حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
وكان قد مضى على عمل الأكاديمية عشرون عاما حين شد أفلاطون عصا الترحال مرة أخرى، ففي عام 367ق.م. مات ديونيزوس الأول، حاكم سراقوزة، وخلفه ابنه ووريثه ديونيزوس الثاني، الذي كان عندئذ شابا محدود المعرفة، قليل الخبرة في الثلاثين من عمره، ولم يكن لديه من الاستعداد ما يكفي لمهمة توجيه أقدار مدينة هامة مثل سراقوزة، وكانت السلطة الحقيقية في يد ديون
Dion
زوج أخت ديونيزوس الشاب، الذي كان صديقا حميما لأفلاطون ومعجبا متحمسا به. وكان ديون هو الذي وجه الدعوة إلى أفلاطون كي يأتي إلى صاقوزة لكي يلقن ديونيزوس تعاليمه، ويجعل منه رجلا واسع المعرفة. وكان احتمال النجاح في مثل هذه المهمة ضئيلا في أحسن الظروف، ولكن أفلاطون وافق على القيام بالمحاولة؛ لأسباب من بينها دون شك صداقته لديون، ولكن من بينها أيضا أن ذلك كان تحديا لسمعته الأكاديمية؛ فها هي ذي الفرصة قد حانت لأفلاطون كيما يضع نظريته في تعليم الحكام موضع الاختبار.
وبطبيعة الحال فليس من المؤكد أن تلقي رجل الدولة دروسا في العلم يكفي في ذاته لكي يجعله أعمق تفكيرا في الشئون السياسية، ولكن أفلاطون كما هو واضح كان يؤمن بذلك، فقد كان من الضروري وجود حاكم في صقلية إذا ما أراد اليونانيون الغربيون أن يصمدوا في وجه القوة المتزايدة لقرطاجة. ولو أمكن تحويل ديونيزوس إلى حاكم من هذا النوع عن طريق بعض التدريب في الرياضيات، لكانت الفائدة التي تجنى من ذلك هائلة، أما لو أخفق العلاج فلن يكون أحد قد خسر شيئا، وفي البداية تم إحراز بعض النجاح، ولكن لم يدم ذلك طويلا، إذ لم تكن لديونيزوس القدرة العقلية على تحمل علاج تعليمي طويل الأمد، فضلا عن أنه كان في ذاته شخصية سيئة الطوية. وهكذا فإنه شعر بالغيرة من نفوذ زوج أخته في سراقوزة ، وصداقته لأفلاطون، فنفاه قسرا من البلاد، ولم يعد بقاء أفلاطون بعد ذلك يفيد في شيء، ومن ثم فقد عاد إلى أثينا الأكاديمية، وحاول بقدر ما يستطيع أن يصلح الأمور عن بعد، ولكن بلا جدوى، وفي عام 361ق.م. رحل مرة أخرى إلى سراقوزة في محاولة أخيرة لإصلاح الأوضاع. وهناك قضى ما يقرب من عام يحاول وضع بعض التدابير العملية من أجل توحيد يونانيي صقلية في وجه خطر قرطاجة، ولكن تبين في النهاية أن سوء نية الجناح المحافظ في الدولة عقبة يستحيل التغلب عليها. وهكذا قرر أفلاطون أن يرحل إلى أثينا في عام 365ق.م. بعد أن تعرضت حياته ذاتها للخطر، وفيما بعد استعاد ديون مكانته بالقوة، ولكنه أثبت - برغم تحذيرات أفلاطون - أنه حاكم بعيد عن الكياسة، وأدت تصرفاته إلى اغتياله، ومع هذا كله ظل أفلاطون يحرض أتباع ديون على مواصلة السياسة القديمة، غير أن نصيحته ذهبت أدراج الرياح، وكان المصير الأخير لصقلية هو غزوها من الخارج، كما تنبأ أفلاطون.
ولدى عودة أفلاطون في عام 360ق.م. رجع إلى التعليم والكتابة في الأكاديمية، وظل نشطا في التأليف حتى النهاية، والواقع أن أفلاطون كان، من بين جميع كتاب العصر القديم، الوحيد الذي وصلتنا مؤلفاته شبه كاملة، على أنه لا ينبغي أن ننظر إلى المحاورات - كما ذكرنا من قبل - بوصفها دراسات رسمية متخصصة في موضوعات فلسفية؛ ذلك لأن أفلاطون كان على وعي تام بالصعوبات التي تعترض بحثا من هذا النوع، بحيث لم يحاول أبدا أن يضع مذهبا فلسفيا تختتم به كل المذاهب، كما فعل عدد كبير من الفلاسفة منذ ذلك الحين. وفضلا عن ذلك فإنه ينفرد عن جميع الفلاسفة بأنه جمع بين صفتي المفكر العظيم والكاتب العظيم؛ فأعمال أفلاطون تشهد بأنه واحد من أبرز الشخصيات في الأدب العالمي، غير أن هذا الامتياز ظل للأسف شيئا استثنائيا في تاريخ الفلسفة، فكم من الكتابات الفلسفية ثقيلة، جافة، جوفاء، بل إننا نجد في حالات معينة ما يشبه التقليد الراسخ الذي يقضي بأن تكون الكتابات الفلسفية غامضة معقدة في أسلوبها حتى تكون عميقة. وهذا أمر مؤسف؛ لأنه ينفر الشخص المهتم غير المتخصص، وبطبيعة الحال فلا ينبغي أن يتصور القارئ أن المثقف الأثيني في عمر أفلاطون كان يستطيع قراءة محاوراته، وإدراك أهميتها الفلسفية لأول وهلة، ولو توقعنا ذلك لكنا كمن ينتظر من شخص غير متخصص في الرياضيات أن يأخذ كتابا في هندسة التفاضل ويستوعبه لتوه. وعلى أية حال، فإن في إمكانك أن تقرأ أفلاطون، وهذا شيء لا يمكن أن يقال عن معظم الفلاسفة.
ولقد ترك أفلاطون إلى جانب المحاورات بعض الرسائل، ومعظمها لأصدقائه في سراقوزة، ولهذه الرسائل قيمتها بوصفها وثائق تاريخية، ولكن ليست لها فيما عدا ذلك أهمية فلسفية خاصة.
وهنا ينبغي أن نقول شيئا عن دور سقراط في المحاورات؛ ذلك لأن سقراط نفسه لم يكتب أي شيء، بحيث عاشت فلسفته أساسا من خلال ما نعرفه عن طريق أفلاطون، وفي الوقت ذاته، فإن أفلاطون وضع في أعماله المتأخرة نظريات خاصة به؛ ولذلك ينبغي أن يميز المرء في المحاورات بين ما ينتمي إلى أفلاطون، وما ينتمي إلى سقراط. وهذه مهمة غير هينة، ولكنها ليست مستحيلة. ومن الأسباب التي تجعلها ممكنة أن أفلاطون قد انتقد في محاوراته التي يمكن القول، بناء على أسباب مستقلة، إنها متأخرة، بعض النظريات التي عرضها سقراط من قبل. ولقد كان من الشائع القول في وقت ما إن سقراط الذي نجده في المحاورات ما هو إلا ناطق بلسان أفلاطون، الذي عرض بهذه الوسيلة الأدبية كل الآراء التي خطرت بباله في تلك الفترة، غير أن هذا الرأي يتعارض مع الحقائق، ولم يعد اليوم سائدا.
3
إن تأثير أفلاطون في الفلسفة هو على الأرجح أعظم من تأثير أي شخص آخر؛ فأفلاطون الذي كان وريثا لسقراط والفلاسفة السابقين له، وكان مؤسس الأكاديمية ومعلم أرسطو، يحتل موقعا مركزيا في الفكر الفلسفي، ولا شك أن هذا هو الذي دعا عالم المنطق الفرنسي أ. جوبلو
E. Goblot
ناپیژندل شوی مخ