ثم قال الراوندي : إنه لو قال أمير المؤمنين عليه السلام : والذي لا يعد نعمه الحاسبون ، ولم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته ؛ لأن اشتقاق الحساب من الحسبان ، وهو الظن . قال : وأما اشتقاق العدد فمن العد ، وهو الماء الذي له مادة ، والإحصاء : الإطاقة ؛ أحصيته ، أي أطقته ؛ فتقدير الكلام : لا يطيق عد نعمائه العادون ، ومعنى ذلك أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء والمرسلون ، لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون ، والكرام الكاتبون .
ولقائل أن يقول : أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن ، كما توهمه ، بل هو أصل برأسه ؛ ألا ترى أن أحدهما حسبت أحسب . والآخر حسبت أحسب وأحسب بالفتح والضم ، وهو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة . وأيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، وحسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد .
ثم يقال له : وهب أن الحاسبين ، لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة ، بل المبالغة كادت تكون أكثر ؛ لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه .
وأما قوله : العدد مشتق من العد ؛ وهو الماء الذي له مادة ، فليس كذلك ، بل هما أصلان . وأيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد ، لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها ، سواء أكان المشتق فعلا أو اسما ، ألا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق : إن الضرب : الرجل الخفيف ، مشتق من الضرب ، أي السير في الأرض للابتغاء ، قل الله تعالى : ' لا يستطيعون ضربا في الأرض ' ، فجعل الاسم منقولا ومشتقا من المصدر .
وأما الإحصاء فهو الحصر والعد وليس هو الإطاقة كما ذكر ؛ لا يقال : أحصيت الحجر ، أي أطقت حمله .
مخ ۴۷