قال : ومن قال : علام ؟ فقد أخلى منه ؛ وهذا حق ؛ لأن من تصور أنه تعالى على العرش ، أو على الكرسي ، فقد أخلى منه غير ذلك الموضع . وأصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك ، ومراده عليه السلام إظهار تناقض أقوالهم ؛ وإلا فلو قالوا : هب أنا قد خلينا منه غير ذلك الموضع ، أي محذور يلزمنا ؟ فإذا قيل لهم : لو خلا موضع دون موضع لكان جسما ، ولزم حدوثه ، قالوا : لزوم الحدوث والجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه ؛ وأنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه ، فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم ، لا استدلال على فساد قولهم .
فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله : نفي الصفات عنه : أي صفات المخلوقين ، قال : لأنه تعالى عالم قادر ، وله بذلك صفات ، فكيف يجوز أن يقال : لا صفة له ! وأيضا فإنه عليه السلام قد أثبت لله تعالى صفة أولا ، حيث قال : الذي ليس لصفته حد محدود ، فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة .
وأيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة : إنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين ، فوجب أن يحمل قوله الآن : وكمال توحيده نفي الصفات عنه ، على صفات المخلوقين ، حملا للمطلق على المقيد .
ولقائل أن يقول : لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية ، وهو قوله : لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، لأن هذا الاستدلال لا ينطق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين ، بل كان ينبغي أن يستدل بأن صفات المخلوقين من لوازم الجسمية والعرضية ، والبارئ ليس بجسم ولا عرض ، ونحن قد بينا أن مراده عليه السلام إبطال القول بالمعاني القديمة ، وهي المسماة بالصفات في الإصطلاح القديم ، ولهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية . فأما كونه قادرا وعالما فأصحابها أصحاب الأحوال ، وقد بينا أن مراده عليه السلام بقوله : ليس لصفته حد محدود ، أي لكنهه وحقيقته ، وأما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين ، لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة ، وأين هذا من باب حمل المطلق على المقيد ! لا سيما وقد ثبت أن التعليل والاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين .
وقد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله عليه السلام نفي الصفات عنه بقوله : لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، بكلام عجيب ؛ وأنا أحكي ألفاظه لتعلم ؛ قال : معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل ، والفاعل غير الفعل ؛ لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل ، كالضارب والفهم ؛ فإن الفهم والضرب كلاهما فعل ، والموصوف بهما فاعل ، والدليل لا يختلف شاهدا وغائبا ؛ فإذا كان تعالى قديما وهذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت ، يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها ومدبرها ، انقضى كلامه . وحكايته تغني عن الرد عليه .
مخ ۵۳