فلا حرمني الله مكافأتك، ولم يزل لي شاكرا معترفا.
حكاية
</span>
حدث عبد الرحمن بن عمر الفهري عن رجال سماهم قال: أمر المأمون أن يحمل إليه من أهل البصرة عشرة كانوا قد رموا بالزندقة عنده فحملوا، فبينما أحد الطفيليين يرتاد إذ رآهم مجتمعين يمضي بهم إلى الساحل للمسير إلى بغداد، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة، فانسل معهم ودخل في جملتهم، ومضى بهم الموكلون إلى البحر، فأطلعوهم في زورق قد أعد لهم، فقال الطفيلي: لا شك إنها نزهة فصعد معهم في الزورق، فلم يكن بأسرع من ان قيد القوم وقيد الطفيلي معهم، فعلم أنه قد وقع في ورطة، ورام الخلاص فلم يقدر، ثم دفع الملاح وساروا إلى أن وصلوا بغداد، وحملوا حتى أدخلوا على المأمون، فأمر بضرب أعناقهم، فاستدعوا بأسمائهم رجلا رجلا، فكل من دعا سأله وأمر بضرب عنقه، حتى لم إلا الطفيلي، وفرغت العدة، فقال المأمون للموكلين بهم: ما هذا؟ قالوا: والله، ما ندري يا أمير المؤمنين، غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به فقال المأمون ما قضيتك ويلك؟ فقال يا أمير المؤمنين امرأته طالق إن كان يعرف من أقوالهم شيئا، ولا يعرف غير لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنا إنما رأيتهم مجتمعين فظننت أنهم يدعون إلى وليمة أو دعوة فالتحقت بهم، فضحك المأمون ثم قال: بلغ من شؤم التطفل أن أحل صاحبه هذا المحل، لقد سلم هذا الجاهل من الموت، ولكن يؤدب حتى يتوب.
قال: وإبراهيم بن المهدي حاضر يومئذ، فقال: يا أمير المؤمنين هبه لي وأحدثك بحديث عن نفسي في التطفيل عجيب، قال: وهبته له فهات حديثك، فقاتل: يا أمير المؤمنين خرجت يوما متنكرا أنظر إلى سكك بغداد فاستهواني التفرج وانتهى بي المشي إلى جناح شممت فيه روائح طعام وأبازير قد فاحت، فتاقت نفسي إليها ووقفت يا أمير المؤمنين لا أقدر على المضي، فرفعت بصري فإذا شباك، وإذا خله كف ومعصم ما رأيت أحسن منه، فوقفت حائرا، ونسيت روائح الطعام بذلك الكف والمعصم، وأخذت في أعمال الحيلة إلى الوصول إليه، فنظرت وإذا خياط قريب من ذلك الموضع، فتقدمت إليه وسلمت عليه، فرد علي فقلت: يا سيدي لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من البزازين. قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان قلت: أهو ممن يشرب الخمر قال: نعم، وأحسب أن اليوم عنده دعوة وليس ينادم إلا تجارا مثله مستورين. وبيننا نحن في الكلام إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان، فقال هؤلاء ندماؤه، فقلت: ما اسماهما وما كناهما، فقيل فلان وفلان، فحركت دابتي فلحقتهما، فقلت جعلت فداكما قد استبطأكما أبو فلان أعزه الله، وسايرتهما حتى أتينا الباب، فدخلت ودخلا، فلما رآني صاحب المنزل معهما لم يشك أني منهما بسبيل، فرحب بي وأجلسني في أفضل المواضع، ثم جيء بالمائدة، ونقلت إليها الألوان، فكان طعمها يا أمير المؤمنين أطيب وألذ من ريحها. فقلت في نفسي هذه الألوان قد من الله علي ببلوغ الغرض منها، بقي الكف والمعصم، ثم جيء بالوضوء فغسلنا، ثم نقلنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكل مجلس وأظرفه في سائر أموره وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويقبل علي في الحديث لظنه أني ضيف لأضيافه، وهم لي على مثل ذلك يظنون أن إكرامه لي عن معرفة متقدمة وصداقة. حتى إذا شربنا أقداحا فخرجت علينا جارية كأنها غصن بان في غاية الظرف وحسن الهيئة، فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست عليها، وأتي بعود فأخذت وجسته أحسن جس فإذا هي حاذقة واندفعت فغنت:
توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفي مكان الوهم من نظري أثر
ومر بفكري شخصها فجرحته ... ولم أر شخصا قبل يجرحه الفكر
وصافحها كفي فآلم كفها ... فمن لمس كفي في أناملها عقر
ثم اندفعت فغنت أيضا:
أشرت إليها هل عرفت مودتي؟ ... فردت بطرف العين: أني على العهد
فحدث عن الاظهار عمدا لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد
فصحت السلاح السلاح، وجاءني من الطرب ما لم أملك معه نفسي، فطرب القوم أيضا طربا شديدا. ثم غنت:
أليس عجيبا أن بيتا يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تبدي سرائر أنفس ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه، وغمز حاجب، ... وتكسير أجفان، وكف تسلم
مخ ۱۵