيه ، قد نحلتك داري بالكرخ ، المعروفة بدار البركة ، فامتنع الرضي من قبولها وقال له : لم أقبل من أبي قط شيئا ، فقال : إن حظي عليك أعظم من حق أبيك عليك ، لأني حفظتك كتاب الله تعالى ، فقبلها . | وكان الرضي لعلو همته تنازعه نفسه إلى أمور عظيمة يجيش بها خطاره وينظمها في شعره ، ولا يجد من الدهر عليها مساعدة ، فيذوب كمدا ، ويفني وجدا ، حتى توفي ولم يبلغ غرضا . | فمن ذلك قوله : |
ما أنا للعلياء إن لم يكن
من ولدي ما كان من والدي
ولا مست بي الخيل إن لم أطأ
سرير هذا الأصيد الماجد
ومنه قوله : |
متى تراني مشيحا في أوائلهم
يطفو بي النفع أحيانا ويخفيني
لتنظرني مشيحا في أوائلها
يغيب بي النقع أحيانا ويبدين ي
لا تعرفوني إلا بالطعان وقد
أضحى لثامي معصوبا بعرنيني
ومنه قوله يعني نفسه : |
فوا عجبا مما يظن محمد
وللظن في بعض المواطن غدار
يؤمل أن الملك طوع يمينه
ومن دون ما يرجو المقدر أقدار
لئن هو أعفى للخلافة لمة
لها طرر فوق الجبين وإطرار
ورام العلا بالشعر والشعر دائبا
ففي الناس شعر خاملون وشعار
وإني أرى زندا تواتر قدحه
ويوشك يوما أن تكون له نار
ومنه قوله : |
لا هم قلبي بركوب العلا
يوما ولا بلت يدي بالسماح
إن لم أنلها باشتراط كما شئت
شئت على بيض الظبي واقتراح
ورام العلا بالشعر والشعر دائبا
ففي الناس شعر خاملون وشعار
أفوز منها باللباب الذي
يعبي الأماني نيله والصراخ
فما الذي يقعدني عن مدى
ما هو بالبسل ولا باللقاح
يطمح من لا مجد يسمو به
إني إذا أعذر عند الطماح
أما فتى نال المنى فاشتفى
أو بطل ذاق الردى فاستراخ
وفي هذه القصيدة ما أحسن مسا ، وأعظم نتكاية ، ولكنا عدلنا عنه وتخطيناه ، كراهية لذكره ، وفي شعره الكثير الواسع من هذا النمط . | وكان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب له صديقا ، وبينهما لحمه الأدب ووشائجه ، ومراسلات ومكاتبات بالشعر فكتب الصابي إلى الرضي في هذا النمط . |
مخ ۲۹
أبا حسن لي في الرجاله فراسة
تعودت منها أن تقول فتصدقا
وقد خبرتني عنك أنك ماجد |
سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى
فوفيتك التعظيم قبل أوانه
وقلت : أطال الله للسيد البقا
وأضمرت منه لفظة لم أبح بها
إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا
فإن مت أو إن عشت فاذكر بشارتي
وأوجب بها حقا عليك محققا
وكن لي في الأولاد والأهل حافظا
إذا ما اطمأن الجنب في مضجع القا
فكتب إليعه الرضي جوابا عن ذلك قصيدة ، أولها : |
سننت لهذا الرمح عربا مذلقا
وأجريت في ذا الهندواني رونقا
وسومت ذا الطرف الجواد وإنما
شرعت له نهجا فخب وأعنفا
وهي قصيدة طويلة ثابتة في ديوانه ، يعد فيها نفسه ، ويعد الصابي ، أيضا ببلوغ آماله ، إن ساعد الدهر وتم المرام ، وهذه الأبيات أنكرها الصابي لما شاءت ، وقال : إني عملتها في أبي الحسن علي علي بن عبد العزيزبن حاجب النعمان ، كاتب الطالع ، وما كان الأمر كما ادعاه ، ولكنه خاف على نفسه . | وذكر أبو الحسن الصابي وابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الظاهر أبا أحمد الموسوي وابنه أبا القاسم المرتضى وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء ، وأبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي أولها : |
ما مقلامي على الهوان وعندي
مقول صارم وأنف حمي
وإباء محلق بي عن الضيم
كما زاغ طائر وحشي
أي عذر له إلى المجد إن
ذل غلام في غمده المشرفي ) |
أجمل الضيم في بلاد الأعادي
وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي ومولاه مولاي
إذا ضامني البعيد القصي
مخ ۳۰
لف عرقي بعرقه سيدا الناس
جميعا : محمد وعلي
وقال القدارد للنقيب أبي أحمد : قل لولدك محمد : أي هوان قد أقام عليه عليه عندنا وأي ضيم لقي من جهتنا وأي ذل أصابه في مملكتنا وما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضي إليه ؟ أكان يصنع إليه أكثر من صنيعنا ؟ ألم نوله النقابة ألم نوله المظالم ألم نستخلفه على الحرمين والحجاز وجعلناه أمير الحجيج فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده إلا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر . فقال النقيب أبو أحمد : أما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه ، ولا رأيناه بخطه ، ولا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحله إياه ، وعزاه إليه ، فقال القادر : إن كان كذلك ، فلتكتب الآن محضرا يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر ، ويكتب محمد خطه فيه ، فكتب محضرا بذلك ، شهد فيه جميع من حضر المجلس ، منهم النقيب أبو أحمد وابنه المرتضى ، وحمل المحضر إلى الرضي ليكتب خطه فيه ، حمله أبوه وأخوه فمتنع من سطر خطه ، وقال : لا أمتب وأخاف دعاة صاحب مصر ، وأنكر الشعر ، وكتب خطه ، وأقسم فيه أنه ليس بشعره ، وأنه لا يعرفه . فأجبره أبوه على ألا يكتب خطه في المحضر ، فلم يفعل ، وقال : أخاف دعاة المصريين وغيلتهم لي ، فإنهم معرفون بذلك . فقال أبوه : يا عجباه أتخاف من بينك وبينه ستمائة فرسخ ، ولا تخاف من بينك وبينه مائة ذراع ، وحلف ألا يكلمه ، وكذلك المرتضى فعلا ذلك تقية وخوفا من القادر ، وتسكيتا له ، ولما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره ، وبعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة ، وولاها محمد بن عمر النهر بابسي . | وقرأت بخط محمد بن إدريس الحلي الفقيه الإمامي ، قال : خكى أبو حامد أحمد بن محمد الإسفراييني الفقيه الشافعي ، قال : كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة ، وابنه سلطان الدولة ، فدخل عليه الرضي أبو الحسن ، فأعظمه وأجله ورفع من منزلته ، وخلي ما كان بيده من الرقاع والقصص ، وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف ، ثم دخل بعدذلك المرتضى أبو القاسم رحمه الله ، فلم يعظمه ذلك التعظيم ، ولا أكرمه ذلك الإكرام ، وتشاغل عنه برقاع يقرؤها ، وتوقيعات يوقع بها ، فجلس قليلا ، وسأهل أمرا فقضاه ، ثم انصرف . | قال أبو حامد : فتقدمت إليه وقلت له : أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون ، وهو الأمثل والأفضل منهما ، وإنما أبو الحسن شاعر ، قال : فقال لي : إذا انصرف الناس وخلا المجلس عن هذه المسألة .
مخ ۳۱
قال : وكنت مجمعا على الانصراف ، فجاءني أمر لم يكن في الحساب ، فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا ، فلما يبق إلا غلمانه وحجابه ، دعا بالطعام ، فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر غلمانه ، ولم يبق عنده غيري قال لخادم : هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام ، وأمرتك أن تجعلهما في الشفط الفلاني : فأحضرهما ، فقال : هذا كتاب الرضي ، اتصل بي أنه قد ولد له ولد ، فأنفذت إليه ألف دينار ، وقلت له : هذه للقابلة ، فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى أخلائهم وذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال ، فردها وكتب إلى هذا الكتاب فأقرأه . قال : فقرأته ، وهو اعتذار عن الرد ، وفي جملته : إننا أهل بيت لا نطلع على أحواتلنا قابلة عربة ، وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ، ولسن ممن يأخذن أجرة ، ولا يقبلن صلة ، قال : فهذا هذا . وأما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا وقسطنا على الأملاك ببادور يا تقسيطا تصرفه | حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى ، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعرفة بالدهرية من التقسيط عشرين درهما ، ثمنها دينار واحد ، قد كتب إلى منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب ، فأقرأه فقرأته ، وه أكثر من مائة سطر ، يتضمن من الخضوع والخشوع والاستماله والهز والطلب والسؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه . | قال فخر الملك : فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل ؟ هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النفس ، أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ، ونفسه تلك النفس فقلت : وفق الله تعالى سيدنا الوزير ، فما زال موفقا ، والله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه ، ولا أحله إلى في محله ، وقمت فانصرفت . | وتوفي الرضي رحمه الله في المحرم من سنة أربع وأربعامائة ، وحضر الوزير فخر الملك وجميع الأعيان والأشراف والقضاة جنازته والصلاة عليه ، ودفن في داره بنسجد الأنباريين بالكرخ ، ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليهما السلام ، لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه ، وصلى عليه فخر الملك أبو غالب ، ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي ، فألزمه بالعود إلى داره . | ومما رثاه أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها : |
يا للرجال لفجعة جذمت يدي
ووددت لو ذهبت علي براسي
ما زلت آتي وردها حتى أتت
فحسونها في بعض ما أنا حاسي
ومطلتها زمنا فلما صممت
لم يثنها مطلي وطول مكاسي
لله عمرك من قصير طاهر
ولرب عمر طال بالأدناس
وحدثني فخار بن معدج العلوي الموسوي رحمه الله ، قال : رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن العثمان الفقيه الإمام في منامه كأن فاطمة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ، ومعها ولداها : الحسن والحسين عليهما السلام ، صغيرين ، فسلمتهما إليه ، وقالت علمهما الفقه ، فانتبه متعجبا من ذلك ، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التى رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر ، وحولها جواريها ، وبين يديها ابناها : محمد الرضي وعلي المرتضى صغيرين ، فقام إليها وسلم عليها ، فقالت له : أيها الشيخ ، هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه ، فبكى أبو عبد الله وقص عليها المنام ، وتولى تعليمهما الفقه ، وأنعم الله عليهما ، وفتح لهما من أوباب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا وهو باق ما بقي الدهر .
مخ ۳۲
القول في شرح خطبة البلاغة نهج البلاغة
. | قال الرضي رحمه الله : بسم الله الرحمن الرحيم . | أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه ، ومعاذا عن بلائه ، ووسيلا إلى جناته ، وسببا لزيادة إحسانه ، والصلاة على رسوله نبي الرحمةةة ، وإمام الإئمة ، وسراج الأمة ، المنتخب من طينة الكرم ، وسلالة المجد الأقدم ومغرس الفخار المعرق ، وفرع العلاء المثمر المورق ، وعلى أهل بيته مصابيح الظلم ، وعصم الأمم ، ومنار الدين الواضحة ، ومثاقيل الفضل الراجحة ، فصلى الله عليهم أجمعين ، صلاة تكون إزاء لفضلهم ومكافأة لعملهم ، وكفاء لطيب أصلهم وفزعهم ، ما أنار فجر طالع ، وخوي نجم ساطع . | الشرح : اعلم أني لا أتعرض في هذا لشرح للكلام فيما قد فرغ منه أئمة العربية ، ولا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف ، كما فعل القطب الراوندي ، فإنه شرع أولا في تفسير قوله : أما بعد : هذا هو فصل الخطاب ، ثم ذكر ما معنى الفصل ، وأطال فيه وقسمه أقساما ، يشرح ما قد فرغ له منه ، ثم شرح الشرح ، وكذلك أخذ يفسر قوله : من بلائه ، وقوله : إلى جنانه ، وقوله : وسببا ، وقوله : المجد ، وقوله الأقدم ، وهذا كله إطالة وتضييع للزمان من غير فائدة ، ولو أخذنا بشرح مثل لوجب أن نشرح لفظة أما المفتوحة ، وأن نذكر الفصل بينها وبين إما المكسورة ، ونذكر : هل المكسورة من حروف العطف أو لا ؟ ففيه خلاف ن ونذكر هل المفتوحة مركبة أو مفردة ؟ ومهملة أو عاملة ؟ ونفسر معنى قول الشاعر : |
مخ ۳۳
أبا خراشة أما كنت ذا نفر
فإن قومي لم تأكلهم الضبع
بالفتح ، ونذكر الآن فنقول : قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا : هو الفخار ، بكسر الفاء قال : وهذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها ، وهو غير جائز ، لأنه مصدر فاخر ، وفاعل يجيء مصدره على فعال بالكسر لا غير ، نحو قاتلت قتالا ، ونازلت نزالا ، وخاصمت خصاما ، وكافحت كفاحا ، وصارعت صراعا ، وعندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء ، وتكون مصدر فخر لا مصدر فاخر ، فقد جاء مصدر الثلاثي ، إذا كان عينه أو لامه حرف حلق على فعال بالفتح ، نحو سمح سماحا ، وذهب ذهابا ، اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أو كتاب موثوق به نقلا صريحا ، فتزول الشبهة ، والعصم : جمع عصمة ، وهو مايعتصم به ، والمنار : الأعلام ، واحدها منارة ، بفتح الميم ، والمثاقيل جمع مثقال ، وهو مقدار وزن الشيء ، تقول : مثقال حبة ، ومثقال قيراط ، ومثقال دينار وليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة ، فقوله : مثاقيل الفضل ، أي زنات الفضل ، وهذا من باب الاستعارة ، وقوله : تكون إزاء لفضلهم ، أي مقابلة له ، ومكافأة بالهمز ، من كافأته أي جازيته ، وكفاء ، بالهمز والمد ، أي نظيرا ، وخوي النجم ، أي سقط ، وطينة الكرم ، أصله زوسلالة المجد فرعه ، والوسيل : جمع وسيلة وهو ما يتقبرب به ، ولو قال : وسبيلا إلى جنائه لكان حسنا ، وإنما قصد الإغراب ن على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ ، وقوله : ومكافا ’ لعملهم إن أراد أن يجعله قرينه لفضلهم ، كان مستقبحا عند من يريد البديع ، لأن الأولى ساكنة الأوسط ، والأخرى متحركة الأوسط ، وأما من لا يقصد البديع كلاكلام القديم فليس بمستقبح . وإن لم يرد أن يجعلها قرينة بل جعلها من حشو السجعة الثانية ، وجعل القرينة وأصلهم فهو جائز ، إلا أن السجعة الثانية تطول جدا ، ولو قال عوض لعلمهم لفعلهم لكان حسنا . | قال الرضي رحمه الله : | فإني كنت في عنفوان السن ، وغصاصة الغصن ، ابتدأت تألببيف كتاب في خصائص الأئمة عليهم السلام ، يشتمل على محاسن أخبارهم ، وجواهر كلامهم ، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب ، وجعلنه أمام الكلام وفلرغت من الخصائص التي تيخص أمير المؤمنين عليا ، صلوات الله عليه ، وعافت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام ومماطلات الزمان ، وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا ، وفصلته فصولا ، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام ، من الكلام القصير ، في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة ، والكتب المبسوطة ، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره ، معجبين ببدائعه ، ومتعجبين من نواصعه ، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه ، ومتشعبات غصونه ، من خطب وكتب ، ومواعظ وأدب ، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدينياوية ، ما لا يوجد مجتمعا في كلام ولا جموع الأطراف في كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشسرع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه اخذت قوانينيها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا ، وتقدم وتأخروا ، لأن كلامه عليه السلام الذي عليه مسحة من العلم الألهي ، وفيه عبقة من الكلام النبوي . | الشرح : عنفوان السن : أولها ، ومحاجزات الأيام : ممانعاتها ، ومماطلات الزمان : مدافعاته ، وفوله : معجبين ثم قال : ومتعجبين ومعجبين من قولك . أعجب فلان برأيه وبنفسه فهو معجب بهما ، والاسم العجب بالضم ، ولا يكون ذلك إلا في المستحسن ، ومتعجبين من قولك : تعجبت من كذا ، والاسم العجب ، وقد يكون في الشيء يستحسنم ويستقبح ويتهمول منه ويستغرب ، ومراده هنا التهول والاستغراب ، ومن ذلك قول أبي تمام :
أبدت أنني إذ رأتني مخلس القصب
وآل ما كان من عجب إلى عجب
يريدأنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنة ، فلما شاب القلب ذلك العجب نعجبا ، إما استقباحا له أو تهولا منه واستغرابا . وفي بعض الروايات : معجبين ببدائعه ، أي أنهم يعجبون غيرهم والنواصع : الخالصة ، ثواقب الكلم : مضيئاتها ، ومنه الشهاب الثاقب ، وحذا كل قائل : اقتفى واتبع وقوله : مسحة يقولون : على فلان مسحة من جمال ، مثل قولك : شيء ، وكأنه ها هنا يريد ضوءا وصقالا ، وقوله : عبقة أي رائحة ، ولو قال عوض العلم الإلهي ، الكتاب الإلهي لكان أحسن . | قال الرضي رحمه الله : | فأجابتهم إلى الابتداء بذلك ، عالما بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ، ومذخور الآخر ن واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام يفي هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدثرة ، والفضائل الجمة ، وأنه تفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين ، الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر ، والشاذ الشارد ، فأما كلامه عليه السلام فهو البحر الذي لا يساجل ، والجم الذي لا يحافل ، وأردت أن يسوع لي التمثل في الافتخار به صلوات الله عليه بقول الفرزدق : |
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
الشرح : المحاسن الدثرة ، الكثيرة ، مال دثر ، أي كثير ، والجمة مثله . ويؤثر عنهم ، أي يحكى وينقل ، قلته أثر ، أي حاكيا ، ولا بساحل ، أي لا يكاثر ، أصله من النزع بالسجل ، وهو الدلو الملئ ، قال :
مخ ۳۵
من يساحلني يساجل ماجدا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ويورى : ويساحل بالحاء ، من ساحل البحر وهو طرفه ، أي لا يشابه في بعد ساحله ، ولا يحافل ، أي لا يفاخر بالكثرة ، أصله من الحفل ، وهو الالمتلاء ، والمحافلة : المفاخرة بالاستلاء ، ضرع حافل ، أي ممتلئ . | والفرزدق ، همام بن غالب بن صعصعة التميمي ، ومن هذه الأبيات : |
ومنا الذي اختير الرجال سماحة
وجودا إذا هب الرياح الزعازع
ومنا الذي الذي أحيا الوئيد وغالب
وعمرو ، ومنا حاجب والأقارع
ومنا الذي قاد الجياد على الوجا
بنجران حتى صبحته الترائع
ومنا الذي أعطى الرسول عطية
أساري تميم والعيون هوامع
الترائع : الكرام من الخيل ، يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الإسلام بني تغلب بنجران ، وهو اللذي أعطاه الرسول يوم حنين أساري تميم : |
ومنا غداة فرسان غارة
إذا منعت بعدالزجاج الأشاجع ) ( ومن االخطيب لا يعاب وحامل
أغر إذا التفت عليه المجامع
أي إذا مدت الأصابع بعدالزجاج إنماما لها ، لأنها رماح قصيرة ، وحامل ، أي حامل للديات . |
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
بهم اعتلى ما حملتنيه دارم
وأصرع أقراني الذين أصارع
أخذنا بآفاق السماء عليكم
لنا قمراها والنجوم الطوالع
مخ ۳۶
فلو عجبا حتى كليب تسبني
كأن أباها نهشل أو مجاشع
قال الرضي رحمه الله ' ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة ، ألوها الخطب والأوامر ، وثانيها : الكتب والرسائل ، وثالثها الحكم المواعظ ، فأجمعت بتوفيق سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، ثم محاسن الكتب ، ثم محاسن الحكم والأدب ، مفردا لكل صنف من ذلك بابا ، ومفصلا فيه أوراقا ، ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ علي عاجلا ، ويقع إلي آجلا وإذا جاء شيء من كلامه الخارج في أثناء جوار ، أو جواب سؤال ، أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها ، وقررت القاعدة عليها ، نسبته إلى أليق الأبواب به ، وأشدها ملامحة لغرضه ، وربما جاء فيخما اختاره من ذلك فصول غير متسقة ، ومحاسن كلم عير منتظمة ، لأني أورد النكت واللمع ، ولا أقصد التتالي والنسق . | الشرح : قوله : أجمعت على الابتداء ، أي عزمت ، وقال القطب الراوندي : تقديره : أجمعت عازما على الابتداء ، قال : لأنه لا يقال إلا أجمعت الأمر ، ولا يقال : أجمعت على الأمر ، قال سيحانه ^ ( فأجمعوا أمركم ) ^ | هذا الذي ذكره الرواندي خلاف نص أهل الله ، قالوا أجمعت الأمر ، وعلى الأمر ، كله جائز ، نص صاحب الصحاح على ذلك . | والمحاسن : جمع حسن ، على غير قياس ، كما قالوا ، الملامح والمذاكر ، ومثله المقابح والحوار ، بكسر الحاء ، مصدر حاورته ، أي خاطبته ، والأنحاء : الوجوه والمقاصد ، وأشدها ملامحه لغرضه ، أي أشدها أبصارا له ونظرا إليه ، وهذه استعارة ، يقال هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني ، أي يشابهه ، كأن الكلام يلمح ويبصر من هذا الكلام . | قال الرضي رحمه الله : | ومن عجائبه عليه السلام التي انفرد بها ، وأمن المشاركة فيها ، أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ، إذا تأمله المتأمل ، وفكر فيه المفكر ، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ، ممن عظم قدره ونفذ أمره ، وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له غير الزهادة ، ولا شغل له بغيره العبادة ، قد قبع في كسر بيت ، أو انقطع إلى سفح جبل ، لا يسمع إلا حسه ، ولا يرى إلا نفسه ، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينعمس في الحرب مضلنا سبقه ، فيقطع الرقاب ، ويجدل الإبطال ، ويعود به يلطف دما ، ويقطر مهجا ، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد ، وبدل الأبدال ، وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللطيفة ، التي جمع بها بين الشتات ، وكثيرا ما أذاكر الإخوان بها ، واستخرج عجبهم منها ، وهي موضع العبرة بها ، والفكرة فيها . | الشرح : قبع القنفذ يقبع قبوعاإذا أدخل الرجل رأسه في جلده ، وكذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه ، وكل من انزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع ، وكسر البيت : جانب الحباء وسفح الجبل : أسفله ، وأصله حيث يسفح فيه الماء ، ويقط الرقاب : يقطعها عرضا لا طولا كما قاله الرواندي وإنما ذاك القد ، قددته طولا ، وقططته عرضا . قال ابن فارس صاحب المجمل : قال ابن عائشة كانت ضربات عليه السلام في الحرب أبكارا ، إن اعتلى قد ، وإن اعترض قط ، ويجدل الأبطال ، يلقيهم على الجدالة ، وهي وجه الأرض . وينطف دما : يقطر ، والأبدال : قوم صالحون لا تخلو منهم ، إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر ، قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث . | كان أمير المؤمنين عليه السلام ذا أخلاق متضادة . | فمنها ما قد ذكره الرضي رحمه الله ، وهو موضع التعجب ، لأن الغالب على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية ، وفتك وتمرد وجبرية ، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد وتذكيرهم الموت ، أن يكونوا ذوي رقة ولين ، وضع قلب ، وخور طبع ، وهاتان حالتان متضادتان ، وقد اجتمعا له عليه السلام . | ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعتة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية ، وطباع حوشية ، وغرائز وحشية ، وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق ، وعبوس في الوجوه ، ونفار من الناس واستيحاش ، وأمير المؤمنين عليه السلام كان أشجع الناس وأعظمهم وإراقة للدم ، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيات ، وأكثرهم وعظا وتذكيرا بأيام الله ومثلاته ، وأشدهم اجتهادا في العبادة وآدابا لنفسه في المعاملة ، وكان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا ، وأسفرهم وجهها وأكثرهم بشران وأوفاهم هشاشة ، وأبعدهم عن انقباض موحش ، أو خلق نافر ، أو تجهم مباعد ، أو غلظة وفظاظة تنفر معهما النفس ، أو يتكدر معهما قلب ، حتى عيب بالدعابة ؟
مخ ۳۸
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وهذا من عجائبه وغرائبه . | ومنها أن الغالب على شرفاء الناس ومن هو من أهل بيت السيادة والرياسة أن يكون ذا كبر وتيه وتعظم وتغطرس ، خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يفي مصاص الشرف ومعدنه ومعانيه ، لايشك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه صلوات الله عليه ، وقد حصل له من الشرف عير شرف النمسب جهات كثيرة متعدجدة ، قد ذكرنا بعضها ، ومع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير وكبير ، وألينهم عريكه ، وأسمحهم عريكة ، وأسمحهم خلقا ، وأبعدهم عن الكثر ، وأعرفهم بحق ، وكانت هذه في كلا زمانيه ، زمان خلافته ، والزمان الذي قبله ، لم تغيره الإمرة سجيته وما برح أميرا لم يستفد بالخلافة شرفا ، ولا اكتسب بها زينة ، بل هو قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم تذاكروا عند أحمد أب يبكر وعلي وقالوا فأكثروا فرفع رأسه إليهم ، وقال لقد أكثرتم إن عليا لم تزله الخلافة ، ولكنه زالها ، وهذا الكلام دال بفحواه ومفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة وتممت نقصه ، وأن عليا عليه السلام لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة ، وكانت الخلافة ذات نقص يفي نفسها ، فتم نقصها بولايته إياها . | ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح ، بعيدي العفو ، لأن أكبادهم واغرة ، وقلوبهم ملتهبة ، والقوة الغضبية عندهم شديدة ، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح ، ومغالبة هوى النفس ، ولقد رأيت فعله يوم الجمل ، ولقد أحسن مهيار في قوله : |
حتى إذا دارت بغيهم
عليهم وسبق السيف العذل
عاذوا بعفو ماجد معود
للعفو حمال لهم على الملل
فنجت البقيا عليهم من نجا
وأكل الحديد منهم من أكل
مخ ۳۹
أطت بهم أرحامهم فلم يطع
ثائرة الغيط ولم يشف الغلل
ومنها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط ، كان عبد الله بن الزبير شجاعا وكان أبخل الناس ن ، وكانالزبير أبوه شجاعا وكان شحيحا ، قال له عمر : لو وليتها لظلت تلاطم الناس في البطحاء على الصاع والمد ، وأراد علي عليه السلام أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال ، فاحتال لنفسه ، فشارك الزبير في أمواله وتجاراته ، فقال عليه السلام ، أما إنه قد لاذ بملاذ ، ولم يحجر عليه ، وكان طلحة شجاعا وكان شحيحا ، أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحضر ، وكان عبد الملك شجاعا وكان شحيحا ، يضرب به المثل في الشح ، وسمي رشح الجر لبخله ، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في الشجاعة والسخاء كيف هيي ، وهذا من أعاجيبه أيضا عليه السلام . | قال الرضي رحمه الله : وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد ، والمعنى المكرر ، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا ، فربما اتفق الكلام المختار فيء رواية فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول ، إما بزيادة مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد ، استظهارا للاختيار ، وغيرة على عقائل الكلام ، وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا ، فأعيد بعضه سهوا ونسيانا ، لا قصدا أو اعتمادا ، ولا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام ، حتى لا يشد عني منه شاذ ، ولا يند ناد ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي ، وما علي إلا بذل الجهد ، وبلاغة الوسع ، وعلى الله سبحانه نهج السبيل ، وإرشاد الدليل . | ورأيت من بعد تسميه هذا لالكتاب بنهج البلاغة ، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرب عليه طلابها ، وفيه حاجة العالم والمتعلم ، وبغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه الله سبحانه وتعالى من شبه الخلق ، ما هو بلال كل غلة ، وشفاء كل علة ، وجلاء كل شبهة ، ومن الله استمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، واستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ومن زلة الكلم قبل زلة القدم ، وهو حسبي ونعم الوكيل . | الشرح : في أثناء هذا الاختيار : تضاعيفه ، واحدها ثني كعذق وأعذاق ، والغيرة بالفتح والكسر خطأ . وعقائل الكلام : كرائمه ، وعقيلة الحي : كريمته ، وكذلك عقيلة الدود ، والأقطار : الجوانب ، واحدها قطر . والناد : المنفرد ، ند البعير يند . الربقة : عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة . وقوله : وقوله ' وعلى الله نهج السبيل ' أي إبانته وإيضاحه ، نهجت له نهجا ، وأما اسم الكتاب فنهج البلاغة ، والنهج هنا ليس بمصدر ، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه ، والطلاب ، بكسر الطاء : الطلب ، والبغية : ما ينبغي . وبلال كل غلة ، بكسر الباء : ما يبل به الصدى : ومنه قوله : انصحوا الرحم ببلالها ، أي صلوها بصلتها وندوها ، قال أوس :
كأني خلوت الشعر حين مدحته
صفا صخرة صماء يبس بلالها
وإنما استعاذ من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ، لأن خطأ الجنان أعظم وأفحش من خطأ اللسان ، ألا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه وهو غير معتقد للكفر بقلبه ، وإنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم ، لأنه أراد زلة القدم الحقيقية ، ولا ريب أن زلة القدم أهون وأسهل ، لأن العاثر يستقيل من عثرته ، وذا الزلة تجده ينهض من صرعته ، وأمة الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها ، ولا ينهض صريعها ، وطالما كانت لا شوى لها ، قال أبو تمام :
يا زلة ما وقيتم شر مصرعها
وزلة الرأي تنسي زلة القدم
مخ ۴۰