التي لا يعرف تفصيلها إلا واحدا، اقتضت الحكمة بقاءه وكونه آخرهم، ثم حصل بأسباب لا يمكننا الاطلاع على تفصيل مجموعها غيبته عن أهل هذا الوقت واستتاره بحجاب الاختفاء، خوفا على نفسه من الأعداء، أو لحصول مصلحة لا نعرفها.
فتراكمت الظلمات لذلك فزادت الحاجة واشتدت، إذ لم يسقط عنا التكليف بغيبته، وكانت الاصول التي جاء بها الشارع وحفظها الخلفاء الراشدون بعده، محفوظة عندنا بالنقل المتواتر أو غيره عنهم، وكانت غير وافية بتعريف جميع أحكام الحوادث المتجددة تفصيلا، وجب علينا أخذ أحكامها من تلك الاصول المحفوظة، واستنباطها منها بالاستدلال المعتبر، والطريق المرضي، واحتجنا إلى ذلك غاية الحاجة، لاحتياجنا إلى تعريف أحكام تلك الحوادث المتجددة، لأنا مكلفون بها، ولا طريق لنا إليه سوى ما ذكرناه، فكان ذلك هو الوجه في احتياجنا إلى معرفة كيفية الاستدلال، لتوقف معرفة النبي على معرفة الموصل إليه.
ولما كان الموصل هو الاستدلال، احتيج إلى معرفته، وكيفيته، وشرائطه، ليحصل للنفس كمالها الممكن لها، وتوقف على معرفة جميع أوامر الله معبودها، ونواهيه، بطريق العلم الثابت عندها، عن الموصل للشريعة، والحافظ لها بعده.
وقد قرر ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) في خبر معاذ، فإنه لما بعثه قاضيا إلى اليمن، قال له: «بم تحكم يا معاذ؟ فقال بكتاب الله تعالى، قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) الحمد لله الذي وفق رسول الله لاجتهاد الرأي» (1).
وأراد معاذ رد أحكام تلك القضايا الجزئية، التي لم يجدها منصوصة
(1) عوالي اللئالي للمؤلف: ج 1 ص 414 ح 83، مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 230.
مخ ۵۶