الشرح : إنما قال عليه السلام : أول الدين معرفته ، لأن التقليد باطل ، وأول الواجبات الدينية المعرفة . ويمكن أن يقول قائل : ألستم تقولون في علم الكلام : أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى ؛ وتارة تقولون : القصد إلى النظر ؟ فهل يمكن الجمع بين هذا وبين كلامه عليه السلام ؟ ! وجوابه أن النظر والقصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات ؛ لأنهما وصلة إلى المعرفة ، والمعرفة هي المقصود بالوجوب ، وأمير المؤمنين عليه السلام أراد : أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه ؛ فلا تناقض بين كلامه وبين آراء المتكلمين .
وأما قوله : وكمال معرفته التصديق به ، فلأن معرفته قد تكون ناقصة ، وقد تكون غير ناقصة ، فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بأن للعالم صانعا غير العالم ، وذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر ، فمن علم هذا فقط علم الله تعالى ولكن علما ناقصا ، وأما المعرفة التي ليست ناقصة فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات ، والخارج عن كل الممكنات ليس بممكن ، وما ليس بممكن فهو واجب الوجود ، فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط ، وهذا الأمر الزائد هو المكنى عنه بالتصديق به ؛ لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود .
وأما قوله عليه السلام : وكمال التصديق به توحيده ، فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه ، لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا ، وقد يكون غير ناقص ؛ فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط ، و التصديق الذي هو أكمل من ذلك وأتم هو العلم بتوحيده سبحانه ، باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين ، لأن فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما وامتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك ، وذلك يفضي إلى تركيبهما وإخراجهما عن كونهما واجبي الوجود ، فمن علم البارئ سبحانه واحدا ، أي لا واجب الوجود إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك ؛ وإنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط .
وأما قوله : وكمال توحيده الإخلاص له ؛ فالمراد بالإخلاص له ههنا هو نفي الجسمية والعرضية ولوازمهما عنه ، لأن الجسم مركب ، وكل مركب ممكن ، وواجب الوجود ليس بممكن . أيضا فكل عرض مفتقر ، وواجب الوجود غير مفتقر ؛ فواجب الوجود ليس بعرض . وأيضا فكل جرم محدث ، وواجب الوجود ليس بمحدث ، فواجب الوجود ليس بجرم . وأيضا فكل حاصل في الجهة ، إما جرم أو عرض ، وواجب الوجود ليس بجرم ولا عرض ، فلا يكون حاصلا في جهة ؛ فمن عرف وحدانية البارئ ولم يعرف هذه الأمور كان توحيده ناقصا ، ومن عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه ، ومعرفته تكون أتم وأكمل .
مخ ۵۱