حدث نمير الهلالي قال: كان من فتيان بني هلال فتى يقال له بشر بن عبد الله ويعرف بالأشتر، وكان من سادات بني هلال أحسنهم وجها، وأسخاهم كفا، وكان معجبا بجارية من قومه تدعى جيداء وكانت بارعة الجمال والكمال، ثم اشتهر أمره وأمرها وظهر خبرهما، ووقع الشر بين أهلهما، إلى أن كانت بين الفريقين دماء، ثم افترقوا وابتعدت منازلهم. قال نمير: فلما طال على الأشتر الفراق، وتمادى به البعد، جاءني فقال: يا نمير هل من خير؟ قلت: عندي، فقل ما أحببت فقال: تساعدني على زيارة جيداء، فقد أذهب الشوق روحي، قلت: نعم، بالحب والكرامة، فانهض بنا إذا شئت، فركب وركبت معه وسرنا يومنا وليلتنا العشاء والغد، حتى إذا كان العشاء أنخنا رواحلنا في شعب قريب من الفريق، فقال: يا نمير اذهب فتأنس بالناس، واذكر إن لقيت أحدا انك طالب ضالة، ولا تعرض بذكري بين شفة ولسان، إلا أن تلقى جاريتها فلانة راعية غنمهم فاقرأها مني السلام وسلها عن الخبر، واعلمها موضعي. قال نمير: فخرجت لا أعدو ما أمرني به حتى لقيت الجارية، فأبلغتها الرسالة وأعلمتها مكانه، وسألتها عن الخبر، فقالت هي والله مشدد عليها محتفظ بها، ولكن موعدكم أولئك الشحرات اللواتي عند أعقاب البيوت مع صلاة العشاء الآخرة. قال: فانصرفت إلى صاحبي فأعلمته الخبر، ثم نهضت أنا وإياه نقود رواحلنا حتى أتينا الموزن في الوقت الموعود، فلم نلبث إلا قليلا وإذا جيداء تمشي قريبا منأ، فوثب الأشتر فصافحها وسلم عيها، وقمت أنا موليا عنهما فقالا: نقسم عليك ألا رجعت، فوالله ما نحن في مكروه، ولا بيننا ما يستر عنك، فرجعت إليهما فجلست معهما. فقال لها الأشتر ما فيك حيلة يا جيداء فتتعلل الليلة. قالت: لا والله ما لي إلى ذلك من سبيل إلا أن يرجع الذي عرفت من البلاء والشر، فقال لها لا بد من ذلك، ولو كان ما عسى أن يكون؛ قالت: فهل في صاحبك هذا من خير؟ قلت: قولي ما بدا لك، فإني أنتهي إلى رأيك، ولو كان في ذلك ذهاب نفسي. فخلعت ثيابها فقالت لي: البسها وأعطني ثيابك، ففعلت، ثم قالت، اذهب إلى بيتي فادخل في ستري فإن زوجي سيأتيك فيطلب منك القدح ليحلب فيه، ثم يأتيك بعد فراغه من الحلب والقدح ملآن فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذه منه حتى تطيل ذلك عليه، ثم خذه أو دعه حتى يضعه ويذهب، ولست تراه إن شاء الله تعالى. قال: فذهبت ففعلت ما أمرتني به، حتى إذا جاء بالقدح فلم آخذه منه حتى طال نكدي عليه، ثم اهويت لآخذه منه فأهوى هو ليضعه فاختلفت أيدينا على الإناء فانفك وانهرق اللبن فقال: هذا الطماح جيداء، وضرب بيده على مقدم البيت فاستخرج سوطا ملويا مثل الثعبان، ثم دخل فهتك الستر علي وأمتع السوط مني تمام عشرين سوطا ثم جاءت أمه وأخته فانتزعاني من يده، ولا والله ما فعلتا ذلك حتى زال عقلي وهممت أن أوجره السكين وإن كان فيها الموت، فلما خرجوا شددت ستري وقعدت كما كنت، فلم ألبث إلا قليلا حتى دخلت أم جيداء، فكلمتني وهي لا تشك أني ابنتها، واندفعت في البكاء والنحيب فتغطيت بثوبي، ووليتها ظهري، فقالت: يا بنية اتق الله في نفسك، ولا تعرضي لمكروه زوجك، فذلك أولى بك، وأما الأشتر فقد هلك آخر الدهر وخرجت من عندي وقالت: سأرسل إليك أختك تؤنسك الليلة، فلبثت غير كثير، وإذا بالجارية قد جاءت، فجعلت تبكي وتدعو على من ضربني، وأنا لا أكلمها ثم اضجعت إلى جنبي، فلما استمكنت منها شددت يدي على فيها وقلت: يا هذه تلك أختك مع الأشتر عند الشجرات، وقد قطع ظهري الليلة بسببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فوالله لئن تكلمت بكلمة لأصيحن أنا بجهدي حتى تكون الفضيحة شاملة، ثم رفعت يدي عن فيها، فاهتزت كما تهتز القصبة، فلم أزل بها حتى أنست، فباتت والله معي أحسن رفيق رافقته قط، ولم نزل نتحدث وتضحك مني ومما نالني، وتمكنت منها تمكن من لو رام ريبة قدر عليها، ولكن الله عصم فله الحمد، ولم نزل كذلك حتى برق الفجر، وإذا جيداء قد دخلت علينا، فلما رأتنا ارتاءت وقالت: ويحك من هذه؟ قلت: أختك قالت: وما الخبر؟ قلت: هي تخبرك فإنها نعم الأخت، وأخذت ثيابي ومضيت إلى صاحبي فركبت أنا وهو، وحدثته ما أصابني، وكشفت له عن ظهري، فإذا فيه ضرب رمى الله ضاربه بالنار الصيعلم كل ضربة يخرج منها الدم، فلما رأى ذلك قال: قد عظم صنيعك، ووجب شكرك، وطالت يدك
مخ ۱۴