فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء وإصابتها معنى الشعر، لأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به، فقلت: قد بقي عليك يا جارية شيء فرمت بالعود، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء، فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تنكروا لي، فقلت في نفسي: فإنني جميع ما أملت أن لم أتلاف قصتي، فقلت: أثم عود؟ قالوا: نعم فأتيت بعود مليح الصنعة، فأصلحت ما أردت فيه، ثم اندفعت فغنيت:
ما للمنازل لا تجبن حزينا ... أصممن أم قدم البلا فبلينا
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
راحوا العشية روحة مذكورة ... إن حرن خرنا أو هدين هدينا "
ورموا بهن سواهما عرض الفلا ... إن متن متن وإن حيين حيينا
فما استتمته يا أمير المؤمنين حتى وثبت الجارية فأكبت على رجلي تقبلهما وتقول: معذرة إليك يا سيدي، والله ما علمت مكانك، وما سمعت مثل هذه الصنعة من أحد، وقام مولاها وجميع من كان حاضرا فصنعوا كصنيعها ، ثم زاد القوم في إكرامي وتبجيلي فطربوا غاية الطرب، وشربوا بالكاسات والطاسات، فلما رأيت طربهم اندفعت فغنيت:
أفي الله أن تمسين لا تذكرينني ... وقد سجمت عيناني من ذكرك الدما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عل مني وتبذل علقما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
إلى الله اشكوانها أجنبية ... والتي لها بالود ما عشت مكرما
فرأيت من طرب القوم شيئا حسبت أنهم فارقوا عقولهم، فأمسكت ساعة حتى راجعوا أمرهم وهدأت نفوسهم، ثم اندفعت فغنيت:
هذا محبك مطوي على كمده ... صب مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به، ويد أخرى على كبده
يا من رأى كلفا، مستهترا دنفا ... كانت منيته في عينه ويده
مخ ۱۶