والحمد لله الذي من ينكره . . . فإنما ينكر من يصوره | وأما قوله : الذي لا يدركه ، فيريد أن همم النظار وأصحاب الفكر وإن علت وبعدت فإنها لا تدركه تعالى ؛ ولا تحيط به . وهذا حق ، لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا ، أو متخيلا ، أو موجودا من فطرة النفس ، والاستقراء يشهد بذلك . مثال المحسوس السواد والحموضة ، ومثال المتخيل إنسان يطير ، أو بحر من دم . مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم واللذة . ولما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع لم يكن متصورا .
فاما قوله : الذي ليس لصفته حد محدود ، فإنه يعني بصفته ههنا كنهه وحقيقته ، يقول : ليس كنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة ، لأنه ليس بمركب ، وكل محدود مركب .
ثم قال : ولا نعت موجود ، أي ولا يدرك بالرسم ، كما تدرك الأشياء برسومها ، وهو أن تعرف بلازم من لوازمها وصفة من صفاتها .
ثم قال : ولا وقت معدود ولا أجل ممدود ، فيه إشارة إلى الرد على من قال : إنا نعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة ، فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون : إنا نعرف حينئذ كنهه ، فهو عليه السلام رد قولهم ، وقال : إنه لا وقت أبدا على الإطلاق تعرف فيه حقيقته وكنهه ، لا الآن ولا بعد الآن ؛ وهو الحق ؛ لأنا لو رأيناه في الآخرة وعرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين ، ولا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته ، ولا جهة له سبحانه . وقد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف بزيادات النقيضين ، وبينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة ، وأنها لا تجري مجرى العلم : لأن العلم لا يشخص المعلوم ، والرؤية تشخص المرئي ، والتشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة .
واعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع ، منها قوله تعالى : ' ولا يحيطون به علما ' ، ومنها قوله : ' ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ' ، وقال بعض الصحابة : العجز عن درك الإدراك إدراك ؛ وقد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي :
أتبعته فكري حتى إذا بلغت . . . غاياتها بين تصويب وتصعيد
رأيت موضع برهان يلوح وما . . . رأيت موضع تكييف وتحديد
وهذا مدح يليق بالخالق تعالى ، ولا يليق بالمخلوق .
فأما قوله : فطر الخلائق . . . ، إلى آخر الفصل ؛ فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز ؛ فقوله : فطر الخلائق بقدرته ، من قوله تعالى : ' قال من رب السموات وما بينهما ' ، وقوله : ونشر الرياح برحمته ، من قوله : ' يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته ' .
مخ ۴۳