بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله ذي الجود والكرم، ومسبغ الآلاء والنعم، وصلى الله على خير من مشى على قدم، المصطفى المبعوث إلى سائر الأمم، محمد بن عبد الله منقذنا من الضلال والظلم، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم.
أما بعد أطال الله في النعمة عمرك، وحسن مع التقى عملك، وبلغك في السلامة أملك، وختم بالصالحات أجلك، فإنك طلبت مني أن أجمع لك من أخبار الأجواد أجودها، ومن فعالات الكرام أسناها وارشدها، فاستخرت الله في المقال، وتخيرت من ذلك ما سنح لي في الحال، مما أحسبه يستفز القارئ والسامع، ويقع منه أرفع المواقع، وألفته كتابا سميته المستجاد من فعالات الأجواد فكان للقبه مطابقا، ولغرضك موافقا، ولما يستحسن سابقا وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
حكايا الأجواد
حكاية
</span></span></span>
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعت قريش على قتله يفديه بنفسه، فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه، ولكما الخيار فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة، فأحب كل كمال الحياة واختارها، فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد وقد نزل على فراشه ونام عليه علي " يفديه بنفسه ويؤثره " بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عن رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله تعالى:) ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله (.
حكاية
سأل رجل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما حاجة، فقال له يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي، ومعرفتي بما يجب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤونة الاحتيال والاهتمام لما اتكلف من واجبك فعلت فقال: يا ابن بنت رسول الله اقبل القليل، واشكر العطية، واعذر على المنع، فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها، ثم قال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف فأحضر خمسين ألفا قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار قال: هي عندي قال: أحضرها فأحضرت فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل، وقال هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع إليهما الحسن رداءه لكراء الحمل، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم فقال: لكنني أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم.
حكاية
قال أبو الحسن المدايني: خرج الحسن والحسين رضي الله عنهما وعبد الله بن جعفر حجاجا ففاتتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز في خباء لها فقال لها أحدهم: هل من شراب؟ قالت نعم، فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة. فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها ففعلوا، ثم قالوا لها هل من طعام؟ قالت: لا إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهبئ لكم منها ما تأكلون، فقام إليها أحدهم فذبحها وكشطها، ثم هيأت لهم طعاما فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا، فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا، فإنا صانعون إليك خيرا، ثم ارتحلوا. وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة، فغضب وقال: ويحك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم ثم تقولين نفر من قريش.
مخ ۱
ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة فدخلاها، وجعلا ينقلان البعر ويبيعانه، ويعيشان بثمنه. فمرت العجوز في بعض سكك المدينة فإذا الحسن بن علي رضي الله عنه على باب داره جالس، فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث إليها غلامه، فدعا بها فقال لها، يا أمة الله، أتعرفينني قالت: لا، قال: أنا ضيفك يوم كذا، قالت: بأبي أنت وأمي. ثم أمر فاشترى لها من شاء الصدقة ألف شاة، وأمر لها معها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى الحسين رضي الله عنه، فقال لها الحسين: بكم وصلك أخي؟ قالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر لها الحسين أيضا بمثل ذلك، ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال لها: بكم وصلك الحسن والحسين؟ قالت: بألفي شاة وألفي دينار، فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار، وقال لها لو بدأت بي لأتبعتهما. فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف دينار وأربعة آلاف شاة.
حكاية
</span></span></span></span></span></span></span></span>
عن محمد بن المنكدر عن أم ذرة وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها، قالت: إن ابن الزبير بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة وألف، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس " حتى فرغ " فلما أمست قالت: يا جارية هاتي فطوري فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟ فقالت لو كنت ذكرتني لفعلت.
حكاية
قال مصعب بن الزبير: حج معاوية، فلما انصرف مر بالمدينة، فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن رضي الله عنهما لا تلقه ولا تسلم عليه. فلما خرج معاوية، قال الحسن: يا أخي إن علينا دينا ولا بد لنا من إتيانه " فلحقه بثينة النول، وهو منحدر على الوادي " فسلم عليه وأخبره بدينه " فمروا ينختي عليه ثمانون ألف دينار قد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه. فقال معاوية؟ ما هذا؟ فذكر له، فقال: اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد، فأخذه وعاد ".
حكاية
اجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل البصرة، فقالوا لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله، وقد زوج ابنة له من ابن أخيه وهو فقير ليس عنده ما يجهزها به، فقام عبد الله ابن عباس فأخذ بأيديهم فأدخلهم داره ففتح صندوقا فأخرج منه ست بدر، ثم قال: احملوا " فحملوا ". فقال ابن عباس: ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن صيامه وقيامه، ارجعوا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل به مؤمنا عن عبادة ربه تعالى، وما بنا من التكبر ما لا نخدم معه أولياء الله تعالى. ففعل وفعلوا.
حكاية
ويروى أنه كان لعثمان على طلحة خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوما إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه ، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك.
حكاية
وقالت سعدى بنت عوف: دخلت على طلحة بن عبيد الله فرأيت منه ثقلا، فقلت: ما لك؟ قال: اجتمع عندي مال " أهمني " وغمني. فقلت: وما يغمك؟ ادع قومك فاقسمه فيهم. فقال: يا غلام علي بقومي فقسمه فيهم فسألت الخادم: كم كان؟ قال: أربعمائة ألف.
حكاية
قال الحارث المحاسبي: بلغنا أن عبد الرحمن بن عوف قدمت عليه عير من اليمن، فضجت المدينة ضجة واحدة، فقالت عائشة: ما هذا؟ فقيل لها: عير قدمت لعبد الرحمن، قالت: صدق الله ورسوله، فبلغ ذلك عبد الرحمن فسألها فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلونها سعيا ولم أر أحدا من الأغنياء يدخلها معهم إلا حبوا. فقال عبد الرحمن: إن العير وما عليها في سبيل الله، وإن أرقها أحرار لعلي أن أدخلها معهم سعيا.
حكاية
عن ابان بن عثمان قال: أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال لهم: يقول لكم عبد الله: تغدوا عندي اليوم فأتوه حتى ملأوا عليه الدار. فقال عبد الله: ما هذا؟ فأخبر الخبر، فأمر بشراء فاكهة وأمر قوما فطبخوا وخبزوا وقدمت الفاكهة إليهم، فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد، فأكلوا حتى صدروا عنها فقال عبيد الله لوكلائه: أموجود، كلما أردت، مثل هذا؟ قالوا نعم. قال: فليتغد عندنا هؤلاء كل يوم.
حكاية
مخ ۲
وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم، فقال والله لأعلمن الشيطان إني عدوه فعال محاويجهم ففتح الحواصل ونفقها إلى أن رخصت الأسعار، ثم عزل عنهم ورحل، وللتجار عليه ألف ألف درهم رهنهم بها حلي نسائه، وقيمته خمسة آلاف ألف درهم. فلما تعذر عليه ارتجاعه كتب إليهم بيعه دفع الفاضل منه إلى من لم تنله صلته.
حكاية
</span></span></span></span></span>
قيل وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده، فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه، فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام؟ قال صلاحك وفلاحك، رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجناحك مكروه. فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله. ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال: استنفق هذه فنعم ما أدبك به أهلك.
حكاية
اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بتسعين ألف درهم. فلما كان الليل سمع بكاء آل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون لدارهم التي اشتريت. قال: يا غلام: ابتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعا.
حكاية
يروى أن عبد الله بن جعفر خرج إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يقوم عليها فأتي بقوته ثلاثة أقراص، ودخل كلب فدنا من الغلام فرمى إليه بقرص فأكله، ورمى إليه بالثاني فأكله، ثم الثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال: يا غلام، كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب وأخاله جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت رده. قال: فما أن صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله ابن جعفر: ألام على السخاء إن هذا لأسخى مني؟ فاشترى الحائط والغلام وما فيه من آلات، وأعتق الغلام ووهب ذلك كله له.
حكاية
قيل جرى بين الحسين بن علي وأخيه محمد بن الحنفية كلام فانصرفا متغاضبين، فلما وصل محمد إلى منلزه أخذ رقعة فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن علي بن أبي طالب إلى الحسين بن علي ابن أبي طالب، أما بعد فإن لك شرفا لا أبلغه، وفضلا لا أدركه، فإذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك ونعليك وصر إلي فترضيني، وإياك أن أسبقك إلى الفعل الذي أنت أولى به مني والسلام. قال: فلما قرأ الحسين الرقعة قال: يا غلام ردائي ونعلي، فلبسهما ثم جاء إلى أخيه محمد فترضاه وصالحه. قال: ودار بين الحسن والحسين رضي الله عنهما كلام فقيل للحسين: لو أني أخاك متنصلا فقال: إن الفضل للمبتدئ بالتفضل، ولست أرى أن يكون لي على أخي فضل فبلغ ذلك الحسن فأتاه.
حكاية
حدث أبو فرج الأصبهاني عن اسحق قال: حدثني مصعب الزبيري عن محمد بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه عن جده قال: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه وكان يغشى عبد الله بن جعفر فسمع يوما جارية مغنية لبعض النخاسين تغني مرتنمة:
بانت سعاد فأمسى حبلها انقطعا ... واحتلت الغور فالجدين فالفرعا
فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فاشتهر بها وهام وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاووس فلاماه فكان جوابه أن يتمثل بقول الشاعر:
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أم وقعا
مخ ۳
وبلغ عبد الله بن جعفر فبعث إلى النخاس فاستعرض الجارية وسمع غناها بهذا الصوت فقال لها: ممن أخذتيه؟ قالت: من عزة الميلاء فابتاعها بأربعين ألف درهم، وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره فأعلمه إياه، وصدقه عنه، فقال له: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال: نعم. فدعا بعزة الميلاء وقال: غنيه إياه فغنته، فصفق الرجل وخر مغشيا عليه فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء الماء، فنضح على وجهه فلما أفاق قال له: أكل هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفي عليك أكثر. قال: أفتحب أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما حل حين سمتعه من غيرها وأنا لا أحبها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها: قال أتعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها؟ فأمر بها فأخرجت فقال: خذها فهي لك والله ما نظرت إليها عن عرض فقبل الرجل يديه ورجليه وقال: أنمت عيني وأحييت نفسي وتركتني أعيش بين قومي ورددت إلي عقلي، ودعا له دعاء كثيرا، فقال له ابن جعفر: أرضيت؟ قال: إي والله وفوق الرضا. فقال ابن جعفر: ما أرضى أن أعطيكها هكذا. يا غلام، احمل معه مثل ثمنها لئلا تهتم بها وتهم بك فراج بها والمال.
حكاية
</span>
مخ ۴
روى أبو موسى محمد بن الفضل بن يعقوب كاتب عيسى بن جعفر ووصيه قال: حدثني أبي قال: كنت آلف زينب بنت سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس واكتب عنها أخبار أهلها، وكانت لها جارية يقال لها " كتاب ". فوقعت في نفسي، فبكرت إليها يوما فقلت: لي حاجة فقالت: سلني ما أحببت. فقلت: إن كتابا جاريتك قد شغلت قلبي علي فهبيها لي فقالت: أقعد أحدثك حديثا كان أمس أنفع لك من كل كتاب على ظهر الأرض وأنت من كتاب على وعد. كنت أمس عند الخيزران، وعادتها إذا كنت عندها أن تجلس في عتبة الرواق المقابل للإيوان وأجلس بازائها، وفي الصدر مجلس المهدي يقعد فيه، وهو يقصدنا في كل وقت فيجلس ساعة ثم ينهض، فبينما نحن كذلك إذ دخلت علينا جارية من جواريها اللائي يحجبنها، فقالت: أعز الله السيدة، بالباب امرأة لها جمال وخلقة حسنة، ليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تستأذن عليك، وقد سألتها عن اسمها فامتنعت أن تخبرني فالتفتت إلي الخيزران فقالت: ما ترين؟ فقلت: أدخليها فإنه لا بد من فائدة أو ثواب. فدخلت امرأة كأجمل النساء وأكملهن لا تتوارى، فوقفت إلى جانب عضادتي في الباب ثم سلمت متضائلة، ثم قالت: أنا مزنة بنت مروان بن محمد الأموي. قالت زينب: وكنت متكئة فاستويت جالسة فقلت: مزنة! ما أتاك؟ فلا حيا الله ولا قرب، والحمد لله الذي أزال نعمتك وهتك سترك وأذلك، تذكرين يا عدوة الله حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في لاذن في دفن إبراهيم بن محمد فوثبت عليهن وأسمعتهن ما أسمعت، وأمرت بإخراجهن فأخرجن على الحالة التي أخرجن عليها؟ قالت: فضحكت، فما أنسى حسن ثغرها وعلو صوتها بالقهقهة، ثم قالت أي بنت عمي شيء أعجبك من حسن صنع الله بي على العقوق، حتى أردت أن تتأسي بي فيه؟ والله إني لقد فعلت بنساء أهل بيتك ما فعلت، فأسلمني الله إليك ذليلة جائعة عريانة، فكان هذا مقدار شكرك الله تعالى على ما أولاك في. ثم قالت: السلام عليكم، وولت، فصاحت بها الخيزران: ليس هذا لك، علي استأذنت، وإلي قصدت، فما ذنبي؟ فرجعت وقالت: لعمري لقد صدقت يا أخية وكان مما ردني إليك ما أنا عليه من الضر والجهد قالت زينب: فنهضت إليها الخيزران لتعانقها فقالت: ليس في لذلك موضع مع الحال التي أنا عليها قالت الخيزران لها فالحمام إذا، وأمرت جماعة من جواريها بالدخول معها إلى الحمام فدخلت وطلبت ماشطة ترمي ما على وجهها من الشعر، فخرجت جارية من جواري الخيزران وهي تضحك، فقالت لها الخيزران: ما يضحكك؟ قالت: أضحك يا سيدتي من هذه المرأة ومن تحكمها علينا، فإنها تفعل من ذلك فعلا ما تفعلينه أنت. فلم تزل حتى أخرجت من الحمام فوافتها الخلع والطيب وأخذت من الثياب ما أرادت، ثم تطيبت وخرجت إلينا فعانقتها الخيزران وأجلستها في الموضع الذي يجلس فيه أمير المؤمنين المهدي إذا دخل. ثم قالت لها الخيزران: هل لك في الطعام فانا لم نطعم بعد؟ فقالت: والله ما فيكن أحد أحوج إليه مني فعجلوه. فأتي بالمائدة، فجعلت تأكل غير محتشمة، وتلقمنا وتضع بين أيدينا، إلى أن اكتفت، ثم غسلنا أيدينا فقالت لها الخيزران: من وراءك ممن تعنين به؟ قالت: ما خارج هذه الدار أحد من خلق الله بيني وبينه نسب، قالت الخيزران: إن كان هذا هكذا فقومي حتى تختاري لنفسك مقصورة من مقاصيرنا، وأحول إليها جميع ما تحتاجين إليه ثم لا نفترق حتى يفرق بيننا الموت. فقامت فطفنا بها في المقاصير، فاختارت أوسعها وأنزهها ولم تبرح حتى حول إليها جميع ما تحتاج إليه من الفرش والكسى والحرائر والرقيق، ثم تركناها فيها وخرجنا عنها، فقالت الخيزران: إن هذه المرأة قد كانت فيما كانت فيه وقد مسها ضر، وليس يغسل ما في قلبها إلا بالمال، فاحملوا إليها خمسمائة ألف درهم، فحملت إليها.
مخ ۵
ووافانا المهدي فسألنا عن الخبر فحدثته حديثها وما لقيتها به فوالله ما انتظر أن أعرفه جوابها، حتى وثب مغضبا في وجهي وقال: يا زينب الله الله! هذا مقدار شكرك لله على نعمته، وقد أمكنك من مثل هذه المرأة على هذه الحالة التي هي عليها؟ فوالله لولا محلك من قلبي لحلفت ألا أكلمك أبدا: فقلت قد اعتذرت إليها فرضيت، ثم قصصت عليه قصتها كلها، وما فعلت الخيزران بها، فقال لخادم كان معه: احمل إليها مائة بدرة، وادخل إليها وأبلغها مني السلام وقل لها: والله إني ما سررت منذ دهري سريري اليوم بمكانك، وأنا أخوك ومن يوجب حقك، فلا تدعي حاجة إلا سألتها. ولولا أني أكره أن احشمك لعبرت إليك مسلما عليك وقاضيا لحقك، فمضى الخادم بالمال والرسالة فأقبلت إلينا معه، فسلمت على المهدي وشكرت له فعله، وأثنت على الخيزران وقالت: ما علي من أمير المؤمنين من حشمة، أنا في عداد حرمه، وقعدت ساعة ثم قامت إلى منزلها، فخلفتها عند الخيزران كأنها لم تزل في ذلك القصر. فهذا الحديث خير لك من كتاب وقد وهبت لك كتابا فانصرفت من عندها فأتبعتها بما مليء به داري.
حكاية
</span></span></span>
قال أبو الفرج الأصبهاني: حدثني الحسن بن علي قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا اسحق بن موسى الأنصاري قال: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن اسحق قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون وما يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين رضي الله عنهما فقدوا ما كانوا يؤتون به من الليل فانكشف حالهم.
حكاية
ويروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عبر طائفا بالمدينة أيام خلافته فإذا بجارية تبكي وتقول:
وهويته من قبل قطع تمائمي ... متمايسا مثل القضيب الناعم
وكأن نور البدر يشبه وجهه ... يمشي فيصعد في ذؤابة هاشم
فقرع عليها الباب فخرجت إليه فقال لها: احرة أنت أم أمة؟ فقالت بل أمة يا صاحب رسول الله. فقال لها: من هويت؟ فبكت وقالت: بحق صاحب القبر ألا انصرفت عني. فقال: لست برائم عن مكاني حتى تعلميني فقالت:
وأنا التي قدح الفراق بقلبها ... فبكت لحب محمد بن القاسم
فصار أبو بكر رضي الله عنه إلى المسجد وبعث إلى مولاها فاشتراها منه وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: هؤلاء فتن الرجال، لكم والله أذهبن من كريم، وعطب عليهن من سليم.
حكاية
حدث أبو الحسن علي بن صالح البلخي بمصر قال أخبرني بعض " عمال " شيوخنا عن شيبة بن محمد الدمشقي قال: كان في أيام سليمان بن عبد الملك ابن مروان بن الحكم رجل يقال له: خزيمة بن بشر، من بني أسد بالرقة؛ وكانت له مروءة ونعمة حسنة وفضل وبر بالإخوان، فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم فواسوه حينا ثم ملوه، فلما لاح ه تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه فقال لها: يا بنت عم! قد رأيت من أخوتي تغيرا وقد عزمت على لزوم بيتي إلى يأتيني الموت. وأغلق بابه عليه، وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد وبقي حائرا في أمره.
وكان عكرمة الفياض الربعي واليا على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه وعنده جماعة من أهل البلد إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار من سوء الحال إلى أمر لا يوصف، فأغلق بابه ولزم بيته، فقال الفياض، وإنما سمي بذلك لأجل كرمه: فما وجد خزيمة بن بشر مواسيا ولا مكافيا؟ قالوا: لا. فامسك، ثم لما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس " واحد "، ثم أمر بإسراج دابته وخرج سرا من أهله فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام ثم أبعده " عنه "، وتقدم إلى الباب فدقه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس وقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله خزيمة فرآه ثقيلا فوضعه، ثم أمسك لجام الدابة، وقال له: من أنت؟ جعلت فداك. قال: ما جئتك هذه الساعة وأنا أريد أن تعرفني. قال خزيمة: فما أقبل أو تخبرني من أنت. قال: أنا جابر عثرات الكرام قال: زدني قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج والخير، ولو كانت فلوسا فهي كثيرة. قومي فأسرجي. قالت: لا سبيل إلى السراج. فبات يلمسها فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق.
مخ ۶
ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته وسألت عنه فأخبرت بركوبه منفردا فارتابت لذلك، فشقت جيبها ولطمت خدها: فلما رآها على تلك الحال قال لها: ما دهاك يا بنت عم. قالت: غدرت يا عكرمة بابنة عمك. قال وما ذاك؟ قالت: أمير الجزيرة يخرج بعد هدأة من الليل منفردا من غلمانه في سر من أهله! والله ما يخرج إلا إلى زوجة أو سرية قال: لقد علم الله أني ما خرجت إلى واحدة منها. قالت: فخبرني فيم خرجت؟ قال: يا هذه! لم أخرج في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلم بي أحد قالت: لا بد. قال فاكتميه إذا قالت: أفعل، فأخبرها القصة على وجهها، وما كان من قوله ورده عليه، ثم قال لها: أتحبين أن أحلف لك؟ قالت: لا فإن قلبي قد سكن إلى ما ذكرت.
قال: ثم أصبح خزيمة فصالح الغرماء وأصلح من حاله. ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه وكان مشهور المروءة، كان سليمان به عارفا فأذن له، فلما دخل عليه وسلم بالخلافة، قال: يا خزيمة، ما أبطأك عنا؟ قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي. قال فيم نهضت؟ قال: لم أعلم يا أمير المؤمنين بعد هدأة الليل إلا ورجل طرق بابي فكان منه كيت وكيت، وأخبره القصة من أولها إلى آخرها فقال له: هل تعرفه؟ قال: ما عرفته يا أمير المؤمنين وذلك لأنه كان متنكرا وما سمعت منه إلا: جابر عثرات الكرام قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته، وقال لو عرفناه لأعناه على مروءته ثم قال: علي بقناة فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة على عمل عكرمة الفياض.
مخ ۷
فخرج خزيمة طالبا للجزيرة فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فسلم عليه سارا جميعا إلى ان دخلا البلد فنزل خزيمة في دارة الإمارة وأمر أن يؤخذ عكرمة وأن يحاسب فحوسب، فوجدت عليه فضول كثيرة فطلب خزيمة بأدائها فقال: ما لي إلى شيء منها سبيل قال: لا بد منها قال: ما هي عندي فاصنع ما أنت صانع، فأمر به إلى الحبس ثم بعث إليه يطالبه فأرسل إليه: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت فأمر به فكبل بالحديد وضيق عليه وأقام كذلك شهرا أو أكثر، فأضناه ذلك وأضر به، وبلغ ابنة عمه ضره فجزعت واغتنمت لذلك ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت: امضي الساعة إلى باب هذا الأمير فقولي: عندي نصيحة. فإذا طلبت منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة بن بشر، فإذا دخلت عليه فسليه أن يخليك فإذا فعل فقولي له: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك، كافأته بالحبس والضيق والحديد. قال: ففعلت ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه! وإنه لهو؟ قالت: نعم. فأمر من وقته بدابته فأسرجت وبعث إلى رؤوس أهل البلد فجمعهم وأتى بهم إلى باب الحبس ففتح، ودخل خزيمة ومن معه، فألفى عكرمة في قاع الحبس متغيرا قد أضناه الضر. فلما نضر إليه عكرمة وإلى الناس أحشمه ذلك ونكس رأسه، فأقبل خزيمة حتى أكب رأسه فقبله. فرفع عكرمة رأسه وقال: ما أعقب هذا منك؟ قال: كريم فعالك وسوء مكافأتي. قال: فغفر الله لنا ولك. ثم أمر بالحداد ففك القيد عنه، وأمر خزيمة أن يوضع في رجل نفسه. فقال عكرمة: تريد ماذا؟ قال: أريد أن ينالني الضر مثل ما نالك. قال: أقسم عليك بالله ألا تفعل. فخرجا جميعا إلى أن وصلا دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف. قال له: ما أنت ببارح. قال: وما تريد؟ قال: أغير من حالك، وحيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك. ثم أمر بالحمام فأخلي ودخلا جميعا، ثم قام خزيمة فتولى خدمته بنفسه، ثم خرجا، فخلع عليه وجمله وحمل إليه مالا كثيرا، ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه فأذن له فاعتذر لها وتذمم من فعله ذلك ثم سأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك وهو " يومئذ " مقيم بالرملة، " فأنعم به لذلك فسارا جميعا حتى قدما على سليمان ابن عبد الملك " فدخل الحاجب فأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا؟ " مع قرب العهد به " ما هذا إلا لحادث عظيم. فلما دخل عليه قال له قبل أن يسلم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين. قال: فما الذي أقدمك؟ قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك به، لما رأيت من تلهفك وشوقك إلى رؤيته. قال: ومن هو؟ قال عكرمة الفياض فأذن له بالدخول. فدخل وسلم عليه بالخلافة، فرحب به وأدناه من مجلسه، وقال: يا عكرمة! ما كان خيرك له إلا وبالا عليك. ثم قال: اكتب حوائجك كلها وما تختاره في رقعة. قال: أويعفيني أمير المؤمنين؟ قال: لا بد. ثم دعا بدواة وقرطاس وقال: اعتزل واكتب جميع حوائجك، ففعل ذلك، فأمر بقضائها جميعا من ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار وسفطين من ثياب ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وقال له: أمر خزيمة إليك، إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته، قال: بل أرده إلى عمله يا أمير المؤمنين. ثم انصرفا جميعا. ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته.
حكاية
</span>
مخ ۸
حدث الحسن بن خضر قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس استخفى رجال بني أمية، وكان فيمن استخفى منهم إبراهيم بن سليمان ابن عبد الملك، حتى أخذ له داود بن العباس أمانا. وكان إبراهيم رجلا عالما حدثا فخص بأبي العباس السفاح فقال له يوما: حدثني عما مر بك في اختفائك قال: كنت يا أمير المؤمنين مختفيا بالحيرة في منزل شارف على الصحراء، فبينا أنا على ظهر بيت إذ نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في روعي أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكرا حتى أتيت الكوفة ولا أعرف بها أحدا أختفي عنده، فبقيت متلددا فإذا أنا بباب كبير، ورحبة واسعة فدخلت فيها، وإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل الرحبة، ومعه جماعة من غلمانه وأتباعه فقال لي من أنت وما حاجتك؟ قلت: رجل مستخف يخاف على دمه استئجار بمنزلك، فأدخلني منزله، ثم صيرني في حجرة تلي حرمه، فكنت عنده في كل ما أحب من مطعم ومشرب وملبس، ولا يسألني عن شيء من حالي إلا أنه يركب في كل يوم ركبة، فقلت له يوما: أراك تدمن الركوب ففيم ذلك؟ فقال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبرا، وقد بلغني أنه مستخف، وأنا أطلبه لأدرك منه ثأري، فكثر، والله، تعجبي من ادبارنا، إذ ساقني القدر إلى حتفي في منزل من يطلب دمي، وكرهت الحياة فسألت الرجل عن اسمه واسم أبيه، فأخبرني فعرفت أن الخبر صحيح، وأنا كنت قتلت أباه صبرا، فقلت: يا هذا قد وجب علي حقك، ومن حقك علي أن أدلك على خصمك، وأقرب عليك الخطوة، قال: وما ذاك؟ قلت أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك، فخذ بثأرك، فقال: إني أحسبك رجلا قد أمضك الاختفاء، فأحببت الموت، قلت: بل الحق ما قلت لك، أنا قتلته يوم كذا وكذا " بسبب كذا وكذا " فلما عرف صدقي اربد وجهه واحمرت عيناه وأطرق مليا، ثم قال، أما أنت فستلقى أبي فيأخذ بثأره منك، وأما أنا فغير مخفر ذمتي، فأخرج عني، فلست آمن نفسي عليك " بعدها " وأعطاني ألف دينار فلم آخذها، وخرجت من عنده، فهذا أكرم رجل رأيته بعد أمير المؤمنين.
حكاية
</span></span>
قيل كان لعبد الله بن الزبير أرض متاخمة لأرض معاوية بن أبي سفيان، قد جعل فيها عبيدا له من الزنوج يعمرونها، فدخلوا على أرض عبد الله، فكتب إلى معاوية: " أما بعد يا معاوية فامنع عبدانك من الدخول في أرضي وإلا كان لي ولك شأن. " فلما وقف معاوية على الكتاب " كان إذ ذاك أمير المؤمنين دفعه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه قال له: يا بني ما ترى ؟ قال: أرى أن تنفذ إليه جيشا أوله عنده وآخره عندك، يأتوك برأسه قال او خير من ذلك يا بني، علي بدواة وقرطاس وكتب: " وقفت على كتاب ابن حواري رسول الله، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها عندي هينة في جنب رضاه، وقد كتبت له على نفسي صكا بالأرض والعبدان، وأشهدت علي فيه، فليستضفها مع عبدانها إلى أرضه وعبيده والسلام ". فلما وقف عبد الله على كتاب معاوية كتب إليه: " وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام ". فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه أسفر وجهه، فقال له: يا بني إذا بليت بمثل هذا الداء فدواه بمثل هذا الدواء.
حكاية
قال عبد الله بن سليمان: كنت بحضرة والدي في ديوان الخراج بسر من رأى وهو يتولاه إذ دخل عليه أحمد بن أبي خالد " الصريفيني " الكاتب فقام له أبي من مجلسه وأقعده في صدره، وتشاغل به، فلم ينظر في عمل حتى نهض، ثم قام معه وأمر غلمانه بالخروج بين يديه، فاستعظمت أنا وكل من في المجلس هذا، لأن رسم أصحاب الدواوين صغارهم وكبارهم لا يقومون في الديوان لأحد ممن يدخل إليهم، وتبين أبي ذلك في وجهي فقال لي: يا بني إذا خلونا فسلني عن السبب فيما عملته مع هذا الرجل.
مخ ۹
قال: وكان أبي يأكل في الديوان وينام فيه ويعمل عشيا الحسبانات فلما جلسنا نأكل لم أذكره إلى أن كاد الطعام ينقضي، فقال لي هو مبتدئا: يا بني شغلك الطعام عما قلت لك تذكرني به؟ فقلت: لا، ولكن أردت أن يكون ذلك على خلوة فقال: هذا وقت خلوة ثم قال: ألست أنكرت والحاضرون قيامي لأحمد بن أبي خالد في دخوله وخروجه وما عملته معه؟ فقلت: بلى قال: كان هذا يتقلد مصر سنين، فوليت أعمالها وصرفته عنها، وقد كانت مدته فيها طالت فتتبعته، فرأيت آثار رجل لم أر أجمل آثارا منه، ولا أعف عن أموال السلطان والرعية، ولا رأيت رعية لعامل أشكر من رعيته له، وكان الحسين الخادم المعروف بعرق الموت صاحب البريد بمصر أصدق الناس له مع هذا، وكان من أبغض الناس " إلي " وأشدهم اضطرابا في أخلاقه، فلم أتعلق عليه بحجة، ووجدته قد أخر رفع الحساب لسنة متقدمة وسنته التي هو فيها ولم يستتمها لصرفي له عنها، ولم ينفذه لي الديوان فسمته أن يحط من الدخل ويزيد من النفقات والأرزاق، ويكسر من البقايا في كل سنة مائة ألف دينار لآخذها لنفسي، فامتنع من ذلك، فأغلظت له وتوعدته، ونزلت معه إلى مائة ألف دينار واحدة للسنتين وحلفت له أيمانا مغلظة مؤكدة أني لا أقنع منه بأقل منها، فأقام على امتناعه وقال: لا أخون لنفسي فكيف أخون لغيري وأزيل ما قام به جاهي من العفاف؟ فحبسته وقيدته فلم يجب، وأقام مقيدا في الحبس شهورا. وكتب عرق الموت صاحب البريد الخبر إلى المتوكل، وحلف له أن أموال مصر لا تفي بنفقتي ومؤنتي، ويصف أحمد بن أبي خالد ويذكر ميل الرعية إليه وعفته، فأرسل المتوكل بتوليته فأنا ذات يوم على المائدة آكل إذ وردت علي رقعة أحمد بن أبي خالد يسألني استدعاءه المهم يلقيه إلي فلم أشك أنه قد استضر بالحبس والقيد، وقد عزم على الاستجابة لمرادي، فلما غسلت يدي دعوته فاستخلاني فأخليته، فقال: أما آن لك يا سيدي أن ترق لي مما أنا فيه من غير ذنب إليك " ولا جرم ولا قديم ذحل " ولا عداوة؟ فقلت أنت اخترت لنفسك ذلك، وقد سمعت يميني وليس منها مخرج، فاستجب لما أريده منك " واخرج " فأخذ يستعطفني " ويخدمني ويخدعني " " فجاءني ضد ما قدرته فيه " فغاظني فشتمته وقلت له هذا الأمر المهم الذي ذكرت لي في رقعتك أنك أردت إلقاءه إلي هو أن تستعطفني وتستجير بي وتخدعني؟ فقال: يا سيدي وليس الآن عندك غير هذا؟ فقلت: لا فقال: إذا كان ليس عندك غير هذا، فاقرأ يا سيدي هذا، واخرج إلي كتابا لطيفا مختوما في ربع قرطاس ففضضته فإذا هو بخط المتوكل الذي أعرفه " يأمرني فيه " بالانصراف وتسليم ما أتولاه إلى أحمد بن أبي خالد والخروج إليه مما يلزمني ورفع الحساب إليه والامتثال لأمره وطاعته والمسير عن مصر بعد ذلك فورد علي أقبح مورد لقرب عهد الرجل بشتمي له والإساءة إليه، وإنه في الحال تحت حديدي ومكارهي، فأمسكت مبهوتا، ولم ألبث أن دخل أمير مصر إذ ذاك في أصحابه وغلمانه فوكل بداري وجميع ما أملكه وأصحابي وغلماني وجهابذتي وكتابي. وجعلت أزحف من الصدر حتى صرت بين يدي أحمد بن أبي خالد، ولست أستطيع القيام وهو في قيوده بعد. فدعا أمير البلد بحداد فحل قيوده، فمددت رجلاي ليوضع فيها القيد، فقال لي: يا أبا أيوب ضم اقدامك، فوثب قائما ثم قال لي: يا أبا أيوب: أنت قريب عهد بعمالة هذا البلد، ولا منزل لك فيه ولا صديق، ومعك حرم وحاشية، وليس يسعك إلا هذا الدار، وكانت دار العمالة، وأما أنا فأجد عدة مواضع " غيرها " وليس لي كبير حاشية، ومن نكبة وقيد خرجت، فأقم مكانك، وخرج عني وصرف التوكيل عني وعن الدار، وأخذ كتابي واشياعي إليه، فلما انصرف قلت لغلماني: هذا الذي أراه في النوم؟ انظروا من وكل بنا فقالوا: ما وكل بنا أحدا، فعجبت من ذلك شديدا، وما صليت العصر حتى عاد إلي من كان حمله معه من المتصرفين والكتاب والجهابذة مطلقين وقالوا: أخذ خطوطنا برفع الحساب، وأمرنا بالملازمة وأطلقنا، فازداد عجبي، فلما كان من غد باكرتي مسلما ورحت إليه في عشية ذلك اليوم، فأقمت ثلاثين يوما أن سبقني إلى المجيء وإلا رحت إليه، وإن راح إلي وإلا باكرته، وكل يوم تجيئني هداياه " وألطافه " من الثلج والفاكهة والحيوان والحلوى والطيب، فلما كان بعد ثلاثين يوما جاءني فقال لي: قد عشقت مصر يا أبا أيوب، والله ما هي طيبة الهواء ولا عذية، وإنما تطيب لغير
مخ ۱۰
أهلها بالولاية فيها والاكتساب، ولو قد رحلت إلى بغداد وسر من رأى لما أقمت إلا شهرا، ثم تتقلد أجل الأعمال، فقلت: والله ما أقمت إلا متوقعا لأمرك في الخروج، فقال: أعطني خط كاتبك بأن عليه القيام بالحساب، وأخرج في حفظ الله، فأحضرت كاتبي وأخت خطه كما أراد، وسلمت الخط إليه، فقال لي: اخرج أي وقت شئت، فخرج " من غد " هو وأمير مصر وقاضيها ووجوهها وأهلها وشيعوني إلى ظاهر مصر. وقال لي: تقيم في أول منزل على خمسة فراسخ إلى أن أزيح علة قائد يصحبك برجاله إلى الرملة فإن الطريق فاسد، فاستوحشت من ذلك وقلت: هذا إنما غرني حتى أخرج كل ما املكه وجميع ما كسبت فيتمكن منه في ظاهر البلد فيقبضه ثم يردني إلى الحبس والتوكيل والمطالبة، ويحتج علي بكتاب ثان، يذكر أنه " صك " فخرجت وأقمت بالمرحلة التي يذكر مستسلما للقضاء متوقعا للشر، إلى أن رأيت أوائل عسكره مقبل من مصر، فقلت: لعله القائد الذي يريد أن يصحبنيه أو لعله يريد أن يقبض علي به، فأمرت غلماني بمعرفة ذلك وما الخبر؟ فقالوا: العامل أحمد بن أبي خالد قد جاء، فلم أشك في أنه قد ورد البلاء بوروده، فخرجت من مضربي فلقيته وسلمت عليه، فلما جلس قال: اخلونا، فلم أشك " أنه " للقبض علي فطار عقلين وقام من كان عندي فلما لم يبق عندي أحد قال: أنا أعلم أن أيامك لم تطل بمصر، ولا حظيت فيها بكبير فائدة، وذلك الباب الذي سألتنيه في ولايتك لم أستجب إليك، وأخرت الأذن لك في الانصراف منذ أول الأمر إلى الآن، لأني تشاغلت بالفراغ لك منه، وقد حططت من الارتفاع وزدت في النفقات في كل سنة خمسة عشر ألف دينار " تكون " للسنتين ثلاثين ألف دينار وهو يقرب ولا يظهر، ويكون أيسر مما أردته مني في ذلك الوقت، وقد " تشاغلت به حتى " جمعته لك، وهذا المال على البغال، وقد جئتك به فتقدم إلى من يستلمه فتقدمت لقبضه وقبلت يده، وقلت قد والله يا سيدي فعلت ما لم تفعل البرامكة، فأنكر ذلك مني وتقبض عنه وقبل يدي ورجلي وقال: ههنا شيء آخر أريد أن تقبله فقلت: ما هو قال: خمسة آلاف دينار وقد استحققها من رزقي، فامتنعت من ذلك، وقلت: فيما قد تفضلت به كفاية، فحلف بالطلاق أن أقبلها منه فقبلتها، فقال: وههنا ألطاف من هدايا مصر أحببت أن أصحبك إياها، فإنك تمضي إلى كتاب الدواوين ورؤساء الحضرة فيقولون لك: وليت مصر فأين نصيبنا من هداياها؟ ولم تطل أيامك فتعد ذلك لهم، وقد جمعت لك منه ما يشتمل عليه هذا الثبت وأخرج درجا فيه ثبت جامع لكل شيء في الدنيا حسن طريف جليل القدر من كل جنس من ثياب دبيق وقصب وخدم وبغال ودواب وحمير وفرش وطيب حتى أقلام ومداد ما يكون قيمته مالا كثيرا، فأمرت بتسلمه وزدت في شكره، فقال لي: يا سيدي أنا مغرى بحب الفرش وقد استعملت لي بيتا أرمنيا بأرمينية وهو عشر مصليات بمخادها ومساندها ومساورها ومطارحها وبسطها وهو بطرز مذهبة قد قام علي بخمسة آلاف دينار على شدة احتياطي، وقد أهديته لك، فإن أهديته إلى الوزير عبدك وإن أهديته إلى الخليفة ملكته به، وإن أبقيته لنفسك وتجملت به كان أحب إلي، قال: وحمله فما رأيت مثله قط، ولم تسمح نفسي بإهدائه لأحد ولا باستعماله، فما ابتذلت منه شيئا يا بني إلا يوم إعذارك، فإني اتخذت منه الصدر ومسانده ومخاده، أفتلومني يا بني علي أن أقوم لهذا الرجل؟ فقلت: لا والله يا أبي؛ ولا علي ما هو أكثر من القيام، لو كان مستطاعا. قال: فكان أبي بعد ذلك إذا صرف رجلا عن عمل، عامله بكل جميل، ويقول: علمنا ابن أبي خالد أحسن الله جزاءه حسن التصرف.
مخ ۱۱
حكاية
</span></span></span></span>
قيل لما احترق المسجد بمصر، ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه، فحرقوا خانا لهم، فقبض السلطان جماعة من الذين أحرقوا الخان، فكتب رقاعا فيها القتل، وفيها القطع، وفيها الجلد فنثرها عليهم، فمن وقعت له رقعة فعل به ما فيها، فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل فقال: ما كنت أبالي لولا أم لي، وكان بجنبه بعض الفتيان، فقال: في رقعتي الجلد، وليس لي أم، فادفع إلي رقعتك وخذ رقعتي ففعلا، فقتل ذلك وجلد هذا.
حكاية
وقال الأستاذ أبو علي لما سعي غلام خليل بالصوفية إلى الخليفة بالزندقة أمر بضرب أعناقهم، فأما الجنيد فإنه تستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور، وأما الشحام والرقام والثوري وجماعة فقبض عليهم وبسط النطع لضرب أعناقهم، فتقدم الثوري فقال له السياف: أتدري لماذا تتقدم؟ قال: نعم قال: وما يعجلك؟ قال: أؤثر أصحابي بحياة ساعة، فتحير السياف ونمي الخبر إلى الخليفة. فردهم إلى القاضي ليتعرف حالهم فألقى القاضي على أبي الحسين الثوري مسائل فقهية فأجاب عن الكل، ثم أخذ يقول: وبعد فإن لله عبادا إذا قاموا قاموا لله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظا حتى أبكى القاضي، فأرسل إلى الخليفة وقال: " إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم " فأمر بإطلاق سراحهم فأطلقوا.
حكاية
قيل لما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير، رحل إلى عبد الملك ابن مروان، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله. فلما قدم على عبد الملك لم يبدأ بشيء من الكلام سوى أن قال: قدمت إليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز في الشرف الأبوة، لم أدع له فيها والله نظيرا في كمال المروءة والأدب، وحسن المذهب والطاعة " والنصيحة " مع القرابة من أمير المؤمنين: إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله، فافعل به يا أمير المؤمنين ما يستحق أن يفعل بمثله في أبوته وشرفه. فقال له: يا أبا محمد أذكرتنا حقا واجبا ورحما قريبة، ائذنوا لإبراهيم فلما دخل وسلم " بالخلافة " أمر بالجلوس في صدر المجلس فقال له عبد الملك: أن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في الأبوة والشرف، فلا تدع حاجة من خاص أمرك وعامه إلا سألتها. فقال إبراهيم: أما الحوائج التي يبتغى بها الزلفى ويرجى بها الثواب، فما كان لله خالصا ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ولك وللمسلمين عندي نصيحة لا أجد بدا من ذكري إياها. قال: أهي دون أبي محمد؟ قال: نعم قال: قم يا حجاج فنهض الحجاج خجلا لا يبصر أين يطأ ثم قال: قل يا ابن طلحة فقال: تالله يا أمير المؤمنين إنك عهدت إلى الحجاج في ظلمه وتغطرسه وتعديه، وبعده عن الحق وإصغائه إلى الباطل، فوليته الحرمين وفيهما من فيهما من أبناء المهاجرين والأنصار وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسومهم الخسف ويطؤهم بالعسف بطغام أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل فاعزله. قال: فأطرق عبد الملك ساعة ثم رفع رأسه، فقال كذبت ومنت يا ابن طلحة، ولقد ظن بك الحجاج غير ما هو فيك، قم، فربما ظن الخير بغير أهله. قال إبراهيم: فقمت ووالله ما أبصر طريقا واتبعني حرسيا وقال له: أشدد يدك به، قال إبراهيم: فما زلت جالسا، ودعي الحجاج فما زالا يتناجيان طويلا حتى ساء ظني، ولم أشك أنه في أمري، قال: ثم دعا بي فقمت فلقيني الحجاج في الصحن خارجا فقبل بين عيني وقال: إذا جزى الله المتواخين بفضل ودهما خيرا فليسحن جزاءك عني، والله لئن عشت لك لا رفعن ناظرك ولا وطئن عقبك قال: فقلت في نفسي أنه يهزأ بي والله الحجاج، ودخلت على عبد الملك فأجلسي مجلسي الأول ثم قال: يا ابن طلحة هل شركك في نصيحتك أحد؟ فقلت لا والله يا أمير المؤمنين، ولا أردت إلا الله ورسوله والمسلمين وأنت، قال قد علمت ذلك، وقد عزلن الحجاج عن الحرمين عندما كرهته، وأعلمته انك استقللت له ذلك " وسألتني له ولاية كبيرة ولقد " وليته العراقين، وأعلمته انك استدعيت ذلك له استزادة، ليلزمه من زمامك ما يؤدي به عني إليك أجر نصيحتك، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته، فخرجت معه ونالني منه كل خير.
حكاية
مخ ۱۲
قال القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي حدثني أبو الفرج الأصبهاني من حفظه قال: قرأت في بعض أخبار الأوائل أن الاسكندر لما انتهى إلى الصين ونازل ملكها، أتاه حاجبه، وقد مضى من الليل شطره فقال له: رسول ملك الصين بالباب يستأذن عليك فقال: ائذن له، فلما دخل وقف بين يديه وسلم، وقال: إن رأى الملك أن يخليني فليفعل، فأمر الاسكندر من بحضرته بالانصراف وبقي حاجبه فقال له الرسول: إن الذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك، فأمر بتفتيشه ففتش، فلم يوجد معه شيء من السلاح، فوضع الاسكندر بين يديه سيفا مجردا وقال له: قف مكانك وقل ما شئت، ثم أخرج كل من كان عنده، فلما خلا المكان قال له الرسول: إني ملك الصين لا رسوله، وقد حضرت أسألك عما تريده مني، فإن كان مما يمكن الانقياد إليه، ولو على أصعب الوجوه أجبت إليه، وغنيت أنا وإياك عن الحرب، فقال له لاسكندر: وما أمنك مني؟ قال: علمي بأنك رجل عاقل، وإنه ليس بيننا عداوة متقدمة، ولا مطالبة بذحل، وإنك تعلم أن أهل الصين إن قتلتني لا يسلمون ملكهم إليك، ولا يمنعهم عدمهم إياي أن ينصبوا نفسهم ملكا غيري، ثم تنسب أنت إلى عين الجهل وضد الحزم.
فأطرق الاسكندر مفكرا في مقالته، وعلم أنه رجل عاقل. ثم قال له: الذي أريده منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلا، ونصف ارتفاعه في كل سنة، فقال: هل غير ذلك شيء؟ قال: لا، قال: قد أجبتك. قال: فكيف تكون حالك حينئذ؟ قال: أكون قتيل أول محارب، وأكلة أول مفترس قال: وإن قنعت منك بارتفاع سنتين كيف يكون حالك؟ قال: أصلح مما يكون إذا لزمت بما تقدم ذكره. قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة واحدة، قال: يكون ذلك مجحفا بملكي ومذهبا لجميع لذاتي: قال: فإن اقتصرت منك على السدس. قال: يكون السدس موفرا والباقي لجيشي ولأسباب الملك، قال: فقد اقتصرت منك على هذا فشكره وانصرف. فلما أصبح وطلعت الشمس أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض، وأحاط بجيش الاسكندر حتى خافوا الهلكة، وتواثب أصحابه فركبوا واستعدوا للحرب، فبينا هم كذلك إذ ظهر ملك الصين وعليه التاج، فلما رأى الاسكندر ترجل، فقال له الاسكندر: أغدرت؟ قال: لا والله. قال: فما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلة ولا ضعف، ولأن ترى الجيش وما غاب عنك منه أكثر، لكني رأيت العالم الأثير مقبلا عليك ممكنا لك، فعلمت أنه من حارب العالم الأثير غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والذلة لأمره بالذلة لك، فقال الاسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه شيء، فما رأيت بيني وبينك أحدا يستحق التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك، فقال ملك الصين: أما إذا فعلت ذلك فلست تخسر، فلما انصرف الاسكندر أتبعه ملك الصين من الهدايا والألطاف بضعف ما كان قرره معه.
حكاية
</span>
مخ ۱۳
حدث نمير الهلالي قال: كان من فتيان بني هلال فتى يقال له بشر بن عبد الله ويعرف بالأشتر، وكان من سادات بني هلال أحسنهم وجها، وأسخاهم كفا، وكان معجبا بجارية من قومه تدعى جيداء وكانت بارعة الجمال والكمال، ثم اشتهر أمره وأمرها وظهر خبرهما، ووقع الشر بين أهلهما، إلى أن كانت بين الفريقين دماء، ثم افترقوا وابتعدت منازلهم. قال نمير: فلما طال على الأشتر الفراق، وتمادى به البعد، جاءني فقال: يا نمير هل من خير؟ قلت: عندي، فقل ما أحببت فقال: تساعدني على زيارة جيداء، فقد أذهب الشوق روحي، قلت: نعم، بالحب والكرامة، فانهض بنا إذا شئت، فركب وركبت معه وسرنا يومنا وليلتنا العشاء والغد، حتى إذا كان العشاء أنخنا رواحلنا في شعب قريب من الفريق، فقال: يا نمير اذهب فتأنس بالناس، واذكر إن لقيت أحدا انك طالب ضالة، ولا تعرض بذكري بين شفة ولسان، إلا أن تلقى جاريتها فلانة راعية غنمهم فاقرأها مني السلام وسلها عن الخبر، واعلمها موضعي. قال نمير: فخرجت لا أعدو ما أمرني به حتى لقيت الجارية، فأبلغتها الرسالة وأعلمتها مكانه، وسألتها عن الخبر، فقالت هي والله مشدد عليها محتفظ بها، ولكن موعدكم أولئك الشحرات اللواتي عند أعقاب البيوت مع صلاة العشاء الآخرة. قال: فانصرفت إلى صاحبي فأعلمته الخبر، ثم نهضت أنا وإياه نقود رواحلنا حتى أتينا الموزن في الوقت الموعود، فلم نلبث إلا قليلا وإذا جيداء تمشي قريبا منأ، فوثب الأشتر فصافحها وسلم عيها، وقمت أنا موليا عنهما فقالا: نقسم عليك ألا رجعت، فوالله ما نحن في مكروه، ولا بيننا ما يستر عنك، فرجعت إليهما فجلست معهما. فقال لها الأشتر ما فيك حيلة يا جيداء فتتعلل الليلة. قالت: لا والله ما لي إلى ذلك من سبيل إلا أن يرجع الذي عرفت من البلاء والشر، فقال لها لا بد من ذلك، ولو كان ما عسى أن يكون؛ قالت: فهل في صاحبك هذا من خير؟ قلت: قولي ما بدا لك، فإني أنتهي إلى رأيك، ولو كان في ذلك ذهاب نفسي. فخلعت ثيابها فقالت لي: البسها وأعطني ثيابك، ففعلت، ثم قالت، اذهب إلى بيتي فادخل في ستري فإن زوجي سيأتيك فيطلب منك القدح ليحلب فيه، ثم يأتيك بعد فراغه من الحلب والقدح ملآن فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذه منه حتى تطيل ذلك عليه، ثم خذه أو دعه حتى يضعه ويذهب، ولست تراه إن شاء الله تعالى. قال: فذهبت ففعلت ما أمرتني به، حتى إذا جاء بالقدح فلم آخذه منه حتى طال نكدي عليه، ثم اهويت لآخذه منه فأهوى هو ليضعه فاختلفت أيدينا على الإناء فانفك وانهرق اللبن فقال: هذا الطماح جيداء، وضرب بيده على مقدم البيت فاستخرج سوطا ملويا مثل الثعبان، ثم دخل فهتك الستر علي وأمتع السوط مني تمام عشرين سوطا ثم جاءت أمه وأخته فانتزعاني من يده، ولا والله ما فعلتا ذلك حتى زال عقلي وهممت أن أوجره السكين وإن كان فيها الموت، فلما خرجوا شددت ستري وقعدت كما كنت، فلم ألبث إلا قليلا حتى دخلت أم جيداء، فكلمتني وهي لا تشك أني ابنتها، واندفعت في البكاء والنحيب فتغطيت بثوبي، ووليتها ظهري، فقالت: يا بنية اتق الله في نفسك، ولا تعرضي لمكروه زوجك، فذلك أولى بك، وأما الأشتر فقد هلك آخر الدهر وخرجت من عندي وقالت: سأرسل إليك أختك تؤنسك الليلة، فلبثت غير كثير، وإذا بالجارية قد جاءت، فجعلت تبكي وتدعو على من ضربني، وأنا لا أكلمها ثم اضجعت إلى جنبي، فلما استمكنت منها شددت يدي على فيها وقلت: يا هذه تلك أختك مع الأشتر عند الشجرات، وقد قطع ظهري الليلة بسببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فوالله لئن تكلمت بكلمة لأصيحن أنا بجهدي حتى تكون الفضيحة شاملة، ثم رفعت يدي عن فيها، فاهتزت كما تهتز القصبة، فلم أزل بها حتى أنست، فباتت والله معي أحسن رفيق رافقته قط، ولم نزل نتحدث وتضحك مني ومما نالني، وتمكنت منها تمكن من لو رام ريبة قدر عليها، ولكن الله عصم فله الحمد، ولم نزل كذلك حتى برق الفجر، وإذا جيداء قد دخلت علينا، فلما رأتنا ارتاءت وقالت: ويحك من هذه؟ قلت: أختك قالت: وما الخبر؟ قلت: هي تخبرك فإنها نعم الأخت، وأخذت ثيابي ومضيت إلى صاحبي فركبت أنا وهو، وحدثته ما أصابني، وكشفت له عن ظهري، فإذا فيه ضرب رمى الله ضاربه بالنار الصيعلم كل ضربة يخرج منها الدم، فلما رأى ذلك قال: قد عظم صنيعك، ووجب شكرك، وطالت يدك
مخ ۱۴
فلا حرمني الله مكافأتك، ولم يزل لي شاكرا معترفا.
حكاية
</span>
حدث عبد الرحمن بن عمر الفهري عن رجال سماهم قال: أمر المأمون أن يحمل إليه من أهل البصرة عشرة كانوا قد رموا بالزندقة عنده فحملوا، فبينما أحد الطفيليين يرتاد إذ رآهم مجتمعين يمضي بهم إلى الساحل للمسير إلى بغداد، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة، فانسل معهم ودخل في جملتهم، ومضى بهم الموكلون إلى البحر، فأطلعوهم في زورق قد أعد لهم، فقال الطفيلي: لا شك إنها نزهة فصعد معهم في الزورق، فلم يكن بأسرع من ان قيد القوم وقيد الطفيلي معهم، فعلم أنه قد وقع في ورطة، ورام الخلاص فلم يقدر، ثم دفع الملاح وساروا إلى أن وصلوا بغداد، وحملوا حتى أدخلوا على المأمون، فأمر بضرب أعناقهم، فاستدعوا بأسمائهم رجلا رجلا، فكل من دعا سأله وأمر بضرب عنقه، حتى لم إلا الطفيلي، وفرغت العدة، فقال المأمون للموكلين بهم: ما هذا؟ قالوا: والله، ما ندري يا أمير المؤمنين، غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به فقال المأمون ما قضيتك ويلك؟ فقال يا أمير المؤمنين امرأته طالق إن كان يعرف من أقوالهم شيئا، ولا يعرف غير لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنا إنما رأيتهم مجتمعين فظننت أنهم يدعون إلى وليمة أو دعوة فالتحقت بهم، فضحك المأمون ثم قال: بلغ من شؤم التطفل أن أحل صاحبه هذا المحل، لقد سلم هذا الجاهل من الموت، ولكن يؤدب حتى يتوب.
قال: وإبراهيم بن المهدي حاضر يومئذ، فقال: يا أمير المؤمنين هبه لي وأحدثك بحديث عن نفسي في التطفيل عجيب، قال: وهبته له فهات حديثك، فقاتل: يا أمير المؤمنين خرجت يوما متنكرا أنظر إلى سكك بغداد فاستهواني التفرج وانتهى بي المشي إلى جناح شممت فيه روائح طعام وأبازير قد فاحت، فتاقت نفسي إليها ووقفت يا أمير المؤمنين لا أقدر على المضي، فرفعت بصري فإذا شباك، وإذا خله كف ومعصم ما رأيت أحسن منه، فوقفت حائرا، ونسيت روائح الطعام بذلك الكف والمعصم، وأخذت في أعمال الحيلة إلى الوصول إليه، فنظرت وإذا خياط قريب من ذلك الموضع، فتقدمت إليه وسلمت عليه، فرد علي فقلت: يا سيدي لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من البزازين. قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان قلت: أهو ممن يشرب الخمر قال: نعم، وأحسب أن اليوم عنده دعوة وليس ينادم إلا تجارا مثله مستورين. وبيننا نحن في الكلام إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان، فقال هؤلاء ندماؤه، فقلت: ما اسماهما وما كناهما، فقيل فلان وفلان، فحركت دابتي فلحقتهما، فقلت جعلت فداكما قد استبطأكما أبو فلان أعزه الله، وسايرتهما حتى أتينا الباب، فدخلت ودخلا، فلما رآني صاحب المنزل معهما لم يشك أني منهما بسبيل، فرحب بي وأجلسني في أفضل المواضع، ثم جيء بالمائدة، ونقلت إليها الألوان، فكان طعمها يا أمير المؤمنين أطيب وألذ من ريحها. فقلت في نفسي هذه الألوان قد من الله علي ببلوغ الغرض منها، بقي الكف والمعصم، ثم جيء بالوضوء فغسلنا، ثم نقلنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكل مجلس وأظرفه في سائر أموره وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويقبل علي في الحديث لظنه أني ضيف لأضيافه، وهم لي على مثل ذلك يظنون أن إكرامه لي عن معرفة متقدمة وصداقة. حتى إذا شربنا أقداحا فخرجت علينا جارية كأنها غصن بان في غاية الظرف وحسن الهيئة، فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست عليها، وأتي بعود فأخذت وجسته أحسن جس فإذا هي حاذقة واندفعت فغنت:
توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفي مكان الوهم من نظري أثر
ومر بفكري شخصها فجرحته ... ولم أر شخصا قبل يجرحه الفكر
وصافحها كفي فآلم كفها ... فمن لمس كفي في أناملها عقر
ثم اندفعت فغنت أيضا:
أشرت إليها هل عرفت مودتي؟ ... فردت بطرف العين: أني على العهد
فحدث عن الاظهار عمدا لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد
فصحت السلاح السلاح، وجاءني من الطرب ما لم أملك معه نفسي، فطرب القوم أيضا طربا شديدا. ثم غنت:
أليس عجيبا أن بيتا يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تبدي سرائر أنفس ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه، وغمز حاجب، ... وتكسير أجفان، وكف تسلم
مخ ۱۵
فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء وإصابتها معنى الشعر، لأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به، فقلت: قد بقي عليك يا جارية شيء فرمت بالعود، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء، فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تنكروا لي، فقلت في نفسي: فإنني جميع ما أملت أن لم أتلاف قصتي، فقلت: أثم عود؟ قالوا: نعم فأتيت بعود مليح الصنعة، فأصلحت ما أردت فيه، ثم اندفعت فغنيت:
ما للمنازل لا تجبن حزينا ... أصممن أم قدم البلا فبلينا
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
راحوا العشية روحة مذكورة ... إن حرن خرنا أو هدين هدينا "
ورموا بهن سواهما عرض الفلا ... إن متن متن وإن حيين حيينا
فما استتمته يا أمير المؤمنين حتى وثبت الجارية فأكبت على رجلي تقبلهما وتقول: معذرة إليك يا سيدي، والله ما علمت مكانك، وما سمعت مثل هذه الصنعة من أحد، وقام مولاها وجميع من كان حاضرا فصنعوا كصنيعها ، ثم زاد القوم في إكرامي وتبجيلي فطربوا غاية الطرب، وشربوا بالكاسات والطاسات، فلما رأيت طربهم اندفعت فغنيت:
أفي الله أن تمسين لا تذكرينني ... وقد سجمت عيناني من ذكرك الدما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عل مني وتبذل علقما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما
إلى الله اشكوانها أجنبية ... والتي لها بالود ما عشت مكرما
فرأيت من طرب القوم شيئا حسبت أنهم فارقوا عقولهم، فأمسكت ساعة حتى راجعوا أمرهم وهدأت نفوسهم، ثم اندفعت فغنيت:
هذا محبك مطوي على كمده ... صب مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به، ويد أخرى على كبده
يا من رأى كلفا، مستهترا دنفا ... كانت منيته في عينه ويده
مخ ۱۶
فجعلت الجارية تصيح: هذا والله الغناء لا ما نحن فيه، وشرب القوم وبقي في صاحب المنزل مسكة لجودة شربه، فسكر القوم وغلبوا على أرواحهم، فأمر غلمانه بحفظهم وإيصالهم إلى منازلهم، فانصرفوا وخلوت معه، وشرب أقداحا، ثم قال: يا سيدي ذهب ما مضى من عمري هدرا إذ لم أعرف مثلك، ولم أحاضر رئيسا يشبهك، فبالله يا مولاي من أنت لأعرف نديمي؟ فأخذت أوري عليه، وهو يقسم علي إلى أن أعلمته من أنا على الحقيقة، فوثب قائما على قدميه وقال: لقد عجبت أن يكون هذا الفضل إلا لمثلك، ولقد أسدى إلي الزمان يدا لا أقوم بشكرها، ومتى طمعت بأن تزورني الخلافة في منزلي، وتنادمني ليلتي أجمع! ما هذا إلا في المنام، فلا أتممت ليلتي إلا قائما بين يديك، إذ كنت أحقر من أن أجالس الخلافة، فأقسمت عليه أن اجلس فجلس، ثم أخذ يسألني: ما السبب في حضوري عنده، بألطف سؤال وأرق معنى، فأخبرته يا أمير المؤمنين القصة من أولها إلى آخرها وما سترت منها شيئا، ثم قلت: أما الطعام فقد نلت منه بغيتي، فقال: والكف والمعصم تنال إن شاء الله، ثم قال: يا فلانة قولي لفلانة، جارية له، تنزل، ثم جعل يستدعي واحدة واحدة يعرضها علي، وأنا لا أرى صاحبتي: إلى أن قال: والله ما بقي غير أمي وأختي، ووالله لينزلن، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك أبدأ بالأخت قبل الأم، فإني أحتشم أن أنظر إلى كف والدتك قال: حبا وكرامة، ثم نزلت أخته فأراني كفها فإذا هي التي رأيتها فقلت: حسبك، هذه الجارية، فأمر غلمانه لوقته باستدعاء عشرة مشايخ سماهم، ثم قام فأخرج بدرتين فيهما عشرون ألف درهم، وحضر المشايخ فقال لهم: هذا سيدي إبراهيم بن المهدي يخطب إلي أختي فلانة، وأشهدكم أني قد زوجتها له، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم، فقلت: قد رضيت وقبلت النكاح، فشهدوا علينا، ثم دفع البدرة الواحدة إلى أخته، والأخرى فرقها على المشايخ، ثم قال: أعذرونا فهو ما حضر على مثل هذه الحال، فشكروا ودعوا له وانصرفوا ثم قال: يا سيدي أمهد لك مهدا في بعض البيوت فتنام مع أهلك؟ فاحشمني ما رأيت من كرمه، وتذممت أن أخلوا بها في داره، فقلت: بل أحضر عمارية فاحملها إلى منزلي فقال: ما شئت، فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي، فوحقك يا أمير المؤمنين، لقد حمل إلي من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا على سعتها، فأولدتها هذا الغلام القائم بين يدي أمير المؤمنين.
فعجب المأمون من كرم هذا الرجل فقال: لله دره ما سمعت قط بمثلها فعلة، ثم أطلق الطفيلي وأجازه، وأمر إبراهيم بإحضار الرجل ليشاهده، فأحضر بين يديه فاستنطقه فأعجب به وصار من جملة خواصه ومحاضريه.
حكاية
</span>
مخ ۱۷
حكي عن بعض أهل العلم قال: كان يجلس إلي شيخ، فأي شيء تكلمت فيه من العلوم بكى، حتى طال ذلك علي فقلت له يوما وقد خلونا: أراك ملازما مجلسي ثم لا تسأل عن شيء، ولا أزال أراك باكيا فما حالك؟ قال: نعم يا سيدي، كنت رجلا أشتري الغلمان وأبيعهم لأجل الفائدة، فوقع إلي دفعة غلام وضئ الوجه، كامل الخلقة، وكان صغيرا فابتعته بثلاثمائة دينار، وزينته وهيأته لمن يرغب في ابتياعه، فعبر بنا ذات يوم غلام شاب حسن الوجه، فلما رأى الغلام نزل عن دابته وقال: هذا الغلام للبيع؟ قلت: نعم ، فقلب الغلام واستعرضه، وقال له: ما اسمك وما جنسك وما الذي تحسن أن عمل، فأخبره ثم قال لي: بكم هو فقلت: بألف دينار، فغمز يد الغلام نغزة ثم انصرف، فنظرت في يد الغلام صرة، فاعتبرتها فإذا فيها مائة دينار، فقلت له: أتعرف الرجل؟ فقال: لا، فلما كان من الغد جاء ففعل كفعله بالأمس، فلما كان في اليوم الثالث جاء ففعل كفعله في اليومين المتقدمين، فقلت في نفسي: ما وهب هذا لهذا ثلاثمائة دينار إلا وهو يهواه، وليس يقدر على ما ذكرته له من الثمن. فتبعته حتى عرفت مكانه، فلما كان العشاء أمرت الغلام بلبس أفخر ثيابه وطيبته وزينته، وقلت له: إن هذا الرجل قد صار إلينا منه مثل ثمنك، وقد عزمت على حملك إليه فكن له طوعا، وأعلمني بما يجري به معه، وصرت به إلى منزل الرجل بعد صلاة العشاء الآخرة، فنقرت الباب نقرات، فخرج وفتح الباب، فلما رآنا بهت ثم استرجع وقال: ما الذي جاء بكما؟ فقلت: إن هذا الغلام قد قلبته على بعض ملوك البغداديين الساعة ولم ينفصل له أمر معه، وأخاف عليه الطائف فببته لي عندك إلى الغداة، فقال: أدخل فبت معه إلى بكرة فقلت: لا أتمكن من ذلك فدعه عندك، وإياك أن يخرج من بيتك وحكمك إلى أن آتيك باكرا، وانصرفت وأوبت إلى فراشي، مفكرا في أمره، وإذا الغلام قد أتى مذعورا يبكي فقلت له: ما وراءك؟ قال لي: مات الرجل الساعة، فقلت: ويحك وكيف كان ذلك؟ قال: دخلت معه فاحضر لي طعاما فأكلت وغسلت يدي وطيبني ثم جاء فوضع إصبعه السبابة على خدي ثم قال: أشهد أنك لحسن، وما تدعوني إليه نفسي منك لقبيح، وما أوعد الله عليه من العقوبة أقبح وأشد، ثم استرجع، ثم وضع إصبعه على خدي أيضا ثم قال: أشهد أنك لحسن، وما وعد الله عليها من الخير والثواب أحسن وأحسن، ثم سقط فحركته فإذا هو قد مات. قال الشيخ: فأنا أبكي على ذلك الشاب وظرفه وحسنه وعفته إلى أن أموت.
حكاية
</span></span>
قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدايني عن أبي بكر الهذلي قال: لما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة من حبسه قال له: يا أمير المؤمنين أكتب لي كتابا إلى علقمة بن علاثة أقصده به، فقد منعني التكسب بشعري، فقال: لا أفعل، فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما عليك من ذلك، علقمة ليس بعاملك فتخشى أن تأثم فيه، وإنما هو رجل من المسلمين تشفع له إليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب فصادف علقمة قد مات، والناس ينصرفون عن قبره، فوقف عليه ثم أنشد:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى علقته الحبائل
فإن تحيي لا أملل وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
وما كان بيني، لو لقيتك سالما، ... وبين الغنى إلا ليال قلائل
فقال له ابنه: كم ظننت أن علقمة يعطيك؟ قال: مائة ناقة فقال: لك مائة ناقة تتبعها مائة من أولادها، فأعطاه إياها.
حكاية
مخ ۱۸
وقال أبو الفرج أيضا: أخبرني أبو زيد قال أخبرني عمي عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال: أخبرني شيخ من بني نبهان قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال، فخرج رجل منهم بعياله، حتى أنزلهم الحيرة فقال لهم: كونوا قريبا من الملك يصبكم من خيره، حتى أرجع إليكم وآلى على نفسه ألية ألا يرجع حتى يكسبهم خيرا أو يموت، فتزود زادا، ثم مشى يوما إلى الليل، فإذا هو بمهر مقيد يدور حول خباء فقال: هذا أول الغنيمة فذهب يحله ويركبه، فنودي خل عنه واغنم نفسك، فتركه ومضى سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطفيل الشمس، فإذا خباء عظيم وقبة من أدم قال: فقلت في نفسي ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل، فنظرت في الخباء فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه كأنه نسر، فجلست خلفه مختبئا، فلما وجبت الشمس إذا بفارس قد أقبل لم أر فارسا قط أعظم منه ولا أجسم، على فرس مشترف ومعه أسودان يمشيان بجنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها فبرك الفحل وبركن حوله، ونزل عن فرسه فقال لأحد عبديه: احلب فلانة ثم اسقي الشيخ، فحلب في عس حتى ملأه ووضعه بين يدي الشيخ، وتنحى فكرع فيه الشيخ مرة أو مرتين ثم نزع فثرت إليه فشربته فرجع إليه العبد فقال: يا مولاي قد أتى على آخره، ففرح بذلك، وقال له أحلب له فلانة فحلبها ثم وضع العس بين يدي الشيخ فكرع فيه كرعة واحدة، ثم نزع فثرت إليه فشربت نصفه وكرهت أن آتي على آخره فاتهم. فجاء العبد فأخذه وقال لمولاه: قد شرب وروي قال: دعه ثم أمر بشاة فذبحت وشوى للشيخ منها ثم أكل هو وعبدانه فأمهلت حتى إذا ناموا وسمعت الغطيط ثرت إلى الفحل فحللت عقاله وركبته، فاندفع بي وتبعته الإبل، فمشيت ليلتي حتى الصباح. فلما أصبحت نظرت فلم أر أحدا فشللتها حينئذ شلا عنيفا حتى تعالى النهار، ثم التفت التفاتة فإذا أنا بشيء كأنه طائر فما زال يدنو مني حتى تبينته فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي بالأمس، فعقلت الفحل، ونثلت كنانتي ووقفت بينه وبين الإبل، فوقف بعيدا فقال: أحلل عقاله فقلت: كلا والله لقد خلفت نسيات بالحيرة وآليت ألية ألا أرجع حتى أفيدهن خيرا أو أموت، قال: فنك ميت، حل عقاله لا أم لك فقلت: هو ما قلت لك، قال: انك لمغرور، انصب لي خطامه واجعل لي منه خمس عجر ففعلت فقال: أين تحب أن أضع سمهي فقلت: في هذا الموضع، فكأنما وضعه فيه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمس بخمسة أسهم، فرددت نبلي في كنانتي، وحططت قوسي، ووقفت مستسلما فدنا مني فأخذ السيف والقوس ثم قال: ارتدف خلفي وعرف أني الذي رشبت عنده اللبن فقال: كيف ظنك بي؟ فقلت أحسن ظن، قال: وكيف؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك، وقد أظفرك الله بي. فقال: أترانا كنا نهجيك بسوء وقد بت تنادم مهلهلا، قلت : أزيد الخيل أنت؟ قال: نعم، أنا زيد الخيل، قلت: كن خير آخذ، قال: ليس عليك بأس. فمضى إلى موضعه الذي كان به، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لابنة مهلهل فأقم علي فإني على شرف فأقمت عنده أياما ثم أغار على بني نمير بالملح فأصاب مائة بعير فقال: أهذه أحب إليك أم تلك؟ فقلت: بل هذه قال: دونكها وبعث معي خبراء من ماء إلى ماء حتى وردوا الحيرة، فلقيني نبطي فقال: يا أعرابي ابسرك أن لك بإبلك هذه بستانا من هذه البساتين قلت: وكيف؟ قال: هذا أوان نبي يخرج فيملك هذه الأرض، ويحول بين أربابها وبينها، حتى إن أحدكم ليبتاع البستان بثمن بعير، قال: فارتحلت بأهلي حتى انتهيت إلى موضع، فبينا نحن بالشطين على ماء لنا وقد كان الحوفزان بن شريك أرغا على بني تميم، إذ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، وما مضت إلا أيام حتى اشتريت بثمن بعير من إبلي بستانا بالحيرة.
حكاية
</span>
مخ ۱۹
وقال أيضا أخبرني محمد بن الحسين بن دريد قال: أخبرنا الحرماني عن العباس بن هشام عن أبيه: قال عتب بنت عفيف وهي أم حاتم الطائي ذات يسار، وكانت من اسخى الناس وأقراهم للضيف، وكانت لا تليق شيئا تملكه، فلما رأى أخوتها إتلافها مالها حجروا عليها ومنعوها مالها، فمكثت دهرا لا يدفع إليها شيء منه، حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من مازن وكانت تأتيها في كل سنة تسألها فقالت لها: دونك هذه الصرمة فخذيها فوالله لقد أمضني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلا أبدا، ثم أنشأت تقول:
لعمري لقد ما عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا
وهل ما ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا
حكاية
</span></span></span>
وحدث الهيثم بن عدي وقيل القاسم بن عدي عمن حدثه عن ملخان بن " أخي " ماوية امرأة حاتم قال: قلت لماوية: يا عمتاه حدثيني ببعض عجائب حاتم فقلت: كل أمره عجب فعن أيه تسأل؟ قلت: حدثيني ما شئت قالت: أصابت الناس سنة فأذهبت الخف والظلف فإني وإياه ذات ليلة قد اسهرنا الجوع، فأخذ هو عديا وأخذت سفانة وجعلنا نعللنهما حتى ناما، ثم اقبل علي يعللني بالحديث لكي أنام، فرققت لما به من الجهد، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال: لي أنمت؟ مرارا فلم أجبه، فسكت ونظر وشق الخباء فإذا بشيء قد أقبل فرفع رأسه فإذا امرأة فقال: من هذا؟ فقالت: أنا يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب جوعا، فقال: أحضريني صبيانك فوالله لأشبعنهم قالت: فقمت سريعة فقلت: بماذا يا حاتم؟ فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعلل فقال: والله لأشبعن صبيانك مع صبيانها، فلما جاءت قام إلى فرسه فذبحها، ثم قدح نارا فأججها، ثم دفع إليها شفرة وقال: اشوي وكلي، ثم قال لي: أيقظي صبيتك فأيقظتهما ثم قال: إن هذا للؤم تأكلون واهل الصرم حالهم مثل حالكم، فجعل يأتي الصرم بيتا بيتا فيقول: انهضوا؛ عليكم النار، قال فاجتمعوا حول تلك الفرس، وتقنع بكسائه وجلس ناحية. فما أصبحوا ومن الفرس على الأرض قليل ولا كثير إلا عظم وحافر، وإنه لأشد جوعا منهم وما ذاقه.
حكاية
قال أبو الفرج أخبرني أحمد بن محمد البزاز الأطروش قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا هشام بن محمد قال: حدثنا أبو مسكين جعفر ابن المحرز بن الوليد عن أبيه قال: قال الوليد جده وهو مولى لأبي هريرة: سمعت محرز بن أبي هريرة يتحدث قال: كان رجل يقال له أبو الخيبري مر في نفر من قومه بقبر حاتم، وحوله أنصاب متقابلات من حجارة كأنهن نساء ينحن، قال: فنزلوا به فبات أبو الخيبري ليلته كلها يقول: أبا عدي أقر أضيافك قال: فيقال له: مهلا ما تكلم من رمة بالية؟ فقال إن طيئا يزعمون أنه لم ينزل به أحد وهو ميت إلا أقراه " كالمستهزئ " قال فلما كان في آخر الليل نام أبو الخيبري حتى إذا كان في السحر وثب، فجعل يصيح واراحلتاه، فقال له أصحابه: ويلك ما لك قال: خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي قالوا: كذبت قال: بلى فنظروا إلى راحلته فإذا هي مختزلة ما تنبعث قالوا لقد والله قراك، فذبحوها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا، فساروا ما شاء الله ثم نظروا إلى راكب فإذا هو عدي بن حاتم قائدا جملا أسود فلحقهم فقال: أيكم أبو الخيبري؟ قالوا: هذا، فقال: جاءني أبي في النوم فذكر لي شتمك إياه وإنه أقرى راحلتك أصحابك، وقد قال في ذلك أبياتا ورددها علي حتى حفظتها:
أبا الخيبري وأنت أمرؤ ... ظلوم البرية شتامها
فماذا أردت إلى رمة ... ببادية صيحت هامها؟
أتبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وأنعامها
وإنا لنطعم أضيافنا ... من الكوم بالسيف نعتامها
وقد أمرني أن أحملك على بعير فدونكه فأخذه وركبه وذهبوا
حكاية
مخ ۲۰