حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
إلى القول إن ما نجده لدى أفلاطون ليس واحدا من مذاهب الميتافيزيقا، بل هو الميتافيزيقا الواحدة والوحيدة. ولو تذكرنا التمييز بين سقراط وأفلاطون لكان الأدق أن نقول إن سقراط الأفلاطوني هو الذي أثرت تعاليمه في الفلسفة أعظم التأثير، أما إحياء أفلاطون نفسه، خالصا من كل عنصر آخر، فهو ظاهرة أحدث بكثير. وهو يرجع في الأوساط العلمية إلى أوائل القرن السابع عشر، على حين يرجع في الفلسفة ذاتها إلى عصرنا الحاضر.
ومن المهم عند دراستنا لأفلاطون أن نتذكر دائما الدور الرئيسي الذي تلعبه عنده الرياضيات، وتلك سمة تميز أفلاطون عن سقراط، الذي تباعد اهتمامه منذ وقت مبكر عن العلوم والرياضة، ولقد عملت العصور اللاحقة، التي لم يكن لديها العمق الكافي لفهم نظريات أفلاطون، على تحويل دراساته الجادة إلى نوع من الصوفية العددية، وهو انحراف لا يمكن أن نقول لسوء الحظ إنه اختفى، وبطبيعة الحال فإن الرياضة تظل ميدانا يهتم به عالم المنطق اهتماما خاصا، وعلينا الآن أن ننتقل إلى بحث بعض المشكلات التي عالجتها المحاورات. أما القيمة الأدبية لهذه الأعمال فليس من السهل التعبير عنها، كما أنها على أية حال ليست موضوع اهتمامنا الرئيسي.
ولكن هذه المحاورات تظل تحتفظ - حتى وهي مترجمة - بقدر من الحيوية يكفي لإثبات أن الفلسفة لا يتعين أن تكون مستعصية على القراءة حتى تكون ذات أهمية.
إن اسم أفلاطون يبعث في الذهن على الفور نظرية المثل، وقد عرض سقراط هذه النظرية في عدة محاورات. ولقد ثار خلاف طويل حول مسألة ما إذا كان سقراط بدلا من أفلاطون هو مؤسس النظرية. على أننا نجد في محاورة «بارمنيدس» وهي محاورة متأخرة، ولكنها تصف منظرا كان فيه سقراط شابا، ولم يكن أفلاطون قد ولد بعد، نجد سقراط يحاول الدفاع عن نظرية المثل أمام زينون وبارمنيدس، وفي مواضع أخرى نجد سقراط يحدث أشخاصا يفترض أنهم على علم بالنظرية، ولذلك يمكن القول إن الأصول الأولى للنظرية كانت فيثاغورية. فلنتأمل إذن العرض الذي قدمه لها أفلاطون في «الجمهورية».
ولنبدأ بالسؤال: ما الفيلسوف؟ إن الكلمة حرفيا تعني محب الحكمة، ولكن ليس كل شخص حريص على المعرفة فيلسوفا، فلا بد إذن من مزيد من التحديد للتعريف بحيث يصبح الفيلسوف: هو ذلك الذي يحب رؤية الحقيقة. إن جامع الأعمال الفنية يحب الأشياء الجميلة، ولكن هذا لا يجعل منه فيلسوفا، فالفيلسوف يحب الجمال في ذاته، وعلى حين أن محب الأشياء الجميلة حالم، فإن محب الجمال ذاته يقظ، وعلى حين أن محب الفن لا يملك إلا ظنا ، فإن محب الجمال ذاته لديه معرفة، على أن المعرفة ينبغي أن يكون لها موضوع، وينبغي أن تكون معرفة بشيء موجود، وإلا لما كانت شيئا كما كان بارمنيدس خليقا بأن يقول؛ فالمعرفة ثابتة ويقينية، وهي حقيقة متحررة من الخطأ، أما الظن فمعرض للخطأ، ولكن نظرا إلى أن الظن ليس معرفة بما هو موجود، وليس في الوقت ذاته عدما، فلا بد أنه يتعلق بما هو موجود وبما هو غير موجود، كما كان هرقليطس خليقا بأن يقول.
وهكذا يعتقد سقراط أن جميع الأشياء الجزئية التي ندركها بحواسنا لها سمات متعارضة؛ فالتمثال الجزئي الجميل فيه أيضا بعض الجوانب القبيحة، والشيء الجزئي الذي هو ضخم من وجهة نظر معينة، هو أيضا صغير من وجهة نظر أخرى، وهذه كلها في الواقع موضوعات ظنية، غير أن الجمال في ذاته، والضخامة في ذاتها لا تأتيان إلينا عن طريق حواسنا؛ لأنهما أزليتان لا تتغيران، أي إنهما موضوعان للمعرفة. وهكذا استطاع سقراط عن طريق الجمع بين بارمنيدس وهرقليطس أن يضع نظريته الخاصة في «المثل» أو «الصور»، وهي شيء جديد لم يكن موجودا لدى أي من الفيلسوفين السابقين، ولنلاحظ أن كلمة «المثال» في اليونانية
Eidos
تعني «الصورة» أو «النموذج».
ولهذه النظرية جانب منطقي وجانب ميتافيزيقي؛ ففي الجانب المنطقي نجدها تميز بين الموضوعات الجزئية التي تنتمي إلى نوع ما، والألفاظ العامة التي نطلقها عليها. وهكذا فإن اللفظ العام «فرس» لا يشير إلى هذا الفرس أو ذاك، وإنما إلى أي فرس، أي إن معناه مستقل عن أي فرس بعينه، وعما يحدث لأي فرس كهذا، كما أن هذا المعنى لا وجود له في المكان والزمان، وإنما هو أزلي، أما في الجانب الميتافيزيقي، فإن النظرية تعني أن هناك في مكان ما فرسا «مثاليا» - أي الفرس بما هو كذلك - فريدا لا يتغير، وهذا هو ما يشير إليه اللفظ «فرس»، أما الأفراس الجزئية فتكون ما تكونه بقدر ما تندرج تحت الفرس «المثالي» أو تشارك فيه، أي إن المثال كامل وحقيقي، على حين أن الشيء الجزئي ناقص وظاهري فحسب .
ولكي يساعدنا سقراط على فهم نظرية المثل؛ يعرض علينا تشبيه الكهف المشهور؛ فأولئك الذين لا يعرفون الفلسفة أشبه بسجناء في كهف، مقيدين بسلاسل لا يستطيعون معها أن يتلفتوا حولهما. وخلفهما توجد نار، وأمامهما الكهف الخاوي مسدودا بجدار، وهم يرون على هذا الجدار ظلالهما الخاصة، وظلال الأشياء الموجودة بينهم وبين النار، وكأنها معروضة على شاشة، ونظرا إلى أنهم لا يرون شيئا غير الظلال، فإنهم يظنون أنها هي الأشياء الحقيقية. وفي النهاية يتمكن أحد السجناء من التحرر من أغلاله، ويتلمس طريقه نحو مدخل الكهف. وهناك يرى لأول مرة نور الشمس ساطعا فوق الأشياء المجسمة في العالم الحقيقي. ثم يعود صاحبنا إلى الكهف لينبئ رفاقه بما شاهد، ويحاول أن يقنعهم بأن ما يرونه ليس إلا انعكاسا باهتا للحقيقة، وعالما من الظلال فحسب، ولكنه بعد أن رأى نور الشمس، أصبح إبصاره مبهورا بضوئها الساطع، ويجد من الصعب عليه الآن أن يميز الظلال. ويحاول أن يكشف لهم الطريق إلى النور، ولكنه يبدو لهم الآن أكثر حمقا مما كان، ومن ثم لا تكون مهمته في إقناعهم هينة. وهكذا فإننا لو كنا بعيدين عن الفلسفة، لكان حالنا أشبه بحال هؤلاء السجناء، فنحن لا نرى إلا ظلالا، ومظاهر للأشياء، أما حين نصبح فلاسفة، فإننا نرى الأشياء الخارجية في نور العقل والحق، وهذه هي الحقيقة. هذا النور الذي يهب لنا الحقيقة والقدرة على المعرفة، يعبر عن مثال «الخير».
ناپیژندل شوی مخ