... ... ... صلى الله عليه وعلى آله وصحبه،
وبعد : فإنه لما كانت السيرة طراز الدول، ومرآة يرى الناظر فيها أحوال الملوك الأول، وشهادة على ما يحسن كل منهم أو يسيء فيه من قول وعمل ؛ وبها يعلم الناس كيف تصمت الأيام وتصرفت، وبماذا جرت وتوقفت، وعلى ماذا أقبلت عليه من خير وشر وتقفت ؛ فلم تخل دولة من الدول من مؤرخ يسطر أخبارها، ويودع الصحف آثارها ؛ وكانت الدولة الشريفة، السلطانية، الملكية، الظاهرية، الركنية - لا زالت في جبهة الدول غرة واضحة، وفي عقد الممالك درة لائحة ! - قد فضلها الله على غيرها، وهيأ فيها من أسباب السعادة ما استدل كل أحد به على خيرها ؛ وقد جمع الله فيها من النصرة والمعدلة والفتوحات ما لا جمعه الدولة مثلها، [ وسخر ] لها من السعادة، وبلوغ الإرادة ما لا سخر لدولة
مخ ۴۵
؟]...[ولم يخطر بباله يجرد سیفة المجالدة، ولا يربط فرسا إلا طرب، لا لمجاهدة ؛ ولم يبق أحد إليه بالنصر يشار، ولا ملك يتوهم أن ستكون للمتقين عقبى الدار ؛ فبعث الله السلطان مقوية عزائم أهل الإيمان، ومشجعة هممهم، ومثبتة أقدامهم، ورافعة علمهم ؛ فكانت آراؤه من أكبر أسباب النصرة، وإقدامه وقدومه من أعظم دواعي الفتوحات، التي جاءت من تخاذل الملوك على فترة ؛ وترتب على ذلك كل نصر عزیز، وفتح وجيز، وحرز للأمة حريز ؛ وكان ما سيذكر في مكانه، ويستقصي في بيانه - وجب أن تسطر سيرتها لتبقى على ممر الأيام، وتكتب حسناتها، وإن كانت قد كتبتها الملائكة الكرام. وكان المملوك الأصغر مشاهدها سفرة وحضرة، ومعاينة لا خبرة، والمطلع على غوامض أسرارها، وتسطير مبارها .
خدمت الخزانة المعمورة بجمع هذه السيرة ....... [ بيد ]اعها كل حسنة، وتضمينها كل مكرمة، لا يحتاج بيانها ....... عيانا فنقلته، ومنه ما سألته ......................... والسائس الذي أجرى الأمور على أحسن الأوضاع.
وها أنذا أذكر كل شيء منه في موضعه، وأبينه في مكانه، وأجلوه عن عين الناظر ومسمعه، وأثبته في مكانه وأوقعه. والله ولي التدبير، وإياه أسأل إجمال التأثير ، بمنه وكرمه، وهو حسبنا ونعم الوكيل !
مخ ۴۶
هذا السلطان، الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبر س بن عبد الله الصالحي النجمي، تركي، برلي الجنس، تنقلت به إلى السعادة همته العالية، ووصلته إلى المواطن الشامية، فاختص بالسلطان الشهيد الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملاك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب - رحمهم الله أجمعين ! - وهو الملك الذي فاق الملوك، وسلك في المهابة والعفة أحسن السلوك، ولم يشر قبله ملك حاز ما حاز من الوقار، ولا جمع لغيره ما جمع له من الفخار، ولا احتمی ملك بما احتمی به من الأنصار ؛ تهذب بأخلاقه، وتعلم من شريف أعراقه، واستفاد منه حسن السجايا الملوكية وتعلمها، والتهم المزايا المرضية وتفهمها، وكان فيه استعداد انطبع فيه تلألؤ تلك الأنوار المضيئة، وقبول تلقي عدوی كذا تلك الأخلاق الرضيئة، فسمت إلى ترقي منازل الملك نفسه، وصدق في طلب حياطة الخلائق حدسه؛ وكانت السلطنة في وجه أفعاله تلوح، والفراسة بما سيجعله الله منها تبوح. ولم يزل من أكبر جمدارينه ؟ الخواص، وأوليائه الذين لهم به أعظم اختصاص، حتى انتقال السلطان الشهيد إلى جوار ربه، وخصه الله بشریف تر به، فأقام السلطان الملك الظاهر بين خشداشيته كالشمس بين الكواكب الزاهرة، وكالأسد بين الأشبال الخادرة، يتدرب في غزو الكفار، ويديم الجهاد" آناء الليل، وأطراف النهار، لأن وفاة الشهيد كانت بالمنصورة عندما قصد الفرنج الديار المصرية في سنة سبع وأربعين وستمائة، وذلك في ليلة الاثنين منتصف شعبان من السنة المذكورة ؛ ففعل في الجهاد ما وصلت همته إليه، وجاهد في الكفار جهادة أثابه الله عليه.
مخ ۴۸
واتفق حضور الملك المعظم وجلوسه في دست المملكة، وخدمه مماليك والده كلهم أتم خدمة، وبذلوا له ما يستحقه مثله من أولياء النعمة ؛ اعتقادا منهم أن ذلك فيه يفيد، أو أنه يأتي برأي سديد، وفعل رشيد ؛ فشرع في تقديم من معه من الأطراف والسفل، وأخذ أمره في استعجال قاده إلى الوهل ؛ فصار يتوعد مماليك والده، الذين رباهم كأولاده، بقطع الأخباز، ونهب الأموال ؛ وكتبت مناشير ا كثيرة ما سمي فيها اسم أحد، إلا خليت مواضع الأسماء ليجعل مكان كل واحد من أمراء والده واحدة من غلمانه الأطراف الأوباش ؛ وصار يقدم قومة الاخلاق" لهم، ومن جملتهم عبد أسود، نوبي الجنس، جعله أمير جانداره ، وأقطعه الإقطاعات العظيمة، وأفاده النعم الجسيمة ؛ وغيره من العبيد الخدام، الذين هم كالأنعام ؛ ولم يرع لأمراء والده ومماليكه فضل التربية، ولا حقوق" الخدمة، ولا ما قاسوه معه في بلاد الشرق، وصبروا عليه من ملازمة الفاقة، ومداومة التعب، ولا كونهم حموا رأسه عند وصوله إلى مصر من الأعداء، ولا كونهم كسروا الفرنج في نوبة غة، وفتحوا له دمشق وطبرية، وعسقلان.
مخ ۴۹
ولم يفد كل ذلك عنده، وشرع في فساد الأحوال، وإعطاء من لا يستحق، وإحرام من يستحق ؛ ويتوعد من لا ذنب له، ويغري الناس بالناس، وكان ذلك في وقت لا يحتمل مثل هذه الأمور. واتفق ما قدره الله سبحانه وتعالى من هروب ريدا فرنسا وجماعة الفرنج، وركوب الناس خلفه ؛ والملك المعظم لا تحدثه نفسه بركوب فرس القتال، بل إنه ركب في مركب على صورة متفرج، وكان الواجب عليه الركوب، واجتماع الناس عليه، وإظهار الشهامة والصرامة، والإحسان إلى من رآه بذل نفسه في سبيل الله، واقتحم المهالك، لأن الناس إذا رأوا ملكتهم قد ثبت جأشه، وأعطى من أظهر شجاعة، تشبهوا من بعضهم البعض، وقاتلوا، هذا لله وللدين، وهذا للشكر والثناء، وهذا للإقطاعات والعطاء. فرحم الله المسلمين، ونصرهم على عدو الدين، وأسوا ريدا فرنس، وجماعة من الفرنج. وبقيت دمياط في يد الكفر، وهو لا يرجع عن ذلك التخليط، وزاد في تغليث قلوب الناس. فلما رأى السلطان الملك الظاهر هذه الأمور القبيحة، والأسباب التي هي من أكبر فضيحة ؛ وبلغه. سوء اعتماده في حق حريم والده السلطان الشهيد، الذين كانوا عنده في حصن کیفا ، وما تجرأ عليه من الفتك بجدته والدة السلطان الشهيد، عندما أنكرت عليه أمورة لا ترضي، على ما ذكر. وصار الملك المعظم يتنقص والده، ولا يرضى عن شيء من فعله، ولا يحلف الا بتربة الملك الكامل جده. وآل الأمر به إلى أن صار يبسط السجادة، ويقوم يصلي وهو على غير طهارة، وتدخل إليه الكيزان مملوءة خمرة على أنه ماء، ويشرب ذلك بحضور الناس ؛ ويكون جالسة صاحية، فيتفكر ساعة، ويشقق ثيابه بغير سببا - غار السلطان بخوشداشيته، وعلم أن الملك المعظم المذكور لا يتأتى منه خير، ولا يجي منه ملك يقيم منار بيته، وتبقى كلمة السلطنة باقية في عقبه ؛ وأنه متى اطمأن، وأمن، أهلك الحرث والنسل، وبدد الشمل ؛ وأدی ذلك إلى انقراض الدولة الصالحية، وهلاك أمرائها في الحبوس، وأخذ أموالهم وإعطائها لغيرهم من شيعته الأوباش ؛ فوثب هو وجماعة من خوشداشيته عليه، وثبة الأسد المفترس، وانصبوا إليه انصباب الستيل المحتبس ؛ فكان ما قدره الله من انتقاله. وللوقت اجتمع الناس، واتفقوا ولم يرق دم آخر، وسكنت الفتنة، وطابت القلوب. ولما رأى ريدا فر نس ما جرى خاف على نفسه وستم دمياط، ودخلت العساكر إلى القاهرة، وانعكف الناس على خدمة السلطان، وقامت له المهابة في قلوب العالم.
مخ ۵۰
ذکر خروجه للعربان
لما دخلت العساكر إلى القاهرة من المنصورة بعد أن جرى ما ذكرناه، مال عربان الصعيد إلى الفتنة، ونهب البلاد، وحشدوا الحشود ؛ فجرد عسكر إلى جهتهم، وخرج السلطان في جملة من خرج. وكانت حشود العربان ثلاثة عشر ألفا من فارس وراجل، والسلطان وجماعته في مائي فارس - وذلك ما خبرني به السلطان - فالتجأ السلطان إلى دهروطا، فقام أهلها بنصرتيه، وأحسنوا في خدمته ؛ وأقام إلى تكامل العسكر المذكور، وهو مائتا فارس ؛ ثم ساق فأوقع بالعر بان أشد التكال، وأرمل الحلائل ؛ وفتك بالرجال، وهجم بنفسه على ابن حاتم المقدم فقتله، وأحضر رأسه على رمح، فكسر شوكتهم، وبدد زمرتهم. ولما رد الله إلى السلطان أمر المملكة أحسن إلى أهل دهروط، وكتب لهم بالمسامحات والعطايا، ورعي لهم تلك الحرمة، ولم تضع عنده تلك الخدمة.
ذكر ما فعله السلطان مع الملك المعز، وما فعله الملك المعز في حقه
لما جرى في المنصورة ما جرى اتفق الناس
مخ ۵۱
الرأي والتدبير لوالدة خليل، ولد الملك الصالح، لأنها كانت تعرف أخلاقه، ومنازل" أمرائه ومماليكه، فأقام الأمر على ذلك مدة، فداخلت الأمير عز الدين الطمعة في المملكة، وتسمى بالملك المعز، وتسلطين، ثم خاف فرجع عن ذلك، وبقي اللقب له.
مخ ۵۲
وصار يقدم جماعة خلف جماعة، ويداري في الظاهر، ولا يجسر إلا على إظهار التبعية، والتسمي بالأتابكيتة. هذا والسلطان والأمير فارس الدين أقطاي يشد ان منه غاية الشدة، ويرد ان أعظم رد ؛ ويمنعانه من كل متعرض، ويحميانه من كل متغرض ؛ ويردعان عنه كل صائل، ويجاوبان عنه كل قائل ؛ وهما سيلفاه إذا صال، وجناحاه إذا جال، ويداه إذا قارعة العيدي، ومثبتاه إذا خار من الدي ؛ وهو يضمر لهما ولحوشداشيتهما الغدر في قلبه، ولا يخفى ذلك على السلطان ؛ وأخذ في تحذير الأمير فارس الدين وتخويفه ؛ وكان الأمير فارس الدين يدل بشجاعته وبكر مه وإحسانه إلى الناس، ومحبتهم له. فلما كان يوم الأحد طلب الأمير فارس الدين فحضر، وحضر السلطان الملك الظاهر إلى القلعة، وكان الملك المعزة قد قرر مع الأمير سيف الدين قطز، مملوكه، وجماعة من مماليكه وأمرائه، قتل فارس الدين ؛ فلما حضر السلطان" معه لم يجسر أحد عليه، وعلموا أنه لا قبل لهم به، وأن يقظته لا تجوز عليها المكائد، ولا تنصب عليها حبال المصائد ؛ فلم يبق لأحد منهم يد يقبضها على سيف، ولا عقل يدري به أين ولا كيف ؛ فقدوا ساعة، فركب السلطان الظاهر والأمير فارس الدين ونزلا ؛ فاجتمع السلطان بالأمير فارس الدين وحذره، واجتمع الملك المعز بمماليكه، وتوعدهم وجزاهم ؛ ثم سيتر خلف الأمير فارس الدين يطلبه لهم قد اتفق، ورأي يستشيره فيه ؛ فحسب السلطان الحساب، وخوفه، فأبى إلا الرجوع، ولكل أجل كتاب . وعاد إلى القلعة، وتم السلطان على حاله محترزا على نفسه، فلم يكن أكثر مما دخل الأمير فارس الدين إلى قاعة العمد بالقلعة، وقام منها إلى قاعة أخرى وإذا بالأمير سيف الدين قطز قد ضربه بالسيف وهو غافل، وأعانه بقية الجماعة، وقتلوه غدرة في دهلييز ضيق، وكتم الأمر
مخ ۵۳
وبلغ السلطان أن أمرا جرى في القلعة لم يتحقق ما هو، فقطع بقتل الأمير فارس الدين، ولوفته ركب، واجتمع اليه خوشداشيته، وجماعة كبيرة، وجعل كل أحد يشير برأي، ولا يتفق أحد مع أحد، إلا انقسمت الآراء، وتفرقت الأهواء ؛ وصار هذا قلبه في أهله وأولاده، وهذا خاطره في اقطاعه أو ملكه، وهذا يقول : « مالي ذنب أهرب منه ». وهذا يقول : « أنا فعلت مع الملك المعز خيرة لا بد وأن يكافيني عنه ». وأظلم الليل، وضاقت المدة عن اعتماد حيله، وعلم السلطان أنه إن أصبح الصبح تفرق من بقي إلا القليل، ولم يجد إلى الخلاص من سبيل؛ فساق في جماعة من أهل النجدة، يتبعونه في الرخاء والشدة، وأصبح الصبح فلم يقع أحد له على خبر، ولا رأي أحد له عينة ولا أثرا. وأصبح كل متأخر عنه يؤخذ وينهب، وتهتك حرمته وحريمه ويسلب ؛ والحاضر يقيد، والغائب پز سل خلفه فيمسك ويخشب ؛ فامتلأت بهم الحبوس والأجباب، وتعاون عليهم من كانوا يعتمدون عليه من الأصحاب ؛ فكأنما
وافية، وحرزا حريز ) ؛ فلما زال ظله - لا تلتصه الله ! – أحرقتهم شموس الحتوف، وحل بهم كل أمر مخوف ؛ وطمع فيهم كل من
بكلمة. وصارت الأرض لا تسع الهارب، ويود
مخ ۵۴
بأموالهم كل فقير، وسكن أملاكهم ودورهم كل طريد، ولم يظن أحد منهم أنهم تقوم لهم قائمة، وما سبب ذلك إلا تهاونهم في مصالحهم كما يخادع الضبع إذا قيل له أم عمرو نائمة.
ذکر وصول السلطان إلى الشام
لما وصل السلطان إلى الشام تلقاه الملك الناصر صلاح الدين ابن الملك العزيز، صاحب دمشق وحلب، وأكرمه وأكرم من وصل معه من الأمراء خوشداشيته. وتسلسل الهاربون من البحرية إلى السلطان، فجمع شملهم، وصارت لهم به صورة عظيمة، وصار إليهم بالشجاعة يشار، ولمملكة الشام به أعظم افتخار ؛ فحسنوا لهم قصد الديار المصرية، فخرج عسكر الشام، وهو لا يستطيع إقدامة ولا رجوعة.
مخ ۵۵
هذا والأمير عز الدين الأفرم الصالحي وجماعة من خشداشيته في الصعيد قد فتحوا الكثير من البلاد، واستولوا عليها، وخطبوا للملك الناصر فيها ؛ وكتبوا إليه يعلمونه بهذه الأمور ويجسرونه ؛ والملك الظاهر وجماعة البحرية يعضون أناملهم من الغيظ، ويأكلون أيديهم من الغيينة ؛ ولا يمكنهم يجمعهم القليل مصادمة عسکر مصر، ومعاداة عسكر الشام، فصبروا بغير الاختيار، وقعدوا وفي قلوبهم النار، إلى أن وصل الشيخ نجم الدين عبد الله البادراي، رسول بغداد، فأصلح بين الملك الناصر وبين الملك المعز، ورجعت عساكر الشام وصحبتها الملك الظاهر وخوشداشيته، فاشتغل الملك الناصر عنهم، وفترت همتهم في الإحسان إليهم، وصارت نقود هم تنكسر الأشهر الكثيرة، وضاقت بالسلطان الأحوال، لأن الجميع كانوا من عيلته، ولا يسع الاختصاص عنهم، حتى لقد بلغني أن الملك الناصر مسأله في بعض الأيام أن يأخذ مستحقه - وهو جملة كبيرة - ويأخذ خوشداشيته البعض، فقال : « أعطوا خشداشيتي وخلوني أنا، أو اعطونا جميعنا !».
وشاهد الملك الظاهر أن تلك العهود تغيرت من الملك الناصر. وصار الملك المعز هادي الملك الناصر، ويخوفه من السلطان وخوشداشيته، ويكتب على ألسنتهم المكاتبات الباطلة ؛ ففهم ذلك الملك الظاهر، وتحقق أنه إن لم يخرج من باب حيلة دخل عليه من أبواب. وكانت نابلس إقطاعه، فطلب دستورة يروح إليه، فتوجه. وكانت جماعة من خوشداشيته مقطعين بغزة والساحل، فأخذهم وتوجه إلى الكرك، وصحبته الأمير سيف الدين قلاون الألفي، وعز الدين أو غان الركني وغيرهما. وصادفهم في الطريق خلق من التجار، ومن جملتهم تجار الملك الناصر، وصحبتهم متاجره، فما من السلطان أحدة يتعرض إلى شيء من ذلك، حتى أن أحد خوشداشيته الكبار تعرض إلى بعض التجار للملك الناصر فأنكر السلطان ذلك عليه، وضربه بالسيف ورد المال" لمن كان معه ؛ ولم يمكن أحدة من التعرض إلى شيء من ذلك .
مخ ۵۶
ذکر خروج السلطان إلى الكرك، وانفصاله عن الشام، وقصد الديار المصرية مرتين ورجوعه
مخ ۵۷
المذكورون، فتلقاه صاحبها الملك المغيث، وتسامع خوشداشيته به، وقصدوه من كل جهة، هم وغيرهم ؛ فرتب السلطان أمور الكرك وجعل لصاحبها حرمة في قلوب الناس. ثم تجهز بعد مدة في جماعة من خوشداشيته وغيرهم، وعدهم سبعمئة فارس - منهم ثلاثمائة مقاتلة - وقصد الديار المصرية، وفعل ما لا فعل غيره، وهجم على الديار المصرية، وفيها العساكر العظيمة، ولم يعلم به إلا وقد تعدى العريش، فخرجت العساكر من مصر صحبة الأتاباك فارس الدين أقطاي والأمير سيف الدين قطز ؛ فلما التقوا جال السلطان بين الصفوف ؛ وكان معه طبل باز، امارة بينه وبين أصحابه، فلم يبق مكان إلا وحس الطبل باز يسمع منه، تارة يمينا، وتارة يسارة ؛ وهجم إلى أن وصل السناجق، فقطعها، وكسر الرماح، ورمي النقار اتية، وبدد الجموع، وفعل ما لا فعله عنترة العبسي ولا غيره من أبطال الجاهلية والإسلام. ولما اشتفي قلبه بعض التشفي، وشاهد كثرة العساكر رجع كما قال الشاعر :
لا يركنن أحد إلى الإحجام
يوم الوغى متخوفة لحمام
فلقد أراني للرماح درية
من عن يميني مرة وأمامي
حتي خضبت بما تحدر من دم
أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم
أصب جذع البصيرة قارح الأقدام »
ووسار السلطان في ثلاثة أنفس بغير زاد، إلا يأكلون الشعير، ويستفون الدقيق. وأقام ثلاثة أيام ما أكل شيئا، ووجد قطعة سكر فلم يجد شيئ يذيبها، فجعلها في فمه وبلها بريقه. ولما وصل منزلة أعوج كاد يهلك عطشة، فأرسل الله سبحانه فيها مطرة غرقت الأرض ولم يكن مع السلطان ما يشرب به، والأرض رمل لا يجتمع فيها ماء، فوجد السلطان مكان حافر فرسه قد اجتمع فيه ماء، فشرب منه، ووجد يسير تبن في مكان لو كانت فيه جبال رمال أذهبتها الرياح، كأن الله أرسله له، رفقة به ولطفا. فنزل السلطان وشكر الله، وجعل ذلك في طرف قبائه، وأطعم فرسه، وكان ذلك سبب السلامة.
مخ ۵۸
ولما استقر بالكرك توالى الناس من كل جانب، وتوافدوا عليه من كل جهة، فاجتمع عنده في أيام قلائل ألف وخمسمائة فارس من الأمراء وغير هم مثل الأمير ركن الدين الصيرفي، والأمير بدر الدين بلغاق الأشرفي، وجماعة مثل الأمراء أولاد برکه خان وغيرهم، وعز الدين الحموي الصالحي، وجمال الدين هارون التيمري، وعز الدين بن خان بردی، وعلم الدين الكبش، وسنقرجاه الغرسي، وعز الدين الحواش، وسيف الدين تتكياجكا، وسيف الدين بلجي، وحسام الدين بن أطلس خان، وجمال الدين أقوش السلاح دار، وحسام الدين الأصبهاني الصالحي، وجماعة كبيرة. وصارت الجماعة بعد الجماعة يصلون إليه من القاهرة المحروسة، فاحتمت عنده جماعة كبيرة ؛ فأحسن إلى جمعهم، وتلقاهم بالإحسان، وأخذهم ووصل بهم غزة، ثم ركب السلطان على خيل البريد، وساق إلى الكرك، وحسن لصاحبها النزول، والاختلاط بالعسكر، فنزل صحبته وسارا حتى وصلا غزة. وكان الأمير عز الدين الرومي الصالحي قد تخيل في مصر أمورا أوجبت مسيره إلى جهتهم، فاجتمعوا كلهم وساروا.
وبلغ العساكر المصرية، فخرجت صحبة الأتابك، والأمير سيف الدين قطز، فالتقوا على الصالحية، وكان قد فقدت جماعة من الحلقة ، فبينا السلطان فيما هو فيه من كر وفر، إذا بالعساكر المصرية قد أقبلت، والعساكر الكركية قد فرت وقفلت، بعد ما كانت کرت ؛ فلم يمكن السلطان إلا اتباعها، فساق وعليه واقية باقية من شجاعته، وحصن حصين من بسالته وكان الله - سبحانه ! - قد أخر هذا الفتوح ليكون. اليه مصيره، ولديه تقديره.
مخ ۵۹
حكى السلطان قال : «لما توجهنا إلى غزة فسدت النيات وتغيرت، وحصل اتفاق جماعة على أنهم يلعبون بالسيف في بعضهم البعض، فتضرعت إلى الله - تعالى ! - في أن لا ينصرنا، وأن يهلك الجيش الذي ينوي الغدر والفساد، وسألت الله أن يرمي الكسرة علينا، وأن أكون أنا أسلم. فكان ما قدره الله - تعالى ! - ورجع السلطان إلى الكرك سالم، وقد سكنت مهابته القلوب، وضربت به الأمثال في حسن الدخول في الحروب والخروج منها.
ولما وصل إلى الكرك ما مكنه صاحبها من الدخول عليه، وقال : « ينزل في الثنية هو وخشداشيته ». فقال السلطان له : «آن کنت ما أصلح لخدمتك أنا التقيا استاذة أخدمه ». فخاف الملك المغيث من هذا القول،
وأخذ السلطان في جمع من عنده من خشداشيته، وذلك في سنة سبع وخمسين، وأغار على الغوريات والساحليات، حتى وصلت الغارة إلى قریب دمشق. وسير الملك الناصر عسكرة إلى غزة، مقدمه الأمير مجير الدين بن أبي زكرى، فهز مهم، وأسر الأمراء، ونهب ذلك العسكر، وكانت عدته ألفي فارس، والسلطان وجماعته في ستمائة فارس، منهم ثلاثمائة مقاتلة، منها سبعون فارسة سنجقية. فحمل عسكر الشام على جماعة السلطان فانكسرت ميمنتهم والميسرة، ولم يبق إلا السنجقية، وهم سبعون فارسا، فحملت على معسكر الشام فكسرته، وقتل این در باس، وأسر ابن أبي زكري وغيره ؛ وأبيعت البطيقه بفرس في غزة.
ووصل المنهزمون إلى دمشق، فخرج الملك الناصر بنفسه إلى هذه الجماعة
مخ ۶۰
والقفار، وضجر منه سواد الليل وبياض النهار، ولم يقدر على فرصة ينتهز ها. ولا غنيمة يحرزها ؛ فتنوع في استمالة الملك الظاهر واستعطافه، ووعده بالإحسان، وضاعف له الاقطاعات ؛ وفهم السلطان تغير الملك المغيث، وأنه ربما ما عليه وعلى البحرية في الباطن، وأنه يتقرب إلى الملك الناصر بإمساكهم ؛ وكذلك فعل بعد انفصال السلطان على ما سيذكر ؛ وبلغ السلطان ما العدو والتتار عليه من قصد بلاد الإسلام فحضر الملك الناصر، فبالغ في السرور به، والانتصار بحزبه، وصالح صاحب الكرك على من عنده من البحرية، فسلمهم ورجع الملك الناصر إلى دمشق، والسلطان صحبته، ومن قبض عليه صاحب الكرك من البحرية تحت الحوطة. وهذا دليل على أن السلطان هو مادة سعادة البحرية، ومن خالفه ندم، ومن بعد عنه حرم.
مخ ۶۱
وتوالت أخبار العدو بقصد الشام، وصار كل أحد لا تحدثه نفسه إلا بالهروب، والسلطان يعرض نفسه على الملك الناصر، ويقول : «لو جهزت معي عسكرة فيه ثلاثة آلاف فارس سقت إلى العدو، إلى المكان الذي هم فيه ». وكان الخبر أنهم على بالس، وأنهم في ثمانية آلاف فارس، فلم يقبل ذلك منه، ولم يزد الملك الناصر دعاء الناس إلا فرارا، ولا نصحهم إلا نفارا.
وخرج الملك الناصر فنزل إلى برزة، وجعل يتشاغل فيما لا يفيد،
أنه يقسم أوقاته بين رماح تقوم، وأجناد تستخدم، وسيوف تصقل، وجواشن تعمل، وخيول تنقل، وعساكر تجرد، وسهام تسدد، وطلائع تبعث إلى العدو، وعيون تسير في الرواح والغدر، وأموال تنفق، وأنعام تطلق ؛ فلما رأى مماليكه أن أحواله لا تسفر عن صلاح، ولا تقبل على فلاح، عزموا على إمسا که مرارة .
مخ ۶۲
وصار الملك الناصر يتوهم في جميع مماليكه السوء والغدر ؛ وتخيل من كل أحد، وحضر إلى السلطان من أوهمه منه ونفره عنه ؛ فخرج جريدة، ووصل إلى نابلس. واتفق خروج المماليك الناصرية، وجماعة من العسكر هاربين، فوصلوا إلى غزة، فوجد السلطان الشهر زورية، فامتزج بهم وخالطهم ؛ وكان العسكر المصري الذي توجه نجدة للملك الناصر قد عزم الشهرزورية على اتلافه، فأعلم السلطان الأمير جمال الدين النجيبي بذلك، فرجع العسكر المصري، وأقام السلطان بغزة. حتى سيتر إلى الديار المصرية الأمير علاء الدين طیبر س الوزيري إلى الملك المظفر سیف الدين قطز - رحمه الله ! – فاستوثق منه، وحضر إليه وصحبته جماعة من خوشداشيته، فتحدث الملك المظفر معه في أمر الجهاد، فقوى نفسه، وثبت جأشه. واتفق ما اتفق من خروج الملك الناصر من الشام بالعساكر، ووصوله إلى قطيا، ورجوعه منها، ووصول العساكر، وخروج الملك المظفر إلى الصالحية ؟، فتحدث مع السلطان في الركوب، وقصد الشهر زورية ؛ وداخل الملك المظفر الخوف من قصد العسكر الشامي، فركب السلطان ومعه جماعة، وسار ليله كله حتى أشرف على الشهر زورية بمن معه ؛ فداخلهم الرعب، وفرق شملهم، وبداد جمعهم، وتلاحقوا العساكر المصرية، فكسبوا وغنموا. وقتل مقدمهم الأمير نور الدين حسن ابن بدل . وأصلح حال عسكر الشام عند الملك المظفر - رحمه الله ! -.
ذكر الخروج لغزاة التتار - خذلهم الله ! -
مخ ۶۳
لما ورد عسكر الشام إلى الديار المصرية أوقع الله في قلب الملك المظفر الخروج إلى الغزاة ؛ وصار يجتمع بالسلطان في هذا المعنى، فيشير عليه بما فيه مصلحة الإسلام ؛ فخرج وصحبته العساكر، وذلك في العشر الأوسط من شعبان سنة ثمان وخمسين وستمائة. وسار السلطان صحبته، يركب بركوبه، وينزل بنزوله ؛ ولم يبق وجها من وجوه الخدمة إلا بذها السلطان له. وعبر على بلاد الفرنج، واجتاز على عكا، ودخل الملك الظاهر مختفية إلى عكا حتى رآها. ولقد دخلت اليها صحبة الأمير فارس الدين الأتابك، وسمعت جماعة من الفرنج يقولون : «یا مسلم ! أرونا فلانا » - يعنون السلطان.
ولما رحل العسكر مرحلتين من عكا ركب السلطان ومعه جماعة من الأمراء، وساقوا بقية النهار والليل وطلع السلطان إلى الجبل الذي يعلو عين جالوت، وأقام طول ليله، وهو ومن معه، على ظهور
ولا علم عندهم بقرب العدو، حتى وردت رسل الملك الظاهر ينذر الناس، ويعلمهم بقرب العدو، وينبه على عورات العدو، ويقالهم في أعينهم، ويجسر هم على انتهاز الفرصة، وكان ذلك أحد أسباب النصر ؛ ولولاه يسمح بنفسه، ويقدم، ويتقدم ويبيت ساهرة في الذب عن الحوزة لكان الحال - والعياذ بالله ! - مخوفة، [ والبلاد فخراب ] ؛ لأن المسلمين كانوا
ولما وصلت العساكر إلى السلطان وقف في صدر العدو، وصبر على تكاية صدمتهم الأولى، فرأى العدو منهم شجاعة ما سمع بمثلها .. ورآه المسلمون قد ثبت فيهم، فجسروا على العدو، وساقوا، وساق الماك المظفر والأتابات مع السناجق، فكان ما قدره الله من النصر الذي كان الملك الظاهر فيه السيب.
مخ ۶۴
ولما طلع العدو إلى الجبل منهز ما طلع الملك الظاهر راجلا خلفه، ووقف قبالته طول النهار كله إلى الليل، والناس تتسامع بوقوفه ويطلعون إليه من كل جهة، وهو يقاتل قتال من استقتل. وصارت الرجالة تطلع وتأخذ روس من يقتله ويقتل بين يديه، وتحمل إلى الملك المظفر، مثل كتبغا نوین وغيره، فما انقضى النهار إلا وقد صارت جملة كبيرة من الروس قدام الملك المظفر.
ولما نزل الملك الظاهر لم يشغله ما قاساه من النصب حتى ركب، وساق خلف العدو، وتبعه الناس. ولم يزل سائقة ليله ونهاره لا يصبر، وهو يقتل، ويأسر من سلم، والعدو بين يديه منهزمة ؛ وما ثني أعنة خيله إلى حارم. ولما وصل أفامية اجتمعوا أيضا، فكسرهم كسرة شنعة على أفامية"، في يوم الجمعة أيضا. وغنمت الأموال، والحريم، والصغار، والخيول.
وفي أثناء ذلك سير إلى دمشق من أمنها وطمنها، وعرف الناس بالنصر على العدو المخذول، وبصرهم بهم، وأمر بالإيقاع بنوابهم وغلمانهم، وعدم الالتفات إليهم، وتحذيرهم من تمكين نواب العدو من اعتماد مضرة البلاد، وفي أحد من الناس.
مخ ۶۵