وأما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف ، لأنه عليه السلام لم يذكر الأنبياء ولا الملائكة ، لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما ، وأي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به ! ومراده عليه السلام ؛ وهو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما ، هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص . قال الراوندي : فأما قوله : لا يدركه بعد الهمم ؛ فالإدراك هو الرؤية والنيل والإصابة ؛ ومعنى الكلام : الحمد لله الذي ليس بجسم ولا عرض ، إذ لو كان أحدهما لرآه الراؤون إذا أصابوه ، وإنما خص بعد الهمم ، بإسناد نفي الإدراك وغوص الفطن ، بإسناد نفي النيل لغرض صحيح ؛ وذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور والظلمة ، ويثبتون النور جهة العلو والظلمة جهة السفل ، ويقولون : إن العالم ممتزج منهما ، فرد عليه السلام عليهم بما معناه : إن النور والظلمة جسمان ، والأجسام محدثة ، والبارئ تعالى قديم .
ولقائل أن يقول : إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام ؛ لأنه عليه السلام لم يقل : الذي لا تدركه العيون ولا الحواس ، وإنما قال لا يدركه الهمم ، وهذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه وحقيقته .
وأيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية ، لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له : هب أن الأمر كما تزعم ، ألست تريد بيان الأمرالذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك ، وخصص غوص الفطن بنفي النيل ! وقلت : إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح ، وما رأيناك أوضحت هذا الغرض ؛ وإنما حكيت مذهب الثنوية ، وليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الإدراك دون نفي النيل ، ولا يوجب تخصيص غوص الفطن بنفي النيل دون نفي الإدراك ، وأكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم : النور والظلمة ، وهما جسمان ؛ وأمير المؤمنين عليه السلام يقول : لو كان صانع العالم جسما لرئي ، وحيث لم ير لم يكن جسما ، أي شيء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم والتخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه وقسمه لغرض صحيح ! .
مخ ۴۸