الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
ناپیژندل شوی مخ
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
ناپیژندل شوی مخ
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
لقاء هناك
لقاء هناك
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
تأنق الشيخ سلطان عبد الصبور وبالغ في تألقه متخذا الجبة الخضراء الزيتونية اللون على القفطان ذي الأرضية الفستقية والخطوط الضاربة إلى الخضرة، وأحكم لف العمامة، وطالع نفسه في المرآة مرات عديدة، وحاول في كل مرة أن يستوحي من هذه الخضرة التي يكسو بها نفسه بعض إشراق يجوب نفسه الضيقة الملول، ولكنه لم يفلح في محاولاته جميعا. كان الشيخ يعد نفسه للذهاب إلى مكتبه بالوعظ والإرشاد بالأزهر الشريف، وهو مكتب ألفه منذ ترك وظيفته في التفتيش على خطباء المساجد في المنوفية، وقد مر على هذه النقلة سنوات وسنوات؛ فقد انتقل من هناك وابنه عباس في المهد، وها هو ذا عباس اليوم يتقدم لينال شهادة التوجيهية. سنوات وسنوات، وهو كل يوم ذاهب وعائد إلى المكتب، ومنه يشرف مع المشرفين على الوعظ والإرشاد في الدولة المصرية، فما أفلح وعظ ولا نجح إرشاد، والناس تسمع بآذان متعجلة تريد أن تسارع لتفرغ ما قد سمعته في حان، أو فيما هو شر من الحان، وإبليس اللعين يلاحق قسم الوعظ في العميق العميق من نفوس الناس، وخطباء القسم لا تمتد ألسنتهم لغير آذان إن سمعت لا تعي، وإن وعت فما هي إلا تسلية الصلاة حتى يقطعون ما بينهم وبين الله، ويرجعون إلى إبليس الذي يصاحب نفوسهم ولا يزال بها يغريها بكل ما يملكه من وسائل للإغراء، وإنها في يده كثيرة.
ناپیژندل شوی مخ
وأين وجه الشيخ عكاشة أفصح خطباء الوعظ والإرشاد من فتاة غيداء؟ بل أين أناقة الشيخ سلطان، وهي أناقة بالغة من فستان مهما يكن رخيصا؟ ... إنها حرب لا تكافؤ فيها ولا عدل. وماذا يمكن أن يصنعوا جميعهم إزاء نظرة حالمة، أو ابتسامة مستدعية، أو - والعياذ بالله - كلمة رقيقة؟ ألا إنها قسمة ضيزى، وإن نصيبهم لأبخس الأنصبة. وحسبه من الزمان أنه ذاهب كل يوم إلى مكتب الوعظ عائد منه. وحسبه أيضا أنه يؤدي الصلوات الخمس مع كل سنة، بل إنه لا يترك المأثور من شفع ووتر. وإنه ليطيل الركوع والسجود إطالة قد تضيق بها زوجته زكية في كثير من الأحايين، ولكنه لا يبالي ضيقها فهو يعلم أن إطالة السجود والركوع واجب في الصلاة لا سبيل إلى التغاضي عنه. وحسبه أنه يصلي الفجر في موقته؛ فلم يكن النوم عنده خيرا من الصلاة في يوم من الأيام. وإنه لحريص كل الحرص على أن يصلي ابنه عباس الصلوات جميعا، وكذلك تفعل ابنته وهيبة، لكن أين هذا جميعه مما هو مفروض عليه من وعظ وإرشاد؟
كان الشيخ قد أكمل ارتداء ملابسه ولم يبق إلا الحذاء، فجلس إلى الكنبة البلدية ذات الوسائد التي تعترض مقعدها وتذود ظهر الجالس إليها عن الحائط، وكانت المنضدة بجانب الكنبة لا تبتعد عنها أبدا، وكانت لبيسة الحذاء على المنضدة لا تبرح مكانها إلا إلى حذاء الشيخ ثم تعود. وهكذا مد الشيخ سلطان يده إلى اللبيسة دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى موضعها، وقد أصابت يده مرادها في غير تردد، ولبس الشيخ الحذاء وعادت اللبيسة، وصاح الشيخ كعادته: يا زكية!
وأصاب النداء الأذن التي أرسل إليها وصاحت زكية من البهو: هل انتهيت من اللبس يا شيخ سلطان؟
ويصيح الشيخ مرة أخرى: هل أعددت الإفطار؟ - دقيقة واحدة.
وتنحنح الشيخ وصمت هنيهة، ثم صاح: ألبس عباس؟
ولم يجبه أحد في هذه المرة ، فعاد إلى الصمت، ولكنه ما لبث أن ضاق به كما ضاق بنفسه داخل الحجرة لا يفعل شيئا، فقام مرة أخرى إلى الصوان وفتح ضلفته ذات المرآة وأخرج من الرف الأعلى زجاجة صغيرة الحجم يغشى الزيت ظاهرها ذات غطاء زجاجي دقيق، لا يقف عمله على تغطية الزجاجة، وإنما هو أيضا مرود يجعل من يتزود بعطرها حكيما غير جائر، فلا يصيب من العطر إلا قدرا قليلا ينم ولا يفضح. وتعطر الشيخ، ثم أعاد المرود إلى الزجاجة، والزجاجة إلى الصوان، ثم أقفل الضلفة وعاد ينظر إلى المرآة ... ويل للعطر! ... إنه لم يزد من أناقة الشيخ شيئا!
وقبل أن يمد الشيخ يده إلى شاربه الكث ليحاول أن يلم شعثه أو يهذب ثائره، تراءت له من تحت الجبة قطعة من القفطان تكوم تحتها الصدار، فراح يسوي ما تجمع ويعدل ما التوى، حتى عاد إلى ملبسه ما كان عليه من نظام قبل لبس الحذاء، ثم عاد هو ينظر إلى المرآة ... ما زال كما هو ... عينان واسعتان فيهما سطوة وفيهما قدرة على الخضوع، ووجه متردد بين الاستدارة والاستطالة يغشيه الشعر في غزارة وكرم؛ فاللحية كثة يكلفه حلقها كل يوم موسى جديدا ووقتا طويلا، والحاجبان كثيفان كقطعتين من ليلة في محاق، وإن كان الشعر الأبيض قد بدأ يرود طريقه فيهما فيبدو كالنجوم التي تسعى إلى السماء الداكنة خائفة تبحث عن الأنيس أو الرفيق، والشارب كث ضخم والشيخ دائما حائر فيه؛ فهو حينا يجور عليه بالمقص، حتى ليصبح غير جدير بوقار الشيخ ومكانته، وهو حينا يعفيه من التهذيب فترة طويلة فيبدو كالطفل المدلل دائم العربدة بادي الفوضى. وللشيخ بعد ذلك بقية من شعر في رأسه، ولكني أحسب أننا لن نرى هذه البقية أبدا؛ فالشيخ لا يترك العمامة إلا إذا لبس القلنسوة، فما هي إلا ومضة حتى تغطي واحدة منها رأس الشيخ، وما تكفي ومضة لندرك مقدار ما بقي له من شعره، إلا أن سالفيه غنيان بالشعر يكسبان العمامة والقلنسوة كلتيهما رواء، كما يكسبه هو طوله واتساع عارضيه مهابة وجلالا .
هذا هو الشيخ سلطان في مظهره العام، إلا أن في الشيخ خاصية يختلف بها عن سائر الناس اختلافا ما هو بالبعيد وما هو بالضئيل الذي تعبره العين ولا تلتقطه؛ كانت عينا الشيخ حمراوين دائما، سواء أكان الشيخ مريضا أم صحيحا، مصيبا من النوم حاجته أم قلق النوم غير هادئ. العينان حمراوان على أية حال، ولعل هذا الاحمرار هو الذي يضفي عليهما هذا البريق من السطوة، وهذا الاستعداد من الخضوع كأنهما عينا مخمور. ولن تجد محبا للسطوة مثل مخمور، أو مسارعا إلى الخضوع مثل مخمور أيضا، إلا أن الشيخ لم يكن مخمورا، بل أقسم غير حانث أنه لم يذق الخمر أبدا إلا ليلة واحدة تاب بعدها، وقد عذبه ضميره أي عذاب. إنها ليلة سحيقة الغور في أعماق تاريخ الشيخ، وما كان أحراني أن أكتبها على الشيخ فلا أفضحه وقد ألقى عليها الزمان أثوابا وأثوابا من الأيام.
ولكن ماذا أفعل وقد زل القلم كما يزل اللسان؟ وأصبحت الآن ولا بد لي أن أذكرها. وعلى أية حال فإنها حكاية صغيرة مرت بالجميع في هذه السن الباكرة التي كان عليها الشيخ.
عفا الله عنه الشيخ عبد التواب فلولاه ما سقط الشيخ سلطان، وقد كانا يومذاك مجاورين بالأزهر الشريف، وكانا قد تعودا أن يخرجا معا بعد الدرس فيرودا الشوارع في تؤدة ووقار، فهما ينقلان الخطوات بطيئة متعاظمة وكأنما أثقلهما العلم أن يطلقا لأقدامهما الحرية، وينفلتا إلى انطلاقة الشباب وبحبوحة الدماء الفائرة في عروقهما، وقد ضاقت بالوقار وبالجبة وبالعمامة جميعا. وكانت النزهة عندهما غاية النزهة أن يتنقلا بين مسجد الحسين والسيدة زينب والإمام الشافعي، أما الذهاب إلى الهرم فهو مغامرة يدبران لها التدابير، ويعدان العتاد، ويحكمان الخطط.
ناپیژندل شوی مخ
وكان الحديث بينهما تعليقا على الدروس والهوامش وآراء الأساتذة واختلاف العلماء. وكان غاية ما يذهبان إليه في أحاديثهما من جرأة أن يذكرا اختلاف مشايخ الأزهر وكره بعضهم لبعض - وكان المشايخ يهيئون لهم من هذا الحديث مادة لا تنفد - فقد كان جميعهم مختلفا مع جميعهم، وكان جميعهم لا يكتم غيظه وكرهه لجميعهم.
قد كان هذا، ولكن في ذلك اليوم المشهود من تاريخ الشيخ سلطان بدأ الشيخ عبد التواب حديثه بعد الدرس بداية لم تكن في أولها غريبة على الشيخ سلطان، إلا أنها أدت في آخر اليوم إلى قطعة من تاريخ الشيخ سلطان يجدها أحيانا قطعة جميلة فيها جرأة وفيها شباب وفيها حلاوة، ويجدها أحيانا أخرى قطعة شوهاء فيها معصية وفيها كفر وفيها مروق.
قال الشيخ عبد التواب: نصلي اليوم في جامع عمرو بن العاص. - لا بأس، ولكن لماذا اخترت عمرو بن العاص وقد كنا به منذ أيام قلائل؟ - عرفت عنه معلومات ما كانت لتخطر لي على بال. - وماذا عرفت؟ - ألا تحب أن تنتظر فتجمع إلى متعة المغامرة متعة المفاجأة؟
وداعبت صدر الشيخ سلطان عوامل اختلفت بين الخوف والرغبة والإقدام والإحجام: وهل هناك مغامرة؟ - سوف ترى.
وانتقل الشيخ عبد التواب إلى حديث آخر؛ فقد كان يخشى أن يتضح من نيته أكثر مما ظهر، وكان يخشى أن يثنيه الشيخ سلطان عما عزم عليه أمره. وبلغ الشيخان المسجد وأقاما الصلاة، حتى إذا أتماها قال الشيخ سلطان: ألا نقوم فنصلي المغرب في الحسين، ثم نذهب إلى البيت لنذاكر؟ - ألا نصلي السنة؟ - نصليها.
وصليا السنة، ثم أراد الشيخ سلطان أن ينصرف، فظل الشيخ عبد التواب يغريه بصلوات أخرى، حتى إذا انتهى ما يعرفه من أنواع الصلاة صارح الشيخ سلطان برغبته في أن يصليا المغرب حيث هما. وفهم الشيخ سلطان أن المغامرة تكمن لهما بعد المغرب، فتظاهر بالغفلة ومكث. وحلت صلاة المغرب وصلياها أيضا، وتظاهر الشيخ سلطان بالغفلة مرة أخرى، ومكث حيث هو ليرى المفاجأة التي أعدها له الشيخ عبد التواب. ولم يطل به الانتظار؛ إذ ما لبثت سيدة ملفوفة في ملاءة أن وقفت بباب المسجد وأخذت تجيل عينيها في أنحائه، حتى إذا اطمأنت إلى قلة من به خلعت حذاءها ودخلت. وما إن اقتربت من عمودين في وسط المسجد حتى خلعت ملاءتها، وحينئذ لكز الشيخ عبد التواب الشيخ سلطان ليرى إن لم يكن قد رأى، ولم يكن الشيخ سلطان في حاجة إلى هذه اللكزة؛ فقد كانت عينا الشيخ على الفتاة منذ لاحت بباب الجامع. ولم تعبأ المرأة بنظرات الشيخين، بل راحت تحشر جسمها بين العمودين وهي تتمتم بكلمات لم يسمع منها الشيخان شيئا. وبدت الدهشة في عيني الشيخ سلطان، وارتسمت على فم الشيخ عبد التواب ابتسامة العالم ببواطن الأمور، ولم يمهله الشيخ سلطان: ماذا تفعل؟ - تحمل.
وقفز الشيخ سلطان قفزة كادت توقعه على قدميه وهو يقول: ماذا؟! - إنهن يجئن هنا معتقدات أن المرور بين هذين العمودين يجعلهن يحملن.
ومص الشيخ سلطان شفتيه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! ... ألمثل هذا جئت بي؟! - ماذا؟! ألا يعجبك؟ ... أنقوم؟
وتخاذل صوت الشيخ سلطان وقال في استخذاء: أما كان الأولى بك أن تخبرني؟ - إننا ما زلنا على البر، أتحب أن نقوم؟ - ماذا؟! على البر! ... أتنوي أن ننزل إلى البحر؟ - ويحك! لن نمضي من هنا إلا والبحر في يدنا. - يا شيخ حرام عليك! - إن كان الحال لا يعجبك نمشي. - أتعرف كيف تجيء بالبحر؟ - لقد وصف لي الشيخ عبد الباسط امرأة معينة، وقال إنها صديقة طلبة الأزهر، وإنها ترضى بالقليل. - وما القليل؟
وهكذا نمت التجربة للشيخ سلطان، فقد جاءت المرأة وكانت كما وصفها الشيخ عبد الباسط، وكانت ليلة.
ناپیژندل شوی مخ
ثم كان صباح غادر الشيخ سلطان القاهرة والأزهر الشريف وأخذ سمته إلى قريته ميت جحيش، وما هي إلا أيام قلائل حتى كان قد عاد إلى الأزهر وقد عقد عقده على خطيبته وابنة خالته زكية التي كانت تنتظره أن يتم علومه بالأزهر، ولكنه بعد مغامرته لم يطق أن ينتظر الشهادة. وكان أبوه ميسور الحال يستطيع أن يعينه على الحياة بلا عون من الوظيفة. وتم زواجه. شرب الشيخ سلطان الخمر في هذه الليلة الخالدة؛ فقد علمه الشيخ عبد التواب أن الأنس لا يتم إلا بالكأس، ولكنه لم يعد إليها بعد ذلك أبدا، كما لم يعد إلى أمثال هذه المغامرة، وإن كان الشيخ عبد التواب قد أعجبه هذا الحال وواصل جهاده فيه.
تلك هي المغامرة الوحيدة في حياة الشيخ سلطان؛ فاحمرار عينيه إذن لا صلة له بالخمر، كما أنه ليس مرضا فما يحس فيهما بألم، إنما هو احمرار ركب فيهما بدلا من البياض.
كان الشيخ سلطان أمام المرآة ما يزال يجري على شاربه محاولات يائسة، حين طرقت الباب ابنته وهيبة، فتنحنح الشيخ وقال في تؤدة: ادخل.
وبدت وهيبة على الباب فتاة في مطالع الشباب الأولى، يحرمها البيت أن تبدي من شبابها شيئا؛ فمنديل يكسو رأسها، وجلباب يوضع عليها لا أثر فيه للحلية أو الزينة. ولكن الطبيعة التي تحارب الشيخ سلطان في كل الناس تحاربه في ابنته أيضا؛ فعلى خديها حمرة الشباب، وفي عينيها إشراقة تطالع الشيخ في تحد يضيق به أشد الضيق، فلو يملك لقال لفتاته احجبي نور الشباب أن يسطع من محياك، ولو يملك لألقى على وجهها غلالة أو حجابا كثيفا، ولكن لا سبيل له أن يفعل. كل ما استطاعه الشيخ هو أن يأمر بها ألا تذهب إلى المدرسة، فمكثت مع أمها تدبر شئون البيت أو تتعلم تدبيرها.
وقالت وهيبة: الفطار جاهز يا آبا. - ألبس عباس؟ - لا أدري؛ فقد رأيته منذ الصباح مشغولا براديو يحاول إصلاحه. - عظيم! ... نفتحها ورشة إذن لراديوهات أصحاب سي عباس. - سأناديه حالا.
وخرج الشيخ إلى البهو وقد أعدت به المائدة، وصاح: يا عباس!
وجاءه الرد قبل أن يتم النداء: نعم يا أبي.
ومع الإجابة خرج عباس من غرفته مرتديا ملابسه وقد بدا عليه العجل في ارتدائها، وسأل الشيخ ابنه في حزم: أصليت؟!
وقال الابن وقد بدا وكأنه أعد الإجابة: نعم. - فهيا كل لتذهب إلى المدرسة.
وجلس عباس إلى أبيه في أدب صامتا، ومد يده إلى رغيف واقتطع منه لقمة وهم بإلقائها إلى فمه، ولكن أباه يعاجله: ابدأ باسم الله ... بسم الله الرحمن الرحيم.
ناپیژندل شوی مخ
وقال عباس في استخذاء: بسم الله الرحمن الرحيم.
ثم راح يأكل وقد بدا عليه حرج من نظرة أبيه التي ظلت عالقة به، وما إن أحس أن أباه انصرف عنه بالطعام حتى عاد إلى سجيته وراح يأكل في بعض هدوء.
وما إن أتم الاثنان إفطارهما حتى قام الشيخ وغسل يديه وتبعه ابنه، ثم نزل عباس يتبع أباه حتى بلغ باب البيت الخارجي، فالتفت الشيخ سلطان إلى ابنه وقال: مع السلامة، واحذر الطريق.
وافترق الشيخ عن ابنه، وما إن نظر عباس إلى ظهر أبيه وهو يولي عنه حتى عاد إلى كامل طبيعته الشابة المتوثبة ... ومضى إلى طريقه.
وما إن بلغ نهاية شارع الملك الناصر حتى التفت وراءه فوجد أباه في النهاية الأخرى من الشارع يكاد يصل إلى شارع خيرت، فعبر هو شارع نوبار ووقف على الطوار، وألقى نظرة أخرى إلى ظهر أبيه المتباعد وهدأ طائره، ومضى يسعى في شارع نوبار تاركا المدرسة إلى شارع المبتديان، وأمام منزل هناك وقف وظل رانيا.
الفصل الثاني
ذلك منزل مرقص أفندي عبد الملك الموظف بحسابات وزارة المالية، وهو صديق أثير للشيخ سلطان، كثيرا ما قضيا الليالي بقهوة السيدة يلعبان النرد ويجيلان بينهما الأحاديث. جمع بينهما المسكن المتقارب والأصدقاء المشتركون. وكان أطفال المنزلين يلعبون في مكان واحد، فكانت إيفون بنت مرقص أفندي تلعب مع عباس ابن الشيخ سلطان، وكان ملعبهما في شارع الملك الناصر حيث السيارات قليلة المرور.
جمعهما ذلك الملعب سنوات طوالا من العمر، وشب بينهما ذلك الهوى الطفل الذي يخفق مع خفق الطفولة الندي البريء. وأمسكت إيفون مرقص بفانوس رمضان ومشت به مع عباس وصحبه يصيحون إياحا الخالدة، وأمسك هو سعف النخل في أحد السعف، ولعبت إيفون الكرة، وقفر عباس الحبل، وعرفا الحب يومذاك. عرفاه حبا عفيفا جائحا، فإن غاب صعدت إلى منزله تستدعيه، وإن غابت صعد إلى منزلها يستدعيها، لا يجدان من ذلك حرجا، ولا من كلا البيتين أي عجب.
وتمر الأيام قاسية كشأنها حين تمر، فإذا بإيفون شابة وإذا بعباس فتى، وإذا البيت يحبس إيفون عن الملعب وعن عباس جميعا، وإذا بعباس إن طاف حول بيتها رمقته عيون غير راضية يحس فيها الاستنكار، وينصرف خجلا يتلفت وراءه في حسرة وألم.
ولكن هذا لم يمنعه أن يجد لنفسه مرقبا أمام بيتها يستطيع منه أن يراها وهي تسعى إلى المدرسة في العربة، ولم يمنعها أيضا أن تراه في مرقبه هذا. وحينئذ كانت تعلم أن الشوق قد بلغ أقصاه، فتحتال على أمها أن تسمح لها بزيارة وهيبة، وهكذا كانا يلتقيان، ولكن أي لقاء؟ ...
ناپیژندل شوی مخ
كان مرقص أفندي قد اتفق مع الأسطى جبر أن يأتي لابنته كل صباح ليذهب بها إلى المدرسة ويعود بها منها مقابل مائة قرش في كل شهر. وكان الأسطى جبر صادقا في مواعيده، وقد كان صدق مواعيده هذا هو الجحيم الذي يصلاه عباس.
فما استطاع يوما أن يختلس كلمة من إيفون، وما استطاع يوما أن يقترب منها، وكيف له بهذا والأسطى جبر بمشهد؟ وأما البيت فأهول من الأسطى جبر وأشد نكاية.
إن أمه لن تسمح مطلقا بجلوسه مع إيفون، بل إن أخته وهيبة أيضا لن تسمح. بحسبه أن يدخل إلى الحجرة مصطنعا أنه لا يدري أن أحدا غير أخته بها، أن يصطنع سؤالا عند وهيبة، وما هي إلا ريثما تلتقي العيون بومضة من نجوى، أو تلتقي الأيدي بلمسة من شوق عارم، حتى تفترق الأعين وتنفصم الأيدي ... ثم تمر الأيام ثقالا بطيئات حتى يذهب مرة أخرى إلى مرقبه، أو تأتي هي بلا دعوة من وقفته الصامتة على الطوار الآخر من منزلها.
ولم يكن يستطيع أن يذهب في كل يوم؛ فسكان المنازل المجاورة يعرفونه ويعرفونها، وهم يعرفون ألا عمل له بهذا الشارع، فإذا تعودوا رؤيته فلن تلبث الألسنة أن تتحرك، وما يلبث أبوه أن يمده وينهال عليه بعصاه التي لم يعفه منها أنه أصبح على أبواب الجامعة.
ولكن رجلا بعينه العجوز استطاع أن يراه وأن يتعود رؤيته أكثر من مرة في كل أسبوع. إنه رجل تعود أن يرى ويحسن الرؤية، وتعود أن يلاحظ ويحسن الملاحظة. وعلمته الأيام أن هذه الوقفة لا بد تخفي من ورائها شيئا. ولم يطل به التفكير فيما تخفيه؛ فما كان أيسر أن ينظر وراءه بعد أن يسعى بتلميذته إلى المدرسة، حتى يرى الواقف قد تحرك وعيناه ملتصقتان بظهر العربة لا تريمان عنها.
تحرى الأسطى جبر أن يأتي مبكرا عن موعد نزول إيفون، وكرر ذلك أياما متتالية حتى كان اليوم. ولم يضع الأسطى جبر وقتا؛ فقد أوقف العربة أمام منزل مرقص أفندي وقصد مسرعا إلى عباس في وقفته. وذهل عباس وأوشك أن يولي الفرار، ولكن رجليه لم تسعفاه، وما أسرع ما جابهه الأسطى جبر: ماذا تفعل هنا يا أفندي؟! - و... و... وأنت ما لك؟! - عجيبة! ... أنا ما لي؟! أأخبر أباها ليودي بك في داهية؟! - أنا ... أنا ماذا فعلت؟!
وابتسم الأسطى جبر وقال في حنان: أتعرفك هي؟
ودهش عباس من هذه اللهجة الناعمة، وسارع يقول وكأنما خشي عليها عاديا يمس سمعتها: لا ... لا ... أبدا.
وقال الأسطى جبر في ابتسامة: خسارة. - ما الخسارة؟ - لو كانت تعرفك لتغير الوضع. - كيف؟! - لو كانت تعرفك ... يعني لو كانت ... لو ... - هيه ... ماذا يحصل لو كانت تعرفني؟ - كنت جعلتك تركب معها. - ماذا؟! ... ماذا تقول؟! - ولكنها لا تعرفك.
وصمت عباس مستخزيا أن يبين عن كذبه، ولكن الأسطى جبر العجوز ذو دربة ومراس: يا بني قل الصراحة لعمك جبر.
ناپیژندل شوی مخ
واستجمع عباس شجاعته وقال: الصراحة يا عم جبر ... الصراحة. - فهي تعرفك إذن، كم تدفع لتركب معها كل يوم؟
وعاد الموقف إلى حرجه، بل لعله عاد إلى موقف أشد حرجا وضنكا. ماذا يدفع؟ وكيف يدفع؟ إن كل ما يملكه قرش واحد لا يملك في اليوم غيره. وقال عباس: أدفع ... أدفع ... ماذا أدفع؟ - فلوس، فلوس طبعا، أتريد أن تركب مجانا؟! - ولكن يا عم جبر أنا تلميذ. - وأنا عربجي. - ولكن من أين أجيء لك بالفلوس؟ - هذا يا حبيبي ليس عملي، يكفي أنني سأجعلك تركب معها، أما من أين تجيء بالفلوس فهذا عملك أنت. - كم تريد؟ - خمسة قروش. - في المرة! - طبعا، أم تظن في الشهر؟ - أمري لله يا عم جبر. - موافق؟ - لا أستطيع. من أين آتي بخمسة قروش؟ يكفيني النظر. - كم تستطيع أن تدفع؟ - أبي يعطيني قرش صاغ في اليوم. - قرش صاغ واحد؟! - واحد. - النظر كثير عليك. أتأخذ قرش صاغ واحدا وتريد أن تحب وتنظر؟! - وماذا أعمل؟ - اسمع! الطيبات لله، ادفع لي قرشين في المرة. - ليكن. - اذهب إلى العربة واركب، واحذر أن يراك أحد.
وحين همت إيفون بالركوب ارتدت في جزع، فما استطاعت الابتسامة الخبيثة المرسومة على وجه عم جبر أن تمهد عندها عن المفاجأة التي تخفيها لها العربة. وهمس عباس: اركبي، لا تخافي.
وعادت إيفون لترى عباس، ثم ألقت نظرة إلى عم جبر، ثم نظرت إلى أعلى لترى إن كان أحد من أهل بيتها بالشباك، ثم ركبت واجفة وهمست: كيف فعلت هذا؟!
وتحركت العربة، وقال عباس: اتفقت مع عم جبر. وبعد يا إيفون؟ - وبعد فيم؟ - كيف أستطيع أن أراك؟ - كيف أدري؟ لقد استطعت أن تركب العربة، يبدو أنك أنت الذي تستطيع أن تجد الحل دائما. - أهذا لقاء؟! إنها دقائق أختلسها اختلاسا؛ فأنا لا بد لي أن أذهب إلى المدرسة، كما أنني لا أستطيع أن أذهب معك إلى مدرستك أو قريبا منها؛ فقد تراني زميلاتك. كيف نلتقي؟ أنت لا تعرفين كم أشتاق إليك! - اكتب لي. - وماذا تنفع الكتابة؟ - وماذا نصنع. - اسمعي، إنني أستطيع أن أخرج بعد صلاة العشاء؛ فإن أبي لا يخرج من حجرته بعد صلاة العشاء. أتستطيعين أن تخرجي أنت أيضا؟ - أخرج؟! أخرج إلى أين؟
وقال عباس مفكرا: إلى أين؟ إلى أين؟ - أتريدني أن أخرج من البيت؟
وحينئذ وقف عم جبر بالعربة وهو يقول: تفضل يا أستاذ، سندخل إلى شارع المدرسة.
وقال عباس: فكري وسألقاك بعد غد.
وقال الأسطى جبر: وأحضر معك ثلاثة قروش؛ فأنت اليوم لم تدفع إلا قرشا واحدا.
وأطرقت إيفون وهي تقول: لا أدري ماذا نفعل.
ناپیژندل شوی مخ
وقال عباس فجأة: أليس لديك صورة؟ أريد منك صورة.
وقال الأسطى جبر: ميعاد المدرسة يا أفندي!
وقالت إيفون: ليس معي الآن صورة. أحضرها لك في المرة القادمة.
ويقول عباس هامسا: فأعطيني الآن أي شيء منك، أريد تذكارا.
وعاد الأسطى جبر يقول في ضيق: ميعاد المدرسة يا إخواننا!
وأخرجت إيفون من جيبها منديلا وأعطته مسرعة إلى عباس، فاختطفه في لهفة وقبله ووضعه في جيبه الداخلي ، ثم نظر إليها: فكري في طريقة، أي طريقة. لا يهمك أن أتعب أو أخاطر بحياتي؛ فإني أريد أن ألقاك.
وصاح الأسطى جبر: المدرسة يا أفندي!
ونزل عباس من العربة وهو يقول: بعد باكر ...
وهمست إيفون والعربة تتحرك بها: مع السلامة.
وسمع عباس الهمسة، وظل واقفا يرقب العربة حتى أخفاها عنه الشارع الذي حادت به، ثم أخذ سمته إلى المدرسة يعدو إليها في نشوة عارمة لا ينسى أن يضع يده على الجيب الذي يحوي المنديل ويحتضنه إلى صدره كأنه بعض من صدره.
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الثالث
كانت وهيبة لا تدري ماذا تفعل بحياتها وبأيامها الطويلة إن لم يكن الله قد من عليها بزيارات إيفون القليلة وبزيارات ابنة خالتها الكثيرة؛ فما كان لها من الصديقات غير هاتين. وكان هناك الراديو أيضا، ولكنه كان ممنوعا عنها منذ يحل أبوها بالبيت؛ فما كان يرضى أن يسمع منه غير القرآن، وإن تسامح فالأحاديث، أما أن يسمع الغناء والتمثيليات وشتى أنواع الإذاعات الأخرى فذلك هو المستحيل؛ ولذلك كانت وهيبة ترجو صديقتيها دائما ألا تكون زيارتهما في وجود أبيها بالبيت؛ حتى يتاح لها أن تلتذ بالمتعتين معا؛ من الراديو والزيارة. ولو أن زيارة ليلى لوهيبة لم تكن زيارة خالصة المتعة؛ فقد كانت ليلى دائمة اللوم لوهيبة أنها لا ترعى شئون أخيها عباس، وأنها وأمها تبذلان كل جهدهما لإرضاء الشيخ سلطان، بينما لا ينظران في أهم شئون عباس، فزر ملابسه المقطوع هو من يخيطه، وطعامه بارد لا تهتم واحدة منهما بتجهيزه، وملابسه همل لا تهتم واحدة منهما بإحصائها وتنظيفها. وكانت وهيبة تجيبها أنها بحسبها ما تقوم به من شئون أبيها وشئون المنزل، ولكن ليلى كانت ترى من عباس الألم المرير مما يعامل به في البيت.
وطالما شكا لليلى على مسمع من أخته أن أباه وحده هو من يحظى بالخدمة والعناية، ويا طالما قال لها إنه يعرف أن أباها لا شك هو صاحب الحياة في البيت، وأن أي عناية تبذل لإرضائه هي بذل في المكان الجدير به، ولكن عباس يطمع أن يجد عند أخته شيئا ولو هينا من بعض رعاية. وكانت ليلى تلوم وهيبة، ولكن لم تكن وهيبة لتنيل ليلى أذنا مصغية؛ فقد كانت ترى أباها في البيت هو البيت، وكل ما تحويه جدران البيت إنما وجد وصنع لا لشيء إلا ليخدم أباها ويهيئ له الراحة والدعة. وكانت ترى أن كل شيء يضمه هذا البيت إنما هو قطعة من آلة لا يبعث الروح فيها أو يمدها بالحياة إلا أوامر أبيها، فإن قال يمينا فيمين، أو قال شمالا فشمال. هي في البيت لا في المدرسة؛ لأن أباها يريدها في البيت لا في المدرسة، وهي تقوم بالأعباء المنزلية؛ لأن أباها يريد أن تقوم بالأعمال المنزلية، وهي تصلي لأن أباها يريدها أن تصلي، وتصوم لأن أباها يقتلها إن أفطرت. ولقد تخفي عن أبيها إفطارها في الأيام التي أمر الله بها أن تفطر فيها، والتي لا يجوز لها فيها صيام. وكان يخيل إليها أن أباها لو شاء فقال لها صومي في هذه الأيام لصامت، ولأحست أن صيامها هذه الأيام شأنه شأن صيامها لأيام الشهر الأخرى، لا فارق بين الصيامين، فكلاهما لأبيها.
فيم إذن تلح عليها ليلى أن ترعى شأن أخيها؟! ألا تدري ليلى ما هم في هذا البيت؟ ولكن وهيبة مع ذلك كانت تحب أن تزورها ليلى، وتحب هذه الجلسة التي تجمع ثلاثتهم، بل وتحب أيضا مجيء لطفي عجلا دائما يطلب إلى أخته أن تقوم، ثم يهددها ألا يأتي معها إذا هي لم تقم. وكانت وهيبة تضحك من هذا النقاش الذي لا بد أن يدور بين ابني خالتها كلما زاراها وتسعد به.
وقد كانت خالة وهيبة الست حميدة زوجة لمدرس إلزامي تزوجها في القرية ميت جحيش، ثم شاءت له ظروف سعيدة صاحبها سعي منه حثيث أن ينقل إلى الديوان العام بالوزارة، فقدم مع زوجته إلى القاهرة واصطحب معه عادات الريف لم يتركها، إلا أن القاهرة ما لبثت أن طغت عليه بعض الشيء؛ فلم يخرج ابنته ليلى من المدرسة كما فعل عديله الشيخ سلطان. وهكذا بقيت ليلى تلميذة تواصل تعليمها في المرحلة الثانوية، وتجد في هذه الصفة مثارا لزهوها، فهي مقبلة على التعليم إقبال محب راغب، يقف أبوها رضوان أفندي من ورائها فرحا بها فخورا، يجد من إقبالها على التعليم وسيلة يلهب بها ابنه الوحيد لطفي أن يقبل هو أيضا على المذاكرة إقبال أخته، إلا أن لطفي لم تكن تغريه هذه الحيلة؛ فقد كان يجد في كرة أصدقائه بحارة البابلي إغراء أشد، ولكنه مع ذلك كان يسير في دراسته في غير تعثر، وإن كان في غير نشاط؛ فما كان من المتأخرين وما كان من المتقدمين، وكان على كل حال من المنقولين في آخر العام. وما كان له في النجاح حيلة؛ فقد تعود أبوه أن ينقطع لمذاكرته قبيل الامتحان فلا يخرج من البيت، بل يظل ملازما إياه، فيضطر لطفي مع هذه المراقبة الشديدة أن ينجح وأمره إلى الله.
كانت ليلى تصحب أخاها لطفي كلما شاءت أن تذهب إلى ابنة خالتها وهيبة، وكان لطفي يضيق بهذه الصحبة أشد الضيق، ولكن رضوان أفندي كان يأبى أن تخرج ابنته بعد الظهر دون أخيها، وإن كانت لم تتجاوز الرابعة عشرة ولم يتجاوز أخوها الثالثة عشرة.
أما الست حميدة فقد كانت ترى في مواصلة ليلى لدراستها عبثا لا طائل تحته ولا داعي له؛ فهي لا تراها خارجة في الصباح إلى مدرستها إلا مصت شفتيها وقالت: عشنا وشفنا بنات آخر زمن.
لا تخطئ مرة وتنساها أو تخطئ مرة وتغيرها. وكانت حجتها أن ابنة أختها مكثت منذ أعوام في البيت لا تخطو عتبته؛ فتعلمت كيف تخدم البيت وتقوم بأعبائه، في حين لا تستطيع ليلى أن تقيم وعاء على النار. وكان يلذ لرضوان أفندي أن يسمع هذا الحديث فيضحك من جهل زوجته، ويطمئن إلى ذكائه هو وسعة أفقه. أما ليلى فكانت تضيق بحديث أمها حينا، أو تقبلها وتدغدغها حينا آخر، ولكن الخوف كان يداخلها دائما أن تستطيع أمها في يوم من الأيام أن تؤثر على أبيها فيصرفها عن الدراسة كما صرف عمها الشيخ سلطان وهيبة عن المدرسة. ولا تجد لخوفها مكانا تفرغه فيه إلا المذاكرة الدائمة التي تبقي عليها زهو أبيها بها، وتمسكه بكمال تعليمها.
كانت ليلى فتاة طلقة المحيا، صحبت من أصلها الريفي براءة السمات وإشراقة النفس وبساطة التعبير؛ فشعرها ضفيرتان كبيرتان من الذهب، وعيناها صفاء ومحبة للحياة وإقبال عليها، إقبال هادئ مطمئن واثق. والألوان فيهما نقية؛ فالسواد قاتم في الحدق محوط بدائرة من صافي العسل، والبياض بياض صريح، والحديث يفيض منهما أنهما لا تخفيان من ورائهما إلا نقاء، أو تحجبان من دونهما إلا براءة وطهرا.
وكانت ليلى ناصعة البشرة بيضاء، لا يكاد يشوب لونها حمرة أو سمرة. وقد بدأت منذ قليل تنظر إلى المرآة وتضيق بهذا اللون الواحد الذي يأبى أن يتلون بحمرة عند خديها، أو بسمرة عند عينيها. وقد بدأت منذ قليل أيضا تمسك بخديها في غيظ فتترك أصابعها حيث أمسكت بعض حمرة ما يلبث لونها الأبيض أن يمتصها. ولم تكن ليلى بالنحيلة ولا هي بالسمينة، كما لم تكن بالطويلة ولا هي القصيرة، إنما هي في قوامها من هؤلاء اللواتي لا تستطيع أن ترى فيهن شيئا يدعو إلى العجب أو الإعجاب. أما أطرافها فقد كانت أكبر مما ينبغي لسنها؛ فيداها وقدماها أقرب إلى الضخامة منهما إلى الدقة التي كانت ترجوها هي، وإن كانت أصابع يديها تنتهي بأطراف دقيقة فتستطيع بذلك أن تخدع عين الرائي فيظن بها ما لا تتمتع به من أناقة.
ناپیژندل شوی مخ
هكذا كانت ليلى. لم أترك من وصفها شيئا إلا ذلك الفستان الأحمر الذي كانت تكثر من لبسه، والذي كان يدرك لطفي كلما رآها ترتديه أنها قد انتوت أن تخرج، وأنه مرغم على أن يقطع لعبه ويصحبها إلى زيارتها البغيضة. ولم يكن مخطئا في إدراكه هذا؛ فها هي ذي تفتح الشباك وقد ظهر النصف الأعلى من الفستان اللعين. وما إن يرى لطفي الشباك يفتح ويطل منه الفستان حتى يولي ظهره للبيت، وللكرة أيضا التي كانت قادمة في هذه اللحظة إلى أقدامه - وقد ظل ينتظرها منذ بدء اللعب - وتصيح: لطفي، يا لطفي .
ويسمع لطفي ولكنه يجري محاولا أن يسبق الكرة ليحقق أمنيته في الرمي بها إلى الهدف، ولكن الكرة تأبى أن تحقق ما يصبو إليه، ويعاجلها ظهير الفريق الآخر فيبعدها عن أقدام لطفي وعن آماله جميعا، فلا يملك آخر الأمر إلا أن يجيب هذا النداء المتلاحق الذي لم ينقطع طوال هذه المناورة: نعم يا ستي. الله يقطع لطفي وأيام لطفي. نعم. تفضلي انزلي، تفضلي، فما دمت لبست فستان الحصبة فهي الزيارة.
وتنزل ليلى، ويسير لطفي إلى جانبها وقد استبدلت قدمه الكرة بقطعة كبيرة من الحصى راح يركلها بقدمه، منصرفا إليها، مفكرا فيما كان خليقا أن يفعله في الملعب لو لم ترغمه أخته على أن يصحبها في هذه الزيارة. ويلتفت إليها فجأة ويسألها: أنا والله لا أعرف ما الذي يعجبك في هذه الزيارات؟ - إنه أنا والله لا أعرف ما الذي يعجبك في الكرة؟ - يا سلام! ألا تعرفين؟ ولكن لا عليك فأنت معذورة؛ لو كنت تلعبين الكرة لعرفت لذتها. - ألعب! ولماذا لا ألعب؟ - نعم هذا ما ينقصك، ألا تكفي المدرسة التي تذهبين إليها وأنت بهذا الطول؟ - رجعنا إلى الغيرة. - غيرة! من؟ أنا أغار منك؟! - طبعا. اجتهد يا أخي وأنت تصبح مثلي. - والله إن أبي جنى عليك وجعلك تفهمين أنك شيء مهم. - أنا شيء مهم طبعا. أنا الأولى. - يا بنتي الغرور ركبك وأصبح الكلام معك يحتاج إلى الصبر. - بل قل إنك تجد كلامي صحيحا ولا تعرف كيف تجيب. - لا بل أعرف، قولي لي، ماذا ستفعلين بالشهادة، إذا لا قدر الله ونلت الشهادة؟ - قل لي أنت ماذا ستفعل بها؟ - سأتوظف. - وأنا أيضا، سأتوظف. - يا عيني يا عيني، كملت. يا بنتي اعقلي. - هذا هو العقل، ثم أنت ما شأنك؟ أطال الله عمر أبي، ما دام راضيا فآراؤكم جميعا لا قيمة لها. - الله أكبر! آراؤكم هذه تقصدين بها أمك طبعا؟! - من جاء بسيرة أمي الآن؟ - أنت. - أنا؟ - والله لأقول لها إنك لا تهتمين برأيها. - عيب عليك يا لطفي لا تدخل نينا في الموضوع. - ما دامت آراؤنا كلها لا قيمة لها. - وهل قلت نينا؟ - ومن كلنا؟! قال يا جحا عد غنمك، قال واحدة قائمة والأخرى نائمة. فمن كلنا إن لم يكن أنا ونينا؟ - اسمع سأعطيك قرشا ولا تقل شيئا لنينا. - والله المسألة فيها نظر. - لأجل خاطري يا لطفي. - أنا لم أعد بشيء. - اعقل يا لطفي. - وحين أعود إليك تنزلين مباشرة؟ - آه يا لئيم، وما الضرر في أن أجلس بعض الوقت مع وهيبة، وأنت تعرف أنها لا تخرج من البيت ولا تزور أحدا ولا يزورها أحد إلا أنا وإيفون؟ - هذه هي شروطي. اقعد قليلا، انتظر خمس دقائق أخرى. كلمة من هذه أبلغ نينا مباشرة. - أمرك يا فرعون، وأنت أيضا لا تسرع بالعودة.
وانصرف لطفي وصعدت ليلى إلى وهيبة. كان عباس يسعد بجلسته إلى ليلى وكانت تسعد هي أيضا بها، وكان الحديث بينهما ينساب رخيا يحدثان وهيبة عن المدرسة وعن المدرسات وعن خلافاتهم مع الطلبة والطالبات، ووهيبة تسمع في لهفة ووجيب؛ فقد كانت تتوق أن تواصل تعليمها وإن كانت تعتبر هذه الرغبة جرما لا يجوز لأبيها أن يتعرف عليها؛ فهي تخفيها في نفسها لا تراها إلا نفسها.
وقد وجدت ليلى عباس جالسا إلى أخته، واستقبلها حين قدمت في فرح: أهلا. أين أنت؟ لم نرك من زمان. - مشغولة في المذاكرة.
وقالت وهيبة: تحتجين دائما بالمذاكرة، وأنا وحدي ولا تسألين عني.
وقالت ليلى: لو عرفت العذاب الذي ألقاه من لطفي كلما فكرت في المجيء لعذرتني.
وقال عباس في سذاجة: يا ستي لا يهمك لطفي، إذا أردت المجيء أرسلي لي سيدة وأنا أجيء إليك وأحضر معك.
وصعدت حمرة إلى وجه ليلى وأرتج عليها؛ فهي تعلم أن أباها لن يسمح أن تخرج مع عباس، وهي في نفس الوقت لا تستطيع أن تخبر عباس بهذا. فتلعثمت واختلطت في فمها بعض حروف لا تكمل لفظا أو تؤدي معنى، وفهم عباس حيرتها، وأدرك ما انزلق إليه لسانه. وسارعت وهيبة: لو قلت للطفي إننا سنعلب الكرة لجاء يجري.
واستطاع عباس بعد جهد أن يجد لسانه فقال: ماذا أخذتم في الإنجليزي؟
ناپیژندل شوی مخ
قالت ليلى: أشياء كثيرة، إلا أننا ما زلنا لا نستطيع فهم المدرسة تماما. - العجيبة أننا نتعلم الإنجليزي بسرعة، والمدرسون الإنجليز لا يتعلمون العربي أبدا. لو رأيت المستر جودمان وهو يحاول الكلام مع الفراش لما استطعت أن تمنعي نفسك من الضحك. - أما المس بنيت فلا تحاول حتى الكلام.
وتقول وهيبة وهي تحاول أن تجذب طرفا من الحديث: ماذا تفعل المس مع الخادمة في البيت؟
ويقول عباس: لا بد أنها تكلمها بالإنجليزي.
وتضحك وهيبة وليلى، وتقول ليلى: تصور لو تكلمت المس بنيت مع سيدة أم متولي.
وعادت وهيبة تحاول أن تجذب طرفا من الحديث: من أكثر مدرس تحبه يا عباس؟
ويقول عباس بلا ريث وتفكير: مدرس الرياضة.
وفزعت ليلى قائلة: أعوذ بالله! الرياضة؟
ويقول عباس: نعم. ما لها الرياضة؟
وتقول ليلى: أتعرف يا عباس أنني لولا الرياضة لأصبحت الأولى على القطر.
ويقول عباس عابثا: وهذا سبب جديد يجعلني أحب الرياضة.
ناپیژندل شوی مخ
وتقول ليلى بين الضحك والتعب: أنا لا أتصور كلمة الرياضة تأتي مرادفة للحب بحال من الأحوال.
ويقول عباس في استعلاء خفي: عقلك خيالي حالم. لو كنت تجيدين التفكير لأحببت الرياضة. ثم إن الرياضة التي نتعلمها أهم بكثير من الرياضة التي تتعلمينها.
وتقول ليلى في سرعة وكأنها تدافع عن كرامتها: الرياضة التي نتعلمها غاية في الصعوبة.
ويعود عباس إلى استعلائه وقد مازجه بعض سخرية: أتسمين هذه رياضة؟! هذه لعب عيال.
وتقول ليلى غاضبة: على كل حال أنا لا أنوي أن أتعلم لعب الرجال الذي تتعلمه؛ فأنا سأدخل القسم الأدبي.
وقال عباس في نفس اللهجة المستعلية: طبعا فأنت ما زلت خيالية، ولكنك حين تكبرين ستفضلين الرياضة. وعلى كل حال أين أنت من الاختيار؟ ما زالت أمامك فترة طويلة.
وأجابت ليلى متحدية: ولكني الأولى يا شاطر، هل استطعت أن تكون الأول في عمرك؟
ووجدت وهيبة نفسها مقصاه عن الحديث مرة أخرى، كما وجدت أخاها قد بالغ في إغاظة ليلى، فقطعت عليهما التصارع قائلة: وأنت يا ليلى أي المدرسات أحب إليك؟
ونظرت ليلى إلى وهيبة التي كانت قد نسيتها في غمرة هذا الهجوم الذي شنه عليها عباس، وهمت أن تجيب ولكن عباس سبقها: طبعا ليست مدرسة الرياضة.
وقالت ليلى: لا. أعوذ بالله. أحب مدرسة الديانة.
ناپیژندل شوی مخ
وقال عباس بسرعة وبلا وعي: أعوذ بالله!
ووجمت ليلى، ودقت وهيبة صدرها في ذعر: أعوذ بالله من الديانة يا عباس! هل جننت؟!
وتلجلج عباس قليلا، ثم قال في لعثمة: حصتها ثقيلة ...
وظلت ليلى على وجومها، وقالت وهيبة في استنكار: الديانة؟!
وقال عباس وعقدة من تردد ما تزال آخذة بلسانه: نعم الديانة، وماذا؟ كفرت! لو كنت رأيت الشيخ مدبولي الذي كان يعلمنا الديانة في السنة الأولى الابتدائية لعرفت أنني معذور.
ولاحت في عيني ليلى بوادر استفسار، ولكنها ظلت على وجومها، وقالت وهيبة في استنكار لم يفارقها: الشيخ مدبولي؟
ونظر عباس إلى ليلى التي لم تقل كلمة منذ بدأت هذا الحديث عن الديانة، ووجد علامات الجزع تمازج علامات الاستنكار على وجهها، كما وجد طلائع السؤال في عينيها أبت أن تفرج عنها شفتيها، مستأبية أن تحادث هذا الذي سمع كلمة الديانة ثم استعاذ بالله منها. ووجه عباس حديثه إليها: كان الشيخ مدبولي يمسك بأربع مساطر من حديد. أتعرفين المسطرة الحديد؟
ولم تجب ليلى، وأومأت وهيبة أن نعم. وواصل عباس حديثه: فمن لم يحفظ الآية منا راح يضربه بحد المساطر على عظام ظاهر اليد. أرأيت جبروتا كهذا؟
واستراحت ليلى قليلا حين وجدت كرهه للحصة لا للديانة. ولم تستطع وهيبة أن تقبل في نفسها هذا التفريق فقالت: ولكن لا يصح لك أن تقول أعوذ بالله، وهي تقول إنها تحب مدرسة الديانة.
وواصل عباس حديثه: كان الشيخ مدبولي هذا أقسى أستاذ شفته في حياتي؛ قلب من حجر، ويد من حديد. وكنت - وما زلت - أعجب أين الديانة في قلب هذا الرجل؟ وهل الديانة هي هذه القسوة وهذا الجبروت؟
ناپیژندل شوی مخ
وحين نقلت من المدرسة الابتدائية كان أكثر فرحتي أنني سأترك الشيخ مدبولي، ولكن حين دخلت الفصل في مدرسة الخديوي إسماعيل في الحصة الأولى من اليوم الأول للسنة الأولى، وجدت الشيخ مدبولي هو مدرس العربي والديانة معا. كان قد رقي واستقرت الترقية على رأسي أنا.
وقالت ليلى وهي تغالب الضحك: وهل ما زال الشيخ مدبولي في المدرسة؟
وقال عباس: لا.
وقالت ليلى ضاحكة: خسارة! وأين هو؟
وقال عباس: أترين ذهابه خسارة؟ ربنا يبلوك بمثله إن شاء الله.
وقالت وهيبة وقد غاظها أن أخاها يتجاهلها ويوجه حديثه إلى ليلى وحدها: ألأنه يضربك من أجل الحفظ تكرهه هذا الكره؟ إذن فأنت تكره أبي، إنه ما زال يضربك حتى الآن.
وقال عباس في سخط وتبرم: أنا؟! أنا أبي يضربني؟
وقالت وهيبة بعد أن أخرجت تهويمة طويلة: أظن علقة الشهر الفائت ما زالت آثارها على جسمك. الخيزرانة يا عم وهات.
وقال عباس متلعثما: أنا ... أنا.
وسارعت وهيبة: نعم أنت. ألم تكن أنت الذي لم تصل الفجر حاضرا، وعلم أبوك وسحب الخيزرانة و...
ناپیژندل شوی مخ
وقاطعتها ليلى وقد خفق قلبها بالعطف الشديد على عباس: وأين ذهب الشيخ مدبولي يا عباس؟
وقال عباس دون أن يلتفت إلى ليلى: طيب يا وهيبة، يا كذابة.
كان عباس يحس الطعنة غائرة في صميم كرامته، ولكن ليلى خففت ألمه وهي تسأله في براءة وكأنها لم تسمع قصة ضربه: يا أخي قل، أين ذهب الشيخ مدبولي؟
والتفت عباس إلى ليلى وكأنما يعود إليها من أعماق سحيقة: من؟ آه الشيخ مدبولي؟
وقالت ليلى: نعم الشيخ مدبولي، أين ذهب؟ - رفت، لا أرجعه الله. - رفت؟ - نعم. - لماذا؟
وتماوجت في عين عباس أضواء من بريق اللذة؛ فإنه يحب أن يخبرها لماذا رفت، ويخشى في الوقت ذاته أن يخبرها؛ يخشى ألا تقبل منه هذا الحديث، ويخشى هذه الوهيبة التي تقعد له كالعقلة في الزور، ولكنه لم شتات شجاعته آخر الأمر وقال: يبدو أنه لم يكن قاسيا قسوة كافية مع تلميذ معين بالذات.
وقالت وهيبة: ماذا؟
وقالت ليلى: لا أفهم شيئا.
وقال عباس: أتريدين أن تعرفي؟ - نعم. - على ألا تغضبي؟
وسكتت ليلى، وقالت وهيبة: قل يا عباس، قل والنبي.
ناپیژندل شوی مخ
وسكت عباس قليلا وهو يرقب هذه الحمرة التي تزحف على وجه ليلى الأبيض الناصع البياض، وحين أومأت له أن يقول قال: أنا لا شأن لي.
وقالت وهيبة: قل يا عباس، شوقتنا يا أخي!
وقال عباس في سرعة وكأنما يخشى أن تخذله شجاعته فلا يكمل جملته: لقد ضبط الشيخ وهو يقبل أحد التلاميذ.
واختلط الخجل بالوجوه المتوارية عن ضحك غرير خبيث جاهل لا يخلو من علم، واستقبل جو الغرفة كلمات من الفتاتين تحاول أن تكون جادة فيخذلها صوت من الهزل يكسر عنها حدة الجد. وتبتلع الألفاظ والابتسامة والخجل جميعا قهقهة عالية من عباس لهذه الحيرة التي أوقع فيها أخته وابنة خالته.
وقبل أن ينتهي الضحك يدخل لطفي عجلا كشأنه حين يزور. واستقبلته وهيبة: أهلا. أين أنت يا أخي؟ اقعد.
وطالعه من وهيبة هذا الترحيب، وطالعه منها أيضا وجه وضيء وابتسامة حلوة وجمال لم يلحظه قبل اليوم، ولكنه مع ذلك أصر أن يظهر تعجله وضيقه بمرافقته لأخته، فأطلق جملته التي كان أعدها منذ سمع الضحك العالي الذي سمعه على السلم أول ما سمع: عظيم يا ستي ليلى! ما دمت تضحكين فلن نقوم من هنا في ليلتنا.
واستمر عباس في ضحكه، وسكتت ليلى والخجل ما يزال يغشى وجهها.
وقالت وهيبة: يا أخي اقعد، ألا نراك إلا لتنصرف؟ اقعد. لنا زمان لم نرك.
ووجد لطفي نفسه جالسا! لماذا؟! إنه لا يدري، إلا أنه أحس شيئا جديدا في صوت وهيبة يدعوه إلى الجلوس، وقد استجاب لهذا الجديد وقعد.
وطال الكلام، وراح لطفي يستعرض مهاراته جميعا، ولكن ما أضأل الفرصة التي يتركها له عباس من الحديث؛ فهو يجتاح المجلس كله بنكاته. وإن ليلى لمستجيبة لهذا الحديث لا تبغي عنه حولا، ووهيبة جالسة إلى ليلى وعباس فاغرة فاها، فرحة بهذه العوالم الحبيبة التي حرمها منها أبوها، ولطفي تائه في هذه المشاعر المتماوجة بين إقبال ليلى على حديث عباس، وإقبال عباس على الحديث إلى ليلى، وإقبال وهيبة على المتحدث والمستمعة جميعا. تائه هو حائر ضائع في هذا الزحام من الأفكار والخلجات، لا يجد لنفسه مكانا في المزدحم الثلاثي الصغير، فما له إذن لا يهيب بأخته أن تقوم وهو من وضع لها الشروط، ويملك في يده السلاح القوي المتمكن الذي يستطيع به أن يقيمها قبل أن يكمل عباس لفظته التالية.
ناپیژندل شوی مخ