تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله مانح التوفيق، ومسهل الوصول إلى الطريق، وملهم الحق أهل التحقيق، والصلاة على أشرف الكونين وسيد الثقلين محمد المبعوث بأفصح المقال، وآله الأطهار أهل الولاية وخير آل.
وبعد فقد التمس مني بعض السادة الأجلاء، والأكابر الفضلاء والأماثل الادباء (1) أن أملي له رسالة تشتمل على ما لا بد منه، من كيفية السلوك إلى الاستدلال على التكاليف الشرعية، وأخذها على ما وظف من الاصول الدينية، على طريقة أهل البيت (عليهم السلام)، المأخوذ علومهم بطريق الوحي والإلهام، فأجبته مع قصر باعي واشتغالي (2) عن تسنم (3) قلال شواهق هذه العوالي، والجريان في ميدان بحور هذه اللئالي، لكن بسؤاله تحتمت علي الإجابة وصارت فرضا، فلعل ما نفعله يقع موافقا للإصابة، وسميتها «بكاشفة الحال عن أحوال الاستدلال» ونسأل من الكريم التوفيق والهداية إلى سواء الطريق، ورتبتها على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.
(1) في بعض النسخ الأدبار، ومع تسليمه يكون من جمع دبر، ورجل مدابر: محض من أبويه، كريم الطرفين، لسان العرب: مادة دبر، ج 4 ص 283 (دار إحياء التراث بيروت 1988 ط 1 محققة).
(2) في «م» بدل «واشتغالي» «باشتغالي»، وبقية النسخ جامعة بينهما.
(3) سنم الشيء وتسنمه: علاه. من سنام البعير والناقة: أعلى ظهرها، لسان العرب: مادة سنم، ج 6 ص 393.
مخ ۵۰
المقدمة
أما المقدمة: فالطالب لأمر لا بد وأن يكون متصورا له، إما ببعض الاعتبارات أو على سبيل الإجمال، لتتوجه بالطلب إليه نفسه، لاستحالة توجه النفس إلى نحو ما لا شعور لها به البتة في بديهة العقول.
ولا بد أن يكون عارفا بالغرض المقصود منه، لتتوفر دواعيه على تحصيله، ويجد بعزائمه في طلبه، وتخلص إرادته من عاتقه التردد بحصول الجزم الخالي عنه، فتتم الحركة ويحصل السير والسلوك بتحرك العضلات، فيوجد مطلوبه ويصل إليه.
ولا بد من معرفته أيضا بوجه حاجته إليه، فإنه أتم لخلوص داعيته في السير والسلوك إلى تحصيل ذلك المطلوب، إذ متى عرف أنه محتاج في تكميل نفسه إلى تحصيله، جد في طلبه غاية الجد حرصا على طلب الكمال المطلوب لكل عاقل، ولاشتياق النفس إلى الخلوص عن لوازم الحاجة، لأنه نفس النقص اللازم لها، فهي على الدوام حريصة على تحصيل الغنى المستلزم للكمال.
فمتى عرفت وتحققت حاجتها إلى مطلوب ما، توجهت بجميع العزائم والإرادات إلى تحصيله، وكان علمها بوجه الحاجة مستلزما لتمام الطلب وتحصيل المطلوب، فهو من مبادئ السير والسلوك.
ولما كان المقصود من وضع هذه الرسالة، هو معرفة كيفية الاستدلال على الأحكام الشرعية والمطالب الفقهية، بالأدلة الاصولية والأمارات المرضية، كان الطالب لذلك محتاجا إلى معرفة هذه الامور الثلاثة (1)،
(1) المتقدم ذكرها من كونه متصورا له، وعارفا بالغرض، ومعرفته بوجه حاجته إليه.
مخ ۵۲
ليتحقق له السير والسلوك فيه، ويجد في التحصيل، ويتوجه بكل الإرادات والعزائم ليتم له المقصود.
[معرفة كيفية الاستدلال]
فنقول: إن المطلوب هنا هو معرفة كيفية الاستدلال، وشرائطه، وما يتوقف عليه من المهمات التي لا بد من تحصيلها للمستدل، ليكون بها قادرا على الوصول إلى هذه المرتبة، وهذا القدر كاف في تصور هذا المطلوب، وصحة توجه النفس إلى تحصيله، لأن به علمت ما هو مقصدها على سبيل الإجمال.
[الغرض من الاستدلال]
وأما الغرض من ذلك فهو التوصل به إلى معرفة الأحكام الشرعية، التي هي العبادات، والمعاملات، والإيقاعات، والأحكام التي كلف الله تعالى عباده بها، وأوجب عليهم مراعاة أحكامها.
ففي العبادات هم مكلفون بإيقاعها على الوجه المطلوب من الشارع.
وفي المعاملات هم مكلفون بالوقوف عند ضوابطها، وأخذ الأموال والتكسبات بها، على الوجه الذي قدره الشارع فيها.
وفي الإيقاعات تكليفهم بإيقاع ما يتوقف على حصولها منهم، من الأحكام التي أمرهم الشارع بفعلها عندها.
وفي الأحكام الواجب عليهم الأخذ بمقتضاها، والقيام على غيرهم ممن لا يقبلها، ليحصل لهم بذلك تمام السعادة الاخروية، والبهجة السرمدية، بالقيام بهذه الأوامر الإلهية المتوقف على معرفتها، المتوقف على معرفة كيفية التوصل إليها، ولا موصل سوى الاستدلال الذي هو الموصل إلى جميع المطالب، إذ ما سواه من التقليد لا يسمى معرفة ولا علما بالإجماع، مع أن المكلف به هو العلم بالإجماع.
مخ ۵۳
فلا بد من معرفة كيفية ذلك الاستدلال وضوابطه وشرائطه.
[الحاجة إلى الاستدلال]
وأما وجه الحاجة إليه، فقد عرفت وجوب التكليف في الحكمة في علم الكلام، وأن الحق سبحانه لا بد في حكمته وعنايته بخلقة، أن يؤدبهم بالأوامر والنواهي التي يعلم أن بها صلاحهم، في امور المعاش والمعاد، ليتم لهم به السعادة، ويحصل لهم الكمال الموجب للزلفى، والقرب من معبودهم ومالكهم.
ولما كان تعالى وتقدس في غاية التجرد، وكانوا في غاية التعلق، حصل بينهما بون كثير، به تحققت المباينة الكلية بين حال المفيد والمستفيد، فاستحالت استفادة الكمال لهم من الذات السبحانية بغير متوسط، فاحتيج في تحصيل تلك الأوامر والنواهي، ووصولها من الحق سبحانه إلى الاشخاص البشرية إلى ذلك المتوسط، الذي له قدرة على الاستفادة من الذات السبحانية، بطهارة نفسه الملكية، وعلى الإفادة لبني نوعه، لمشاركته لهم في الإنسانية، وذلك هو النبي (صلى الله عليه وآله).
فلا بد في الحكمة من إيجاده وبعثته بالأوامر والنواهي إلى الخلق، ليصلوا إلى الكمال بواسطة تعليمه.
ولا بد من نصب ما يدل على معرفته، وتمييزه عن بني نوعه بالآيات القاهرة والدلالات الظاهرة، ليتم به كمال معرفته، ويقبل القلوب بالانقياد إلى أوامره ونواهيه، وكل هذا تقدر في علم الكلام (1).
(1) وللوقوف على حقيقة الأمر راجع المصنفات في هذا المجال، كتجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي ص 215- 217، بتحقيق محمد جواد الجلالي، وشرحه المسمى بكشف المراد للعلامة الحلي ص 354- 360 تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، والتحفة الكلامية للمؤلف: ص 18 (مخطوط)، وزاد المسافرين في اصول الدين للمؤلف أيضا: ص 45. بتحقيقنا.
مخ ۵۴
ولما كان النبي المبلغ للتكليف، لا يجب بقاءه ببقاء المكلفين، وجب في الحكمة نصب قائم بعده، حافظ لاصول ذلك التكليف، قادر على معرفة استخراج جميع تفاريعه ودقائقه، مستجمع لجميع خصال ذلك النبي، ليتم به الغرض المقصود من تحصيل كمال الخالق، وذلك هو الإمام كما هو مقرر في موضعه (1).
ولما كان النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام، ليس في وسعهما القدرة على توصيل تلك الأوامر والنواهي إلى أفراد نوع الإنسان، لكثرتهم وانتشارهم في البلاد المتباعدة عن بلد النبي والإمام، احتيج إلى الاستعانة لهم على ذلك بنصب النواب في البلدان، لتعليم الأحكام والقيام عليهم بها.
فلا بد من وجود نواب لهم كمالية مأخوذة عن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام، وقوة الاستعداد على إفادة الغير، بطهارة أنفسهم المتكاملة بكمالهم الممكن لهم، وتلك النواب ليس في وسعهم الرجوع- في الأحكام الجزئية والحوادث المتجددة في الأزمان المتعددة- إلى النبي أو الإمام، لبعد المسافة، واحتياج المكلفين في ذلك الوقت إلى تعريف أحكامها، فلا بد أن يكون لهم قدرة على استنباط أحكام تلك المتجددات، والحوادث اليومية، من الاصول المحفوظة لهم عن النبي والإمام، وذلك هو الاستدلال والاجتهاد الذي لا بد منه في جميع أزمان التكليف، فكان وجودهم من ضروريات الدين.
ولما اقتضت العناية الأزلية وجود نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، وبقاء شريعته ببقاء التكليف، وقام بعده خلفاء حفظوا عنه ما اوحي إليه، مما يحتاج الخلق في كمالهم إلى معرفته.
ثم اندراج اولئك الخلفاء على ما اقتضته العناية الإلهية، من المصالح
(1) تجريد الاعتقاد ص 221. وراجع الهامش أيضا للوقوف على الدليل، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 366. التحفة الكلامية للمؤلف: ص 19 (مخطوط)، زاد المسافرين في اصول الدين: ص 51. طبع مؤسسة ام القرى لإحياء التراث- بيروت.
مخ ۵۵
التي لا يعرف تفصيلها إلا واحدا، اقتضت الحكمة بقاءه وكونه آخرهم، ثم حصل بأسباب لا يمكننا الاطلاع على تفصيل مجموعها غيبته عن أهل هذا الوقت واستتاره بحجاب الاختفاء، خوفا على نفسه من الأعداء، أو لحصول مصلحة لا نعرفها.
فتراكمت الظلمات لذلك فزادت الحاجة واشتدت، إذ لم يسقط عنا التكليف بغيبته، وكانت الاصول التي جاء بها الشارع وحفظها الخلفاء الراشدون بعده، محفوظة عندنا بالنقل المتواتر أو غيره عنهم، وكانت غير وافية بتعريف جميع أحكام الحوادث المتجددة تفصيلا، وجب علينا أخذ أحكامها من تلك الاصول المحفوظة، واستنباطها منها بالاستدلال المعتبر، والطريق المرضي، واحتجنا إلى ذلك غاية الحاجة، لاحتياجنا إلى تعريف أحكام تلك الحوادث المتجددة، لأنا مكلفون بها، ولا طريق لنا إليه سوى ما ذكرناه، فكان ذلك هو الوجه في احتياجنا إلى معرفة كيفية الاستدلال، لتوقف معرفة النبي على معرفة الموصل إليه.
ولما كان الموصل هو الاستدلال، احتيج إلى معرفته، وكيفيته، وشرائطه، ليحصل للنفس كمالها الممكن لها، وتوقف على معرفة جميع أوامر الله معبودها، ونواهيه، بطريق العلم الثابت عندها، عن الموصل للشريعة، والحافظ لها بعده.
وقد قرر ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) في خبر معاذ، فإنه لما بعثه قاضيا إلى اليمن، قال له: «بم تحكم يا معاذ؟ فقال بكتاب الله تعالى، قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) الحمد لله الذي وفق رسول الله لاجتهاد الرأي» (1).
وأراد معاذ رد أحكام تلك القضايا الجزئية، التي لم يجدها منصوصة
(1) عوالي اللئالي للمؤلف: ج 1 ص 414 ح 83، مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 230.
مخ ۵۶
في الكتاب والسنة إليهما، بطريق الاستدلال والنظر.
وكذلك قدره الإمامان محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما أفضل السلام والتحية، فيما رواه زرارة وأبو بصير عنهما (عليهما السلام)، من قولهما «إنما علينا أن نلقي اليكم الاصول، وعليكم أن تفرعوا» (1).
فأوجبا علينا التفريع على اصولهم التي أفادوناها عن الشارع، وذلك هو معنى الاستدلال، واستخراج أحكام الجزئيات المتجددة من الاصول الكلية، والضوابط المحفوظة عن الشارع.
فاذا قرع سمعك ما أفدناه في هذا الكلام، عرفت المقصود من وضع الرسالة، والمطلوب منها إجمالا، وعرفت الغرض منه، ووجه حاجتك إليه، وعدم غناك عن تحصيله، وذلك مما يوجب توفر دواعيك إلى تحصيل هذا المرام، والسعي في إدراك هذا المقصود، والله الموفق.
(1) عوالي اللئالي للمؤلف: ج 4 ص 63 ح 17، وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب صفات القاضي ح 51، 52 ج 18 ص 41، السرائر لابن ادريس الحلي: المستطرفات، ما استطرفه من جامع البزنطي ج 3 ص 575.
مخ ۵۷
الفصل الأول العلوم التي لا بد منها في الاستدلال
وهي على ما قرره العلماء في مصنفاتهم، وذكره أهل الاصول في اصولهم، وسمعناه بالمشافهة عن مشايخنا، تسعة علوم، تتنوع ثلاثة أنواع
مخ ۵۹
النوع الأول العلوم الأدبية
اللغة الصرف النحو
مخ ۶۱
أما اللغة:
فلأن الأدلة المعتبرة، أكثرها مأخوذة من الكتاب والسنة، وهما لغويان باللغة العربية، فلا بد من معرفتها، والاطلاع على معاني كلام العرب، ليعرف معاني كلام الكتاب العزيز، ومعاني كلام الرسول (صلى الله عليه وآله)، ليستدل بهما على الأحكام.
وأما الصرف:
فلاختلاف المعاني باختلاف أحوال الألفاظ، وما يعرض لها من الصفات، كالماضي، والحال، والاستقبال، والخطاب، والغيبة، والتكلم، والواحد، والتثنية، والجمع، وغير ذلك من العوارض، فلا بد من معرفتها لاختلاف المعاني باختلافها، ويلزمه اختلاف الأحكام المتعلقة بها.
وأما النحو:
فلاختلاف معاني كلام العرب باختلاف الإعراب، الذي اختص به لغتهم دون غيرها من اللغات، من الرفع، والنصب، والجر، والجزم، وما يتعلق على ذلك من اختلاف المعاني باختلاف ذلك، فلا بد من معرفته لصناعة النحو، ليعرف اختلاف تلك المعاني، ويأمن من الغلط في الاستدلال بها على الأحكام.
مخ ۶۲
النوع الثاني العلوم العقلية
المنطق الكلام الاصول
مخ ۶۳
أما المنطق:
فلأنه الآلة الحافظة للأفكار عما يقع فيها من الأغاليط، الموجبة لعدم حصول شيء من العلوم، والثقة بشيء من الأفكار، إذ لا يعرف صحيحها من فاسدها بدونه.
فالمتكلم في شيء من العلوم بدون المنطق، كالسائر على غير طريق، لا يزداد بكثرة السير إلا بعدا عن المطلوب، فلا بد منه ليأمن المستدل من الغلط في أفكاره.
وأما الكلام:
فلأنه الباحث عن معرفة المكلف، وصفاته، وأفعاله، وحقيقة الرسول، وثبوت رسالته، وصفاته، ووجه الحاجة إليه، ووجوب التكليف، والألطاف المقربة إليه، والأحكام العقلية التي هي أصل الأحكام الشرعية، فلا بد من معرفة جميع ذلك، ليكون السالك عارفا بما يسلك إليه، وبمن أوجب عليه ذلك، وبمن ينتهي إليه سلوكه، ليقع فعله موافقا.
والبحث عن ذلك في علم الكلام، ولهذا سموه باصول الدين، لتوقف العلوم الدينية عليه، لتوقفها على الرسول، والمتوقف على معرفة المرسل، وصفاته، وأفعاله.
وأما الاصول:
فلأنه الباحث عن الأدلة، وعن كيفية الاستدلال بها، وعن شرائطها، والباحث عن عوارض أحكام الكتاب والسنة، كالأمر، والنهي، والحسن والقبح، والوجوب، والندب، والإباحة، والتحريم، والكراهة، وعوارض
مخ ۶۵
الألفاظ من العموم والخصوص، والتقييد والإطلاق (1)، والإجمال والتبيين، والنص والظاهر، والمحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من العوارض والأحوال، التي لا يمكن الاطلاع عليها بدونه، فهو العلم الضابط لمآخذ الشريعة، وطرق الأحكام، فلا يمكن التوصل إلى التكاليف لأحد بدون معرفته، فهو الأصل المعتمد عليه في ذلك.
(1) هكذا في النسخ، والمناسب العكس أي الإطلاق والتقييد.
مخ ۶۶
النوع الثالث العلوم النقلية
التفسير الحديث الرجال
مخ ۶۷
أما التفسير:
فلما عرفت من أن أكثر الأحكام مأخوذة من الكتاب العزيز، وهو قد اشتمل على معاني متعددة، وبطون متكثرة، ومحامل عدة، بحث عنها أهل التفاسير. وتختلف الأحكام والتكاليف باختلاف أقاويلهم فيها، فلا بد من الاطلاع على تلك التفاسير، والمعرفة بأقوال المفسرين، والعلم بأحوال تلك المعاني، ليكون قادرا على الاستدلال، واستنباط الحكم من الآيات القرآنية، وبدونه لا يحصل ذلك.
وأما الحديث:
فلأن القرآن العزيز وإن اشتمل على كثير من الأحكام، إلا أنه غير ضابط لمجموعها، ولا لمجموع فروع الشريعة، وفي السنة النبوية والإمامية شيء كثير من الأحكام، فلا بد من الاطلاع عليها، والعلم بمآخذها، والبحث عن صفاتها وحقائقها، ليعرف تلك الفروع الدالة عليها تلك الأحاديث، ليستغني عن الاستدلال عليها، ويأخذ أحكامها منها، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وآله) لمعاذ لما بعثه قاضيا إلى اليمن: «بم تحكم يا معاذ؟ فقال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله» (1).
حكم (صلى الله عليه وآله) بأن معاذا قد لا يجد الحكم في كتاب الله، وقرر معاذ أنه يأخذه من سنته (عليه السلام)، وأقره على ذلك ولم ينكره عليه، فكان دالا على أن الحكم قد يكون في الكتاب، وقد يكون في السنة، وقد يكون فيهما، فلا بد من معرفة السنة، وهي: الأحاديث المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام).
(1) تقدم تخريجه في ص 16.
مخ ۶۹
وأما الرجال:
فلأنهم الناقلون لهذه الأحاديث على تطاول الأزمنة، خلفا عن سلف حتى وصلت إلينا، أما بطريق التواتر أو الآحاد.
فالمتواتر لا يحتاج إلى معرفة الراوي ولا البحث عنه.
وأما الآحاد فلا بد فيه من معرفة الراوي والبحث عن حقيقته، من انه معلوم العدالة، أو معلوم الفسق، أو مجهول الحال فيهما، لأن الأول مقبول الرواية إجماعا، والثاني مردود الرواية إجماعا، والثالث مختلف فيه.
فاحتاج المستدل إلى البحث عن أحوال الرجال، ومعرفتهم بأحد هذه الصفات، ولا يستقيم علم الحديث بدون علم الرجال.
مخ ۷۰
تتمة العلوم المكملة
علم المعاني العلم بالوفاق والخلاف العلم بالفقه
مخ ۷۱
هاهنا ثلاثة علوم، هي متممات ومكملات.
أولها علم المعاني:
فإنه إذا أضيف إلى العلوم الثلاثة الأدبية، كانت في غاية الكمال، لأن به يعرف كيفية الإسنادات الخبرية، وما يعرض لها من الأحوال، فهو من العلوم المكملة، وان لم تكن من جملة الشرائط، ولم أقف على قول أحد من علمائنا يجعله شرطا، إلا من الشيخ شهاب الدين أحمد بن المتوج البحراني رحمة الله عليه، فإنه في كتاب «كفاية الطالبين» (1)، جعل هذا العلم من جملة الشروط، ولم أقف على مأخذه.
الثاني العلم بالوفاق والخلاف:
الواقع بين علماء الطائفة، وهو من جملة الشرائط، ولا بد منه
(1) الشيخ شهاب الدين أحمد بن المتوج البحراني. من كبار تلاميذ فخر المحققين. ويعتبر شيخ الإمامية في وقته، وينقل أنه كان كثير المعارضة مع الشهيد محمد بن مكي، ثم رجع إلى البحرين، واشتهرت فتاواه في المشارق والمغارب. كما صرح بذلك المصنف (رحمه الله) في عوالي اللئالي. دفن في جزيرة أوال (البحرين) بالمشهد المعروف النبيه صالح.
راجع تفصيل ترجمة الشيخ ابن المتوج في لؤلؤة البحرين: ص 177 برقم 71، بتحقيق محمد صادق بحر العلوم.
له عدة كتب قيمة في أبوابها منها منهاج الهداية في تفسير آيات الأحكام الخمسمائة، في تفسير آيات الأحكام وسيأتي منا الكلام عنه في عداد الكتب التي سيذكرها المصنف (رحمه الله) في تفسير آيات الأحكام.
وكتاب كفاية الطالبين فيما يجب على المكلفين من اصول الدين وفروعه، مرتب على قاعدتين، أولهما في الواجبات الكفائية وثانيهما في التكاليف السمعية وفروع الدين مقتصرا منها على المسائل المهمة والعامة البلوى في خمسة مقاصد. راجع الذريعة ج 18 ص 93.
مخ ۷۳
للمستدل، لئلا يفتي بما يخالف الإجماع فيقع في الخطأ.
الثالث العلم بالفقه:
وليس المراد العلم بفروعه التي فرعها المجتهدون، فإن الاطلاع عليها ليس بشرط بالإجماع، بل المراد الاطلاع على الاصول المضبوطة، والمسائل الأصلية ، التي وقعت في مباحث المجتهدين، وخاضوا في الاستدلال عليها، أما مع إجماعهم على حكمها أو مع اختلافهم فيه، ليعرف المستدل كيفية سلوكهم وتصرفهم في الحوادث، ويطلع بذلك على معرفة ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، الذي هو المقصود بالذات من وضع المصنفين للمصنفات.
وإنما كان هذان العلمان متممين، لأن المستدل قد يستغني عن الثاني، برد جميع المسائل إلى الاصول، واستنباطها كلها منها.
وأما الأول فلأنه ليس علما مستقلا، وانما يعلم من كثرة البحث والمطالعة في مصنفات العلماء، وقد يؤخذ بالنقل أما تواترا أو آحادا، على ما يأتي.
وبالجملة هما كالشيء الواحد، فمعرفة كل واحد منهما مستلزم (1) لمعرفة الآخر.
***
(1) في (م): يستلزمه.
مخ ۷۴
الفصل الثاني في القدر المحتاج إليه من هذه العلوم في الاستدلال على المطالب الشرعية
مخ ۷۵