هكذا كانت ليلى. لم أترك من وصفها شيئا إلا ذلك الفستان الأحمر الذي كانت تكثر من لبسه، والذي كان يدرك لطفي كلما رآها ترتديه أنها قد انتوت أن تخرج، وأنه مرغم على أن يقطع لعبه ويصحبها إلى زيارتها البغيضة. ولم يكن مخطئا في إدراكه هذا؛ فها هي ذي تفتح الشباك وقد ظهر النصف الأعلى من الفستان اللعين. وما إن يرى لطفي الشباك يفتح ويطل منه الفستان حتى يولي ظهره للبيت، وللكرة أيضا التي كانت قادمة في هذه اللحظة إلى أقدامه - وقد ظل ينتظرها منذ بدء اللعب - وتصيح: لطفي، يا لطفي .
ويسمع لطفي ولكنه يجري محاولا أن يسبق الكرة ليحقق أمنيته في الرمي بها إلى الهدف، ولكن الكرة تأبى أن تحقق ما يصبو إليه، ويعاجلها ظهير الفريق الآخر فيبعدها عن أقدام لطفي وعن آماله جميعا، فلا يملك آخر الأمر إلا أن يجيب هذا النداء المتلاحق الذي لم ينقطع طوال هذه المناورة: نعم يا ستي. الله يقطع لطفي وأيام لطفي. نعم. تفضلي انزلي، تفضلي، فما دمت لبست فستان الحصبة فهي الزيارة.
وتنزل ليلى، ويسير لطفي إلى جانبها وقد استبدلت قدمه الكرة بقطعة كبيرة من الحصى راح يركلها بقدمه، منصرفا إليها، مفكرا فيما كان خليقا أن يفعله في الملعب لو لم ترغمه أخته على أن يصحبها في هذه الزيارة. ويلتفت إليها فجأة ويسألها: أنا والله لا أعرف ما الذي يعجبك في هذه الزيارات؟ - إنه أنا والله لا أعرف ما الذي يعجبك في الكرة؟ - يا سلام! ألا تعرفين؟ ولكن لا عليك فأنت معذورة؛ لو كنت تلعبين الكرة لعرفت لذتها. - ألعب! ولماذا لا ألعب؟ - نعم هذا ما ينقصك، ألا تكفي المدرسة التي تذهبين إليها وأنت بهذا الطول؟ - رجعنا إلى الغيرة. - غيرة! من؟ أنا أغار منك؟! - طبعا. اجتهد يا أخي وأنت تصبح مثلي. - والله إن أبي جنى عليك وجعلك تفهمين أنك شيء مهم. - أنا شيء مهم طبعا. أنا الأولى. - يا بنتي الغرور ركبك وأصبح الكلام معك يحتاج إلى الصبر. - بل قل إنك تجد كلامي صحيحا ولا تعرف كيف تجيب. - لا بل أعرف، قولي لي، ماذا ستفعلين بالشهادة، إذا لا قدر الله ونلت الشهادة؟ - قل لي أنت ماذا ستفعل بها؟ - سأتوظف. - وأنا أيضا، سأتوظف. - يا عيني يا عيني، كملت. يا بنتي اعقلي. - هذا هو العقل، ثم أنت ما شأنك؟ أطال الله عمر أبي، ما دام راضيا فآراؤكم جميعا لا قيمة لها. - الله أكبر! آراؤكم هذه تقصدين بها أمك طبعا؟! - من جاء بسيرة أمي الآن؟ - أنت. - أنا؟ - والله لأقول لها إنك لا تهتمين برأيها. - عيب عليك يا لطفي لا تدخل نينا في الموضوع. - ما دامت آراؤنا كلها لا قيمة لها. - وهل قلت نينا؟ - ومن كلنا؟! قال يا جحا عد غنمك، قال واحدة قائمة والأخرى نائمة. فمن كلنا إن لم يكن أنا ونينا؟ - اسمع سأعطيك قرشا ولا تقل شيئا لنينا. - والله المسألة فيها نظر. - لأجل خاطري يا لطفي. - أنا لم أعد بشيء. - اعقل يا لطفي. - وحين أعود إليك تنزلين مباشرة؟ - آه يا لئيم، وما الضرر في أن أجلس بعض الوقت مع وهيبة، وأنت تعرف أنها لا تخرج من البيت ولا تزور أحدا ولا يزورها أحد إلا أنا وإيفون؟ - هذه هي شروطي. اقعد قليلا، انتظر خمس دقائق أخرى. كلمة من هذه أبلغ نينا مباشرة. - أمرك يا فرعون، وأنت أيضا لا تسرع بالعودة.
وانصرف لطفي وصعدت ليلى إلى وهيبة. كان عباس يسعد بجلسته إلى ليلى وكانت تسعد هي أيضا بها، وكان الحديث بينهما ينساب رخيا يحدثان وهيبة عن المدرسة وعن المدرسات وعن خلافاتهم مع الطلبة والطالبات، ووهيبة تسمع في لهفة ووجيب؛ فقد كانت تتوق أن تواصل تعليمها وإن كانت تعتبر هذه الرغبة جرما لا يجوز لأبيها أن يتعرف عليها؛ فهي تخفيها في نفسها لا تراها إلا نفسها.
وقد وجدت ليلى عباس جالسا إلى أخته، واستقبلها حين قدمت في فرح: أهلا. أين أنت؟ لم نرك من زمان. - مشغولة في المذاكرة.
وقالت وهيبة: تحتجين دائما بالمذاكرة، وأنا وحدي ولا تسألين عني.
وقالت ليلى: لو عرفت العذاب الذي ألقاه من لطفي كلما فكرت في المجيء لعذرتني.
وقال عباس في سذاجة: يا ستي لا يهمك لطفي، إذا أردت المجيء أرسلي لي سيدة وأنا أجيء إليك وأحضر معك.
وصعدت حمرة إلى وجه ليلى وأرتج عليها؛ فهي تعلم أن أباها لن يسمح أن تخرج مع عباس، وهي في نفس الوقت لا تستطيع أن تخبر عباس بهذا. فتلعثمت واختلطت في فمها بعض حروف لا تكمل لفظا أو تؤدي معنى، وفهم عباس حيرتها، وأدرك ما انزلق إليه لسانه. وسارعت وهيبة: لو قلت للطفي إننا سنعلب الكرة لجاء يجري.
واستطاع عباس بعد جهد أن يجد لسانه فقال: ماذا أخذتم في الإنجليزي؟
ناپیژندل شوی مخ