ولم يفد كل ذلك عنده، وشرع في فساد الأحوال، وإعطاء من لا يستحق، وإحرام من يستحق ؛ ويتوعد من لا ذنب له، ويغري الناس بالناس، وكان ذلك في وقت لا يحتمل مثل هذه الأمور. واتفق ما قدره الله سبحانه وتعالى من هروب ريدا فرنسا وجماعة الفرنج، وركوب الناس خلفه ؛ والملك المعظم لا تحدثه نفسه بركوب فرس القتال، بل إنه ركب في مركب على صورة متفرج، وكان الواجب عليه الركوب، واجتماع الناس عليه، وإظهار الشهامة والصرامة، والإحسان إلى من رآه بذل نفسه في سبيل الله، واقتحم المهالك، لأن الناس إذا رأوا ملكتهم قد ثبت جأشه، وأعطى من أظهر شجاعة، تشبهوا من بعضهم البعض، وقاتلوا، هذا لله وللدين، وهذا للشكر والثناء، وهذا للإقطاعات والعطاء. فرحم الله المسلمين، ونصرهم على عدو الدين، وأسوا ريدا فرنس، وجماعة من الفرنج. وبقيت دمياط في يد الكفر، وهو لا يرجع عن ذلك التخليط، وزاد في تغليث قلوب الناس. فلما رأى السلطان الملك الظاهر هذه الأمور القبيحة، والأسباب التي هي من أكبر فضيحة ؛ وبلغه. سوء اعتماده في حق حريم والده السلطان الشهيد، الذين كانوا عنده في حصن کیفا ، وما تجرأ عليه من الفتك بجدته والدة السلطان الشهيد، عندما أنكرت عليه أمورة لا ترضي، على ما ذكر. وصار الملك المعظم يتنقص والده، ولا يرضى عن شيء من فعله، ولا يحلف الا بتربة الملك الكامل جده. وآل الأمر به إلى أن صار يبسط السجادة، ويقوم يصلي وهو على غير طهارة، وتدخل إليه الكيزان مملوءة خمرة على أنه ماء، ويشرب ذلك بحضور الناس ؛ ويكون جالسة صاحية، فيتفكر ساعة، ويشقق ثيابه بغير سببا - غار السلطان بخوشداشيته، وعلم أن الملك المعظم المذكور لا يتأتى منه خير، ولا يجي منه ملك يقيم منار بيته، وتبقى كلمة السلطنة باقية في عقبه ؛ وأنه متى اطمأن، وأمن، أهلك الحرث والنسل، وبدد الشمل ؛ وأدی ذلك إلى انقراض الدولة الصالحية، وهلاك أمرائها في الحبوس، وأخذ أموالهم وإعطائها لغيرهم من شيعته الأوباش ؛ فوثب هو وجماعة من خوشداشيته عليه، وثبة الأسد المفترس، وانصبوا إليه انصباب الستيل المحتبس ؛ فكان ما قدره الله من انتقاله. وللوقت اجتمع الناس، واتفقوا ولم يرق دم آخر، وسكنت الفتنة، وطابت القلوب. ولما رأى ريدا فر نس ما جرى خاف على نفسه وستم دمياط، ودخلت العساكر إلى القاهرة، وانعكف الناس على خدمة السلطان، وقامت له المهابة في قلوب العالم.
مخ ۵۰