فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما ، وهو أن القضية الأولى كفر ، لأنها صريحة في إثبات الشريك ، والثانية لا تقتضي ذلك ، لأنه قد نفى كون الشريك بصيرا على أحد وجهين ؛ إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير ؛ وإما لأن الشريك غير موجود ، وإذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا ؛ فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا ، وصار كالأثر المنقول : كان مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تؤثر هفواته ؛ أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر وتحكى ، وليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر .
قال الراوندي : فإن قيل : تركيب هذه الجملة يدل على أنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات والأرض .
قلنا : قد اختلف في ذلك فقيل : أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية ، يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به ، ولهذا قيل : تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث وقبيح . وقيل : لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له .
ولقائل أن يقول : أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السموات والأرض وإنما قد يوهم تأمل كلامه عليه السلام فيما بعد شيئا من ذلك ، لما قال : ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ، على أنا إذا تأملناه لم نجد في كلامه عليه السلام ما يدل على تقديم خلق الحيوان ، لأنه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق . وتارة قال : أنشأ الخلق ، ودل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح ، وأنه خلق الأرض وهي مضطربة فأرساها بالجبال ؛ كل هذا يدل عليه كلامه ، وهو مقدم على فتق الهواء والفضاء وخلق السماء ، فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه عليه السلام له ، فلا معنى لجواب الراوندي وذكره ما يذكره المتكلمون من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا ! الأصل : أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة . فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزاه ، ومن جزاه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن قال : فيم ، فقد ضمنه ، ومن قال : علام ، فقد أخلى منه .
مخ ۵۰