إن قيل : الاستعمال خلاف ذلك ، لأنهم يقولون : حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد ، قيل : ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان ، فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد ، وتكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة ، ويكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور ، ومدحا باعتبار آخر ، وهو المناداة على ذلك الجميل والثناء الواقع بجنسه .
ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد والمدح والشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء والتعظيم ، فإن استعمل شيء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازا . وبقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان ، فإن الاستعمال لا يساعدهم ، لأن أهل الإصطلاح يقولون لمن مدح غيره ، أو شكره رياء وسمعة : إنه قد مدحه وشكره وإن كان منافقا عندهم . ونظير هذا الموضع الإيمان ، فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني ، بل يشترطون فيه الإعتقاد القلبي ، فأما أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية والإمامية ، أو تؤخذ معه أمور أخرى وهي فعل الواجب وتجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة ، ولا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا ، ونظروا إلى مجرد الظاهر ، فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا .
والمدحة : هيئة المدح ، كالركبة ، هيئة الركوب ، والجلسة هيئة الجلوس ، والمعنى مطروق جدا ، ومنه في الكتاب العزيز كثير ، كقوله تعالى : ' وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ' ، وفي الأثر النبوي : ' لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ' ، وقال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره ، فمن جيد ذلك قول بعضهم : الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها ، وإن عجزنا عن إحصائها وعدها . وقالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد :
فما بلغت كف امرئ متناول . . . بها المجد إلا والذي نلت أطول
ولا حبر المثنون في القول مدحة . . . وإن أطنبوا إلا وما فيك أفضل
ومن مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية :
الحمد لله بقدر الله . . . لا قدر العبد ذي التناهي
والحمد لله الذي برهانه . . . أن ليس شأن ليس فيه شانه
مخ ۴۲