الفصل الثالث
كانت وهيبة لا تدري ماذا تفعل بحياتها وبأيامها الطويلة إن لم يكن الله قد من عليها بزيارات إيفون القليلة وبزيارات ابنة خالتها الكثيرة؛ فما كان لها من الصديقات غير هاتين. وكان هناك الراديو أيضا، ولكنه كان ممنوعا عنها منذ يحل أبوها بالبيت؛ فما كان يرضى أن يسمع منه غير القرآن، وإن تسامح فالأحاديث، أما أن يسمع الغناء والتمثيليات وشتى أنواع الإذاعات الأخرى فذلك هو المستحيل؛ ولذلك كانت وهيبة ترجو صديقتيها دائما ألا تكون زيارتهما في وجود أبيها بالبيت؛ حتى يتاح لها أن تلتذ بالمتعتين معا؛ من الراديو والزيارة. ولو أن زيارة ليلى لوهيبة لم تكن زيارة خالصة المتعة؛ فقد كانت ليلى دائمة اللوم لوهيبة أنها لا ترعى شئون أخيها عباس، وأنها وأمها تبذلان كل جهدهما لإرضاء الشيخ سلطان، بينما لا ينظران في أهم شئون عباس، فزر ملابسه المقطوع هو من يخيطه، وطعامه بارد لا تهتم واحدة منهما بتجهيزه، وملابسه همل لا تهتم واحدة منهما بإحصائها وتنظيفها. وكانت وهيبة تجيبها أنها بحسبها ما تقوم به من شئون أبيها وشئون المنزل، ولكن ليلى كانت ترى من عباس الألم المرير مما يعامل به في البيت.
وطالما شكا لليلى على مسمع من أخته أن أباه وحده هو من يحظى بالخدمة والعناية، ويا طالما قال لها إنه يعرف أن أباها لا شك هو صاحب الحياة في البيت، وأن أي عناية تبذل لإرضائه هي بذل في المكان الجدير به، ولكن عباس يطمع أن يجد عند أخته شيئا ولو هينا من بعض رعاية. وكانت ليلى تلوم وهيبة، ولكن لم تكن وهيبة لتنيل ليلى أذنا مصغية؛ فقد كانت ترى أباها في البيت هو البيت، وكل ما تحويه جدران البيت إنما وجد وصنع لا لشيء إلا ليخدم أباها ويهيئ له الراحة والدعة. وكانت ترى أن كل شيء يضمه هذا البيت إنما هو قطعة من آلة لا يبعث الروح فيها أو يمدها بالحياة إلا أوامر أبيها، فإن قال يمينا فيمين، أو قال شمالا فشمال. هي في البيت لا في المدرسة؛ لأن أباها يريدها في البيت لا في المدرسة، وهي تقوم بالأعباء المنزلية؛ لأن أباها يريد أن تقوم بالأعمال المنزلية، وهي تصلي لأن أباها يريدها أن تصلي، وتصوم لأن أباها يقتلها إن أفطرت. ولقد تخفي عن أبيها إفطارها في الأيام التي أمر الله بها أن تفطر فيها، والتي لا يجوز لها فيها صيام. وكان يخيل إليها أن أباها لو شاء فقال لها صومي في هذه الأيام لصامت، ولأحست أن صيامها هذه الأيام شأنه شأن صيامها لأيام الشهر الأخرى، لا فارق بين الصيامين، فكلاهما لأبيها.
فيم إذن تلح عليها ليلى أن ترعى شأن أخيها؟! ألا تدري ليلى ما هم في هذا البيت؟ ولكن وهيبة مع ذلك كانت تحب أن تزورها ليلى، وتحب هذه الجلسة التي تجمع ثلاثتهم، بل وتحب أيضا مجيء لطفي عجلا دائما يطلب إلى أخته أن تقوم، ثم يهددها ألا يأتي معها إذا هي لم تقم. وكانت وهيبة تضحك من هذا النقاش الذي لا بد أن يدور بين ابني خالتها كلما زاراها وتسعد به.
وقد كانت خالة وهيبة الست حميدة زوجة لمدرس إلزامي تزوجها في القرية ميت جحيش، ثم شاءت له ظروف سعيدة صاحبها سعي منه حثيث أن ينقل إلى الديوان العام بالوزارة، فقدم مع زوجته إلى القاهرة واصطحب معه عادات الريف لم يتركها، إلا أن القاهرة ما لبثت أن طغت عليه بعض الشيء؛ فلم يخرج ابنته ليلى من المدرسة كما فعل عديله الشيخ سلطان. وهكذا بقيت ليلى تلميذة تواصل تعليمها في المرحلة الثانوية، وتجد في هذه الصفة مثارا لزهوها، فهي مقبلة على التعليم إقبال محب راغب، يقف أبوها رضوان أفندي من ورائها فرحا بها فخورا، يجد من إقبالها على التعليم وسيلة يلهب بها ابنه الوحيد لطفي أن يقبل هو أيضا على المذاكرة إقبال أخته، إلا أن لطفي لم تكن تغريه هذه الحيلة؛ فقد كان يجد في كرة أصدقائه بحارة البابلي إغراء أشد، ولكنه مع ذلك كان يسير في دراسته في غير تعثر، وإن كان في غير نشاط؛ فما كان من المتأخرين وما كان من المتقدمين، وكان على كل حال من المنقولين في آخر العام. وما كان له في النجاح حيلة؛ فقد تعود أبوه أن ينقطع لمذاكرته قبيل الامتحان فلا يخرج من البيت، بل يظل ملازما إياه، فيضطر لطفي مع هذه المراقبة الشديدة أن ينجح وأمره إلى الله.
كانت ليلى تصحب أخاها لطفي كلما شاءت أن تذهب إلى ابنة خالتها وهيبة، وكان لطفي يضيق بهذه الصحبة أشد الضيق، ولكن رضوان أفندي كان يأبى أن تخرج ابنته بعد الظهر دون أخيها، وإن كانت لم تتجاوز الرابعة عشرة ولم يتجاوز أخوها الثالثة عشرة.
أما الست حميدة فقد كانت ترى في مواصلة ليلى لدراستها عبثا لا طائل تحته ولا داعي له؛ فهي لا تراها خارجة في الصباح إلى مدرستها إلا مصت شفتيها وقالت: عشنا وشفنا بنات آخر زمن.
لا تخطئ مرة وتنساها أو تخطئ مرة وتغيرها. وكانت حجتها أن ابنة أختها مكثت منذ أعوام في البيت لا تخطو عتبته؛ فتعلمت كيف تخدم البيت وتقوم بأعبائه، في حين لا تستطيع ليلى أن تقيم وعاء على النار. وكان يلذ لرضوان أفندي أن يسمع هذا الحديث فيضحك من جهل زوجته، ويطمئن إلى ذكائه هو وسعة أفقه. أما ليلى فكانت تضيق بحديث أمها حينا، أو تقبلها وتدغدغها حينا آخر، ولكن الخوف كان يداخلها دائما أن تستطيع أمها في يوم من الأيام أن تؤثر على أبيها فيصرفها عن الدراسة كما صرف عمها الشيخ سلطان وهيبة عن المدرسة. ولا تجد لخوفها مكانا تفرغه فيه إلا المذاكرة الدائمة التي تبقي عليها زهو أبيها بها، وتمسكه بكمال تعليمها.
كانت ليلى فتاة طلقة المحيا، صحبت من أصلها الريفي براءة السمات وإشراقة النفس وبساطة التعبير؛ فشعرها ضفيرتان كبيرتان من الذهب، وعيناها صفاء ومحبة للحياة وإقبال عليها، إقبال هادئ مطمئن واثق. والألوان فيهما نقية؛ فالسواد قاتم في الحدق محوط بدائرة من صافي العسل، والبياض بياض صريح، والحديث يفيض منهما أنهما لا تخفيان من ورائهما إلا نقاء، أو تحجبان من دونهما إلا براءة وطهرا.
وكانت ليلى ناصعة البشرة بيضاء، لا يكاد يشوب لونها حمرة أو سمرة. وقد بدأت منذ قليل تنظر إلى المرآة وتضيق بهذا اللون الواحد الذي يأبى أن يتلون بحمرة عند خديها، أو بسمرة عند عينيها. وقد بدأت منذ قليل أيضا تمسك بخديها في غيظ فتترك أصابعها حيث أمسكت بعض حمرة ما يلبث لونها الأبيض أن يمتصها. ولم تكن ليلى بالنحيلة ولا هي بالسمينة، كما لم تكن بالطويلة ولا هي القصيرة، إنما هي في قوامها من هؤلاء اللواتي لا تستطيع أن ترى فيهن شيئا يدعو إلى العجب أو الإعجاب. أما أطرافها فقد كانت أكبر مما ينبغي لسنها؛ فيداها وقدماها أقرب إلى الضخامة منهما إلى الدقة التي كانت ترجوها هي، وإن كانت أصابع يديها تنتهي بأطراف دقيقة فتستطيع بذلك أن تخدع عين الرائي فيظن بها ما لا تتمتع به من أناقة.
ناپیژندل شوی مخ