الكاتب والكتاب
تقديم
تصدير
1 - «قبل سقراط»
2 - أثينا
3 - الهلينية
4 - المسيحية المبكرة
5 - الحركة المدرسية
الكاتب والكتاب
تقديم
تصدير
1 - «قبل سقراط»
2 - أثينا
3 - الهلينية
4 - المسيحية المبكرة
5 - الحركة المدرسية
حكمة الغرب (الجزء الأول)
حكمة الغرب (الجزء الأول)
عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي
والسياسي
تأليف
برتراند رسل
ترجمة
فؤاد زكريا
الكاتب والكتاب
ليس الفيلسوف أفضل من يكتب عن تاريخ الفلسفة، مثلما أن الفنان ليس خير من يحكم على فن الآخرين؛ فللفيلسوف موقفه الخاص الذي تتلون به أحكامه على الفلسفات الأخرى، وهو في أغلب الأحيان لا ينظر إلى التاريخ السابق للفلسفة إلا على أنه مجموعة من علامات الطريق التي تشير إلى فكره هو، أو التي تتلاقى كلها في نقطة واحدة؛ هي ما يدور في رأسه من أفكار. هذا ما فعله أرسطو مع الفلاسفة السابقين، وهو أيضا ما رآه الفيلسوف الألماني الكبير «كانت» في المذاهب التي سبقته، كما أنه تمثل بأكثر الصور وضوحا وصراحة في ذلك العرض الطويل الذي قدمه هيجل، فيلسوف المثالية الأكبر، لتاريخ الفلسفة، فضلا عن عشرات الأمثلة لدى فلاسفة آخرين لهم أهميتهم، وإن لم تكن لهم تلك المكانة العليا التي كانت لهؤلاء الثلاثة.
ومع ذلك فإن كتابة الفيلسوف عن تاريخ الفلسفة تجربة فكرية شيقة، تحتشد باللمحات الذكية والملاحظات المتعمقة، والقدرة على كشف الروابط والعلاقات التي يعجز عن إدراكها الذهن العادي. وعلى هذا النحو يبدو لنا بالفعل هذا الكتاب الذي نقدمه ها هنا مترجما إلى العربية، والذي ألفه شيخ الفلاسفة المعاصرين، برتراند رسل؛ فهو رؤية شاملة للفلسفة الغربية منذ بداياتها الأولى في العصر اليوناني حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وهو يزيد كثيرا عن أن يكون عرضا منهجيا للأفكار؛ لأنه يحرص على وضع الأفكار في سياقها التاريخي والاجتماعي، وقد بلغ حرصه هذا حدا جعل رسل يعبر عن هذا المعنى بوصفه عنوانا فرعيا للكتاب بأكمله، ولقد كان هذا الحرص على الربط بين الفكر الفلسفي والإطار الذي ظهر فيه هو الذي يميز هذا الكتاب عن كتاب رسل المشهور في الموضوع نفسه، والذي كان قد ألفه قبل الكتاب الحالي، وأعني به «تاريخ الفلسفة الغربية»؛ إذ كان الكتاب الأخير، الذي تبلور خلال محاضرات ألقاها رسل في مؤسسة بارنز
Barnes
في فيلادلفيا بالولايات المتحدة فيما بين عامي 1941 و1943م، معنيا بالتاريخ الفلسفي البحت، أكثر مما كان مهتما بتقديم السياق العيني الذي تظهر فيه الأفكار الفلسفية.
وفي اعتقادي أن أهم ما تتميز به شخصية مؤلف هذا الكتاب هو أنه قد يكون الفيلسوف الوحيد الذي عاش قرنا كاملا أو كاد (1872-1970م). هذه الحقيقة الرقمية البسيطة يمكن أن تفسر لنا الكثير عن برتراند رسل، وعن تقلباته وتحولاته التي وصلت في رأي البعض إلى حد العشوائية والمزاجية، مع أنها كانت في واقع الأمر نتيجة طبيعية لتلك الحياة النادرة في طولها؛ ذلك لأن الإنسان الذي يعيش قرنا كاملا في فترة حاسمة من فترات التاريخ البشري، ويظل فيه محتفظا بوعيه وحدة ذهنه وروحه النقدية كاملة؛ لا بد أن تكون تجربته في فكره وحياته أخصب وأشد تلونا وتنوعا بكثير مما يستطيع الذهن العادي استيعابه، لقد بدأ رسل حياته في النصف الثاني من العصر الفكتوري الإنجليزي، في وقت كانت فيه الإمبراطورية البريطانية في أوج مجدها وطموحها، وكانت سيدة العالم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وانتهت حياته في وقت كانت فيه صورة العالم قد تغيرت تغيرا حاسما، وانقسم إلى معسكرين أيديولوجيين تحتل إنجلترا مكانة غير رئيسية في واحد منهما. وحين بدأت حياة رسل كان الناس لا يزالون يستخدمون الخيول في اتصالاتهم، وفي حروبهم، وحين انتهت كان العالم قد دخل عصر الذرة والعقول الإلكترونية، وقبل عام من وفاته كان الإنجليزي قد وصل إلى القمر. وحين يشهد هذه التحولات الضخمة فيلسوف ناقد حاد الذكاء، ظل محتفظا بيقظته الذهنية وحاسته العملية حتى اللحظة الأخيرة من حياته؛ فلا بد أن تكون النتيجة تجربة شديدة الخصوبة لا تكاد تتكرر في تاريخ الفكر الإنساني.
وعلى هذا النحو نستطيع أن نفسر تلك التقلبات الهائلة التي طرأت على حياة رسل وأفكاره؛ فقد كان كل شيء في حياته الأولى يؤهله لأن يكون سياسيا مرموقا يتولى مناصب تنفيذية هامة في بلاده ؛ إذ كان ينتمي إلى واحدة من أعرق الأسر البريطانية يحمل الكبار فيها لقب «إيرل»، وكان جده رئيسا للوزراء في الثلث الأول من القرن، كما كان يقصد بيته عدد من المشاهير، على رأسهم جون استورت مل، الذي كان صديقا حميما لوالديه، ولكن ربما كان الشيء الوحيد الذي تأثر به رسل من بيئته المنزلية، إلى جانب إعجابه العقلي بمل، هو تلك النزعة التحررية الجريئة، التي تكاد تقترب من الفوضوية، والتي كان يتصف بها أبوه. وقد تلقى رسل تعليما خاصا راقيا، ثم التحق بكلية ترينيتي في جامعة كيمبردج، وأحرز فيها تفوقا ملحوظا في الرياضيات وفي العلوم الإنسانية. وكان أول كتاب له، بعد أن عمل فترة في السلك الدبلوماسي في ألمانيا، عن «الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا» (عام 1896م). ومنذ ذلك الوقت المبكر اطلع رسل على الأعمال الرائدة في المنطق الرمزي عند العالم الإيطالي «بيانو
» والعالم الألماني «فريجه
Frege »، ثم ألف وهو في الثامنة والعشرين (عام 1950م) كتابا عن ليبنتس يعد من أهم ما كتب عن هذا الفيلسوف.
وقد بدأت حياة رسل الفلسفية بفترة كان فيها متأثرا بالمذهب المثالي، الذي كان مزدهرا في إنجلترا بفضل أعمال الفيلسوفين برادلي وماكتجارت، ولكن هذه الفترة لم تطل، وسرعان ما تخلى رسل عن المثالية، وعادت الفلسفة الإنجليزية كلها معه إلى التراث التجريبي المميز لها، وكان أهم عوامل تحوله هو تأثره باتجاه ج. أ. مور، أبو الواقعية الإنجليزية وعدو المثالية اللدود.
وكانت أهم المراحل الفلسفية في حياة رسل هي الفترة الواقعة بين بداية القرن العشرين وعام 1916م، التي كان اهتمامه الأكبر فيها منصبا على بحث الأسس المنطقية للرياضيات، وإلى هذه الفترة ينتمي كتابه الأكبر، الذي اشترك فيه مع «وايتهد
A. N. Whitehead »، وهو كتاب «المبادئ الرياضية
» (1910-1913م). وبفضل هذا الكتاب أصبح رسل واحدا من أبرز الشخصيات الفلسفية في القرن العشرين، بل لقد وصفه البعض بأنه أهم المناطقة منذ أرسطو.
وفي هذه الفترة نمت صداقة قوية بينه وبين لود فيج فتجنشتين
L. Wittgenstein
الذي كان في البداية تلميذا لرسل، ثم أصبح زميلا وصديقا له ، بل إن رسل قد اعترف في المقدمة التي كتبها لمؤلف فتجنشتين: «دراسة منطقية فلسفية» أن هذا الأخير رغم كونه تلميذه، قد أفاده وأثر في تفكيره بقوة. ولما كان فتجنشتين واحدا من أهم رواد الفلسفة التحليلية، ومؤسسا للوضعية المنطقية، فإن من السهل أن يدرك المرء التأثير القوي الذي مارسه رسل في هذه الاتجاهات المميزة لفلسفة القرن العشرين في العالم الأنجلوسكسوني، وفي بعض المدارس الألمانية والبولندية والإيطالية.
على أن نشوب الحرب العالمية الأولى قد حول اتجاه رسل بقوة إلى التفكير في المشكلات السياسية والاجتماعية للإنسان؛ إذ كانت هذه الحرب، بما جلبته من دمار إنساني ومادي شامل، وبما أثبتته من نزوع إلى الهدم متأصل في النفس البشرية، صدمة أليمة له، قللت من رغبته في متابعة المسائل الأكاديمية التجريدية في الوقت الذي كان يرى فيه ملايين البشر يساقون إلى المجزرة. وهكذا وقف رسل يدافع بقوة عن السلام ويهاجم الحرب في وقت كانت فيه بلاده متورطة في تلك الحرب بكل ما تملك من طاقات. وهكذا حوكم رسل على نزعته السلامية، وحكم عليه بالسجن ستة أشهر في عام 1918م.
وتوزعت اهتمامات رسل بعد الحرب الأولى بين المشاكل الفلسفية ذات الطابع الأعم، وخاصة مشكلة المعرفة، وبين المسائل الاجتماعية والأخلاقية والتربوية، وقد أبدى في هذا المجال الأخير آراء غير مألوفة أثارت عليه غضب الكثيرين من ذوي الميول المحافظة، ولكنه من جهة أخرى أعلن عداءه للبلشفية إثر زيارة قام بها للاتحاد السوفيتي بعد سنوات قليلة من ثورته الشيوعية، وقابل خلالها لينين وتروتسكي وجوركي، وعاد ليعيب على النظام الجديد شموليته وتسلطه. أما في ميدان التربية فقد تبنى رسل اتجاهات تحررية جديدة، حاول تطبيقها عمليا، فأنشأ لهذا الغرض مدرسة حرة في عام 1927م، بمساعدة زوجته (الثانية)، ثم أغلقت المدرسة بعد بضع سنوات عندما انفصل عن زوجته بالطلاق.
وفي عام 1938م انتقل رسل إلى الولايات المتحدة، حيث قام بتدريس الفلسفة في عدة جامعات في وسط أمريكا وغيرها، وعندما انتقل إلى التدريس في نيويورك هبت ضده عاصفة عاتية أثارتها آراؤه الاجتماعية والأخلاقية غير المألوفة، وشاركت فيها الصحافة والأجهزة السياسية والكنيسة، ولكنه كسب في النهاية حكما قضائيا ضد المعترضين عليه.
ولقد كان موقف رسل من الحرب العالمية الثانية مضادا لموقفه من الحرب الأولى؛ فقد كان يرى أن هذه حرب تستحق التضحية؛ لأنها موجهة ضد قوى شريرة لا إنسانية. غير أنه أعرب بعد الحرب مباشرة عن رأي لا يتمشى مع الاتجاهات التي ظل يدافع عنها طيلة حياته؛ إذ ألح على الولايات المتحدة، خلال الفترة التي كانت فيها محتكرة للسلاح الذري، أن تستخدم القنبلة الذرية ضد الاتحاد السوفياتي.
ولكن رسل سرعان ما تراجع بعد عام 1949م عن آرائه المتطرفة هذه، وأصبح منذ ذلك الحين من دعاة نزع السلاح النووي في العالم كله. وازداد اقتناعا بالموقف الجديد، حتى أصبح يشتهر عالميا بالدور الإيجابي الذي يلعبه من أجل ضمان عالم متحرر من سباق التسلح الجنوني، وعندما نشبت حرب فيتنام، لم يتردد رسل، حتى بعد أن تجاوز عمره التسعين، في أن يسير في مظاهرات، ويعقد اجتماعات شعبية حاشدة، ويؤلف لجانا عالمية للتفاهم بين الشرق والغرب، ويقيم محكمة للضمير العالمي، تحاكم مجرمي الحروب في كل مكان، وما زالت موجودة إلى يومنا هذا تحمل اسم مؤسسها العظيم، ولا أدل على إيجابيته الهائلة من أنه دخل السجن عام 1961م، وهو في التاسعة والثمانين، لمدة أسبوع بسبب نشاطه في محاربة التسلح النووي. وبموت رسل في عام 1970م، انتهى عهد أحد النماذج النادرة في تاريخ الفلسفة، وطويت صفحة قرن كامل من الكفاح الفكري والعملي الذي لا يمل.
ماذا تبقى لنا أن نقوله عن هذا الفيلسوف الكبير؟ لقد كان نمطا فريدا في ذاته؛ نشأ أرستقراطيا، ولكنه عمل الكثير من أجل الجماهير. وبدأ أكاديميا، ولكنه اندمج في نشاط عملي لا يجاريه فيه كبار الساسة المحترفين، وحارب أقوى المؤسسات القائمة في عصره، ولكنه فرض نفسه على ثقافة عصره إلى الحد الذي منح فيه جائزة نوبل للآداب عام 1950م، وهي الحالة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة لفيلسوف (باستثناء كامي
Camus
الذي كان أديبا بقدر ما كان فيلسوفا)، وتربى تربية محافظة، ولكنه تزوج أربع مرات، واستفز مشاعر الناس بآرائه في الحب والزواج ، وكتب أعظم المؤلفات المنطقية والرياضية وأشدها صعوبة وجفافا في العصر الحديث، ولكنه كان يؤلف بكل اليسر والسلاسة والأسلوب المرح والجذاب في المسائل الاجتماعية والتربوية والسياسية والأخلاقية.
لقد كان أفلاطون، أعظم الفلاسفة أجمعين، هو الذي بدأ أسطورة فيلسوف البرج العاجي، حين سخر من ذلك الفيلسوف الذي يسير في الطريق محلقا بعيونه في السماء، فيسقط في أول حفرة تصادفه على الأرض، ولو تأمل المرء في نظرة واحدة شاملة حياة رسل الخصبة وكتاباته الشديدة التنوع، لبدت له من بدايتها إلى نهايتها، محاولة جبارة لتفنيد هذه الأسطورة.
بقيت لنا كلمة عن الكتاب الذي نقدم ها هنا ترجمته؛ ففي الطبعة الإنجليزية لهذا الكتاب بذلت محاولة لتقديم عدد كبير من الصور والأشكال التي اختارها أحد زملاء رسل من أجل تقديم إيضاح ملموس لأفكاره الفلسفية. ولم يكن رسل ذاته على ثقة من أن هذه المحاولة ستنجح، ولذا أشار إليها في المقدمة على أنها تجربة أولى فحسب، وفي رأيي الخاص، الذي يرتكز على سنوات طويلة من الخبرة في تعليم الفلسفة، أن هذه المحاولة لا تستحق الجهد الذي بذل من أجلها، وأن الكتاب قادر على توصيل أفكاره دون الاستعانة بمثل هذه الرسوم الملموسة، ومن هنا فقد آثرت الاستغناء عن الجانب الأكبر منها، وحذف السطور التي أشارت إليها في مقدمة المؤلف.
ولا بد أن يضع القارئ في ذهنه أن الكتاب يحمل عنوان «حكمة الغرب»، أي إنه يتحدث عن الفلسفة أو الحكمة كما ظهرت في الحضارة الغربية. وهذه الحقيقة تفسر بعض السمات التي تميز هذا الكتاب، والتي قد يعترض عليها الكثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور.
ذلك لأن رسل يمجد الحضارة اليونانية تمجيدا مفرطا، ويرجع ظهور الفلسفة والرياضيات ومنهج الفكر المنطقي الاستدلالي إلى عبقرية الشعب اليوناني وحده. ولا شك أن المقام لا يتسع هنا لمناقشة تلك المشكلة المتشابكة؛ مشكلة العلاقة بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية السابقة لها، ولكن رسل يميل إلى الإقلال من أهمية ما تعلمه اليونانيون من الشعوب السابقة، على الرغم من أن كثيرا من الأبحاث الحديثة، المبنية على آخر ما وصل إليه علم الآثار والتاريخ القديم، تؤكد على نحو متزايد ضخامة الدين الذي كان يدين به اليونانيون للحضارات القديمة، مع عدم الإقلال بطبيعة الحال من عظمة الإنجاز اليوناني، وخاصة في الميدان النظري.
ومن ناحية أخرى، فإن موضوع الكتاب نفسه قد فرض على المؤلف ألا يعرض بأي قدر من التوسع للفكر العربي الإسلامي، فاكتفى بإشارات موجزة تخدم أغراضه في التركيز على «حكمة الغرب»، ولكن مما يحمد له أن هذه الإشارات جاءت منصفة لهذا الفكر ومقدرة للدور الذي قامت به الحضارة الإسلامية إلى حد بعيد. وربما لمس القارئ من آن لآخر قدرا من التعاطف مع الجماعات اليهودية، ولكن هذا شيء لا مفر منه في الجيل الذي ينتمي إليه رسل، والذي عانى من ويلات النازية، فكان رد الفعل الطبيعي لديه هو أن يتعاطف مع أعدائها، وعلى أية حال فإن المرء حين يقرأ ملاحظاته القليلة في هذا الصدد بتعمق يحس بأن المسألة ليست في الواقع تعاطفا مع اليهودية بقدر ما هي انتقاد لذلك الأسلوب الذي تكرر مرارا في تاريخ الغرب، وهو اضطهاد الأقليات الدينية بوصفه وسيلة لتنفيس عقد الحكام أو لإلهاء الشعوب.
وربما لاحظ المرء في بعض مواضع الكتاب اهتماما زائدا بالجوانب المنطقية والرياضية في الفلسفة، ولكن تعليل ذلك أمر ميسور إذا تذكرنا أن علاقة رسل الرئيسية بالفلسفة جاءت من جانب المنطق والرياضة، وعلى أية حال فإن هذا الاهتمام يؤدي إلى بعض الأحكام التي قد لا يوافقه عليها بعض مؤرخي الفلسفة، مثل تمجيده المفرط لأفلاطون وإقلاله من قيمة أرسطو؛ ذلك لأن رسل يبدي في هذا الكتاب انبهارا بالجوانب الرياضية في فكر أفلاطون، على حين أن أرسطو لم يكن يهتم أصلا بالرياضيات. وربما كان في هذا مثل ملموس لما قلته من قبل عن طريقة الفيلسوف في كتابة تاريخ الفلسفة، وكيف أن موقفه الخاص يتحكم أحيانا في رؤيته للفكر الفلسفي السابق. وعلى أية حال فيبدو لي أن حكمه هذا يتناقض مع ما قاله في دراسته المشهورة «التصوف والمنطق» وهي أول دراسة في الكتاب الذي يحمل هذا الاسم، حين صنف الفلاسفة إلى أصحاب ميول صوفية وأصحاب اتجاهات منطقية، وأدرج أفلاطون ضمن الفئة الأولى وأرسطو ضمن الفئة الثانية. ولكن يبدو أن رسل قد اكتشف دلالات أعمق للتفكير الرياضي في محاورات أفلاطون في الفترة التي ألف فيها كتابه هذا، والتي يفصلها عن كتاب «التصوف والمنطق» عدد كبير من السنين.
كذلك قد يختلف كثير من مؤرخي الفلسفة مع رسل في رأيه القائل إن سقراط كان صاحب نظرية المثل أو الصور، وإن محاورات أفلاطون التي كان سقراط هو المتحدث الرئيسي فيها كانت تعبر عن أفكار سقراط بالفعل، وإن أفلاطون لم يهتد إلى نفسه ويعبر عن فكره بطريقة مستقلة إلا في المحاورات الأخيرة التي لا تحتل فيها شخصية سقراط مكانة رئيسية، أو لا تظهر فيها على الإطلاق، فهذا رأي لم يدافع عنه إلا قلة من مؤرخي الفلسفة، على رأسهم «برون بيرنت
J. Burnet » الذي يبدو أن رسل كان متأثرا به في هذه المسألة إلى حد بعيد.
تلك بعض النقاط الخلافية في هذا الكتاب، الذي كان مؤلفه ذاته من أكبر الشخصيات الخلافية في هذا القرن، ولكن يظل من الصحيح مع ذلك أن كتاب رسل هذا عن تاريخ الفلسفة، بكل ما يتضمنه من لمحات ذكية وأحكام عميقة ودعابات لاذعة، هو نتاج فكري ناضج يعبر عن آخر مراحل تفكير رسل في هذا الموضوع (طبع الكتاب لأول مرة في عام 1959م، حين كان رسل في السابعة والثمانين). وإذا كان الجزء الأول يقدم عرضا للفكر اليوناني وفكر العصور الوسطى الغربية في سياقهما الحضاري والاجتماعي، فإن الجزء الثاني الذي نأمل أن تظهر ترجمته في هذه السلسلة قريبا، يكمل الصورة بعرض لأهم ملامح الفلسفات الغربية الحديثة والمعاصرة، وبذلك يكتسب القارئ العربي رؤية ناضجة شاملة لأهم معالم تلك المغامرات الفكرية الشيقة التي امتدت عبر خمسة وعشرين قرنا.
الكويت، سبتمبر 1982م
أ.د. فؤاد زكريا
تقديم
قال الشاعر الإسكندري كاليماخوس
Callimachus : «إن الكتاب الكبير شر كبير!» وإني لأميل بوجه عام إلى مشاركته في هذا الرأي. وعلى ذلك إذا كنت أجازف بتقديم هذا الكتاب إلى القارئ؛ فذلك لأن هذا الكتاب، من حيث الشر، أهون من غيره. ومع ذلك فإن كتابي هذا يستدعي تفسيرا خاصا؛ ذلك لأني كنت منذ وقت ما قد ألفت كتابا في هذا الموضوع نفسه. غير أن «حكمة الغرب» كتاب جديد كل الجدة، وإن كان من المحال بالطبع أن يكون قد ظهر لو لم يسبقه كتابي «تاريخ الفلسفة الغربية».
إن ما أحاوله ها هنا إنما هو إلقاء نظرة شاملة على الفلسفة الغربية منذ طاليس حتى فتجنشتين، مع بعض الإشارات إلى الظروف التاريخية التي حدثت فيها وقائع هذه القصة. أما عن ظهور كتاب آخر في تاريخ الفلسفة، يضاف إلى كل الكتب السابقة، فمن الممكن تبريره بعاملين؛ فمن الملاحظ أولا أن قلة من الكتب هي التي استطاعت أن تجمع بين الإيجاز وقدر معقول من الشمول. وبالطبع فإن هناك تواريخ كثيرة أوسع نطاقا، تعالج كل موضوع بإسهاب أكبر بكثير. ومن الواضح أن هذه الكتب لا يعتزم كتابنا هذا أن يدخل معها في منافسة، ولا شك في أن من يتولد لديهم اهتمام أعمق بالموضوع سيرجعون إليها في الوقت المناسب، بل ربما رجعوا إلى النصوص الأصلية. أما العامل الثاني فهو أن الاتجاه الراهن إلى الإغراق المتزايد في التخصص يؤدي بالناس إلى أن ينسوا ما يدينون به عقليا لأسلافهم. والهدف من هذه الدراسة هو تعويض هذا النسيان؛ فالفلسفة الغربية كلها هي - بمعنى حقيقي ما - الفلسفة اليونانية، وإنه لمن العبث أن نمارس التفكير الفلسفي في الوقت الذي نكون فيه قد فصمنا كل الروابط التي تربطنا بالمفكرين العظام في الماضي. لقد كان من الشائع أن يقال في وقت مضى إن على الفيلسوف أن يلم من كل شيء بطرف، ولعل هذا لم يكن بالقول الصائب، وهكذا كانت الفلسفة تعتقد أن مجال اهتمامها يضم المعرفة كلها. ولكن أيا كان الأمر فإن الرأي السائد الآن، والقائل إن الفلاسفة ليسوا بحاجة إلى معرفة أي شيء عن أي شيء، هو بالقطع رأي باطل ؛ فأولئك الذين يعتقدون أن الفلسفة بدأت «حقا» عام 1921م،
1
أو على أية حال في وقت ليس أسبق من ذلك بكثير، لا يدركون أن المشكلات الفلسفية الراهنة لم تنشأ فجأة من فراغ، ومن ثم فإننا لا نرى أنفسنا بحاجة إلى الاعتذار عن إفاضتنا نسبيا في معالجة الفلسفة اليونانية.
إن أي عرض لتاريخ الفلسفة يمكن أن يسير على إحدى طريقتين؛ فإما أن يتبع طريقة إلى السرد البحت، مبينا ما قاله هذا الفيلسوف والعوامل التي أثرت في ذاك، وإما أن يجمع بين السرد وقدر معين من الحكم النقدي؛ لكي يبين كيف تسير المناقشة الفلسفية، وقد اتبعت هنا الطريقة الثانية. على أنني أود أن أضيف أنه لا ينبغي أن يستنتج القارئ من ذلك أن من الممكن استبعاد أي مفكر بسهولة لمجرد كون آرائه قد بدت لنا ناقصة؛ فلقد قال «كانت» ذات مرة إنه لا يخشى أن يفند بقدر ما يخشى أن يساء فهمه.
ومن هنا وإن علينا أن نفهم ما يحاول الفلاسفة قوله، قبل أن نتركهم جانبا. ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن هذا الفيلسوف بدا لنا أحيانا غير متناسب مع النتائج التي توصل إليها. على أن هذا الأمر في النهاية مسألة تقديرية يتعين على كل إنسان أن يتوصل فيها إلى رأيه الخاص.
إن مجال الموضوع وطريقة معالجته قد اختلفا في هذا الكتاب عما كانا عليه في كتابي السابق؛ فالمادة الجديدة تدين بالكثير للدكتور بول فولكس
Foulkes
الذي ساعدني في كتابة النص. ولقد كان الهدف هو تقديم عرض عام لبعض المسائل الأساسية التي ناقشها الفلاسفة؛ فإذا ما أحس القارئ بأن اطلاعه على هذه الصفحات قد أغراه بالمزيد من متابعة الموضوع، فسوف يكون الهدف الرئيسي من تأليف هذا الكتاب قد تحقق.
برتراند رسل
تصدير
ما الذي يفعله الفلاسفة حين يمارسون مهمتهم؟ هذا بالفعل سؤال غريب، وربما كان في إمكاننا أن نحاول الإجابة بأن نبين أولا ما لا يفعلونه؛ ففي العالم المحيط بنا أشياء عديدة نفهمها جيدا، منها مثلا طريقة عمل الآلة البخارية، وهي تدخل في نطاق الميكانيكا والديناميكا الحرارية. كما أننا نعرف الكثير عن تركيب الجسم البشري، وطريقة أدائه لوظائفه، وهي أمور يدرسها علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء. أو لنتأمل أخيرا حركة النجوم التي نعرف عنها الكثير، وهي تندرج ضمن علم الفلك، أي إن كلا من ميادين المعرفة هذه تنتمي إلى علم أو لآخر.
غير أن جميع ميادين المعرفة تحف بها منطقة محيطة من المجهول. وحين يصل المرء إلى مناطق الحدود ويتجاوزها، فإنه يغادر أرض العلم ويدخل ميدان التفكير والتأمل. هذا النشاط التأملي نوع من الاستكشاف أو الاستطلاع، وهو يشكل واحدا من مقومات الفلسفة. والواقع أن ميادين العلم المختلفة قد بدأت كلها - كما سنرى فيما بعد - بوصفها استطلاعا فلسفيا بهذا المعنى، ولكن ما إن يصبح العلم مرتكزا على أسس متينة، حتى يسير في طريقه على نحو مستقل، إلا فيما يتعلق بالمشكلات الواقعة على الحدود، أو بمسائل المنهج، ولكن لا يمكن القول إن عملية الاستطلاع هذه تحرز تقدما بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، وإنما هي تستمر في طريقها فحسب، وتتجدد وظيفتها بلا انقطاع.
وفي الوقت ذاته يتعين علينا أن نميز الفلسفة من ضروب التأمل الأخرى؛ فالفلسفة في ذاتها لا تأخذ على عاتقها مهمة حل المشكلات التي نعاني منها، أو إنقاذ أرواحنا، وإنما هي - على حد تعبير اليونانيين - نوع من المغامرة الاستكشافية (أو من السياحة الفكرية) التي نقوم بها لذاتها، ومن ثم فليس في الفلسفة من حيث المبدأ عقائد راسخة، أو طقوس، أو كيانات مقدسة من أي نوع، على الرغم من أنه قد يحدث - بطبيعة الحال - أن يصبح أفراد من الفلاسفة عقائديين جامدين. والواقع أن ثمة موقفين يمكن اتخاذهما إزاء المجهول؛ أحدهما: قبول أقوال الناس الذين يقولون إنهم يعرفون، من كتب معينة أسرارا أو مصادر أخرى للوحي، والآخر: هو أن يخرج المرء ويرى الأمور بنفسه، وهذا هو طريق العلم والفلسفة.
وأخيرا، يجدر بنا أن نشير إلى سمة خاصة تتميز بها الفلسفة، فلو سأل شخص: ما هي الرياضيات؟ فإننا نستطيع أن نعطيه تعريفا قاموسيا، فنقول على سبيل المثال: إنها علم العدد، هذا التعريف لا يشكل في ذاته عبارة يمكن الاختلاف عليها، وهو فضلا عن ذلك عبارة يسهل على السائل فهمها، حتى لو كان جاهلا بالرياضيات. وعلى هذا النحو ذاته يمكن تقديم تعريفات لأي ميدان توجد فيه مجموعة محددة من المعلومات. أما الفلسفة فيستحيل تعريفها على هذا النحو؛ ذلك لأن أي تعريف لها يثير الجدل والخلاف، وينطوي في ذاته على موقف معين من الفلسفة. وسوف يكون الهدف الأكبر الذي يضعه هذا الكتاب نصب عينيه هو تبيان الطريقة التي كان الناس يمارسون بها الفلسفة حتى الآن.
إن ثمة أسئلة عديدة يتساءل عنها الناس الذين يفكرون في وقت أو آخر، ولا يستطيع العلم أن يقدم إجابة عنها. كما أن أولئك الذين يحاولون أن يفكروا في الأمور بأنفسهم لا يمكنهم أن يكتفوا بالإجابات الجاهزة التي يقدمها إليهم العرافون. مثل هذه الأسئلة هي التي تقع على عاتق الفلسفة مهمة استطلاعها، وأحيانا التخلص منها.
وهكذا قد نشعر بالرغبة في أن نتساءل: ما معنى الحياة، إن كان لها معنى على الإطلاق؟ هل للعالم غاية؟ وهل يؤدي مسار التاريخ إلى نتيجة؟ أم أن هذه الأسئلة لا معنى لها؟
وهناك أيضا مشكلات مثل: هل الطبيعة تحكمها بالفعل قوانين، أم أننا نعتقد أن الأمر كذلك؛ لأننا نحب أن نرى في الأشياء نظاما؟ وهناك أيضا ذلك التساؤل الشائع: هل العالم منقسم إلى جزأين منفصلين؛ عقل ومادة؟ وإن كان الجواب: لا. يجاب: فكيف يرتبطان؟
وماذا نقول عن الإنسان؟ أهو ذرة من الغبار تزحف بلا حول ولا قوة على كوكب صغير ضئيل الشأن كما يراه الفلكيون؟ أم أن الإنسان - كما قد يقول الكيميائيون - حفنة من المواد الكيميائية ركبت بطريقة بارعة؟ وأخيرا، فهل الإنسان هو، كما يبدو في نظر هاملت، رفيع العقل، لا نهاية لملكاته؟ أم أنه قد يكون هذا كله في آن معا؟
إلى جانب الأسئلة السابقة، هناك الأسئلة الأخلاقية عن الخير والشر؛ فهل ثمة طريق صائب وخير للحياة، وآخر باطل، أم أن الطريقة التي نحيا بها محايدة بين الخير والشر؟ أهناك شيء يمكننا أن نسميه حكمة، أم أن ما يبدو حكمة إنما هو جنون محض؟
هذه كلها أسئلة محيرة، ومن المحال أن يبت فيها المرء بإجراء تجارب في معمل، كما أن أصحاب التكوين الذهني المستقل لا يقبلون أن يرتدوا إلى ما يقوله أولئك الذي يوزعون النبوءات الشاملة يمينا ويسارا. مثل هذه الأسئلة هي التي يقدم إلينا تاريخ الفلسفة ما يمكن تقديمه من إجابات عنها.
وهكذا فإننا حين ندرس هذا الموضوع الصعب، نعرف ما فكر فيه الآخرون في أزمنة أخرى عن هذه الأمور، فيؤدي بنا ذلك إلى فهم أفضل لهؤلاء الناس؛ إذ إن طريقتهم في معالجة الفلسفة كانت مظهرا هاما من مظاهر أسلوب حياتهم، وقد يؤدي بنا ذلك آخر الأمر إلى أن يبين لنا كيف نظل نحيا على الرغم من أننا لا نعرف إلا القليل.
الفصل الأول
«قبل سقراط»
تبدأ الفلسفة حين يطرح المرء سؤالا عاما، وعلى النحو ذاته يبدأ العلم. ولقد كان أول شعب أبدى هذا النوع من حب الاستطلاع هو اليونانيون؛ فالفلسفة والعلم - كما نعرفهما - اختراعان يونانيان. والواقع أن ظهور الحضارة اليونانية، التي أنتجت هذا النشاط العقلي العارم، إنما هو واحد من أروع أحداث التاريخ، وهو حدث لم يظهر له نظير قبله ولا بعده؛ ففي فترة قصيرة لا تزيد عن قرنين، فاضت العبقرية اليونانية في ميادين الفن والأدب والفلسفة بسيل لا ينقطع من الروائع التي أصبحت منذ ذلك الحين مقياسا عاما للحضارة الغربية.
إن الفلسفة والعلم يبدآن بطاليس الملطي
Thales of Miletus
في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، ولكن على أي نحو سارت الأحداث قبل ذلك، حتى تهيئ لهذا الظهور المناجي للعبقرية اليونانية؟ سنحاول، بقدر استطاعتنا، أن نهتدي إلى إجابة عن هذا السؤال. وسوف نستعين بعلم الآثار، الذي خطا خطوات عملاقة منذ بداية هذا القرن، من أجل جمع شتات الصورة التي تكشف لنا، إلى حد معقول، عن الطريقة التي وصل بها العالم اليوناني إلى ما هو عليه.
إن الحضارة اليونانية حضارة متأخرة بالقياس إلى حضارات العالم الأخرى؛ إذ سبقتها حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرين بعدة ألوف من السنين. ولقد نما هذان المجتمعان الزراعيان على ضفاف أنهار كبرى، وكان يحكمهما ملوك مؤلهون، وأرستقراطية عسكرية، وطبقة قوية من الكهنة كانت تشرف على المذاهب الدينية المعقدة التي كانت تعترف بآلهة متعددين. أما السواد الأعظم من السكان، فكانوا يزرعون الأرض بالسخرة.
ولقد توصلت مصر القديمة وبابل إلى بعض المعارف التي اقتبسها الإغريق فيما بعد، ولكن لم تتمكن أي منهما من الوصول إلى علم أو فلسفة. على أنه لا جدوى من التساؤل في هذا السياق عما إذا كان ذلك راجعا إلى افتقار العبقرية لدى شعوب هذه المنطقة، أم إلى أوضاع اجتماعية؛ لأن العاملين معا كان لهما دورهما بلا شك، وإنما الذي يهمنا هو أن وظيفة الدين لم تكن تساعد على ممارسة المغامرة العقلية.
ففي مصر كان الدين معنيا إلى حد بعيد بالحياة بعد الموت؛ فالأهرامات كانت صروحا جنائزية، ولقد كان الإلمام ببعض المعارف الفلكية لازما من أجل الوصول إلى تنبؤ دقيق بفيضان النيل، كما أن طبقة الكهنة في ممارستها للحكم الإداري استحدثت شكلا من أشكال الكتابة بالصور، ولكن لم تتبق بعد ذلك موارد تكفي للتطور في الاتجاهات الأخرى.
أما في بلاد ما بين النهرين، فقد حلت الإمبراطوريات السامية الكبرى محل السومريين الأسبق منها، الذين اقتبس أولئك عنهم الكتابة المسمارية. وفي الناحية الدينية كان الاهتمام الرئيسي منصبا على السعادة في هذا العالم، وكان تسجيل حركات النجوم وما صاحبه من ممارسات للسحر والتنجيم موجها من أجل هذه الغاية.
وبعد فترة ما، بدأت تنمو مجتمعات تجارية، كان أهمها سكان جزيرة كريت، وهي مجتمعات لم يتم إلقاء الضوء عليها من جديد إلا في وقت قريب. والأرجح أن الكريتيين جاءوا من الأراضي الساحلية لآسيا الصغرى، وأصبحت لهم الغلبة بسرعة على جميع جزر بحر إيجه، وفي أواسط الألف الثالثة قبل الميلاد أدت موجة جديدة من المهاجرين إلى نمو غير عادي للثقافة الكريتية. فشيدت قصور فخمة في كنوسوس
Cnossus
وفايستوس
، وأخذت السفن الكريتية تجوب البحر المتوسط من أقصاه إلى أقصاه.
ومنذ عام 1750ق.م. أدت سلسلة متكررة من الزلازل والثورات البركانية إلى إطلاق موجة هجرة من كريت إلى المناطق المجاورة في اليونان وآسيا الصغرى. وأدت مهارة الكريتيين في الحرف اليدوية إلى تغيير ثقافة سكان المناطق القارية. وأفضل موقع يكشف عن هذا التأثير في اليونان هو ميسناي
Mycenae
في الأرجوليد
Arogolid ، وهو الموطن التقليدي لأجاممنون
Agamemnon . كما أن الذكريات التي يرويها الشاعر هوميروس تتعلق بالعصر الكريتي، وحوالي 1450ق.م. ضرب كريت زلزال عنيف وضع حدا مفاجئا للسيطرة الكريتية.
ولقد كانت أرض اليونان الأصلية قد استوعبت من قبل موجتين متتاليتين من الغزاة؛ أولاهما كانت موجة الأيونيين، الذي أتوا من الشمال حوالي عام ألفين ق.م، ويبدو أنهم اندمجوا تدريجيا في السكان الأصليين، وبعد ثلاثمائة عام جاء غزو الأخاي
Achaean
الذين كونوا هذه المرة طبقة حاكمة. وكانت سادة ميسناي (الكريتيون) وإغريق هوميروس ينتمون بوجه عام إلى هذه الفئة الحاكمة.
ولقد كانت تربط الكريتيين-الآخيين روابط تجارية بجميع أرجاء البحر المتوسط، ولم تؤد كارثة عام 1455ق.م. في كريت إلى قطع هذه الروابط، وهكذا نجد الكريتيين من بين «شعوب البحر» التي هددت مصر حوالي عام 1205ق.م، وكان المصريون يطلقون عليهم اسم «بليست
»، وكان هؤلاء هم الفلسطينيون
الأصليون الذين استمد هؤلاء منهم اسم الأرض التي استقروا فيها، وهو «فلسطين».
وحوالي 1100ق.م. أدى غزو آخر إلى تحقيق ما عجزت عنه كوارث الطبيعة؛ ذلك لأن الغزوات الدورية
Dorian
جعلت اليونان ومنطقة بحر إيجه بأكملها فريسة في أيدي قبائل همجية غازية شديدة البأس، وكان الآخيون قد استنفدوا طاقتهم قبل ذلك في حروب طروادة في أوائل القرن الثاني عشر ق.م، فلم يستطيعوا الصمود أمام تلك الهجمة، كما أصبح الفينيقيون هم أسياد البحر، ودخلت اليونان عندئذ مرحلة من الظلام. وفي هذه الفترة تقريبا اقتبس الإغريق الحروف التي كانت قد عرفت لدى التجار الفينيقيين من قبل، بإضافة حروف متحركة إليها.
والواقع أن اليونان الأصلية بلد خشن في مظهره وفي مناخه؛ إذ توجد سلاسل من الجبال القاحلة تقسم الأرض، مما يجعل الانتقال البري من واد إلى واد أمرا عسيرا .
ومن ثم فقد نمت في السهول الخصبة مجتمعات محلية منفصلة، وحين كانت الأرض تعجز عن إعاشة الجميع كان البعض منهم يشد عصا الترحال عبر البحر لإنشاء مستوطنات. وهكذا تناثرت المدن اليونانية على سواحل صقلية وجنوب إيطاليا والبحر الأسود منذ أواسط القرن الثامن حتى أواسط القرن السادس ق.م، ومع نشوء المستوطنات ازدهرت التجارة، وعاد اليونانيون إلى الاتصال بالشرق.
أما من الناحية السياسية، فقد مرت اليونان بعد غزو «الدوريين» بسلسلة من التغيرات، كان أولها سيادة النظام الملكي، ثم انتقلت السلطة تدريجا إلى أيدي الأرستقراطية، التي أعقبتها فترة من حكم الملوك غير الوارثين، أو الطغاة
Tyrants ، وفي النهاية انتقلت السلطة السياسية إلى المواطنين، وهذا هو المعنى الحرفي للفظ «الديمقراطية». ومنذ ذلك الحين أخذ حكم الطغاة والديمقراطية يتناوبان، وكان في استطاعة الديمقراطية المباشرة أن تظل قائمة ما دام المواطنون جميعا قادرين على التجمع في ساحة السوق، وهو نوع من الديمقراطية لم يعد له في عصرنا وجود إلا في بعض المقاطعات الصغيرة من سويسرا.
ولقد كان أقدم وأعظم أثر أدبي للعالم اليوناني هو أعمال هوميروس، وهو رجل لا نعرف عنه شيئا مؤكدا، بل إن البعض يعتقدون أنه كانت هناك مجموعة متعاقبة من الشعراء أطلق عليها هذا الاسم في وقت لاحق. وعلى أية حال، فإن ملحمتي هوميروس العظيمتين، الإلياذة والأوديسية، قد تم تأليفهما على ما يبدو حوالي عام 800ق.م، أما حرب طروادة، التيتدور حولها الملحمتان، فقد نشبت بعد عام 1200ق.م. بقليل، هكذا تقدم الملحمتان وصفا جاء بعد الغزو «الدوري
Dorian » لحدث وقع قبل الغزو الدوري، ومن هنا كانتا تنطويان على قدر من عدم الاتساق.
وترتد الملحمتان في صورتهما الراهنة إلى الصيغة المعدلة التي ترجع إلى عهد بيزستراتوس
، الطاغية الأثيني في القرن السادس ق.م، ولقد عمل هوميروس على تخفيف الكثير من وحشية العصر السابق، وإن كانت آثار من هذه الوحشية قد ظلت باقية، بل إن الملحمتين تعكسان الموقف العقلي لطبقة حاكمة متحررة؛ فالجثث فيها تحرق ولا تدفن، كما نعرف أنه كان يحدث في عصور الحضارة الميسينية (الكريتية). أما مجمع الآلهة في جبل أولمب فهو حشد صاخب من السادة الذين يعيشون حياة خشنة قاسية. والعقيدة الدينية في هاتين الملحمتين تكاد تكون بلا فاعلية، على حين تظهر فيها بوضوح عادات راقية، مثل إكرام الضيوف الغرباء. وقد تتسرب من آن لآخر عناصر أكثر بدائية، كالتضحية بالبشر على صورة قتل الأسرى في مواسم أو طقوس معينة، ولكن ذلك لا يحدث إلا في أوقات نادرة جدا، أي إن لهجة هاتين الملحمتين تخلو - على وجه الإجمال - من التطرف.
والحق أن هذا يرمز، على نحو ما، لتوتر الروح اليونانية؛ فهذه الروح يتنازعها عنصران؛ أحدهما: عقلي منظم، والآخر: غريزي أهوج. من الأول جاءت الفلسفة والفن والعلم، ومن الثاني العقيدة الأكثر بدائية، المرتبطة بطقوس الخصوبة. وعند هوميروس يبدو هذا العنصر خاضعا للسيطرة إلى حد بعيد، أما في العصور اللاحقة، وخاصة مع تجدد الاتصالات بالشرق، فإنه يعود فيحتل مكان الصدارة، وهو يرتبط بعبادة ديونيزوس أو باخوس، الذي كان في الأصل واحدا من آلهة تراقية، على أن هذا الضرب من الوحشية التي ترقى إلى مرتبة التقديس قد خضع لمؤثرات هذبته، وخففت من غلوائه بفضل شخصية أسطورية هي شخصية أورفيوس، الذي يقال إن جماعة من عباد باخوس السكارى قد مزقوه إربا. وتتجه التعاليم الأورفية إلى الزهد، وتؤكد النشوة العقلية، آملة بذلك أن تصل إلى حالة من «الوجد» أو الاتحاد بالإله، وبذلك تكتسب معرفة صوفية يستحيل التوصل إليها على أي نحو آخر. ولقد كان للعقيدة الأورفية - في صورتها الأرقى هذه - تأثير عميق في الفلسفة اليونانية، ويظهر هذا التأثير أولا عند فيثاغورس، الذي يوفق بينها وبين نزعته الصوفية الخاصة. ومن هذا المصدر الأول وجدت عناصر منها طريقها إلى أفلاطون، والجانب الأكبر من الفلسفة اليونانية، بقدر ما كانت هذه الفلسفة بعيدة عن الطابع العلمي البحت.
غير أن العناصر الأكثر بدائية ظلت باقية حتى في التراث الأورفي، والواقع أنها هي مصدر التراجيديا اليونانية؛ ففي هذه التراجيديا نجد الكاتب يتعاطف دائما مع أولئك الذين تنتابهم عواطف وانفعالات عنيفة. ولقد كان أرسطو على حق حين وصف التراجيديا بأنها عملية تطهر
Catharsis ، أي تطهير للانفعالات.
هذا الطابع المزدوج للشخصية اليونانية هو الذي أتاح لها في النهاية أن تغير العالم بصورة حاسمة. وقد أطلق «نيتشه» على هذين العنصرين اسم العنصر الأبولوني والديونيزي، وهما عنصران لم يكن في استطاعة أي واحد منهما بمفرده أن يفجر الطاقة العجيبة للحضارة اليونانية؛ ففي الشرق كان العنصر الصوفي يسيطر بلا منازع، ولكن ما أنقذ اليونانيين من الوقوع في براثن هذا العنصر وحده، هو ظهور المدارس العلمية في أيونية. ومع ذلك ينبغي أن نلاحظ، من جهة أخرى، أن الدقة العلمية وحدها كانت - شأنها شأن التصوف - عاجزة عن إحداث ثورة عقلية؛ إذ يحتاج الأمر إلى سعي متحمس ومنفعل وراء الحقيقة والجمال، وهذا بالضبط ما جلبه التأثير الأورفي. لقد كانت الفلسفة عند سقراط طريقا للحياة، ولنذكر في هذا الصدد أن كلمة «النظرية»
Theory
في اليونانية كانت تعني في البداية شيئا أشبه «بتأمل منظر طبيعي»، وبهذا المعنى استخدمها هيرودوت. وهكذا يمكن القول إن ما أعطى الإغريق القدماء مكانتهم الفريدة في التاريخ هو ميلهم إلى حب الاستطلاع الذي لا يرتوي، والذي يدفع المرء إلى القيام ببحث مشبوب بالانفعال، يكون مع ذلك موضوعيا نزيها.
إن حضارة الغرب التي انبثقت من مصادر يونانية، مبنية على تراث فلسفي وعلمي بدأ في ملطية
Miletus
منذ ألفين وخمسمائة عام، وهي في هذا تختلف عن سائر حضارات العالم الكبرى؛ فالمفهوم الرئيسي الذي يسري عبر الفلسفة اليونانية بأسرها هو مفهوم «اللوجوس
Logos »، وهو لفظ يدل على معان كثيرة، من بينها «الكلام» و«النسبة أو المقياس». وهكذا توجد رابطة وثيقة بين اللغة الفلسفية والبحث العلمي، ويترتب على هذا الارتباط مذهب في الأخلاق يرى الخير في المعرفة، التي هي تطهير للانفعالات حصيلة البحث المجرد عن الهوى.
لقد قلنا من قبل إن طرح أسئلة عامة هو بداية الفلسفة والعلم. فما شكل هذه الأسئلة إذن؟ يمكن القول - بأوسع معنى ممكن - إنها بحث عن النظام فيما يبدو للعين غير المدربة سلسلة من الأحداث العشوائية المتخبطة. ومن المفيد أن نتنبه إلى الأصل الذي استمدت منه فكرة النظام لأول مرة؛ ففي رأي أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي، لا يعيش بمفرده، بل في مجتمع. ويقتضي ذلك، حتى على أكثر المستويات بدائية، نوعا من التنظيم، ومن هذا المصدر استمدت فكرة النظام؛ فالنظام هو أولا وقبل كل شيء نظام اجتماعي، وبطبيعة الحال فقد اكتشفت في الطبيعة، منذ أقدم العصور، تغيرات منتظمة؛ كتعاقب الليل والنهار، ودورة الفصول، ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تفهم لأول مرة إلا في ضوء تفسير بشري ما؛ فالأجرام السماوية آلهة، وقوى الطبيعة أرواح، صنعها الإنسان على صورته.
وإن مشكلة البقاء لتعني في المحل الأول أن على الإنسان أن يحاول تشكيل قوى الطبيعة وفقا لإرادته، ولكن قبل أن يتحقق ذلكم بطرق نستطيع اليوم أن نصفها بأنها علمية، مارس الإنسان السحر. والواقع أن الفكرة العامة الكامنة من وراء العلم والسحر كانت واحدة؛ ذلك لأن السحر إنما هو محاولة للحصول على نتائج خاصة على أساس طقوس محددة بدقة. وهو مبني على الاعتراف بمبدأ السببية، أي المبدأ القائل إنه إذا توافرت نفس الشروط المسبقة، ترتبت عليها نفس النتائج. وهكذا فإن السحر شكل أولي للعلم
. أما الدين فينبثق من مصدر آخر؛ ففيه تبذل محاولة للوصول إلى نتائج مضادة للتعاقب المنتظم أو معاكسة لها، فهو يمارس عمله في نطاق المعجزات، التي تنطوي ضمنا على إلغاء السببية، وهكذا فإن طريقتي التفكير هاتين مختلفتان كل الاختلاف، برغم أننا كثيرا ما نجدهما ممتزجتين في الفكر البدائي.
ومن خلال الأنشطة المشتركة التي تمارسها الجماعات سويا، تنمو وسيلة الاتصال التي نطلق عليها اسم اللغة، والتي تنحصر مهمتها الأساسية في أن تتيح للناس العمل من أجل هدف مشترك؛ فالفكرة الأساسية فيها هي فكرة الاتفاق، وهذه الفكرة ذاتها يمكن أن ينظر إليها بالمثل على أنها نقطة بداية المنطق. وهي تنشأ من أن الناس عند تبادل الاتصال بينهم يصلون آخر الأمر إلى اتفاق، حتى لو اكتفوا بأن يتفقوا على الاختلاف، ولكن أجدادنا كانوا عندما يصلون إلى مثل هذا الطريق المسدود، يسوون المسألة بممارسة القوة، فعندما تجهز على محدثك، يستحيل أن يناقضك. غير أنهم كانوا أحيانا يلجئون إلى بديل آخر، هو متابعة المسألة بالمناقشة، إن كانت تقبل المتابعة على الإطلاق ، وهذا هو طريق العلم والفلسفة.
وللقارئ أن يحكم بنفسه على مدى تقدمنا في هذه الناحية منذ عصور ما قبل التاريخ.
إن فلسفة اليونانيين تكشف طوال مراحلها عن تأثير عدد من الثنائيات. وقد ظلت هذه الثنائيات، في صورة أو أخرى، تشكل حتى اليوم موضوعات يكتب عنها الفلاسفة أو يتناقشون حولها. وأساس هذه الثنائيات جميعا التمييز بين الصواب والخطأ، أو الحقيقة والبطلان. ويرتبط بها ارتباطا وثيقا، في الفكر اليوناني، ثنائيتا الخير والشر، والانسجام والتنافر أو النزاع، ثم تأتي بعد ذلك ثنائية المظهر والحقيقة، التي ما تزال حية إلى حد بعيد في يومنا هذا. وإلى جانب هذه نجد مسألتي العقل والمادة، والحرية والضرورة. وهناك فضلا عن ذلك مسائل كونية تتعلق بكون الأشياء واحدة أم كثيرة، بسيطة أم معقدة، وأخيرا ثنائية الفوضى والنظام، والحد واللامحدود.
والحق إن الطريقة التي عالج بها الفلاسفة الأوائل هذه المشكلات هي طريقة ذات دلالة بالغة؛ فقد تنحاز إحدى المدارس إلى أحد طرفي الثنائية، ثم تظهر بعدها مدرسة أخرى تثير اعتراضات وتتخذ وجهة النظر المضادة. وفي النهاية تأتي مدرسة ثالثة، وتقوم بنوع من الحل الوسط الذي يتجاوز الرأيين الأصليين. والواقع أن هيجل قد توصل أول الأمر إلى فكرته عن الجدل (الديالكتيك) عن طريق ملاحظة «معركة الأرجوحة» هذه بين المذاهب المتنافسة لدى الفلاسفة السابقين لسقراط.
وهناك صلات متبادلة - على أنحاء ما - بين كثير من هذه الثنائيات، على أننا سوف نتجاهل هدف الدقة التامة فنعزل كلا منها عن الأخريات حتى نكشف عن مختلف أنواع المشكلات التي كانت تعالجها الفلسفة؛ فثنائية الصواب والخطأ قد نوقشت في المنطق. أما مسائل الخير والشر، والانسجام والتنافر، فتنتمي إلى الأخلاق. وأما مشكلات المظهر والحقيقة، والعقل والمادة، فيمكن النظر إليها على أنها هي المشكلات التقليدية لنظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا.
وأخيرا فإن الثنائيات المتبقية تنتمي - بدرجات متفاوتة - إلى مبحث الوجود (الأنطولوجيا). وبطبيعة الحال فليس في هذه التقسيمات فواصل قاطعة، بل إن الحدود الفاصلة بينها قد تعبر، وربما كان عبور الحدود هذا من السمات المميزة للفلسفة اليونانية.
لقد ظهرت أول مدرسة للفلاسفة العلماء في ملطية
Miletus ، وهي مدينة كانت تقع على ساحل أيونية، وكانت مركزا نشطا للتبادل التجاري، توجد في جنوبها الشرقي قبرص وفينيقيا ومصر. وفي شمالها بحر إيجه والبحر الأسود، وإلى الغرب عبر بحر إيجه توجد أرض اليونان الأصلية وجزيرة كريت. ولقد كانت ملطية تتصل اتصالا وثيقا في الشرق بإقليم ليديا
Lydia ، وعن طريقه تتصل بإمبراطوريات ما بين النهرين. ومن ليديا تعلم أهل ملطية سك عملات ذهبية تستخدم نقودا، وكان ميناء ملطية يزخر بأضرعة من بلاد متعددة، كما كانت مخازنه تمتلئ سلعا من كافة أرجاء العالم. ومع وجود النقود بوصفها وسيلة عالمية لاختزان القيمة ومبادلة سلعة بأخرى، لم يكن من المستغرب أن نجد الفلاسفة الملطيين يطرحون أسئلة عن الأصل الذي جاءت منه الأشياء جميعا.
ولقد نسب إلى طاليس
Thales
الملطي قوله: «إن الأشياء جميعا جاءت من الماء.» وعلى هذا النحو بدأت الفلسفة والعلم، ولقد كان طاليس في نظر التراث اليوناني واحدا من الحكماء السبعة، ويذكر لنا هيرودوت أنه تنبأ بكسوف للشمس، وقد حسب الفلكيون موعد هذا الكسوف فوجدوا أنه حدث في عام 585ق.م؛ ومن ثم فقد اعتبر ذلك التاريخ فترة نضوج هذا الفيلسوف، وليس من المرجح أن يكون طاليس قد كون نظرته عن الكسوف الشمسي، بل لا بد أنه كان على دراية بالسجلات البابلية المتعلقة بهذه الظاهرة، ومن ثم فقد عرف متى يبحث عن الكسوف، ومن حسن الحظ أن ذلك الكسوف بالذات كان من الممكن رؤيته في ملطية؛ مما ساعد على تحديد عصر طاليس بدقة، كما ساعد بلا شك على ذيوع شهرته. وبالمثل فإن من المشكوك فيه جدا أن يكون قد تمكن من أن يثبت هندسيا نظريات تطابق المثلثات، ولكنه تمكن بلا شك من تطبيق القاعدة العملية التي كان يستخدمها المصريون القدماء في قياس ارتفاع الهرم لكي يهتدي بواسطتها إلى المسافة التي تبعد بها السفن في البحر، ومسافة الأشياء الأخرى التي يستحيل الوصول إليها. وهكذا كانت لديه فكرة عن إمكان تطبيق القواعد الهندسية على نطاق عام، وفكرة التعميم هذه فكرة يونانية أصيلة .
كذلك نسب إلى طاليس قوله إن للمغناطيس نفسا؛ لأنه يحرك الحديد، أما عبارته الأخرى القائلة إن الأشياء كلها مليئة بالآلهة، فليست مؤكدة بالقدر نفسه، ومن الجائز أنها نسبت إليه على أساس عبارته السابقة، ولكن يبدو أنها تجعل العبارة الأولى غير ذات موضوع؛ لأن القول بأن للمغناطيس نفسا لا يكون له معنى إلا إذا لم تكن للأشياء الأخرى نفوس.
ولقد ارتبط اسم طاليس بقصص كثيرة، ربما كان بعضها صحيحا؛ فقد قيل إنه عندما ووجه بتحد في إحدى المناسبات، أبدى عبقريته العلمية بالتحكم في سوق زيت الزيتون؛ ذلك لأن معرفته بالأرصاد الجوية قد دلته مقدما على أن المحصول سيكون وفيرا، فاستأجر كل المعاصر التي أمكنه أن يضع يده عليها، وعندما حان الوقت أجرها بالسعر الذي يريد، فربح بذلك مالا وفيرا، وأثبت للساخرين أن الفلاسفة يمكنهم لو شاءوا أن يكسبوا المال بوفرة.
على أن أهم آراء طاليس هو قوله إن العالم يتألف من الماء، وهي عبارة ليست مسرفة إلى الحد الذي تبدو عليه للوهلة الأولى، ولا هي مجرد نتاج للخيال المنفصل عن المشاهدة، فقد تبين في عصرنا هذا أن الهيدروجين، الذي هو العنصر المولد للماء، هو العنصر الكيمائي الذي يمكن تخليق جميع العناصر الأخرى منه.
1
والواقع أن الرأي القائل إن المادة كلها واحدة، هو فرض علمي جدير بالاحترام. أما عن الملاحظة فإن وجود المرء قريبا من البحر ييسر عليه ملاحظة عملية تبخر المياه بواسطة الشمس، وتجمع بخار الماء على السطح لكي تكون سحبا تتحلل مرة أخرى على صورة أمطار. ووفقا لهذا الرأي تكون الأرض نوعا من الماء المركز، صحيح أن تفاصيل هذا قد تبدو عندئذ مسرفة في الخيال، غير أن من الإنجازات التي تدعو إلى الإعجاب أن يكتشف مفكر أن هناك مادة تظل على ما هي عليه برغم اختلاف الحالات التي تتجمع بها.
ولقد كان الفيلسوف الملطي التالي هو أنكسيمندر، الذي يبدو أنه ولد حوالي عام 610ق.م. ولقد كان مثل طاليس مخترعا ومتمرسا في المسائل العلمية؛ فهو أول راسم للخرائط، وهو زعيم مستوطنة من المستوطنات الملطية على ساحل البحر الأسود.
وقد انتقد أنكسيمندر نظرية طاليس الكونية، فما الداعي إلى اختيار الماء؟ إن المادة الأصلية التي صنعت منها الأشياء لا يمكن أن تكون واحدة من الصور المحددة لهذه المادة؛ ومن ثم ينبغي أن تكون شيئا مختلفا عن هذه كلها، شيئا أساسيا أسبق منها؛ ذلك لأن أشكال المادة المختلفة تتنازع فيما بينها بلا انقطاع، فيتنازع الحار ضد البارد، والرطب ضد الجاف؛ فهي تتعدى دواما كل على الأخرى، أو ترتكب «ظلما» بالمعنى اليوناني الذي تدل فيه هذه الكلمة على اختلال التوازن. ولو كان أي من هذه الأشكال هو المادة الأساسية لتغلب على الأشكال الأخرى منذ وقت طويل. إن المادة الأصلية هي ما يسميه أرسطو بالعلة المادية، وقد أطلق عليها أنكسيمندر اسم «اللامحدود»، أي إنها تجمع لانهائي للمادة يمتد في كل الاتجاهات، ومن هذا الأصل ينشأ العالم، وإليه سيعود آخر الأمر.
ولقد كانت الأرض في رأي أنكسيمندر أسطوانة تطفو بلا قيود، نوجد نحن على وجه أحد طرفيها، وهو يفترض فضلا عن ذلك أن عالمنا محاط بعدد لا نهاية له من العوالم الأخرى. ولفظ «عالم» يدل هنا على ما نسميه الآن باسم «المجرة». وتتحكم في الوظيفة الداخلية لكل عالم حركة محورية تجذب الأرض نحو المركز، أما الأجرام السماوية فهي حلقات من نار يحجبها الهواء إلا في نقطة واحدة، ويمكننا تشبيهها بإطار العجلة الذي لا يظهر منه إلا الصمام. وبطبيعة الحال فمن الواجب أن نتذكر أن الهواء كان في نظر اليونانيين في ذلك الحين قادرا على حجب الأشياء وإخفائها.
أما رأي أنكسيمندر في أصل الإنسان فكان «حديثا» إلى حد بعيد؛ ذلك لأن ملاحظته أن الإنسان يحتاج في صغره إلى فترة طويلة من الرعاية والحماية جعلته يستنتج أنه لو كان الإنسان دائما على ما هو عليه الآن، لما تمكن من البقاء. وعلى ذلك فلا بد أنه كان فيما مضى مختلفا، أي لا بد أنه تطور من حيوان يستطيع أن يرعى نفسه في وقت أسرع. وهذه حجة في الإثبات يطلق عليها اسم «برهان الخلف
Reduction ad absurdum » وفيها تستدل من افتراض معين على نتيجة واضحة البطلان، وهي في هذه الحالة أن الإنسان لم يستطع البقاء، فيترتب على ذلك ضرورة رفض ذلك الافتراض. ولو كانت هذه الحجة سليمة؛ أعني لو أن الإنسان كان دائما على ما هو عليه الآن، يترتب عليه أنه ما كان يستطيع أن يستمر في البقاء - وهي نتيجة أعتقد أنها صحيحة - لأصبح في استطاعة هذه الحجة، دون أي برهان آخر، أن تثبت أن هناك بالفعل نوعا من العملية التطورية المستمرة.
غير أن أنكسيمندر لم يكتف بهذه الحجة، بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيد ذلك بملاحظات عن حفريات باقية، كما أيده بملاحظة الطريقة التي تطعم بها أسماك القرش صغارها. وبناء على هذه الأسباب كان من الطبيعي أن ينصحنا أنكسيمندر بالامتناع عن أكل الأسماك. أما مسألة ما إذا كان إخوتنا في أعماق البحار يبادلوننا نفس هذه المشاعر الرقيقة، فتلك مسألة لم يقم عليها دليل!
أما ثالث المفكرين المشاهير في ملطية فهو أناكسيمنيس
Anascimenes
الذي لا نعرف شيئا محددا عن الزمن الذي عاش فيه، سوى أنه كان آخر الفلاسفة الثلاثة زمنيا. وتعد نظرياته في نواح معينة خطوة إلى الوراء بالقياس إلى أنكسيمندر، ولكن على الرغم من أن تفكيره كان أقل ميلا إلى المغامرة، فإن آراءه في مجملها كانت أقدر على الاستمرار. إنه يرى مثل أنكسيمندر أن هناك مادة أساسية، غير أن هذه في نظره مادة محددة، هي الهواء؛ فأشكال المادة المختلفة التي نراها حولنا تنشأ من الهواء عن طريق عمليتي التكاثف والتخلخل. ولما كانت هذه طريقة أخرى للتعبير عن الفكرة القائلة إن جميع الاختلافات إنما هي اختلافات في الكم أو المقدار، فلا بأس على الإطلاق عندئذ من أن نقول بمادة واحدة تكون هي الأساس. وهو يرى أن الهواء هو قوام النفس، وهو يحفظ للعالم حياته مثلما يحفظ لنا حياتنا، وهذا رأي سيقول به الفيثاغوريون فيما بعد. أما في نظريته الكونية فقد سار أناكسيمنيس في الطريق الخطأ. ومن حسن الحظ أن الفيثاغوريين قد اقتفوا أثر أنكسيمندر في هذه الناحية، ولكنهم في بقية النواحي كانوا أميل إلى التأثر بأناكسيمنيس، وهو بمعنى ما أمر له ما يبرره؛ فقد كان أناكسيمنيس آخر ممثل لهذه المدرسة، وهو الذي حمل تراثها كله.
وفضلا عن ذلك، فإن نظريته في التكاثف والتخلخل كانت هي التي ختمت بحق نظرة المدرسة الملطية إلى العالم.
لقد كان فلاسفة ملطية رجالا ذوي مزاج يختلف عن أولئك المتخصصين الذين نطلق عليهم الفلاسفة في أيامنا هذه؛ فقد كانوا منهمكين في الشئون العملية للمدينة، وكانوا قادرين على مواجهة كافة الاحتمالات. ولقد رأى البعض أن نظريات أنكسيمندر قد عرضت في ثنايا دراسة عن الجغرافيا بالمعنى الواسع، وكانت العناوين الباقية لدينا من دراسات أصبحت الآن مفقودة تعني «تفسيرات للطبيعة المادية للأشياء». وهكذا كان نطاق اهتمامهم واسعا، وإن لم تكن طريقة المعالجة على الأرجح شديدة العمق. ولا شك أن احتجاج الفيلسوف هرقليطس فيما بعد إنما كان منصبا على هذا النوع من «الإلمام من كل شيء بطرف».
غير أن الأسئلة التي تطرح، في الفلسفة، تفوق في أهميتها الإجابات التي تقدم، ومن هذه الزاوية كانت مدرسة ملطية جديرة بالشهرة التي أحرزتها. كذلك لم يكن المستغرب أن تكون أيونية، التي أنجبت هوميروس، هي أيضا مهد العلم والفلسفة؛ ذلك لأن الدين عند هوميروس كما رأينا كان ذا طابع أوليمبي، وظل محتفظا بهذا الطابع. وفي مثل هذا المجتمع الذي لا تثقل عليه النزعة الصوفية كثيرا، تتوافر للنظر العلمي فرصة أكبر، وعلى حين أن كثيرا من مدارس الفلسفة اليونانية التالية كان لها من الصوفية نصيب، فينبغي أن نذكر دائما أنها كانت جميعا مدينة بالفضل للملطيين.
إن المدرسة الملطية لم تكن مقيدة بأية حركة دينية، بل إن من السمات الملفتة للنظر في الفلاسفة السابقين لسقراط أنهم كانوا جميعا على خلاف مع التراث الديني السائد. وهذا يصدق حتى على مدارس كالفيثاغورية ، التي لم تكن في ذاتها معارضة للدين. ولقد كانت الممارسات الدينية لليونانيين ككل مرتبطة بالأعراف السائدة في «دول المدينة» المختلفة، ومن هنا فإن الفلاسفة عندما كانوا يسيرون في طرق خاصة بهم، لم يكن من المستغرب أن يدخلوا في نزاع مع عقائد الدولة في مدنهم، وهو مصير يتعرض له جميع أصحاب العقول المستقلة في كل زمان ومكان.
وعلى مسافة قريبة من ساحل أيونية تقع جزيرة ساموس
Samos ، ولكن على الرغم من القرب المكاني، فإن تقاليد الجزر كانت في نواح هامة أكثر محافظة من تقاليد المدن الواقعة في قلب البلاد ذاتها؛ ففي الجزر يبدو أن بقايا حضارة بحر إيجه الغابرة ظلت تمارس تأثيرها طويلا، وهذا فارق ينبغي أن نأخذه في حسباننا في بحوثنا التالية. فعلى حين أن أيونية التي أنجبت هوميروس ومدرسة ملطية القديمة لم تكن على وجه الإجمال ميالة إلى أن تأخذ الدين بجدية، فإن عالم الجزر كان منذ البداية أكثر استعدادا لتقبل التأثير الأورفي الذي انطبع على ما تبقى من معتقدات حضارات كريت وبحر إيجه.
لقد كانت الديانة الأولمبية مسألة قومية لا تنطوي على عقائد دينية راسخة بالمعنى الدقيق، أما الأورفية فكانت لها نصوصها المقدسة، وكانت تربط بين معتنقيها برباط من المعتقدات المشتركة، وفي هذه الحالة تصبح الفلسفة طريقا للحياة، وموقفا منها بالمعنى الذي سيعتنقه سقراط فيما بعد.
ولقد كان رائد هذه الروح الجديدة في الفلسفة هو فيثاغورس، الذي كان مواطنا لجزيرة ساموس، ونحن لا نعرف الكثير عن تاريخ حياته وتفاصيلها، ولكن يقال إن فترة ازدهاره كانت حوالي عام 532ق.م، أيام حكم الطاغية بوليكراتيس
. ولقد كانت مدينة ساموس منافسة لملطية وغيرها من مدن الأرض اليونانية الأصلية التي سقطت في أيدي الغزاة الفرس بعد أن استولوا على سارديس
Saradis
في عام 544ق.م، وكان بوليكراتيس لوقت ما حليفا وثيقا لأمازيس
Amasis ، ملك مصر، وهذا هو بالطبع أصل الرواية القائلة إن فيثاغورس سافر إلى مصر، ومنها استمد معارفه الرياضية، وأيا كان الأمر فإن فيثاغورس قد رحل عن ساموس؛ لأنه لم يستطع أن يتحمل حكم بوليكراتيس الاستبدادي، واستقر في كروتون
Croton ، وهي مدينة يونانية في جنوب إيطاليا، حيث أنشأ الجماعة التي تنسب إليه، وقد عاش في كروتون عشرين عاما حتى سنة 510ق.م، وبعد أن قامت ثورة ضد مدرسته انسحب إلى ميتابونتيون
Metapontion ، حيث عاش حتى وفاته.
لقد كانت الفلسفة عند مفكري ملطية - كما رأينا من قبل - مسألة عملية إلى حد بعيد، وكان في استطاعة الفلاسفة أن يكونوا رجال عمل، بل كانوا بالفعل كذلك. أما في التراث الفيثاغوري فقد برزت وجهة النظر المضادة، فهنا أصبحت الفلسفة تأملا منعزلا للعالم، ويرتبط ذلك بالتأثير الأورفي الذي يتجسد في النظرة الفيثاغورية إلى الحياة؛ ففي هذه النظرة يتوزع الناس بين ثلاث شعاب في الحياة، وكما أن هناك ثلاثة أنواع من الناس يحضرون الألعاب الأولمبية، فكذلك توجد في المجتمع ثلاثة أنواع من الناس، أدناها هم أولئك الذين يبيعون ويشترون، ويليهما المشتركون في المسابقات، وأخيرا المتفرجون الذين يحضرون لكي يشاهدوا، أي «الناظرون» بالمعنى الحرفي (المستمد من النظر).
هؤلاء الآخرون هم الذين يعادلون الفلاسفة. وطريقة الحياة الفلسفية هي الوحيدة التي تحمل قدرا من الأمل في التغلب على تقلبات الحياة، وتتيح لنا الخلاص من دوامة الميلاد من جديد؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يؤمنون بأن الروح تمر بسلسلة متعاقبة من حالات التناسخ.
هذا الجانب من التراث كان يرتبط بعدد من المحرمات والنواهي البدائية، أما التقسيم الثلاثي لأنماط الحياة، فسوف نجده مرة أخرى في جمهورية أفلاطون، بل سنجد فيها بالفعل قدرا كبيرا من التعاليم الفيثاغورية، وآراء المدارس السابقة لسقراط؛ ذلك لأن من الممكن القول إن أفلاطون يقدم إلينا مركبا جامعا للصراعات المذهبية بين الفلاسفة الأوائل.
ومن جهة أخرى، فإن المدرسة الفيثاغورية قد أدت إلى ظهور تراث علمي، ورياضي على وجه التخصيص؛ إذ كان علماء الرياضة هم الورثة الحقيقيون للفيثاغورية، وعلى الرغم من العنصر الصوفي الناشئ عن حركة الأحياء الأورفية، فإن هذا الجانب العلمي للمدرسة لم يلحقه أي تشويه من جراء هذه الأفكار الدينية الأورفية، ولهذا يصبح العلم نفسه عندهما مصطبغا بالصبغة الدينية، على الرغم من أن اتخاذ الأسلوب العلمي في الحياة هو ذاته أمر ذو مغزى ديني.
ولقد كانت الموسيقى من العوامل الهامة في الجانب التطهيري لأسلوب الحياة هذا، ومن الجائز جدا أن اهتمام الفيثاغوريين بالموسيقى كان راجعا إلى تأثيرها التطهيري هذا. وأيا كان الأمر فقد اكتشف فيثاغورس العلاقات العددية البسيطة لما نسميه الآن بالمسافات الموسيقية. فالوتر المشدود يصدر الصوت الثامن (الأوكتاف) إذا قسم طوله إلى النصف، وبالمثل فإذا أنقص الطول إلى ثلاثة أرباع، حصلنا على الصوت الرابع، وإذا أنقص إلى الثلثين حصلنا على الخامس. والصوتان الرابع والخامس معا يصنعان الثامن (الأوكتاف)، أي × = . إن هذه المسافات تناظر النسب القائمة في العلاقة التوافقية 2: 4 / 3: 1. ولقد حاول البعض أن يربط بين المسافات الثلاث للوتر المشدود وبين طرق الحياة الثلاثة. ومع أن هذا لا بد أن يظل ضربا من التخمين، فمن المؤكد أن الوتر المشدود سيلعب منذ الآن دورا أساسيا في الفكر الفلسفي اليوناني؛ ذلك لأن فكرة الانسجام، بمعنى التوازن، والتوفيق بين الأضداد؛ كالمرتفع والمنخفض، والجمع بينها عن طريق الضبط الصحيح للنغم، ومفهوم الوسط أو الطريق الأوسط في الأخلاق، ونظرية الأمزجة الأربعة، كل هذه ترجع في النهاية إلى الاكتشاف الذي توصل إليه فيثاغورس، وسوف نجد الكثير من هذه الأفكار عند أفلاطون.
ومن المحتمل جدا أن الكشوف في ميدان الموسيقى هي التي أدت إلى الفكرة القائلة إن الأشياء كلها أعداد، بحيث يتحتم علينا، من أجل فهم العالم المحيط بنا، أن نهتدي إلى العدد في الأشياء. وما أن ندرك البناء العددي، حتى تتحقق لنا السيطرة على العالم، وتلك فكرة عظيمة الأهمية، وعلى حين أن دلالتها قد ضاعت مؤقتا بعد العصر الهلينستي، فقد عاد الاعتراف بها مرة أخرى بعد أن أدت حركة إحياء المعرفة إلى بعث اهتمام متجدد بالمصادر القديمة، وقد أصبحت هذه الفكرة من السمات الرئيسية في النظرة الحديثة إلى العلم. كذلك فإننا نجد لدى فيثاغورس لأول مرة اهتماما بالرياضيات لا ينبعث أساسا من الاحتياجات العملية، صحيح أنه كانت لدى المصريين القدماء بعض المعارف الرياضية، ولكن هذه المعارف لم تتجاوز ما كانوا يحتاجون إليه لبناء أهراماتهم أو لقياس مساحة حقولهم. أما اليونانيون فهم الذين بدءوا بدراسة هذه المسائل «حبا في البحث ذاته» على حد تعبير هيرودوت، وكان فيثاغورس واحدا من أسبقهم في هذا الميدان.
وقد استحدث فيثاغورس طريقة لتصوير الأعداد بوصفها تنظيمات من النقط أو الحصى، وتلك في الواقع طريقة في الحساب ظلت باقية، بصورة أو بأخرى، وقتا طويلا من بعده، بل إن الكلمة اللاتينية التي تدل على عملية الحساب
Calculation
تعني «التعامل مع الحصى».
2
وترتبط بذلك دراسة سلاسل حسابية معينة؛ فإذا رتبنا صفوفا من الحصى، بحيث يحتوي كل صف منها على واحدة تزيد عما قبله، بادئين بالواحد؛ عندئذ نحصل على عدد «مثلث». وقد أوليت أهمية خاصة إلى هذا العدد المثلث
Tetraktys
الذي يتألف من أربعة صفوف، والذي يثبت أن 1 + 2 + 3 + 4 = 10، وبالمثل فإن مجموع الأعداد الفردية المتعاقبة يساوي عددا «مربعا»، ومجموع الأعداد الزوجية المتعاقبة يساوي عددا «مستطيلا».
وفي الهندسة اكتشف فيثاغورس النظرية المشهورة القائلة إن المربع المقام على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين، وإن لم نكن نعرف طبيعة البرهان الذي أثبتها به، وهنا نجد مثلا آخر لمنهج التعميم والبرهان، على عكس القواعد العملية المكتسبة بالخبرة. على أن اكتشاف هذه النظرية قد أدى إلى إشكال هائل في المدرسة الفيثاغورية؛ ذلك لأن من نتائجها أن المربع المقام على وتر المربع يساوي ضعف المربع المقام على ضلعه، ولكن أي عدد «مربع» لا يمكن تقسيمه إلى عددين مربعين متساويين؛ ولذا فإن المشكلة لا يمكن حلها عن طريق ما نسميه الآن بالأعداد الجذرية
Rational . فالوتر لا يتناسب قياسا مع الضلع، ولا بد لحل هذه المشكلة من نظرية في الأعداد الصماء
Irrational ، وهي النظرية التي وضعها فيثاغوريون متأخرون. ومن الواضح أن اسم «الصماء» في هذا السياق يرجع إلى هذا الإشكال الرياضي المبكر. وتقول إحدى الروايات إن واحدا من أعضاء الجماعة الفيثاغورية قد أغرق في البحر لأنه باح بهذا السر.
ولقد ارتكز فيثاغورس في نظريته عن العالم على تعاليم الفلاسفة الملطيين مباشرة، وجمع بينها وبين نظرياته الخاصة في الأعداد. فالأعداد في الترتيبات التي ذكرناها من قبل تسمى «أحجار الحدود»، وهي تسمية ترجع قطعا إلى الأعداد، إن هذا المفهوم كان مرتبطا بقياس الحقول، أهمية «الهندسة» قياس الأرض
geometry
بالمعنى الحرفي للكلمة ؛ ففي رأي فيثاغورس أن الهواء اللامحدود هو ما يحافظ على تميز الوحدات، والوحدات هي التي تجعل اللامحدود قابلا للقياس. وفضلا عن ذلك فاللامحدود هو ذاته الظلمة، والحد هو النار، وهو تصور نابع، كما هو واضح من رؤية السماء والنجوم. وقد اعتقد فيثاغورس شأنه شأن الملطيين أن هناك عوالم كثيرة، وإن كان من غير المحتمل، تبعا لنظرته إلى العدد، أن يكون قد وصفها بأنها عوالم لا تعد ولا تحصى. وقد توسع فيثاغورس في فكرة أنكسيمندر، فذهب إلى أن الأرض كرة، وتخلى عن نظرية الدوامة التي قال بها الملطيون. غير أن القول بنظرية في مركزية الشمس كان لا بد أن ينتظر مجيء فيلسوف لاحق، كان بدوره من سكان ساموس.
ولقد كان اهتمام الفيثاغوريين بالرياضيات هو الذي أدى إلى ظهور نظرية سنصادفها فيما بعد، هي نظرية المثل أو نظرية الكليات
universals . فحين يبرهن الرياضي على نظرية خاصة بالمثلثات، فإنه لا يتحدث عن أي شكل محدد مرسوم في مكان ما، وإنما يتحدث عن شيء يراه بعين العقل، ومن هنا ينشأ التمييز بين المعقول والمحسوس، وفضلا عن ذلك فإن النظرية التي يتم إثباتها تكون صحيحة بلا قيد أو شرط، وتظل صحيحة في كل زمان. وحسبنا أن نسير خطوة واحدة بعد ذلك لنصل إلى الرأي القائل إن المعقول وحده هو الحقيقي والكامل والأزلي، على حين أن المحسوس ظاهري، ناقص، زائل، فتلك إذن نتائج مباشرة للفيثاغورية ظلت مسيطرة على الفكر الفلسفي، فضلا عن الفكر اللاهوتي، منذ ذلك الحين.
ولنذكر أيضا أن الإله الرئيسي عند الفيثاغوريين كان أبولو، على الرغم مما في معتقداتهم من عناصر أورفية، ولقد كان التيار الأبولوني هو الذي ميز اللاهوت العقلاني في أوروبا من صوفية الشرق.
وهكذا تزعزعت أركان العقيدة الأولمبية القديمة تحت تأثير الفيثاغوريين الأوائل، وظهرت محلها نظرة دينية جديدة، على أن زينوفان
Xenophanes
قد شن هجوما أعنف بكثير على الآلهة التقليدية. وقد ولد زينوفان هذا على الأرجح في عام 565ق.م. في أيونية، وهرب إلى صقلية عندما جاء الغزو الفارسي في عام 545ق.م، ويبدو أن هدفه الرئيسي كان استئصال مجموعة آلهة الأوليمبي التي اتخذ كل منها صورة الإنسان، كما أنه عارض النزعة الصوفية التي سادت حركة الأحياء الأورفية، وتهكم على فيثاغورس.
أما الشخصية التالية في ذلك التراث الفلسفي فهي شخصية هرقليطس
Heracleitus
الذي كان ينتمي إلى مدينة إفسوس
Ephesus ، والذي كانت فترة ازدهاره هي نهاية القرن السادس. ونحن لا نكاد نعرف عن حياته شيئا باستثناء انتمائه إلى أسرة أرستقراطية. غير أن بعض الشذرات من كتاباته ظلت باقية، ومنها ندرك بسهولة لماذا لقب بلقب «الغامض»؛ ففي أقواله نغمة الكلمات التنبئية، وشذرات مقتضبة رشيقة، حافلة بالمجازاة الحية. فهو يقول مثلا عن دورة الحياة والموت: «إن الزمن طفل يلعب النرد، والقوة الملكية إنما يتحكم فيها طفل.» وهو في هجماته المترفعة على الجهلاء يطلق العنان لازدرائه في عبارات لاذعة: «ما أشبه الحمقى حين يسمعون بالصم! وعليهم يصدق المثل القائل إنهم غائبون في حضورهم.» كما يقول: «الأعين والآذان شهود مضللون للناس إن كانت لهم نفوس لا تفهم لغتها».
ولكي يذكرنا بأن الإنجازات القيمة تكلف عملا وجهدا جما؛ يقول: «من يبحثون عن الذهب يحفرون من التراب الكثير، ولا يجدون إلا القليل.» أما أولئك الذين يجدون في ذلك صعوبة، فإنه يرفض موقفهم قائلا: «إن الحمير تفضل التبن على التبر.» ولكن حتى على الرغم من موقفه هذا، فإنه يستبق فكرة عبر عنها سقراط فيما بعد بكلمة مشهورة، هي الفكرة القائلة إننا لا ينبغي أن نفرط في التباهي بما نعلم «أن الإنسان أمام الله وليد رضيع، كالطفل في عين الرجل.»
ولو تأمل المرء آراء هرقليطس عن كثب لاستطاع فهمها على نحو أوضح؛ فعلى الرغم من أن هرقليطس لم تكن لديه الميول العملية التي اتسم بها الأيونيون السابقون له، فإن جذور تفكيره النظري كانت ترجع إلى تعاليم الأيونيين وفيثاغورس معا؛ فقد سبق أن قال أنكسيمندر إن الأضداد المتنافسة تعود إلى اللامحدود، كيما تكفر عن تعدياتها كل على الآخر، ومن جهة أخرى قال فيثاغورس بفكرة الانسجام. ومن هذين العنصرين وضع هرقليطس نظرية جديدة، هي أهم كشف وإسهام له في الفلسفة، وهي النظرية القائلة إن قوام العالم الحقيقي هو التآلف المتوازن بين الأضداد؛ فمن وراء صراع الأضداد، وفقا لمقادير محسوبة، يكمن انسجام خفي أو تناغم، هو جوهر العالم.
على أن هذه الفكرة الكونية لا تظهر للعيان في كثير من الأحيان؛ لأن الطبيعة تحب الاختفاء، بل يبدو أن رأيه هو أن التناغم ينبغي، بمعنى ما، أن يكون شيئا لا تدركه العين على الفور؛ «فالتناغم الخفي أفضل من الواضح»، بل إن الناس كثيرا ما يتغافلون عن وجود الانسجام، «إن الناس لا يعرفون كيف يتفق ما هو متباين مع ذاته، إنه تناغم لتوترات متضادة، كتناغم القوس والقيثارة.»
وهكذا، فإن الخلاف والصراع هو المبدأ المحرك الذي يحفظ للعالم حياته؛ «لقد كان هوميروس على خطأ حين قال: ليت الصراع يختفي من بين الآلهة والناس! إذ إنه لم يدرك أنه كان يدعو بذلك لدمار العالم، فلو استجيب لدعائه هذا، لفنيت الأشياء جميعا.» وبهذا المعنى المنطقي، لا بالمعنى العسكري، ينبغي أن نفهم عبارته القائلة إن «الحرب أبو الأشياء جميعا.»
3
هذا الرأي يحتاج إلى مادة أساسية جديدة تنطوي على تأكيد لأهمية الفاعلية والنشاط. وهكذا سار هرقليطس في طريق الفلاسفة الملطيين من حيث المبدأ، لا من حيث التفاصيل، فاختار النار؛ «الأشياء جميعا تتبادل مع النار، والنار مع الأشياء جميعا، كما تتبادل السلع مع الذهب، والذهب مع السلع.» هذا التشبيه التجاري يكشف عن مغزى النظرية؛ فلهب المصباح الزيتي يبدو كما لو كان شيئا ثابتا، مع أن الذي يحدث طوال الوقت هو أن الزيت يستهلك بالتدريج، والوقود يتحول إلى لهب، والسناج يترسب من احتراقه، وهكذا فإن كل ما يحدث في العالم إنما هو عملية تنطوي على مبادلات من هذا النوع، ولا شيء يظل على حاله أبدا، «إنك لا تستطيع أبدا أن تنزل في النهر نفسه مرتين؛ لأن مياها جديدة تتدفق عليك بلا انقطاع.» ومن أجل هذا النوع من التشبيه نسب الكتاب المتأخرون إلى هرقليطس تلك الكلمة المشهورة: «كل الأشياء في صيرورة.» كما كان سقراط يلقب أتباع هرقليطس بلقب «المتدفقين».
ومن المهم أن نضع العبارة السابقة في مقابل شذرة أخرى لهرقليطس تقول: «إننا ننزل في النهر نفسه، ولا ننزل فيه، إننا نكون ولا نكون»؛ إذ يبدو للوهلة الأولى أن من المستحيل التوفيق بين هذه العبارة الأخيرة وبين سابقتها، غير أن القول الأخير ينتمي إلى جانب آخر من النظرية؛ فمفتاحها يكمن في نصفها الثاني؛ إذ إن عبارة: «إننا نكون ولا نكون» إنما هي تعبير غامض عن القول إن أساس وحدة وجودها هو التغير الدائم، أو إذا استخدمنا اللغة التي اصطنعها أفلاطون فيما بعد، إن وجودنا صيرورة دائمة. وكذلك الحال في مثال النهر؛ فإذا نزلت اليوم في نهر التيمز، ثم نزلت مرة أخرى غدا، فإنني أنزل في النهر نفسه، ومع ذلك فإن النهر الذي أنزل فيه ليس نفس النهر. وأعتقد أن النقطة التي أرمي إليها هي من الوضوح بحيث لا يحتاج القارئ إلى أن يمارس التجربة بنفسه. وهناك عبارة أخرى تتضمن هذا المعنى نفسه، وهي «الطريق الصاعد هو نفسه الطريق الهابط»، فهذا شيء لاحظناه من قبل في حالة اللهب، إذ إن الزيت يصعد، والسناج يهبط، وكلاهما جزء من عملية الاحتراق، ومن الجائز جدا أن العبارة ينبغي أن تؤخذ أولا وقبل كل شيء بمعناها الحرفي، فالطريق المنحدر يتجه إلى أعلى وإلى أسفل، تبعا للاتجاه الذي تسير فيه، وهنا تذكرنا نظرية الأضداد عند هرقليطس بأن السمات التي تبدو متعارضة هي في واقع الأمر أجزاء أساسية من موقف ما. ولقد كان من أقوى العبارات التي استخدمها هرقليطس للتعبير عن هذه الفكرة قوله: «الخير والشر واحد»، وهي عبارة لا تعني بالطبع أن الخير والشر هما نفس الشيء، بل تعني عكس ذلك؛ فكما أن المرء لا يستطيع تصور طريق صاعد بدون طريق هابط، فكذلك لا يستطيع المرء أن يفهم فكرة الخير من غير أن يفهم فكرة الشر في الوقت ذاته. والواقع أنك لو أزلت الطريق الصاعد، بإزالة المنحدر مثلا، فإنك بذلك تقضي أيضا على الطريق الهابط، وكذلك الحال في الخير والشر.
وإلى هذا الحد يمكن القول إن النظرية القائلة إن الأشياء كلها في صيرورة ليست جديدة حقا؛ فقد كانت لأنكسيمندر آراء مماثلة تماما، ولكن تفسير هرقليطس للسبب الذي من أجله تظل الأشياء كلها، رغم هذه الصيرورة على ما هي عليه، يمثل تقدما بالقياس إلى الفلاسفة الملطيين. ولقد استمدت الفكرة الرئيسية عن التناسب من فيثاغورس، فعن طريق المحافظة على النسب الصحيحة يعمل التغير الدائم على الاحتفاظ بالأشياء كما هي. وهذا يصدق على الإنسان مثلما يصدق على العالم؛ ففي الطبيعة تتحول الأشياء وفقا لنسب، وكذلك الحال في النفس البشرية التي تحدث فيها تحولات بين الجاف والرطب. فالنفس الرطبة تتدهور وتتعرض لخطر الانحلال إن لم تمنع النار ذلك، وهي ملاحظة لا تخلو من الصواب حين يكون الأمر متعلقا بإنسان لا يكف عن الشراب. ومن جهة أخرى فإن «النفس الجافة هي الأحكم والأفضل»، وإن كان من الواجب ألا نفرط في جانب الفضيلة بدوره؛ لأن النار الزائدة قد تقتل النفس كما تقتلها الرطوبة الجامحة. ومع ذلك يبدو أن الفناء بالنار قد اعتبر نهاية أعظم، ما دامت «الميتات الأعظم تنال حظوظا أعظم»؛ وعلة ذلك هي - على الأرجح - أن النار هي الجوهر الأزلي. «هذا العالم الذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم يصنعه واحد من الآلهة أو البشر، وإنما كان منذ الأزل، وهو الآن، وسيكون دائما نارا لا تخبو أبدا، تشتغل بقدر، وتنطفئ بقدر».
أما عن عمليات الطبيعة، فإنها كلها تجري وفقا للنسب الخاصة بها، فليس من الواجب أن ننظر إلى الصراع بين الأضداد على أنه ظلم، كما اعتقد أنكسيمندر، بل إن الظلم يكمن في تجاهل النسب، «إن الشمس لن تتجاوز نسبها»، ولو فعلت للاحقتها أيدي ربات العدالة (إرينييس
Erinyes )، غير أن النسب ليست جامدة تماما، وكل ما هو مطلوب هو ألا تتجاوز حدودها؛ فمن الممكن أن تتذبذب في حدود معينة، وهذا ما يعلل تلك الظواهر الدورية ؛ كالليل والنهار في الطبيعة، واليقظة والنوم في الإنسان، وما شابهها من التغيرات. وقد يجد المرء لديه ميلا إلى أن يربط فكرة النسب المتذبذبة بفكرة تكوين الفيثاغوريين للأعداد الصماء عن طريق كسور مستمرة تتألف من تقريبات متعاقبة تزيد وتنقص بالتناوب عن القيمة المحددة، غير أننا لا نعرف إن كان الفيثاغوريون الأوائل توصلوا إلى هذه الطريقة بالفعل أم لا، وعلى الرغم من أنها كانت بالقطع معروفة أيام أفلاطون، فإننا لا نستطيع أن ننسب هذه المعرفة عن ثقة إلى هرقليطس.
ولقد كان هرقليطس، شأنه شأن زينوفان، يحتقر العقيدة الشائعة في أيامه، وذلك في صورتيها الأوليمبية والأورفية؛ ففي رأيه أن الطقوس والقرابين ليست هي التي تجعل الناس فضلاء، وهكذا أدرك بوضوح الطابع السطحي والبدائي للممارسات الشعائرية. «عبثا ما يفعلون حين يطهرون أنفسهم بأن يرشوها بالدماء، مثلهم في ذلك كمثل من يغسل رجليه من الطين، بأن يغمسهما في الوحل، وهو منظر لو رآه أحد لحكم على صاحبه بالجنون»، وهكذا فإن السير في هذا الاتجاه لا يجلب أي نوع من الفضيلة.
ولكن هناك طريقة يمكن بها بلوغ الحكمة، هي إدراك المبدأ الكامن في الأشياء. هذه الصيغة هي انسجام الأضداد، وهي صيغة لا يدركها الناس برغم أنها تتكشف في كل مكان. «إن الصيغة التي أقول بها تغيب عن عقول الناس قبل أن يسمعوها وبعد أن يسمعوها؛ ذلك لأنه رغم أن الأشياء جميعا تحدث وفقا لهذه الصيغة، فإن الناس يبدون وكأنهم لا يعرفون عنها شيئا، حتى عندما يصادفون أقوالا وأفعالا كتلك التي أوضحتها عندما ميزت كل شيء وفقا لنوعه وحددت ما يكونه»، فإذا لم نعرف هذه الصيغة فلن يفيدنا أي قدر من التعلم. «إن تعلم أشياء كثيرة لا يعلم الفهم.» وتلك نظرة سنجدها فيما بعد عند هيجل، وكان مصدرها الأول هو هرقليطس.
وإذن فالحكمة إنما تكون في إدراك الصيغة الكامنة التي هي مشتركة بين الأشياء جميعا، وعلينا أن نلتزم بهذه الصيغة كما تلتزم المدينة بقوانينها، بل إن علينا أن نلتزم بها بمزيد من الدقة؛ لأن الصيغة المشتركة تسري على نحو شامل، على حين أن القوانين قد تختلف من مدينة لأخرى، وهكذا فإن هرقليطس يؤكد الطابع المطلق لما هو مشترك، على عكس فكرة النسبية التي كانت تنمو في ذلك العصر نتيجة للمقارنات التي كانت تجرى بين العادات المتباينة للشعوب المختلفة؛ فالموقف الهرقليطي مضاد للرأي البرجماتي الذي قال به السفسطائيون، والذي أعرب عنه بروتاجوراس
فيما بعد بقوله: «إن الإنسان مقياس الأشياء جميعا.»
ولكن على الرغم من أن الصيغة الكلية الشاملة، أو اللوجوس
Logo
موجودة في كل مكان، فإن الكثيرين يعجزون عن رؤيتها، ويسلكون وكأن لكل منهم حكمته الخاصة به، وهكذا فإن الصيغة العامة أبعد ما تكون عن الرأي الشعبي أو العام، وبسبب هذا العجز (عن إدراك الصيغة العامة) يحتقر هرقليطس العامة؛ فهو أرستقراطي بالمعنى الحرفي للكلمة، أي بمعنى من يؤيد سلطة المتفوقين أو الأفاضل؛ «خير لأهل إفسوس، أعني كل رجل بالغ منهم، أن يشنقوا أنفسهم، ويتركوا المدينة للصبية الذين لم تنبت لحاهم؛ ذلك لأنهم نبذوا هرمودورس
Hermodorus ، أفضلهم جميعا، قائلين: لا نود أن يكون بيننا من هو أفضل منا، ولو كان ثمة شخص كهذا، فليكن الأفضل في مكان آخر وبين أناس آخرين.»
ومن المؤكد أن فكرة هرقليطس عن نفسه كانت رفيعة، وهو أمر يجوز لنا أن نعذره عليه، وعلى أية حال، فباستثناء هذا الغرور الشخصي، فإنه يظهر أمامنا مفكرا ضخما، جمع بين أهم تصورات السابقين له، وكان له تأثير حيوي على أفلاطون.
إن نظرية الصيرورة عند هرقليطس تلفت الانتباه إلى أن الأشياء جميعا يسري عليها نوع من الحركة، ولكن التحول التالي في الفلسفة اليونانية ينتقل بنا إلى الطرف المضاد، وينكر الحركة على إطلاقها.
لقد كان من السمات التي تشترك فيها كل النظريات التي عرضناها من قبل، أنها تبذل محاولة لتفسير العالم عن طريق مبدأ واحد، وبالطبع فإن الحلول تختلف من مدرسة إلى أخرى، ولكن كل مدرسة كانت تدعو إلى مبدأ أساسي واحد فيما يتعلق بالتركيب الذي تتألف منه الأشياء جميعا، ولكن أحدا لم يتصد حتى الآن لاختبار وجهة النظر العامة هذه بطريقة نقدية. وكان الناقد الذي أخذ هذه المهمة على عاتقه هو بارمنيدس
.
إننا لا نعرف عن حياة بارمنيدس إلا أشياء قليلة هامة، شأنه في ذلك شأن الكثيرين غيره؛ فقد كان من مواطني إيليا
Elea ، في جنوب إيطاليا، أسس مدرسة سميت بالمدرسة الإيلية، نسبة إلى المدينة. وكانت فترة نضجه هي النصف الأول من القرن الخامس، وإذا صحت رواية أفلاطون، وكذلك زينون تلميذ بارمنيدس فإنه زار أثينا، حيث قابلا معا سقراط حوالي عام 450ق.م، ولقد كان بارمنيدس وأنبادقليس
Empedocles ، من بين الفلاسفة اليونانيين جميعا، هما وحدهما اللذان عرضا نظرياتهما بصورة شعرية، وكان عنوان قصيدة بارمنيدس هو «في الطبيعة»، وهو نفس العنوان الذي كان يطلق على الكثير من الكتابات الأخرى للفلاسفة الأقدمين، وهذه القصيدة تنقسم قسمين؛ أولهما: «طريق الحق»، ويتضمن نظريته المنطقية التي تهمنا هنا قبل غيرها، أما في الجزء الثاني: «طريق الظن» فيعرض مذهبا في الكون ذا طابع فيثاغوري في أساسه، وإن كان يقول بصراحة تامة إننا يجب أن ننظر إلى هذا كله على أنه وهم. ولقد كان بارمنيدس ذاته منتميا في البداية إلى النظرية الفيثاغورية، غير أنه تخلى عنها عندما صاغ انتقاداته العامة، وهكذا فإن هذا الجزء من قصيدته يقصد به أن يكون تعدادا للأخطاء التي تحرر منها.
يبدأ نقد بارمنيدس من نقطة ضعف كانت تشترك فيها النظريات السابقة كلها؛ تلك هي التعارض بين الرأي القائل إن الأشياء جميعا قوامها مادة أساسية ما، والقول في الوقت ذاته بوجود مكان فارغ، فنحن نصف المادة بقولنا «إنها موجودة»، والمكان الفارغ بقولنا «إنه غير موجود»، ولقد كان الخطأ الذي وقع فيه الفلاسفة السابقون جميعا هو أنهم تحدثوا عما هو غير موجود كما لو كان موجودا، بل إن هرقليطس يبدو كما لو كان قد قال إنه يوجد ولا يوجد في آن معا، وفي مقابل هذا كله أكد بارمنيدس ببساطة «أنه موجود»؛ ذلك لأن ما لا يوجد لا يمكن حتى التفكير فيه، إذ لا يستطيع المرء أن يفكر في لا شيء، كما أن ما لا يمكن التفكير فيه لا يمكن أن يوجد؛ ومن ثم فإن ما يمكن أن يوجد يمكن التفكير فيه، هكذا كان الاتجاه العام للحجة التي استند إليها بارمنيدس.
هذه الحجة تؤدي فورا إلى بعض النتائج؛ فعبارة «إنه موجود» تعني أن العالم مليء في كل مكان بالمادة، أما المكان الفارغ فهو ببساطة غير موجود، لا داخل العالم ولا خارجه، وفضلا عن ذلك فلا بد أن يوجد من المادة في مكان ما بقدر ما يوجد في مكان آخر، وإلا لتوجب أن نقول عن مكان ذي كثافة أقل إنه ليس موجودا بمعنى ما، وهو محال. ولا بد أن يكون هذا الموجود حاضرا بالتساوي في جميع الاتجاهات، ويستحيل أن يمتد إلى ما لا نهاية؛ إذ لو صح ذلك لكان معناه أنه غير مكتمل، ثم إن هذا الموجود غير مخلوق، وهو أزلي؛ لأن من المحال أن ينشأ من لا شيء، ويرتد إليه بعد فنائه، أو أن ينشأ من شيء ما، ما دام لا يوجد إلى جانبه شيء. وهكذا نصل إلى صورة للعالم على أنه كرة مادية مصمتة، متناهية، متجانسة، بلا زمان ولا حركة ولا تغيير. والحق إن تلك ضربة قاصمة لتصورنا العادي، غير أنها هي النتيجة المنطقية لمذهب مادي واحدي متسق مع نفسه، فإن كان ذلك يجرح حواسنا، فالعيب عيب حواسنا، وينبغي علينا أن نستبعد التجربة الحسية بوصفها خداعة، وهذا بعينه ما فعله بارمنيدس؛ فهو إذ مضى بالنظرية الواحدة حتى نهايتها المريرة، قد أرغم المفكرين التالين له على أن يبدءوا بداية جديدة، والحق إن الكرة «الكونية» التي تحدث عنها بارمنيدس إنما هي مثال لما كان يعنيه هرقليطس حين قال إن الصراع لو انتهى لانتهى معه العالم.
ومن الجدير بالملاحظة أن نقد بارمنيدس لا يمس نظرية هرقليطس لو نظر إليها نظرة صحيحة؛ ذلك لأن الرأي القائل إن الأشياء قوامها النار، ليس في واقع الأمر أساسيا لنظرية هرقليطس، بل إن دوره كان مجازيا من حيث إن اللهب إنما هو وسيلة واضحة ملموسة لتمثيل الفكرة الهامة القائلة إنه لا شيء يظل ساكنا، وإن الأشياء كلها في تغير دائم، ولقد شرحنا من قبل كيف ينبغي تصور عبارة مثل: إنه يكون ولا يكون في إطار مذهب هرقليطس، وواقع الأمر أن نظرية هرقليطس كانت بالفعل تنطوي على نقد ضمني للميتافيزيقا اللغوية عند بارمنيدس.
إن نظرية بارمنيدس، في صورتها اللغوية، ترتد ببساطة إلى القضية التالية: إنك حين تفكر أو تتكلم، فأنت تفكر أو تتكلم عن شيء ما، ويترتب على ذلك ضرورة وجود أشياء خارجية مستقلة تفكر فيها وتتكلم عنها. وهذا أمر يمكنك أن تقوم به في مناسبات مختلفة عديدة، ومن ثم فإن موضوعات الفكر أو الكلام ينبغي أن توجد دائما، ولما كان من المحال ألا توجد هذه الموضوعات في أي وقت، فلا بد أن التغير مستحيل، ولكن ما أغفله بارمنيدس هو أنه، وفقا لرأيه، لا يستطيع أن ينكر أي شيء ما دام هذا الإنكار معناه أنه يتكلم عما هو غير موجود. ولكن لو كان الأمر كذلك، لما استطاع في الوقت ذاته أن يؤكد أو يثبت شيئا، وبذلك يصبح كل حديث، وكل مقال، وكل فكر مستحيلا، ولا يبقى إلا «أنه موجود»، تلك الصيغة الفارغة التي تعبر عن مجرد الهوية.
ومع ذلك فإن هذه النظرية تعبر عن مسألة هامة؛ هي أننا إذا استطعنا أن نستخدم كلمة ما بطريقة معقولة فلا بد أن يكون لها معنى، ولا بد أن يكون ما تعنيه موجودا بمعنى أو بآخر، أما المفارقة فإنها تختفي لو عدنا بذاكرتنا إلى هرقليطس، والواقع إننا حين نتأمل المسألة بمزيد من الوضوح، لن نجد أحدا يقول بالفعل «إنه لا يكون» (بالمعنى المطلق)، وإنما يقول فقط «إنه لا يكون من نوع ما»، فإذا قلت «العشب ليس أحمر»، فلست أعني أن العشب لا يكون، بل أعني فقط أنه لا يكون على نحو ما تكون أشياء أخرى، والواقع إنني لا أستطيع أن أقول ذلك لو لم تكن لدي أمثلة أقدمها لأشياء أخرى حمراء، كالحافلات (الباصات) مثلا، وهكذا فإن ما يود هرقليطس أن يقوله هو أن ما هو أحمر اليوم، قد يصبح أخضر غدا؛ إذ إنك قد تصبغ الحافلة الحمراء بطلاء أخضر.
وهذه النقطة تؤدي إلى إثارة السؤال العام عن الشروط التي تكون الألفاظ بموجبها ذات معنى، وهو سؤال أضخم من أن يجاب عنه ها هنا، ومع ذلك فإن إنكار بارمنيدس للتغير هو أصل كل النظريات المادية التالية. فضمير الغائب الذي نسب إليه الوجود في عبارة «إنه موجود»، هو ما أصبح يطلق عليه فيما بعد اسم «الجوهر»، أي المادة التي لا تتغير ولا تفنى، والتي يقول الماديون عنها إنها هي التي تتألف منها الأشياء جميعا.
لقد كان بارمنيدس وهرقليطس هما القطبين المتنافرين من بين مفكري العصور السابقة لسقراط، ومن الجدير بالذكر أن الفلاسفة الذريين - فضلا عن أفلاطون - قد أوجدوا مركبا يجمع بين وجهتي النظر المتعارضتين هاتين؛ فمن بارمنيدس أخذوا الجزئيات الأولية الثابتة التي قالوا بها، ومن هرقليطس أخذوا فكرة الحركة التي لا تنقطع. وهذا في الواقع واحد من أوضح وأقدم الأمثلة التي أوحت بالجدل الهيجلي من بداية الأمر، فمن المؤكد أن التقدم العقلي تصدق عليه الفكرة القائلة إنه ينشأ عن مركب من هذا النوع، يأتي بعد بحث دءوب في موقفين متطرفين متعارضين.
ولقد كان النقد الذي وجهه بارمنيدس يستدعي اتخاذ موقف جديد من مسألة تركيب العالم، وهذا ما قام به أنبادقليس
Empedocles
من مدينة أكراجاس
Acragas ، وهو بدوره فيلسوف لا نعرف إلا القليل عن تاريخه، وإن كان قد بلغ مرحلة النضج في النصف الأول من القرن الخامس ق.م، ولقد كان أنبادقليس، من الوجهة السياسية، في جانب الكثرة، وروي عنه أنه كان زعيما ديمقراطيا، وفي الوقت ذاته كان لديه عنصر صوفي يبدو أنه ارتبط بالتأثير الأورفي للفيثاغوريين؛ ذلك لأن أنبادقليس، شأنه شأن بارمنيدس، كان على ما يبدو مفتونا بالتعاليم الفيثاغورية، ثم انشق عنها فيما بعد كما فعل بارمنيدس أيضا، وتحكى عنه روايات ظلت محفوظة حتى الآن، وتدخل في باب الخوارق والمعجزات؛ إذ تقول الأسطورة إنه كان يستطيع التأثير في الطقس، وبفضل خبرته الطيبة نجح في مكافحة وباء الملايا الذي انتشر في مدينة سيلينوس
Silenus ، وقد خلدت ذكرى هذا الحادث فيما بعد على نقود سكت في هذه المدينة.
ويقال إنه كان يعد نفسه إلها، وعندما مات ساد الاعتقاد بأنه رفع إلى السماء، بينما يقول آخرون إنه قفز داخل بركان أتنا، وإن كان هذا يبدو أمرا لا يصدق؛ إذ يستحيل أن يقوم سياسي جدير بهذا الاسم بالقفز في بركان.
ولقد أراد أنبادقليس أن يوفق بين المذهب الإيلي وبين شهادة الحواس المعتادة، فقال بكل المواد التي جرب الفلاسفة من قبله أن يجعلوها أساسية، وأضاف إليها مادة رابعة. وقد أطلق على هذه المواد اسم «جذور» الأشياء، ثم أسماها أرسطو فيما بعد بالعناصر، وتلك هي نظرية العناصر الأربعة المشهورة، وأعني بها الماء والهواء والنار والتراب، وهي النظرية التي سيطرت على علم الكيمياء طوال ما يقرب من ألفي عام، وما زالت آثار منها باقية في اللغة العادية حتى يومنا هذا، كما هو الحال حين نتكلم عن ثورة العناصر، وهذه النظرية هي في حقيقتها مزيج من مجموعتين من الأضداد؛ الرطب والجاف، والحار والبارد.
ولنلاحظ أنه لا يكفي، من أجل التصدي لانتقاد بارمنيدس، زيادة أنواع المواد التي نعدها أساسية، وإنما ينبغي بالإضافة إلى ذلك أن يكون هناك شيء يجعل المواد الأساسية تمتزج على أنحاء شتى.
وهذا ما يحققه المبدآن الفعالان اللذان قال بهما أنبادقليس، وهما المحبة والنزاع؛ فالوظيفة الوحيدة لهذين المبدأين هي الجمع والتفريق، على الرغم من أنه اضطر إلى أن يتحدث عنهما كما لو كانا بدورهما ماديين؛ لأن فكرة الفاعلية بطريق غير مادي لم تكن قد ظهرت بعد؛ ولذا قال إن هذين المبدأين ماديان أو جوهريان، وأضافهما إلى العناصر الأربعة الأخرى ليكون المجموع ستة. وهكذا فعندما تتفرق العناصر الأربعة، يحتل «النزاع» الفراغ القائم بينها، على حين أنها حين تتحد تربط بينها المحبة برباط وثيق، ونود في هذا الصدد أن نشير إلى أن هناك بعض المبررات للرأي القائل إن المبدأ الفعال ينبغي أن يكون ماديا؛ ذلك لأن العلم الحديث وإن كان قد طور الفكرة القديمة وهذبها، ما زال يرى أن المبدأ الفعال يجب أن يكون له مصدر مادي في مكان ما، حتى لو كان هذا المكان مغايرا لذلك الذي يمارس فيه فاعليته.
ولقد رأينا من قبل أن أناكسيمنيس قد نظر إلى الهواء على أنه مادي ، وإن لم نكن نعرف الأسباب التي بنى عليها رأيه هذا، أما أنبادقليس فإنه يقف على أرضية مختلفة؛ لأنه اكتشف الحقيقة القائلة إن الهواء مادة، وقد توصل إلى ذلك عن طريق إجراء تجارب على الساعات المائية؛ ولذا كان مما يلفت النظر أنه في الوقت الذي استخدم فيه السابقون له كلمة «الهواء
Air » نراه هو يسمي هذه المادة «أثير
Aether » والكلمتان معا يونانيتان، وقد اكتسبت الكلمة الثانية مكانة علمية جديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما اقتضت النظرية الكهربية المغنطيسية وسيطا ما لنقل الموجات.
على أن أنبادقليس برغم استحداثه لهذه التجديدات، قد احتفظ بجانب لا يستهان به من النظرية الإيلية، وهكذا نظر إلى المواد الأساسية على أنها أزلية لا متغيرة، ولا تقبل في ذاتها مزيدا من التفسير. وما زالت هذه الفكرة الأخيرة بدورها تشكل مبدأ هاما في التفسير العلمي، وإن يكن ذلك مبدأ لا يصرح به في أحيان كثيرة.
فلتتأمل مثلا مألوفا: إن المرء لو فسر الظواهر الكيميائية على أساس الذرات، لكان من الواجب أن تظل هذه الذرات ذاتها بلا تفسير. أما إذا أراد تفسيرها، فلا بد أن ينظر إليها على أنها تتألف من جزئيات أصغر لا تفسر بدورها.
وهكذا فإن ما يوجد موجود، كما كان الأمر من قبل، ولا يمكن أن ينشأ شيء عما لا يوجد، أو يتحول شيء موجود إلى شيء غير موجود، وهذا كله ينتمي إلى المادية الإيلية بوضوح وصراحة. على أننا نود أن نشير هنا إلى مسألة عامة لم تتمكن فيها تلك الصيغة المعدلة التي وضعها أنبادقليس للمذهب المادي من أن تتخلص من النقد الذي وجهه بارمنيدس؛ تلك المسألة هي أن مجرد الاعتراف بالتغير يحتم على المرء الاعتراف بوجود الفراغ بدوره؛ ذلك لأن إمكان التغير معناه أن من الممكن بنفس القدر أن تتناقص كمية المادة في أي مكان معين إلى أن لا يتبقى منها شيء. ومن هنا فإن زيادة عدد العناصر لا يكفي وحده. وهكذا فإن لبارمنيدس كل الحق في إنكار إمكان التغير ما دام قد أنكر إمكان وجود مكان خال. ولا يمكن القول إن أنبادقليس يساعدنا في التغلب على هذه الصعوبة، وسوف نرى فيما بعد كيف حل أنصار مذهب الذرة هذه المشكلة.
لقد عرف أنبادقليس أن الضوء يستغرق وقتا في الانتقال، وأن ضوء القمر غير مباشر، وإن لم يكن في وسعنا أن نحدد المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات. وكان مذهبه في الكون مبنيا على سلسلة من الدورات يبدأ بها مسار العالم، بحيث يكون «النزاع» في الخارج والمحبة في الداخل، وتكون العناصر الأربعة متماسكة. وبعد ذلك يعمل «النزاع» على طرد المحبة حتى تتفرق العناصر المتعددة تفرقا تاما، وتصبح المحبة خارج العالم، وبعد ذلك يحدث العكس حتى نصل مرة أخرى إلى نقطة البدء. وترتبط نظرية الحياة عنده بهذه الدورة؛ ففي المرحلة الأخيرة للدورة، عندما تتغلغل المحبة في الكون الكروي، تتكون أجزاء الحيوانات المختلفة متفرقة، وبعد ذلك حين يعود النزاع مرة أخرى إلى الخارج، تحدث تجمعات عشوائية خاضعة لمبدأ بقاء الأصلح، وحين يبدأ النزاع في الدخول مرة أخرى، تحدث عملية تمايز. ويمثل عالمنا مرحلة متقدمة من هذه العملية، يحكمها بدورها مبدأ تطوري هو مبدأ بقاء الأصلح.
وأخيرا ينبغي أن ننوه باهتمام أنبادقليس بالطب وعلم وظائف الأعضاء؛ فقد أخذ عن الطبيب ألكمايون الكروتوني
Alcmaeon of Craton ، وهو من أتباع الفيثاغورية، النظرية القائلة إن الصحة توازن سليم بين المكونات المتضادة، وأن المرض يحدث حين تصبح الغلبة لأحد هذه المكونات. وبالمثل أخذ بنظرية المسام، أو الممرات التي يتنفس من خلالها الجسم بأكمله، وهذه المسام هي التي تجعل لدينا إدراكا حسيا. ويهمنا بوجه خاص أن نشير إلى نظريته في الأبصار، التي ظلت سائدة وقتا طويلا، والتي تقول بتلاقي مؤثرات منبثقة من الشيء المرئي مع شعاع من النار صادر عن العين.
أما آراؤه الدينية فكانت تسير وفقا للتراث الأورفي، وكانت منقطعة الصلة بفلسفته، ومن ثم فليس لنا أن نقيم لها وزنا، ولكن قد يكون مما له أهميته أن نشير إلى أنه يبدو في كتاباته الدينية معتنقا آراء لا يمكن التوفيق بينها وبين نظريته في العالم، والواقع أن هذا النوع من التضارب شائع إلى أبعد حد، وخاصة بين أولئك الذين لا يخضعون معتقداتهم لاختبار نقدي. صحيح أن من المستحيل اعتناق مثل هذه الآراء المتعارضة معا في لحظة واحدة، ولكن الناس لا يجدون غضاضة في أن يؤمنوا الآن بشيء ما، ويؤمنوا غدا بعكسه، دون أن تنتابهم أدنى ريبة في أن يكون ثمة تعارض بين الموقفين.
لقد وصلنا في قصتنا الآن إلى قلب القرن الخامس ق.م، والواقع أن قدرا غير قليل مما ينبغي أن يناقش تحت عنوان «الفلسفة السابقة لسقراط»، هو في الحقيقة معاصر لسقراط، وفي كثير من الأحيان لا يكون من الممكن تجنب قدر معين من التداخل؛ ذلك لأن المرء يضطر من أجل تقديم عرض مترابط إلى الخروج من آن لآخر عن إطار الترتيب الزمني البحت. وتلك صعوبة تعترض كل بحث تاريخي؛ لأن التاريخ نادرا ما يكترث براحة المؤرخ الذي يتابع الأحداث وفقا لترتيب حدوثها.
فلنلق الآن بنظرة عامة موجزة إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية لليونان في القرن الخامس، على الرغم من أننا سنحصر اهتمامنا بعد قليل في أثينا وحدها.
لقد اكتسب اليونانيون، بفضل حروبهم مع الفرس، وعيا عميقا بالروابط المشتركة التي تجمع بينهم؛ أعني روابط اللغة والثقافة والقومية، ومع ذلك فقد ظلت دولة المدينة هي محور الاهتمام إلى حد بعيد؛ فإلى جانب التراث، الذي ينتسب إليه كل الناطقين باللسان اليوناني، ظلت العادات المحلية لكل مدينة حية بقوة، ومحتفظة بهويتها. صحيح أن هوميروس قد يكون ميراثا مشتركا، ولكن إسبرطة كانت تختلف عن أثينا بقدر ما يختلف السجن عن ساحة اللعب، وهما بدورهما كانتا تختلفان عن كورينثة
Corinth
أو طيبة
Thebes ، ولقد اتخذ تطور إسبرطة مسارا خاصا بها؛ ذلك لأن زيادة عدد الإسبرطيين دفعتهم إلى إخضاع قبيلة المسينيين
Messenians
المجاورة، وتحويلها إلى جماعة من الخدم، وترتب على ذلك تحول دولة إسبرطة إلى معسكر حربي.
كانت حكومة إسبرطة تتألف من مجلس شعبي ينتخب مجلسا للشيوخ، ويعين اثنين من المستشارين أو المشرفين، كما كان هناك ملكان، واحد من كل أسرة عريقة، ولكن السلطة الفعلية كانت في أيدي المستشارين، أما النظام التعليمي فكان الهدف منه هو تكوين جنود منضبطين فحسب، ولقد كان الفرسان الإسبرطيون مشهورين في طول اليونان وعرضها. وكانوا بالفعل يشكلون قوة هائلة، والواقع أن صمود ليونيداس
Leonidas
ورجاله الثلاثمائة أمام جحافل الفرس بقيادة زيرزيس
Xerxes
في ثرموبيلا
Thermopylae
ينبغي أن يعد من أروع الأحداث التاريخية، ومن جهة أخرى لم يكن الإسبرطيون من أولئك الذين يغرقون في العواطف إلى حد الضعف والاستخذاء؛ فقد كان نظامهم صارما، وكان من الضروري كبح جماح المشاعر الخاصة. أما الأطفال المشوهون فكانوا يتركون في العراء، حتى لا يعتري الوهن قوة الجنس كله. وكان الأطفال يؤخذون من والديهم في سن مبكرة، ويربون في مؤسسات تشبه الثكنات العسكرية، كما كانت الفتيات يعاملن بطريقة تشبه في عموميتها معاملة الفتيان، أما المركز الاجتماعي للمرأة، فكان مبنيا على المساواة إلى حد بعيد، ومن هنا فإن قدرا كبيرا من أوصاف المدينة المثالية عند أفلاطون مستوحى من النموذج الإسبرطي.
أما مدينة كورينثة، على البرزخ اليوناني، فكانت تحتل مكانة مسيطرة في ميدان التجارة والنقل، وكانت تحكمها حكومة أقلية من النخبة (أوليجاركية)، وقد انضمت إلى الرابطة البلوبونيزية تحت قيادة إسبرطة، وقد أسهم الكورينثيون بكتائبهم في الحروب الفارسية، ولكنهم لم يمارسوا القيادة. وكانت اهتماماتهم تجارية في الأساس، كما أن كورينثة قد اشتهرت، لا بوصفها موطنا للمفكرين والسياسيين، بل بسبب ما فيها من أمكان اللهو، كذلك كانت هي المصدر الذي خرج منه مستوطنو واحدة من أعظم المستعمرات اليونانية، وهي مدينة سراقوزة في صقلية. وكانت هاتان المدينتان تتبادلان التجارة فيما بينهما بنشاط، وكذلك تتبادلانها مع بقية أرض اليونان بوجه عام، وذلك على طول الممر البحري المأمون في خليج كورينثة، وفي صقلية كان اليونانيون يجاورون مباشرة مدينة قرطاجة الفينيقية القوية، وقد حاول الفينيقيون، بالتنسيق مع الغزو الذي قام به زيرزيس
Xerxes (ملك الفرس) لليونان، أن يجتاحوا الجزيرة في عام 480ق.م. غير أن ضخامة موارد سراقوزة وقيادة طاغيتها جيلا
Gela
جعلا هذه المحاولة تخفق بصورة نهائية تماما، كما استطاع سكان الأرض اليونانية أن يردوا خطر الغزو الذي قام به ملك الفرس العظيم.
ولا شك أن حلول أثينا بالتدريج محل كورينثة خلال القرن الخامس قد ساعد على إشعال نار الحرب البلوبونيزية، وكانت كارثة حملة سراقوزة هي التي أدت في النهاية إلى أفول نجم أثينا.
أما مدينة طيبة
Thebes
القديمة، التي ترتبط بأساطير أوديب المشهورة القديمة، فتقع في سهول بويوتيا
Boeotia
إلى الشمال الغربي من أثينا، ولقد كانت طيبة بدورها تخضع خلال القرن الخانس لحكم أقلية أرستقراطية، ولم يكن دورها خلال الحروب الفارسية مشرفا على الإطلاق، صحيح أن إحدى كتائب طيبة قد أبيدت مع قوات «ليونيداس»، ولكن أهل طيبة انتقلوا إلى الحرب في صف الفرس في بلاتايا
بعد أن اكتسح زيريس أرضهم، ومن هنا فقد عاقبتها أثينا على هذه الخيانة بحرمانها من مركزها القيادي في «بويوتيا»، ومنذ ذلك الحين كان الأثينيون يبدون قدرا من الاحتقار لأهل طيبة، ولكن مع نمو قوة أثينا، انحازت إسبرطة إلى طيبة من أجل موازنة هذه القوة النامية. وفي الحرب البلوبونيزية صمدت طيبة أمام أثينا على الرغم من أن المناطق الريفية المجاورة لها قد اجتيحت، ومع ذلك فعندما انتصرت إسبرطة تحول انحياز طيبة مرة أخرى، وقدمت العون إلى أثينا.
ولقد كانت معظم دول المدن تسيطر على الإقليم المجاور لها مباشرة، بحيث كان في استطاعة أهل الريف أن يزرعوا أرضهم، ولكن سلطة الحكم كانت تتركز في المدينة. أما في الحالات التي كان من الممكن فيها المشاركة في الشئون العامة كما هي الحال في الدول الديمقراطية، فقد كان جميع المواطنين يشاركون. وكان الناس ينظرون شزرا إلى الرجل الذي لا يهتم بالسياسة ويصفونه بأنه «أبله
Idiot » وهي في اليونانية تعني «متهالك على مصالحه الخاصة.»
ولم تكن التربة اليونانية صالحة للزراعة على نطاق واسع. وهكذا أصبح من الضروري، مع زيادة السكان، استيراد الغلال من بلاد أخرى، وكان المصدر الرئيسي لتزويد اليونان بالغلال هو الأراضي الواقعة على حدود سواحل يوكسين
Euxine ، حيث أقيم على مر القرون عدد كبير من المستعمرات اليونانية. وفي مقابل ذلك كانت اليونان تصدر زيت الزيتون والخزف.
ولا شك أن النزعة الفردية القوية لدى اليونانيين تتجلى في موقفهم من القانون؛ فهم في هذه الناحية معتمدون على أنفسهم كل الاعتماد، ومغايرون تماما لمعاصريهم في آسيا. ففي البلاد الآسيوية كانت سلطة الحاكم تستند إلى قوانين تعد منزلة من السماء، على حين أن اليونانيين كانوا يعترفون بأن القوانين من صنع الإنسان لأجل الإنسان. فإذا لم يعد أي قانون متفقا مع عصره، أمكن تغييره بموافقة الشعب، ولكن ما دام القانون يرتكز على دعم الشعب، فإن طاعته واجبة. ولقد كان المثل الكلاسيكي لاحترام القانون هذا هو رفض سقراط أن يهرب من حكم الإعدام الذي قضت به عليه المحكمة الأثينية.
وفي الوقت ذاته كان ذلك يعني أن لدى المدن المختلفة «قوانين مختلفة»، بحيث لم تكن هناك سلطة تستطيع تسوية المنازعات بينها بطريقة سلمية.
وهكذا كانت اليونان منقسمة على نفسها، بفعل المنافسات الداخلية والنزعة الفردية التجزيئية، إلى حد ما يسمح لها في أي وقت بتحقيق الاستقرار بوصفها أمة موحدة، فوقعت تحت سيطرة الإسكندر الأكبر، ثم روما فيما بعد، وبرغم ذلك كانت هناك مؤسسات ومثل عليا مشتركة أتاحت استمرارها بوصفها وحدة ثقافية. ولقد تحدثنا من قبل عن الملحمة القومية (بوصفها عاملا في التوحيد الثقافي)، ولكن كانت هناك روابط أخرى غيرها؛ فقد كان اليونانيون جميعا يقدسون معبد دلفي في التلال الواقعة شمال خليج كورينثة، وكانوا يحترمون نبوءة دلفي بقدر ما.
كانت دلفي مركز عبادة الإله أبولو، الذي يرمز لقوتي النور والعقل، وتروى الأسطورة القديمة أنه قتل البيثون
، وهو الحية الأسطورية التي ترمز للظلام، وتخليدا لهذا العمل بنى الناس معبدا في دلفي، وفي هذا المعبد كان أبولو يقوم بحماية منجزات الروح اليونانية، وعلى نحو مواز لذلك، فإن عبادة أبولو تتضمن اتجاها أخلاقيا مرتبطا بطقوس التطهير. وكان الإله ذاته قد اضطر إلى أن يكفر عن الدنس الذي لحقه بعد انتصاره على الحية الأسطورية، وأصبح الآن يحمل الأمل للآخرين ممن دنسوا أنفسهم بالدم، ولكن هناك استثناء لا يغتفر؛ هو قتل الأم، والواقع أن من العلامات الملفتة للنظر على نمو ثقة الأثينيين بأنفسهم أن نجد أورست
Orestes
في تراجيديا إسخليلوس، يبرأ أخيرا من هذه التهمة بفضل الإلهة أثينا، والإله إيروباجوس
Aeropagus
الذي كانت حياته تنطوي بمعنى ما، على مفارقة زمنية، أما المعبد الرئيسي الثاني لأبولو فكان يقع في جزيرة ديلوس
Delos
التي كانت نقطة التقاء دينية للقبائل الأيونية، وظلت لفترة ما مركزا لبيت المال في رابطة المدن الديلية (نسبة إلى ديلوس).
وهناك مؤسسة عظيمة أخرى كانت تجمع شمل اليونانيين جميعا، وهي الألعاب التي تقام على جبل أوليمبيا، في غرب البلوبنير، وكانت هذه الألعاب تجرى مرة كل أربع سنوات، وكان لها الأولوية على أي عمل آخر، حتى الحرب ذاتها، فلم يكن هناك شرف أعظم من إحراز نصر أوليمبي. وهكذا كان الفائز يتوج بإكليل من الغار، وتصنع له مدينته في معبدها الخاص في أوليمبيا تمثالا لتخليد ذكرى هذا الحدث، وكانت المرة الأولى التي أجريت فيها هذه المسابقات هي عام 776ق.م، ومنذ ذلك الحين أصبح اليونانيون يحسبون الزمن بالألعاب الأوليمبية.
والواقع أن الألعاب الأوليمبية كانت علامة حية على القيمة التي كان اليونانيون يعزونها إلى الجسد. وهذه القيمة مثل آخر واضح على ما يتميزون به من حرص على الانسجام؛ فللناس أبدان مثلما أن لهم عقولا، وكلاهما في حاجة إلى مران وتدريب. وهذه الحقيقة تجعلنا نتذكر جيدا أن مفكري اليونان لما يكونوا ينتمون إلى ذلك النوع من مثقفي البرج العاجي الذي ورثه عالمنا الحديث من تراث المدرسيين في العصور الوسطى.
وأخيرا ينبغي علينا أن نضيف كلمة عن نظام الرق؛ فكثيرا ما كان يقال إن اليونانيين لما يفلحوا في العلوم التجريبية؛ لأن إجراء التجارب كان يعني تدنيس المرء ليديه، وهو عمل كان مقصورا على العبيد. غير أنه لا يوجد حكم أكثر تضليلا من هذا الاستنتاج السريع؛ فالشواهد تدل بوضوح على العكس، كما يتضح من سجلات إنجازاتهم العلمية ومن آثار النحت والعمارة المتبقية في عصرهم.
وعلى أية حال فمن واجبنا ألا نبالغ في أهمية العبيد في حياتهم، على الرغم من أنه كان هناك إحساس متحذلق بأن السادة لا يستخدمون أيديهم، صحيح أن أولئك الذين كانوا يستخرجون الفضة من مناجمها في لوريون
Laurion
كانوا يعانون مصيرا لا إنسانيا، ومع ذلك يمكن القول على وجه الإجمال إن جموع العبيد في المدن لم تكن تعامل بقسوة متعمدة؛ وذلك لأسباب منها أن العبد كان ذا قيمة كبيرة، وخاصة لو كان يتقن حرفة ما، وقد تحرر كثير من العبيد. أما نظام الرق على نطاق ضخم فينتمي إلى عصر لاحق بالنسبة إلى القرن الخامس اليوناني.
وربما كان أعجب ما يتسم به القرن الخامس ق.م. هو التدفق المفاجئ للتجربة والإبداع العقلي، وهذا يصدق على الفنون كما يصدق على الفلسفة؛ فعلى حين أن النحت في القرن السابق كان لا يزال يحتفظ بالنزعة الشكلية الجامعة للأصول المصرية الفرعونية التي تأثر بها، نجد الحياة قد دبت فيه فجأة في القرن الخامس. وفي الأدب تحولت الطقوس الشكلية المميزة للعصور السابقة إلى الطابع الذي يزداد مرونة للدراما الأتيكية
Attie ، وأصبح كل شيء في تمدد واتساع، بحيث لم يعد ثمة هدف بعيد المنال أمام الإنسان، وخير ما يعبر عن هذا الإحساس العارم بالثقة بالنفس هو الكورس المشهور في مسرحية «أنتيجوني» لسوفوكليس: «كم في الحياة من مخلوق جبار، ولكن الإنسان أعظمها جبروتا»، ولكن هذا النوع من الشعور غاب في العصور التالية، وإن كان قد عاد مرة أخرى إلى الحياة خلال عصر النهضة الحديثة؛ ففي كتابات أديب النزعة الإنسانية الإيطالي، ألبرتي
Alberti ، نجد آراء مشابهة إلى حد بعيد عن مكانة الإنسان، ولا شك أن عصرا يتسم بكل هذا القدر من الحيوية لا يمكن أن يدرك حدوده. غير أن الثقة بالنفس يمكن أن تؤدي إلى الغرور والفوضى؛ ولذا بدأ سقراط، في المراحل المتأخرة من القرن الخامس، يذكر الناس بصورة الخير.
هذا إذن هو الإطار الذي بلغت فيه الحضارة اليونانية أوج عظمتها، لقد كانت تلك الحضارة القائمة على مبدأ كامن فيها هو مبدأ الانسجام، معرضة للتمزق بفعل الصراعات الداخلية، وربما كان هذا في النهاية هو الذي زاد من عظمتها؛ ذلك لأنها برغم أنها لم تتمكن أبدا من إقامة دولة تضم اليونانيين جميعا، قد قهرت كل من غزوا أرض اليونان وما زالت إلى اليوم تشكل الإطار الذي تدور فيه حضارة الغرب.
كان أول الفلاسفة الذين عاشوا في أثينا هو أناكساجوراس
Anaxagoras
الذي ظل هناك قرابة ثلاثين عاما، منذ نهاية الحروب الفارسية حتى أواسط القرن. ولقد كان أناكساجوراس من حيث المولد أيونيا من مدينة كلازوميناي
Clazomenae ، وكان من حيث اهتماماته وريثا للمدرسة الأيونية في ملطية. وكانت بلدته الأصلية قد وقعت في قبضة الفرس في وقت الثورة الأيونية، ويبدو أنه وفد إلى أثينا مع الجيش الفارسي، وتروي الأخبار أنه كان معلما وصديقا لبريكليز
، بل يرى البعض أن يوريبيدس
Euripides
كان في وقت ما واحدا من تلاميذه.
ولقد كانت أهم الموضوعات التي تشغل أناكساجوراس الموضوعات العلمية والبحث في الكونيات. ولدينا على الأقل دليل واحد على أنه كان ملاحظا دقيقا؛ ففي 468-467ق.م. سقطت كتلة كبيرة من صخور الشهب في نهر إيجوس
Aigospotamos ، وكانت هذه الواقعة من الأسباب التي جعلته يقول إن النجوم تتكون من صخور ساخنة متوقدة.
وعلى الرغم من أنه كان لأناكساجوراس أصدقاء من ذوي النفوذ في أثينا، فقد أثار غضب الأثنيين المحافظين ضيقي الأفق؛ ذلك لأن الفكر المستقل غير الشعبي هو عمل محفوف بالمخاطر، حتى في أفضل العصور، وعندما يتصادم مع المتحيزات التي يؤمن بها أولئك الذين يتخيلون أنهم خير العارفين، فمن الممكن أن يصبح خطرا حقيقيا على كل من يخرج عن الخط المألوف، ومما زاد الطين بلة أن أناكساجوراس كان في شبابه متعاطفا مع الفرس، والواقع أن هذا نمط يبدو أنه لم يطرأ عليه تغير كبير طوال الأعوام الألفين والخمسمائة الأخيرة، وعلى أية حال فقد حوكم أناكساجوراس بتهمتي الضلال والانحياز للفرس، ولسنا موقنين بنوع العقوبة التي كان من الممكن أن توقع عليه، أو بالطريقة التي أفلت بها من هذه العقوبة، ولكن من الجائز أن صديقه بريكليز قد انتزعه من السجن وهرب به بعيدا.
وقد انتقل فيما بعد ليعيش في لامبساكوس
Lampsacus ، حيث واصل الاشتغال بالتدريس حتى وفاته. ومن حسن الحظ أن مواطني هذه المدينة قد نظروا إلى الأعمال التي كان يمارسها نظرة أكثر استنارة، ولا بد أن أناكساجوراس كان الفيلسوف الوحيد في التاريخ الذي كانت المدارس تعطل في الاحتفال بالذكرى السنوية لوفاته. وقد عرض أناكساجوراس تعاليمه في كتاب بقيت لنا شذرات منه في مصادر أخرى، ولقد ذكر سقراط الذي حوكم بدوره فيما بعد بتهمة الضلال، ذكر لقضاته أن الآراء غير المألوفة التي اتهم باعتناقها إنما هي في الواقع آراء أناكساجوراس، الذي كان من الممكن لأي شخص شراء كتابه مقابل «دراخما» واحدة.
ولقد كانت نظرية أناكساجوراس، شأنها شأن نظرية أنبادقليس من قبل، محاولة جديدة للتصدي للنقد الذي وجهه بارمنيدس، ولكن بينما نظر أنبا دقليس إلى كل طرف من أطراف زوجي الأضداد الحار والبارد، والجاف والرطب، على أنه مادة أساسية؛ نجد أناكساجوراس يعتقد على العكس من ذلك أن كلا من هذه متضمن بنسبة متفاوتة في كل قطعة ضئيلة من المادة، مهما صغر حجمها، ولكي يثبت قضيته هذه قال بفكرة قابلية المادة للانقسام إلى ما لا نهاية؛ ذلك لأن مجرد تجزؤ الأشياء إلى قطع أصغر لا يؤدي في رأيه إلى ظهور شيء مختلف؛ إذ إن بارمنيدس قد أثبت أن ما هو كائن لا يمكن بأي حال ألا يكون، أو أن يصبح ما لا يكون، والواقع أن الافتراض القائل إن المادة قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية هو افتراض طريف، وكانت هذه أول مرة يظهر فيها، أما كون هذا الافتراض خطأ فهو أمر لا يهمنا في هذا السياق، والأمر الذي يبرزه هذا الافتراض هو فكرة قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية، التي تنطبق بالفعل على المكان، وهكذا يبدو أن لدينا ها هنا نقطة بدء أمكن انطلاقا منها تطوير فكرة المكان الفارغ عند الذريين فيما بعد. وأيا كان الأمر فإننا لو سلمنا بهذا الافتراض لظل نقد أناكساجوراس لأنبادقليس صحيحا إلى هذا الحد.
أما الاختلافات بين الأشياء فترجع إلى تغلب أحد الضدين على الآخر، وهكذا استطاع أناكساجوراس أن يقول إن الثلج هو بقدر ما أسود، وإن كان الأبيض هو الذي يسود. وهذه فكرة تبدو فيها لمسة هرقليطية؛ فالأضداد تتلاقي، ويمكن أن يتحول أي شيء إلى أي شيء آخر، وفي ذلك يقول أناكساجوراس: «إن الأشياء الموجودة في العالم لا تنقسم ولا يقتطع بعضها من بعض بضربة فأس» كما يقول: «في كل شيء يوجد قدر من كل شيء، إلا العقل
Nous ، بل إن هناك أشياء يوجد فيها العقل بدوره».
هذا «النوس» أو العقل الذي يذكره ها هنا هو المبدأ الفعال الذي يحل محل المحبة والنزاع عند أنبادقليس، ولكنه يظل ينظر إليه على أنه مادة، وإن تكن مادة شديدة الرقة والشفافية، ويختلف «النوس» عن المواد الأخرى في كونه نقيا غير مختلط، وهو الذي يبعث الحركة في الأشياء. وفضلا عن ذلك فإن وجود «النوس» هو ما يميز الحي من غير الحي.
أما بالنسبة إلى أصل هذا العالم، فإنه يعرض رأيا يشبه في نواح معينة الأفكار التي أصبحت تطرح حول هذا الموضوع في وقت أحدث بكثير؛ فالنوس يطلق حركة دوامة في مكان ما، وحين تكتسب هذه الحركة مزيدا من القوة، تنفصل الأشياء المختلفة تبعا لمقدار كتلتها، بحيث إن القطع الثقيلة من الصخور، التي يقذفها دوران الأرض، تبتعد أكثر من غيرها. ونظرا لأنها تتحرك بسرعة كبيرة، فإنها تبدأ في التوهج، وهذا يفسر طبيعة النجوم، ولقد كان أنكساجوراس، شأنه شأن الأيونيين، يؤمن بوجود عوالم كثيرة.
وفيما يتعلق بالإدراك الحسي، فقد استحدث ببراعة المبدأ البيولوجي القائل إن الإحساس يتوقف على الأضداد، فالإبصار مثلا هو سقوط النور على ضده، وهو الظلام، والإحساسات الشديدة الكثافة تسبب ألما وضيقا، وتلك آراء ما زالت شائعة في علم وظائف الأعضاء.
وهكذا فإن أناكساجوراس قد أتى في نواح معينة بنظرية أدق من نظرية سابقه، وهناك على الأقل تلميحات إلى أنه حاول بعناء أن يهتدي إلى مفهوم للمكان الخالي، ولكن على الرغم من أنه يبدو أحيانا كما لو كان يريد أن يجعل من «النوس» قوة فاعلة غير مادية، فإنه لا ينجح في ذلك كل النجاح. وعلى ذلك فإن النقد الأساسي الذي وجهه بارمنيدس لم يجد لديه، كما لم يجد لدى أنبادقليس، إجابة عنه. ومع ذلك فإن اقتراحه القائل بقابلية التقسيم إلى ما لا نهاية يمثل تقدما جديدا في تفسير طريقة تكوين العالم. وتبقى بعد ذلك خطوة الاعتراف بأن قابلية التقسيم تنتمي إلى المكان، وبذلك يهيأ المسرح لظهور المذهب الذري.
وإنه لمن الخطأ أن يتصور المرء أن أناكساجوراس كان ملحدا، ومع ذلك فإن تصوره للإله كان فلسفيا، ولا يتمشى مع ديانة الدولة في أثينا، وقد كانت آراؤه التي لا تساير الدين الشائع هي التي جلبت عليه تهمة الضلال؛ ذلك لأن الإله كان عنده معادلا «للنوس»، أي المبدأ الفعال الذي هو أصل كل حركة، ومثل هذا الرأي كان خليقا بأن ينظر إليه شزرا من جانب السلطة الحاكمة؛ إذ إنه يثير بالطبع شكوكا حول جدوى الممارسات الشعائرية السائدة، ومن ثم فإنه يمس سلطة الدولة ...
إننا على الأرجح لن نعرف أبدا السبب الذي من أجله طرد فيثاغورس ومدرسته من مدينة كروتون
Croton
في عام 510ق.م، ومع ذلك فليس من العسير أن ندرك الجوانب التي يمكن أن تكون المدرسة قد خاضت فيها نزاعا مع المواطنين الصالحين؛ ذلك لأننا ينبغي أن نتذكر أن فيثاغورس انغمس بالفعل في السياسة، كما كانت عادة الفلاسفة اليونانيين، والواقع أنه على الرغم من أن الفلاسفة يعاملون بعدم اكتراث متسامح من جانب بقية البشر، فإن ما يلفت النظر حقا أنهم عندما يدلون برأي نقدي ينجحون في تعكير المياه الآسنة للسياسة الاحترافية، فلا شيء يثير حنق الحاكمين أكثر من الإشارة إلى أنهم قد لا يكونون حكماء بقدر ما يتصورون، ولا شك في أن أسبابا من هذا النوع هي التي جعلت أهل كروتون يحرقون المدرسة الفيثاغورية. غير أن حرق المدارس، أو حتى الرجال أنفسهم، قد أثبت على الدوام أنه وسيلة عاجزة للقضاء على الرأي المتمرد؛ ذلك لأن الكارثة التي لحقت بالمدرسة الأصلية قد أدت إلى نشر آرائها على نحو أوسع من أي وقت مضى، وذلك بفضل جهود أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة من أعضاء المدرسة، والذين عادوا شرقا إلى اليونان.
ولقد رأينا من قبل أن مؤسس المدرسة كان في البدء من أتباع فيثاغورس، ولكن النظرية الفيثاغورية في العدد قدر لها أن تتلقى ضربة مدمرة بعد وقت قليل على يد الفيلسوف الإيلي زينون
Zeno ؛ لذلك فإن من الواجب أن ندرك ما تنطوي عليه هذه النظرية.
لقد نظر الفيثاغوريون إلى الأعداد على أنها تتألف من وحدات، وكان ينظر إلى الوحدات التي تمثلها نقاط على أنها ذات أبعاد مكانية، وتبعا لهذا الرأي تكون النقطة وحدة ذات موقع، أي لها أبعاد من نوع ما، أيا كانت. هذه النظرية في العدد صالحة تماما للتعامل مع الأعداد الجذرية؛ فمن الممكن دائما أن نختار للتعبير عن الوحدة عددا جذريا، بحيث يكون أي عدد من الأعداد الجذرية عبارة عن حاصل ضرب للوحدة يمثل عددا صحيحا، ولكن هذا الرأي يواجه مأزقا عندما تصادفنا أعداد صماء (غير جذرية)؛ لأن هذه لا يمكن أن تقاس على هذا النحو. ومن الجدير بالملاحظة أن الكلمة اليونانية التي نترجمها بكلمة «صماء» كانت تعني «غير قابل للقياس»، لا «مفتقرا إلى العقل»،
4
وذلك في نظر فيثاغورس على الأقل، ولكي يتغلب الفيثاغوريون على هذه الصعوبة، اخترعوا طريقة الاهتداء إلى هذه الأعداد التي يستحيل الوصول إليها، عن طريق سلسلة متعاقبة من التقريبات، وقوام هذه الطريقة هو إيجاد الكسور المتصلة التي تحدثنا عنها من قبل؛ ففي مثل هذا التعاقب تزيد الخطوات المتتالية عن العلامة المحددة مرة، وتقل عنها مرة، بمقادير تتناقص باستمرار، ولكن العملية لا نهائية في أساسها، والعدد الأصم الذي نستهدفه هو الحد النهائي للعملية، والفكرة من هذا التدريب هي أننا نستطيع الوصول إلى تقريبات جذرية تقترب بنا من الحد بقدر ما نريد. والواقع أن هذه السمة مماثلة لتلك التي ينطوي عليها مفهوم الحد في العصر الحديث.
المثلثات، عدد مثلثي من أربعة سطور الرمز الذي كان يقسم به الفيثاغوريون.
وهكذا يمكن وضع نظرية للعدد على أسس كهذه. ومع ذلك فإن فكرة الوحدة تخفي خلطا أساسيا بين العدد المنفصل والكم المتصل، ويتضح هذا بمجرد تطبيق النظرية الفيثاغورية على الهندسة، وسوف نرى الصعوبات المترتبة على ذلك حين نناقش النقد الذي وجهه زينون.
أما الفكرة الرئيسية الأخرى، التي خلفتها الرياضيات الفيثاغورية، فهي نظرية المثل، والتي تبناها سقراط وزادها تطويرا. وقد انتقد الإيليون هذه النظرية بدورها، هذا إذا اعتمدنا على شهادة أفلاطون، وقد أشرنا من قبل تلميحا إلى الأصل الرياضي لهذه النظرية. فلنتأمل مثلا نظرية فيثاغورس الهندسية، إن من غير المجدي رسم شكل دقيق غاية الدقة لمثلث قائم الزاوية والمربعات المقامة على أضلاعه، ثم الانتقال إلى قياس مساحات هذه المربعات؛ ذلك لأن الرسم لن يكون دقيقا بصورة كاملة مهما توخينا الدقة فيه، بل إن من المستحيل أن يكون كذلك؛ فليست مثل هذه الأشكال هي التي تقدم برهانا على النظرية، بل إننا نحتاج من أجل مثل هذا البرهان إلى شكل كامل، من ذلك النوع الذي يمكن تخيله، ولكن لا يمكن رسمه. وأي رسم فعلي ينبغي أن يكون نسخة للصورة الذهنية تتفاوت في مدى مطابقتها لها. وهذا بالضبط هو لب نظرية المثل التي كانت جزءا معروفا من مذهب الفيثاغوريين المتأخرين.
ولقد رأينا كيف استحدث فيثاغورس مبدأ للانسجام من الكشف المتعلق بالأوتار المنغمة. ومن هذا الكشف ظهرت النظريات الطبية التي تنظر إلى الصحة على أنها نوع من التوازن بين الأضداد، وقد مضى الفيثاغوريون المتأخرون بهذه الفكرة مرحلة أبعد، وطبقوا مبدأ الانسجام على النفس. فالنفس تبعا لهذا الرأي هي تناغم البدن، بحيث تصبح النفس مرتبطة بالحالة السليمة للجسم. وعندما ينهار تنظيم الجسد، يتحلل الجسد، وتتحلل النفس بدورها، ومن الممكن تصور النفس على أنها الوتر المشدود لآلة موسيقية، بينما الجسم هو الإطار الذي يشد عليه هذا الوتر، فإذا ما تحطم الإطار ارتخى الوتر وفقد تناغمه، ولا شك أن هذا الرأي مختلف كل الاختلاف عن الأفكار الفيثاغورية الأقدم عهدا حول هذا الموضوع؛ إذ يبدو أن فيثاغورس كان يؤمن بتناسخ الأرواح، على حين أن الأرواح أو النفوس تبعا لهذا الرأي الأحدث عهدا، تموت كما تموت الأجساد.
وفي ميدان الفلك قال الفيثاغوريون المتأخرون بفرض جريء غاية الجرأة، وتبعا لهذا الرأي لا يكون مركز العالم هو الأرض، بل نار مركزية ، وما الأرض إلا كوكب يدور حول هذه النار، ولكن هذه الأخيرة غير مرئية؛ لأن الجانب الذي نعيش فيه من الأرض بعيد دائما عن المركز، وقد نظروا إلى الشمس بدورها على أنها كوكب، يتلقى نوره بالانعكاس من النار المركزية. ولقد كانت تلك خطوة طويلة في اتجاه الفرض القائل بمركزية الشمس، والذي قال به أرسطرخس
Aristarchus
فيما بعد. ولكن الشكل الذي صاغ به الفيثاغوريون نظريتهم ظلت تعترضه صعوبات جمة، مما حدا بأرسطو إلى العودة إلى الرأي القائل بأن الأرض مسطحة. ونظرا إلى ما كان لأرسطو من سلطة هائلة في نواح أخرى، فإن هذا الرأي وليس الرأي الصحيح هو الذي أصبح سائدا في العصور التالية التي نسيت فيها المصادر الأصلية.
أما بالنسبة إلى نمو النظريات المتعلقة بتكوين الأشياء، فإن الفيثاغورية كانت تعترف بصفة تجاهلها كثير من المفكرين السابقين أو أساءوا فهمها، تلك هي فكرة الفراغ، التي يستحيل بدونها تقديم تفسير معقول للحركة. وهنا أيضا نجد النظرية الأرسطية تعود فيما بعد إلى الرأي المتخلف القائل إن الطبيعة تبغض الفراغ، أما إذا شئنا أن نهتدي إلى اتجاه التطور الصحيح للنظرية الفيزيائية، فعلينا أن نرجع إلى أصحاب المذهب الذري.
وخلال ذلك حاولت المدرسة الفيثاغورية أن تستوعب جوانب التقدم التي حققها أنبادقليس، وبطبيعة الحال فإن نظرتهم الرياضية لم تسمح لهم بأن يقبلوا العناصر الأربعة التي قال بها، بوصفها العناصر النهائية. وبدلا من ذلك وضعوا حلا وسطا أرسى نظرية رياضية في تكوين المادة، وهكذا أصبحوا ينظرون إلى العناصر على أنها تتألف من جزئيات لها شكل الأجسام الجامدة المنتظمة، وقد طور أفلاطون هذه النظرية أبعد من ذلك في محاورة «طيماوس». أما كلمة «العنصر» ذاتها فيبدو أن هؤلاء الفيثاغوريين المتأخرين هم الذين نحتوها.
وهكذا فإن أيا من المحاولات المادية الرامية إلى الرد على نقد بارمنيدس لا يمكن، حتى هذه المرحلة، أن تعد مرضية من جميع الجوانب؛ فمهما كانت نقاط الضعف في النظرية الأولية ذاتها، يظل من الصحيح أن مجرد إكثار من المواد الأساسية لا يمكن أن يقدم إلينا حلا، وقد أمكن التدليل بقوة على هذه النقطة عن طريق سلسلة من الحجج تقدم بها أتباع بارمنيدس، وعلى رأسهم زينون، الذي كان ينتمي إلى بلد بارمنيدس ذاتها، وكان تلميذا له. وقد ولد زينون حوالي عام 490ق.م. والشيء الهام الوحيد الذي نعرفه عنه، إلى جانب كونه قد اهتم بالشئون السياسية، هو أنه هو وبارمنيدس قد قابلا سقراط في أثينا. وهذه واقعة يرويها أفلاطون، وليس ثمة سبب يدعو إلى تكذيبه.
إن النظرية الإيلية - كما أوضحنا من قبل - تؤدي إلى نتائج مذهلة، ولهذا السبب بذلت عدة محاولات لإصلاح عيوب المذهب المادي. ولقد كان ما حاول زينون القيام به هو أن يبين أنه إذا كان المذهب الإيلي يصدم الحس العادي للإنسان، فإن النظريات المنافسة له، التي تزعم تذليل هذه العقبة، تؤدي إلى صعوبات أغرب. وهكذا فإنه، بدلا من أن يقدم دفاعا مباشرا عن بارمنيدس، تصدى للمعارضة على أرضها، وهو يبدأ باتخاذ موقف الخصم، ثم يبين بالحجة الاستدلالية أن هذا الموقف ينطوي على نتائج ممتنعة، ومن ثم فمن المحال الدفاع عن الموقف الأصلي، وبذلك يسقط هذا الموقف.
هذا النوع من الحجج مشابه لبرهان الخلف
reduction ad absurdum
الذي تحدثنا عنه عند الكلام عن نظرية التطور عند أنكسيمندر. غير أن بينهما اختلافا هاما؛ ففي برهان الخلف المألوف يستدل المرء من بطلان النتيجة على أن إحدى المقدمات لا بد أن تكون باطلة. أما زينون فقد حاول أن يثبت أن من الممكن استخلاص نتيجتين متناقضتين من افتراض معين، وهذا يعني أن النتيجتين ليستا باطلتين فحسب، بل هما مستحيلتان. وهو يستنتج من ذلك أن الافتراض الذي تلزم عنه هاتان النتيجتان هو ذاته مستحيل، هذا النوع من الحجج يسير في طريقه دون أية مقارنة بين النتائج والوقائع، ومن ثم فهو بهذا المعنى جدلي تماما، أي إنه ينتمي إلى ميدان السؤال والجواب. والواقع أن زينون كان أول من استخدم الحجة الجدلية بطريقة منهجية. وكان لهذه الحجة دور عظيم الأهمية في الفلسفة، وقد اقتبسها سقراط وأفلاطون من الإيليين وطوراها بطريقتهما الخاصة، ومنذ ذلك الحين أصبحت لها مكانة هامة في الفلسفة.
لقد كانت حجج تزينون في أساسها هجوما على التصور الفيثاغوري للوحدة، وترتبط بذلك حجج ضد الفراغ وضد إمكان الحركة.
فلنتأمل أولا حجة تثبت عدم صحة فكرة الوحدة، إن تزينون يقول إن كل ما يوجد لا بد أن يكون له حجم، وإلا لما وجد أصلا، فإذا سلمنا بذلك، كان من الضروري أن نسلم به بالنسبة إلى كل جزء، بحيث يكون من الضروري أن يكون لهذا الجزء بدوره حجم. وهو يمضي قائلا إن إصدار هذا الحكم مرة يساوي إصداره بصورة دائمة. وتلك طريقة مبسطة في إدخال فكرة قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية؛ إذ لا يمكن أن يقال عن أي جزء إنه هو الأصغر، فإذا كانت الأشياء كثيرة، كان من الضروري أن تكون صغيرة وكبيرة في آن معا. بل إن من الضروري أن تكون صغيرة إلى حد ألا يكون لها حجم؛ لأن قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية تثبت أن عدد الأجزاء لا متناه. مما يقتضي وحدات بلا حجم، ومن ثم فإن أي مجموع لهذه الوحدات بلا حجم أيضا، ولكن الوحدة ينبغي أن يكون لها حجم ما في الوقت ذاته، ومن ثم فإن الأشياء كبيرة إلى حد لا متناه.
وترجع أهمية هذه الحجة إلى أنها تثبت أن نظرية العدد الفيثاغورية تخفق في ميدان الهندسة؛ ذلك لأن فيثاغورس يرى أننا لو تأملنا خطا، فينبغي أن نكون قادرين على أن نذكر عدد الوحدات الموجودة فيه، ولكن من الواضح أننا إذا سلمنا بفكرة قابلية القسمة إلى ما لا نهاية، فإن نظرية الوحدات تنهار فورا، ومع ذلك فمن المهم أن ندرك أن هذا لا يثبت خطأ فيثاغورس، بل إن ما يثبته هو استحالة القول بنظرية الوحدة وبفكرة قابلية القسمة إلى ما لا نهاية في آن واحد، أو بعبارة أخرى أنهما لا تجتمعان، بل يجب التخلي عن إحداهما. فإذا كانت الرياضة تقتضي قابلية القسمة إلى ما لا نهاية، فلا بد من التخلي عن الوحدة الفيثاغورية. وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة، وتتعلق ببرهان الخلف ذاته؛ فالقضية الواحدة ذات المعنى لا يمكن أن تكون لها نتائج مباشرة متناقضة فيما بينها، بل إن المتناقضات لا تتولد إلا حين تضاف إليها قضايا أخرى، كما يحدث في حالة وجود حجتين، عندما تكون القضية المضافة في إحدى الحجتين متناقضة مع القضية المضافة في الأخرى، وهكذا فإن لدينا في الحالة التي نبحثها الآن حجتان؛ أولاهما: هي أن الأشياء كثيرة والوحدات بلا حجم، ومن ثم فليس للأشياء حجم، والثانية: هي أن الأشياء كثيرة والوحدات لها حجم، ومن ثم فللأشياء حجم لا متناه. أما المقدمتان الإضافيتان المتناقضتان فهما أن الوحدات بلا حجم، وأنها ذات حجم ما؛ ففي كلتا الحالتين تكون النتيجة واضحة الامتناع. ويترتب على ذلك أن في مقدمتي كل حجة شيئا ما خطأ. وهذا الشيء الخطأ هو التصور الفيثاغوري للوحدة.
ولكي يدعم زينون موقف بارمنيدس المعارض لفكرة الفراغ، نراه يتقدم بحجة جديدة. فإذا كان المكان موجودا وجب أن يكون متضمنا في شيء ما، وهذا الشيء لا يمكن إلا أن يكون مكانا آخر، وهكذا إلى غير حد. ولما كان زينون يرفض هذا التسلسل الذي لا يتوقف، فإنه يستنتج أنه ليس ثمة مكان، ولكن ما يعنيه هذا الموقف حقيقة هو إنكار الرأي القائل إن المكان وعاء (حاو) فارغ. فمن الواجب في رأي زينون ألا نميز بين الجسم وبين المكان الذي يشغله، ولكن لن يكون من الصعب أن ندرك أن فكرة الوعاء (الحاوي) يمكن بسهولة أن تنقلب ضد نظرية «الكرة
Sphere » كما قال بها بارمنيدس؛ ذلك لأن القول إن العالم كرة متناهية، يعني في هذه الحالة أنه موجود في مكان فارغ. وإذا كان زينون يسعى هنا إلى الحفاظ على نظرية أستاذه، فمن المشكوك فيه أن يكون مجرد الكلام عن الكرة المتناهية أمرا له معنى، إذا لم يكن يوجد خارج هذه الكرة شيء.
هذا النوع من الحجج الذي يمكن تكراره مرة تلو الأخرى، يسمى بالتسلسل الشيء ما لا نهاية
Infinite Regress ، وهو لا يؤدي دائما الشيء تناقض، بل إن أحدا لا يستطيع في أيامنا هذه أن يعترض على الرأي القائل إن كل مكان هو جزء من مكان أكبر. أما في حالة زينون فإن التناقض يظهر لمجرد أنه يسلم بأن «ما هو موجود» لا متناه، فتكون النتيجة هي أن يواجه ما يسمى بتسلسل الشيء ما لا نهاية يستحيل أن نجد منه مخرجا.
هذا النوع من الحجج التسلسلية التي يستحيل الخروج منها هو في الواقع شكل من أشكال برهان الخلف. وما تثبته هذه الحجج هو أن أساس الحجة يتناقض مع قضية أخرى معينة نسلم بأنها صحيحة.
على أن أشهر حجج زينون هي مفارقات الحركة الأربع، وعلى رأسها حكاية أخيل والسلحفاة. وهنا أيضا نجده يدافع عن بارمنيدس بطريقة غير مباشرة، ويلقي عبء الرد على الفيثاغوريين الذين يتعين عليهم أن يقدموا شيئا أفضل ما دامت نظريتهم تعجز عن إيجاد تفسير للحركة بدورها. وتقول الحجة إنه لو تسابق أخيل والسلحفاة في سباق تتابع فمن المستحيل أن يلحق أخيل بمنافسته. فلو فرضنا أن السلحفاة بدأت تسير مسافة ما في المضمار، فإنه في الوقت الذي يجري فيه أخيل حتى يصل الشيء النقطة التي بدأت منها السلحفاة، تكون هذه قد تحركت مسافة ما الشيء الأمام. وحين يجري أخيل الشيء هذا الموقع الجديد تكون السلحفاة قد انتقلت الشيء نقطة أبعد قليلا. وهكذا ففي كل مرة يصل فيها أخيل الشيء موقع السلحفاة السابق، تكون هذه المسكينة قد تحركت بعيدا. صحيح أن أخيل يقترب منها أكثر فأكثر، ولكنه لن يلحقها أبدا.
وعلينا أن نتذكر أن هذه الحجة موجهة ضد الفيثاغوريين، ومن ثم فإنه يتبنى موقفهما وينظر إلى الخط على أنه مؤلف من وحدات أو نقط؛ لذلك فإن النتيجة إنما تريد أن تقول إنه مهما كان بطء حركة السلحفاة، فلا بد أن تقطع مسافة لا متناهية قبل أن تجري السباق. فتلك إذن صورة أخرى للحجة القائلة إن الأشياء لا نهائية في حجمها، وبرغم أنه ليس من الصعب أن نبين وجه الخطأ في تلك النتيجة، فلا بد أن يكون واضحا تماما أن الحجة لا تشوبها أية شائبة من حيث هي رد على النظريات الفيثاغورية المتعلقة بالوحدة. والطريقة الوحيدة لتبيان الخطأ في تلك النتيجة، إنما تكون عن طريق وضع نظرية في السلاسل اللامتناهية بعد التخلي عن هذه النظرة إلى الوحدة. فإذا كانت لدينا مثلا سلسلة تتألف من حدود تتناقص بنسبة ثابتة، كما هي الحال في أطوال المراحل المتعاقبة للسباق، فإننا نستطيع أن نحسب في أي موضع سيلحق أخيل بالسلحفاة، ويعرف مجموع هذه السلسلة بأنه عدد لن يزيد عنه أبدا مجموع أي عدد من الحدود، مهما كان مقداره، ولكن مجموع عدد كبير بما فيه الكفاية من الحدود يقترب منه إلى أي مدى نشاء. أما مسألة أن هذا العدد ينبغي أن يكون واحدا، وواحدا فقط بالنسبة إلى أية سلسلة معينة، فيجب أن نقررها هنا دون برهان. ويوصف نوع السلاسل المتضمن في السباق بأنه سلسلة هندسية، وهو موضوع يستطيع أي شخص لديه إلمام بأوليات الرياضة في أيامنا هذه أن يعالجه، ولكن ينبغي أن نذكر أن العمل النقدي الذي قام به زينون هو بعينه الذي جعل من الممكن وضع نظرية سليمة في الحكم المتصل، ترتكز عليها تلك المجموعات التي تبدو لنا اليوم أشبه بلعب الأطفال.
وهناك حجة أخرى تنطوي على مفارقة، وتسمى أحيانا بحجة «حلبة السباق»، تكشف عن الجانب الآخر للهجوم الديالكتيكي. وتقول الحجة إن المرء لا يستطيع أبدا أن يعبر حلبة السباق من أحد طرفيها إلى الآخر؛ لأن هذا يعني أن عليه عبور عدد لا نهائي من النقاط في زمن متناه. أو بعبارة أدق فقبل الوصول إلى نقطة لا بد أن يعبر نصف المسافة الموصلة إليها، ثم نصف النصف، وهكذا إلى ما لا نهاية. وإذن فليس في وسع المرء أن يبدأ الحركة على الإطلاق. وهذه الحجة مقرونة بحجة أخيل والسلحفاة التي تبين أن المرء ما إن يبدأ حتى يستحيل أن يتوقف ، تهدم الفرض القائل إن الخط المستقيم يتألف من وحدات كثيرة إلى حد لا متناه.
ويقدم زينون حجتين أخريين لكي يثبت أن الافتراض القائل بأنه لا يوجد إلا عدد متناه من الوحدات في الخط الواحد لن يؤدي إلى أصل الوضع. فلنأخذ أولا ثلاثة خطوط متوازية ومتساوية، تتألف من نفس العدد المتناهي من الوحدات، ولنفرض أن واحدا منها ساكن، والآخران متحركان في اتجاهين متضادين بسرعة متساوية، بحيث يقع الثلاثة كل بحذاء الآخر عندما يمر الخطان المتحركان أمام الخط الساكن. هنا نجد أن السرعة النسبية للخطين المتحركين هي ضعف السرعة النسبية لكل منهما بالقياس إلى الخط الساكن. وتعتمد الحجة بعد ذلك على افتراض آخر بأن هناك وحدات زمانية مثلما أن هناك وحدات مكانية. وعلى ذلك فإن السرعة تقاس بعدد النقاط التي تتحرك عبر نقطة محددة خلال عدد محدد من اللحظات؛ ففي الوقت الذي يمر فيه أحد الخطين المستقيمين بنصف طول الخط الساكن، يمر بالطول الكامل للخط المتحرك. ومن هنا فإن الزمن الأخير ضعف الأول، ولكن لكي يصل الخطان إلى موقعهما بمحاذاة كل منهما فإنهما يستغرقان زمنا واحدا، وهكذا يبدو أن الخطين المتحركين يتحركان بضعف السرعة التي يتحركان بها، وبالطبع فإن الحجة معقدة إلى حد ما؛ لأننا لا نفكر عادة على أساس لحظات بقدر ما نفكر على أساس مسافات، ولكنها تمثل نقدا سليما تماما لنظرية الوحدات.
وأخيرا، فهناك حجة السهم؛ ففي أية لحظة يحتل السهم الطائر، وأخيرا مساويا لذاته، ومن ثم فهو ساكن. وإذن فهو على الدوام ساكن، وهذا يثبت أن الحركة لا تستطيع حتى أن تبدأ، على حين أن الحجة السابقة أثبتت أن الحركة أسرع دائما مما هي. وهكذا فإن زينون إذ هدم النظرية الفيثاغورية في الكم المنفصل على هذا النحو، قد أرسى دعائم نظرية في الكم المتصل. وهذا بعينه هو ما نحتاج إليه من أجل الدفاع عن نظرية بارمنيدس في الفلك الكري المتصل.
أما الفيلسوف الإيلي المشهور الآخر فهو مليسوس
Melissus
من ساموس، الذي كان معاصرا لزينون، ونحن لا نعرف عن حياته سوى أنه كان قائدا عسكريا خلال التمرد الذي حدث في ساموس، وأنه هزم الأسطول الأثيني في عام 441ق.م، ولقد أدخل مليسوس تعديلا إيجابيا في نقطة هامة؛ فقد رأينا من قبل أن زينون اضطر إلى إعادة تأكيد رفضه للفراغ، ولكن لو صح ذلك لكان من المستحيل أن يوصف الموجود بأنه فلك كري متناه؛ إذ إن هذا الوصف يوحي بأن ثمة شيئا خارجه، هو المكان الخالي. وهكذا فإن استبعاد الفراغ يحتم علينا أن ننظر إلى الكون المادي على أنه لا متناه في جميع الاتجاهات، وهذا هو الاستنتاج الذي انتهى إليه مليسوس.
ولقد ذهب مليسوس في دفاعه عن «الواحد» الذي قالت به المدرسة الإيلية، إلى حد استباق النظرية الذرية؛ فهو يرى أنه لو كانت الأشياء كثيرة، لوجب أن يكون كل منها مماثلا «للواحد» عند بارمنيدس؛ ذلك لأنه لا شيء يظهر من العدم أو يفنى فناء تاما. وهكذا فإن النظرية الوحيدة المقبولة، والتي تقول بوجود الكثرة، هي تلك التي نتوصل إليها بتفتيت الفلك الكري الذي قال به بارمنيدس إلى أفلاك صغيرة، وهذا بعينه هو ما فعله الذريون.
لقد كان جدل زينون في أساسه هجوما هداما على آراء الفيثاغوريين، وقد وضع هذا الجدل في الوقت ذاته أسس الجدل عند سقراط، ولا سيما بالنسبة لمنهج الفرض، الذي سنتحدث عنه فيما بعد. كذلك فإن المرء يجد ها هنا للمرة الأولى استخداما منهجيا لحجة مكثفة في مسألة محددة، وأغلب الظن أن الإيليين كانوا متبحرين في الرياضيات الفيثاغورية؛ لأن هذا هو الميدان الذي يتوقع المرء أن يجد فيه تطبيقات لهذه الطريقة المنهجية، غير أننا للأسف لا نعرف إلا القليل عن الطرق الفعلية التي كان الرياضيون اليونانيون يجرون بها تحليلاتهم، ولكن يبدو من الواضح أن النمو السريع للرياضيات خلال النصف الثاني من القرن الخامس، كان مرتبطا بقدر ما بظهور قواعد راسخة للحوار وتبادل الحجج.
كيف نستطيع على أي نحو تفسير العالم المتغير من حولنا؟ من الواضح أن من طبيعة التفسير ألا تكون أسسه ذاتها متغيرة، ولقد كان أول من طرحوا هذا السؤال هم الملطيون الأوائل، وقد رأينا كيف عملت المدارس التالية بالتدريج على تحوير المشكلة وزيادة دقتها. وفي النهاية كان مفكر آخر من ملطية هو الذي قدم الرد النهائي على هذا السؤال، لقد كان ليوقبوس
Leucippus
الذي لا نعرف عنه شيئا آخر ذا أهمية، هو أبو المذهب الذري. والنظرية الذرية نتيجة مباشرة للمدرسة الإيلية، وقد كاد مليسوس أن يهتدي إليها خلال مساره الفلسفي.
إن النظرية إنما هي توفيق بين الواحد والكثير؛ فقد أدخل ليوقبوس فكرة الجزئيات المكونة التي لا تحصى، والتي يشترك كل منها مع فلك بارمنيدس في أنه جامد، صلب، لا ينقسم. هذه هي «الذرات»، وهي تعني (في أصلها اليوناني) الأشياء التي لا يمكن تجزئتها، هذه الذرات تتحرك دوما في فراغ. وكان يفترض أن تركيب الذرات جميعا واحد، وإن اختلفت في الشكل. ولقد كان معنى عدم قابلية الانقسام في هذه الجزئيات هو أنها لا يمكن أن تتفتت ماديا، أما المكان الذي تشغله فهو بالطبع قابل للانقسام رياضيا بغير حدود. والسبب الذي يجعل الذرات لا ترى بالطريقة العادية هو أنها صغيرة إلى حد هائل، وبذلك أصبح من الممكن الآن تقديم تفسير للصيرورة أو التغير؛ فالطابع المتغير دوما للعالم، ينشأ من إعادة ترتيب الذرات وتشكيلها.
ولو عبرنا عن موقف الذريين بلغة بارمنيدس، لقلنا إن رأيهم مفاده أن ما لا يكون يماثل في حقيقته ما هو كائن، وبعبارة أخرى فإن الفراغ موجود. أما ما هو هذا الفراغ فأمر يصعب التعبير عنه. وفي هذه الناحية لا أعتقد أننا اليوم تقدمنا كثيرا عن اليونانيين؛ فكل ما يمكننا أن نقوله عن ثقة هو أن المكان الخالي هو ما يصدق عليه علم الهندسة بمعنى ما. والواقع أن الصعوبات السابقة للمذهب المادي إنما نشأت من إصراره على أن كل شيء ينبغي أن يكون جسميا.
والوحيد الذي كانت لديه فكرة واضحة عما قد يكونه الفراغ هو بارمنيدس، الذي أنكر وجوده بالطبع. ومع ذلك فمن المفيد أن نتذكر أن عبارة «ما لا يكون كائن» لا تنطوي على تناقض في الألفاظ في اللغة اليونانية. ويكمن الحل في وجود كلمتين يونانيتين تعبران عن النفي؛ إحداهما: تقريرية (خبرية)، كما في قولي: «لا أحب س»، والأخرى: فرضية (إنشائية)، وتستخدم في الأوامر والرغبات وما شاكلها. وأداة النفي الفرضية (الإنشائية) هذه هي التي تستخدم في عبارة «ما لا يكون» أو «اللاوجود»، كما يستخدمها الإيليون. ولو كانت أداة النفي التقريرية (الإخبارية) هي التي استخدمت في «ما لا يكون كائن» لكان ذلك بالطبع تناقضا صارخا. أما في الإنجليزية
5
فلا وجود لهذا التمييز، ومن هنا كانت ضرورة هذا الاستطراد.
لقد تساءل الكثيرون: هل كانت النظرية الذرية عند اليونانيين مبنية على الملاحظة، أم أنها كانت مجرد رمية من غير رام، ولم يكن لها أساس سوى التأمل الفلسفي؟ والجواب عن هذا السؤال ليس على الإطلاق بالبساطة التي قد يبدو عليها؛ فأولا يتضح مما قيل أن النظرية الذرية هي الحل الوسط الوحيد المعقول بين موقف الإنسان العادي وبين النظرية الإيلية؛ إذ كانت هذه النظرية الأخيرة نقدا منطقيا للمذهب المادي السابق. ومن جهة أخرى فقد كان ليوقبوس ملطيا، وكان على إلمام واسع بنظريات مواطنيه الكبار الذين سبقوه في الظهور، وتشهد على ذلك آراؤه في الكونيات؛ إذ إنه عاد إلى الآراء السابقة التي قال بها أنكسيمندر، بدلا من أن يسير في طريق الفيثاغوريين.
ومن الواضح أن نظرية أناكسيمنيس في التكاثف والتخلخل قد بنيت، إلى حد ما، على ملاحظة ظواهر مثل تكثف الأبخرة على الأسطح الملساء. وهكذا فإن المشكلة كانت تكمن في إدماج النقد الإيلي في نظرية عن الجزيئات. أما مسألة اتصاف الذرات بالحركة الدائمة، فمن الممكن أن يكون قد استوحاها من هذه الملاحظة ذاتها، أو من تراقص الغبار في شعاع من الضوء. وعلى أية حال فإن نظرية أناكسيمنيس لا يمكن تطبيقها بالفعل إلا إذا تصورنا مجموعات من الجزئيات متفاوتة في درجة الكثافة التي تتجمع بها، وهكذا فليس من الصحيح قطعا أن المذهب الذري اليوناني كان مجرد تخمين موفق، ولنذكر أنه عندما قام الكيميائي
Dalton
بإعادة إحياء النظرية الذرية في العصر الحديث، كان على وعي بالآراء اليونانية في الموضوع، ووجد أن هذه الآراء تقدم تفسيرا لملاحظته بشأن النسب الثابتة التي تتجمع بها المادة الكيميائية.
غير أن هناك سببا أعمق لقولنا إن النظرية الذرية لم تكن كشفا عشوائيا. هذا السبب يتعلق بالبناء المنطقي للتفسير ذاته؛ إذ ما معنى تفسيرنا لشيء ما؟ إنه بيان للطريقة التي يكون بها ما يحدث، نتيجة لتشكيل متغير لأشياء. فإذا ما أردنا تفسير تغير في شيء مادي، وجب علينا أن نفعل ذلك بالإشارة إلى الترتيبات المتغيرة لمكونات فرضية تظل هي ذاتها بغير تفسير. وهكذا فإن القوة التفسيرية للذرة تظل سليمة ما دامت الذرة ذاتها لا تتخذ موضوعا للبحث. ولكن بمجرد أن يحدث ذلك تصبح الذرة موضوعا للبحث التجريبي، وتصبح العناصر التفسيرية هي الجزئيات الأصغر من الذرة، التي تظل بدورها بلا تفسير. وقد أسهب الفيلسوف الفرنسي إميل مايرسون
E. Meyerson
في مناقشة هذا الوجه من أوجه النظرية الذرية. وهكذا فإن النظرية الذرية تتفق مع بناء التفسير السببي.
ولقد أدخلت تطورات هامة على النظرية الذرية على يد ديمقريطس
Democritus
الذي كان من مواطني أبديرا
Abdera ، وكان في أوج شهرته حوالي عام 420ق.م، وكان من أهم آرائه التمييز بين الأشياء كما هي عليه في حقيقتها، والأشياء كما تبدو لنا. وهكذا فإن العالم المحيط بنا يتألف، حقيقة وفقا للتفسير الذري، من ذرات في فراغ فحسب، على حين أن هذا العالم يتكشف لنا في تجربتنا على أنحاء شتى. وهذا يؤدي إلى تمييز آخر بين ما أطلق عليه بعد ذلك بوقت طويل اسم الكيفيات الأولية والكيفيات الثانوية. أما الأولى فهي الشكل والحجم والمادة، وأما الثانية فهي الألوان والأصوات والطعوم وما شابهها، وبعد ذلك تفسر هذه الأخيرة على أساس الأولى التي تنتمي إلى الذرات نفسها.
وسوف نلتقي بالنظرية الذرية مرارا خلال رحلتنا في هذا الكتاب. أما الحدود التي لا تستطيع هذه النظرية أن تتعداها، فسوف نناقشها في المواضع المناسبة، وحسبنا الآن أن نشير إلى أن المذهب الذري ليس حصيلة تأمل خيالي، وإنما هو إجابة جادة عن السؤال الذي أثاره الفلاسفة الملطيون، وهي إجابة استغرق إعدادها مائة وخمسين عاما.
وإلى جانب أهمية النظرية الذرية بالنسبة إلى العلم الطبيعي، فقد أدت أيضا إلى نظرية جديدة عن النفس، فالنفس كأي شيء آخر تتألف من ذرات، ولكنها ذرات ألطف من غيرها، وتتوزع على كافة أنحاء الجسم. وتبعا لهذا الرأي يكون الموت تحللا، ولا يكون هناك وجود للخلود الشخصي، وهي نتيجة استخلصها أبيقور وأتباعه فيما بعد. أما السعادة وهي غاية الحياة، فقوامها أن تكون النفس في حالة متوازنة.
وفي الوقت الذي كانت فيه المدارس الفلسفية تنمو خلال القرن الخامس، ظهرت جماعة من الناس كانت بمعنى ما على هامش الفلسفة. هؤلاء هم الذين يطلق عليهم عادة اسم السفسطائيين، الذين يشير إليهم سقراط بازدراء، بوصفهم أولئك الذين يجعلون الحجة الأضعف تبدو وكأنها هي الأقوى. ومن المهم أن نعرف كيف ظهرت هذه الحركة، وماذا كانت وظيفتها في المجتمع اليوناني.
إن التغير المستمر في ساحة المعركة الفلسفية قد جعل من الصعب تبيان الجانب الذي قد يكون على حق، ومثل هذه المسائل التي تظل معلقة، هي أمور لا يتوافر لدى الأشخاص العمليين وقت للانشغال بها. فأية مسألة لا يتم حسمها، هي شيء لا جدوى منه بالنسبة إلى من يريدون إنجاز الأمور، حتى يمارسوا فاعليتهم، ولقد كانت هذه على وجه الإجمال هي الأزمة التي وجد السفسطائيون أنفسهم فيها؛ فالنظريات المتعارضة للفلاسفة لم تكن تبشر بإمكان قيام أية معرفة على الإطلاق، وفضلا عن ذلك فإن التجربة المتزايدة للاحتكاك بالشعوب الأخرى أثبتت أن هناك فجوات يستحيل عبورها بين عادات الشعوب المختلفة. وقد روى هيرودوت حكاية حول هذا الموضوع؛ ففي بلاط ملك الفرس العظيم، جاءت وفود من قبائل الأقاليم المختلفة التي تخضع لإمبراطورية الفرس، وكان كل وفد منها يشهق فزعا كلما سمع عن المراسم الجنائزية لدى الوفد الآخر، فالبعض كان يحرق موتاه، والبعض الآخر كان يحنطهم، وفي النهاية اقتبس هيرودوت بيتا للشاعر بندار
يقول فيه إن العرف هو الملك الذي يحكم الجميع. ولما كان السفسطائيون يرون أن المعرفة لا يمكن اكتسابها، فقد أعلنوا أنها ليست بذات أهمية ، والمهم هو الرأي المفيد، وبالطبع فإن هذا القول ينطوي على قدر من الصواب؛ ففي أداء الشئون العملية يكون النجاح بالفعل هو العامل الذي يطغى على غيره، ولكن سقراط يتخذ في هذه المسألة بدورها موقفا مضادا تماما. فيما كان اهتمام السفسطائيين منصبا على الممارسة العملية السليمة، رأى سقراط أن هذه الممارسة لا تكفي، وأن الحياة التي لا تخضع لفحص عقلي دقيق لا تستحق أن تعاش.
ولقد قام السفسطائيون بمهمة تقديم تعليم منظم في الوقت الذي لم تكن فيه اليونان تعرف عن هذا التعليم إلا أقل القليل؛ إذ كانوا معلمين جوالين يقدمون دروسا تعليمية على أساس احترافي. وكان من الأمور التي عابها عليهم سقراط تقاضيهم أجورا، على أن المرء قد يشعر حقا بأن سقراط لم يكن في هذه المسألة منصفا؛ إذ إن محترفي الكلام أنفسهم يحتاجون إلى أن يأكلوا من آن لآخر، ومع ذلك ينبغي أن نشير إلى أن التراث الأكاديمي ينظر إلى الأجور على أنها نوع من الحماية التي تتيح للأستاذ أن ينسى المشكلات المادية.
ولقد كانت الموضوعات التي يهتم بها السفسطائيون في تعليمهم تختلف من فرد لآخر، وكان أكثر أنشطتهم احتراما هو تقديم تعليم أدبي، ولكن كان هناك آخرون يعلمون موضوعات ذات قيمة عملية مباشرة، فمع انتشار الدساتير الديمقراطية في القرن الخامس، أصبح من الضروري للمرء أن يتعلم الخطابة، وقد اضطلع بهذه المهمة معلمون للفصاحة والبلاغة، وبالمثل كان هناك معلمون للسياسة يلقنون تلاميذهم فنون إدارة شئون المجالس. وأخيرا كان هناك معلمون للجدل أو النقاش كان في استطاعتهم أن يجعلوا الحجة السيئة تبدو وكأنها هي الأفضل. ولهذا الفن فوائد واضحة في المحاكم، حيث يتعين على المتهم أن يدافع عن نفسه، وقد استطاع معلموه أن يعلموا الناس كيف يحورون الحجج ويفحمون الخصوم.
ومن المهم أن نميز بين هذا النوع من الجدل الخطابي وبين الجدل الفلسفي (الديالكتيك)، فالذين يمارسون الأول يضعون الفوز نصب أعينهم، على حين أن أصحاب الجدل الفلسفي يحاولون الوصول إلى الحقيقة، وهذا في الواقع هو الفرق بين المجادلة والمناقشة.
وعلى حين أن السفسطائيين قد قاموا في ميدان التعليم بمهمة لها قيمتها، فإن نظرتهم الفلسفية كانت معادية للبحث العقلي؛ ذلك لأن تلك النظرة كانت مشوبة بالشك اليائس، وكانت تشكل موقفا سلبيا من مشكلة المعرفة، ويتلخص هذا الموقف في الكلمة المشهورة لبروتاجوراس القائلة: إن «الإنسان مقياس كل شيء، الأشياء الموجودة على أنها موجودة، والأشياء غير الموجودة على أنها غير موجودة»، وهكذا فإن رأي كل إنسان صحيح بالنسبة إليه، ولا يمكن البت في الخلافات بين الناس على أساس الحقيقة؛ فلا عجب إذن أن نجد السفسطائي تراسماخوس
Thrasymachus
يعرف العدالة بأنها مصلحة الأقوى.
وعلى ذلك، فبالرغم من أن بروتاجوراس يتخلى عن البحث عن الحقيقة، يبدو أنه يعترف بأن رأيا معينا يمكن أن يكون أفضل من رأي آخر بالمعنى البرجماتي، وإن كان هذا الموقف يتعرض للنقد المنطقي العام الذي يوجه إلى البرجماتية؛ ذلك لأننا لو سألنا أي الرأيين هو الأفضل بالفعل لوجدنا أنفسنا نعود مرة أخرى إلى فكرة الحقيقة المطلقة، وعلى أية حال فإن بروتاجوراس هو المؤسس الأول للبرجماتية.
وهناك قصة طريفة تكشف عن الطريقة التي أصبح الناس ينظرون بها إلى السفسطائيين؛ فقد كان بروتاجوراس مقتنعا بأن طريقة تعليمه فعالة إلى أقصى حد، ومن ثم فقد طلب إلى أحد تلاميذه أن يدفع له أجره من حصيلة أول قضية يترافع فيها. غير أن الشاب بعد أن استكمل تدريبه لم يبدأ في ممارسة مهنته. فلجأ بروتاجوراس إلى القضاء ليسترد أجره، مستندا أمام المحكمة إلى أن تلميذه يجب أن يدفع؛ إما عن طريق الاتفاق السابق لو كسب التلميذ، وإما عن طريق الحكم القضائي لو خسر. غير أن المتهم أعطاه في الرد حقه وزيادة؛ إذ أعلن أنه لا ينبغي أن يدفع شيئا؛ إما عن طريق الحكم القضائي لو كسب، وإما عن طريق الاتفاق السابق لو خسر.
لقد كانت كلمة «السفسطائي» ذاتها تعني رجلا حكيما، ونظرا إلى أن سقراط بدوره كان معلما، فلم يكن من المستغرب أن يطلق عليه أولئك الذين لم يعرفوه في عصره حق المعرفة اسم السفسطائي، ولقد بينا من قبل مدى خطأ هذه التسمية، ومع ذلك فإن التمييز لم يعترف به على الوجه الصحيح إلا في عصر أفلاطون، ولا جدال في أن الفلاسفة والسفسطائيين يستثيرون بمعنى معين ردود أفعال متشابهة لدى الجماهير.
والواقع أن أصحاب العقليات غير الفلسفية كانوا منذ أقدم العهود يتخذون موقفا عجيبا وغير متسق من الفلسفة بوجه عام، فهم من جهة يميلون إلى التعامل مع الفلاسفة بتسامح مشوب بالرقة والعطف بوصفهم حمقى لا ضرر منهم، وأناسا ذوي أطوار غريبة، يسيرون وقد ارتفعت رءوسهم في السحاب، ويطرحون أسئلة سخيفة لا صلة لها بالهموم الحقيقية للناس، ولا يكترثون بالأمور التي ينبغي أن يهتم بها المواطنون العقلاء، غير أن التفكير الفلسفي يمكن أن يكون له من جهة أخرى تأثير يزعزع بعمق كل ما هو سائد من عرف وتقاليد، وفي هذه الحالة ينظر إلى الفيلسوف، بعين الشك، على أنه شخص خارج عن العرف المألوف، يعكر صفو التقاليد والأعراف، ولا يبدي موافقة غير مشروطة على العادات والآراء التي تبدو صالحة في نظر كل من عداه.
ذلك لأن أولئك الذين لم يعتادوا النقد يشعرون بانعدام الأمان عندما يناقش أحد معتقداتهم التي يعتزون بها، ويكون رد فعلهم مصحوبا بالكراهية والعداء. وهكذا اتهم سقراط بنشر تعاليم هدامة، شأنه شأن السفسطائيين بوجه عام، ومعلمي الجدل الخطابي بوجه خاص.
الفصل الثاني
أثينا
كانت الشخصيات الثلاث الكبرى في الفلسفة اليونانية مرتبطة بمدينة أثينا، فقد كان سقراط وأفلاطون أثينيين بالمولد، ودرس أرسطو في أثينا ثم علم فيها، وهكذا فإن من المفيد أن نلقي نظرة على المدينة التي عاشوا فيها، قبل أن نناقش أعمالهم.
كانت جحافل البرابرة التي أرسلها الملك دارا
Darius
قد لقيت الهزيمة على أيدي الأثينيين وحدهم في سهول ماراثون
Marathon
عام 490ق.م.، وبعد عشر سنوات استطاع اليونانيون بجهودهم المتضافرة أن يحطموا القوات البرية والبحرية للملك زرزس
Xerxes . وفي تيرموبيلا
Thermopulae
تمكن الحرس الإسبرطي من أن يوقع بالفرس خسائر فادحة، وفيما بعد استطاعت السفن اليونانية تحت قيادة أثينية، أن تكيل ضربة مميتة لأسطول الأعداء، وفي السنة التالية لقي الفرس هزيمتهم في بلاتايا
.
غير أن أثينا كانت عندئذ حطاما؛ فقد هجرها سكانها، وحرق الفرس المدينة ومعابدها، وهكذا بدأت عندئذ حركة تعمير هائلة بعد أن تحملت أثينا أعباء الحرب كلها، وبينما كانت أثينا هي القائدة في زمن الحرب، أصبحت الآن بعد زوال الخطر قائدة في زمن السلم أيضا، وكانت الخطوة التالية بعد إنقاذ أرض اليونان الأصلية هي تحرير جزر بحر إيجة، ولكن الإسبرطيين لم يكن لهما نفع كبير في هذه المهمة، وهكذا أخذت أثينا على عاتقها مهمة استخدام أساطيلها في القضاء على مطامع ملك الفرس العظيم، وصارت لأثينا الكلمة العليا في منطقة بحر إيجة، وعلى حين أن الجهد الحربي قد اتخذ في البدء شكل تحالف محوره جزيرة ديلوس
Delos ، فإنه انتهى آخر الأمر إلى إمبراطورية أثينية، انتقلت خزانتها من ديلوس إلى أثينا.
لقد عانت أثينا من أجل القضية المشتركة، وأصبحت الآن تشعر بأن من حقها أن يعاد بناء معابدها من الأموال المشتركة، وهكذا شيد «الأكروبول» الجديد، أي «مدينة القمة»، وفيه البارثينون ومبان أخرى لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، وأصبحت أثينا أروع مدن اليونان، وملتقى الفنانين والمفكرين، فضلا عن كونها مركزا للملاحة والتجارة. وقام المثال فيدياس
بنحت تماثيل للمعابد الجديدة، ولا سيما الصورة الضخمة للإلهة أثينا، التي كانت تحتل موقع الصدارة من الأكروبول، وتطل على قاعة المدخل والدرج، وجاء المؤرخ هيرودوت من بلدته «هاليكارناسوس» في أيونية لكي يعيش في أثينا، وكتب مؤلفه التاريخي عن الحروب الفارسية، وبلغت التراجيديا الإغريقية ذروتها على يد إيسخولوس، الذي كان قد حارب في معركة «سالاميس»، ولأول مرة نجد كتابا يعالج موضوعا لم يكن مستمدا من الشاعر هوميروس، هو هزيمة زيرزس، أما كاتبا التراجيديا سوفوكليس
Sophocles
ويوربيدس
Euripides
فقد عاشا ليشهدا انحدار أثينا، وكذلك الحال في الشاعر الهزلي أريستوفان
Aristophanes
الذي لم تترك سخريته اللاذعة أحدا إلا ونالت منه، أما ثوكوديدس
Thucydidas
الذي سجل فيما بعد وقائع الحرب الكبرى بين أثينا وإسبرطة، فقد أصبح أول مؤرخ علمي. ويمكن القول إن أثينا بلغت قمة عظمتها سياسيا وثقافيا في تلك السنوات الواقعة بين الحرب الفارسية وحرب «البلوبنيز»،
1
أما الرجل الذي يحمل هذا العهد اسمه فهو بريكليز
. كان بريكليز أرستقراطيا بحكم مولده، وكانت أمه تمت بصلة القربى إلى المصلح كليسثنس
Cleisthenes
الذي بدأ مهمة صبغ الدستور الأثيني بصبغة أكثر ديمقراطية، وكان من بين معلمي بريكليز ، الفيلسوف أناكساجوراس، الذي تعلم منه الفتى الكريم الأصل نظرية آلية عن الكون. وهكذا نشأ بريكليز متحررا من الخرافات الشعبية السائدة في عصره، وكانت شخصيته تتسم بالانضباط والاعتدال، وكان على وجه الإجمال يترفع عن الناس العاديين، ومع ذلك فقد كان هو الذي رعى الديمقراطية الأثينية حتى بلغت أوج نضوجها، فقد واصل عملية انتزاع السلطة من مجلس الأعيان
Areopagus . وأحال جميع وظائفه باستثناء محاكمة جرائم القتل، إلى مجلس الخمسمائة، وإلى المجلس التشريعي والمحاكم. وأصبح أعضاء هذه المجالس جميعا موظفين يتقاضون مرتبات من الدولة، وينتخبون بالاقتراع البسيط، وأدخل نظاما جديدا للخدمات الاجتماعية كان من نتيجته أن طرأ بعض التغيير على المفهوم التقليدي القديم للفضائل.
ولكن بريكليز كان من ذلك المعدن الذي يصنع القادة؛ ففي عام 443ق.م. أبعد منافسه ثوكوديدس، القائد العسكري، وبعد ذلك أصبح بريكليز يعاد انتخابه عاما بعد عام، بوصفه واحدا من القادة، ونظرا إلى شعبيته وقدرته الخطابية وبراعته السياسية، فقد فاق زملاءه، وأصبح يحكم وكأنه حاكم فرد. وقد كتب ثوكوديدس المؤرخ فيما بعد عن أثينا في عهد بريكليز. فقال إنها كانت ديمقراطية بالاسم، أما بالفعل فكانت تخضع لحكم المواطن الأول، ولم يبدأ الحزب الديمقراطي في المطالبة بمزيد من السلطة إلا خلال الأعوام التي سبقت الحرب البلوبنيزية مباشرة. وفي ذلك الوقت كان المجتمع الأثيني قد بدأ يعاني من الآثار السيئة للقانون الذي كان يقصر المواطنة على الأثينيين المولودين لأبوين أثينيين، والذي يرجع إلى عام 441ق.م، كما بدأ يعاني من سوء الأوضاع المالية نتيجة لبرامج التشييد الباذخة، وقد دامت الحرب التي نجمت عن رغبة إسبرطة في منافسة الإمبريالية الأثينية من عام 431 حتى عام 404ق.م..
وانتهت بهزيمة كاملة لأثينا، أما بريكليز نفسه فقد مات في الجزء الأول من هذه الحرب، عام 429؛ نتيجة للوباء الذي اجتاح المدينة في العام السابق، ولكن أثينا بوصفها مركزا ثقافيا قد عاشت عمرا يتجاوز بكثير عهد انهيارها السياسي. وما زالت هذه المدينة حتى يومنا هذا ترمز لكل ما هو عظيم وجميل في نتاج الإنسان.
والآن نصل إلى سقراط الأثيني، إنه ربما كان الفيلسوف الوحيد الذي يعرف الجميع اسمه على الأقل. على أننا لا نعرف عن حياته الكثير، فقد ولد حوالي عام 470ق.م. وكان مواطنا لأثينا، وكان فقيرا، ولم يبذل جهدا كبيرا لتجاوز فقره، بل إن أحب طرق قضاء أوقات الفراغ إلى نفسه كانت المناقشة مع أصدقائه وغيرهم، وتعليم الفلسفة للشباب الأثيني، ولكنه على خلاف السفسطائيين، لم يكن يتقاضى أجرا عن ذلك، ونظرا إلى أن الكاتب المسرحي الهزلي أريستوفان يسخر منه في مسرحية السحب؛ فلا بد أنه كان شخصية معروفة في أرجاء المدينة. وفي عام 399ق.م. أدين بسبب ممارسته نشاطات معادية لأثينا
2
وأعدم بالسم.
أما بالنسبة إلى ما عدا ذلك من المعلومات عن سقراط، فعلينا أن نعتمد على كتابات اثنين من تلاميذه، هما زينوفون القائد العسكري وأفلاطون الفيلسوف، والأخير هو أهم الاثنين بالطبع؛ ففي كثير من محاورات أفلاطون يعرض علينا سقراط كما كان يعيش ويتكلم.
وحين نقرأ محاورة «المأدبة» نرى سقراط وهو يمر بنوبات من شرود الذهن، فيتوقف فجأة في موضع ما، ويظل شاردا في أفكاره لمدة ساعات في بعض الأحيان، ولكنه كان في الوقت ذاته قوي البنية؛ فقد عرف عنه منذ فترة وجوده في الجيش أنه أقدر على تحمل الحر والبرد، والاستغناء عن الطعام والشراب من أي شخص آخر، كما عرفت عنه شجاعته في القتال؛ فقد تحمل ذات مرة مخاطرة كبرى من أجل إنقاذ حياة صديقه ألكبيادس
Alcibiades
الذي تهاوى على أرض المعركة جريحا، وهكذا كان سقراط رجلا غير هياب في الحرب والسلم على السواء، وظل على هذا النحو حتى ساعة موته، ولقد كان سقراط قبيح المنظر، ولم يكن يبدي عناية بملبسه، وكان رداؤه باليا مهلهلا، كما كان عاري القدمين على الدوام. ولقد كان معتدلا في كل ما يفعل، وكانت لديه سيطرة عجيبة على جسده؛ فعلى الرغم من أنه لم يكن يشرب النبيذ إلا نادرا، كان يستطيع إذا اقتضى الأمر أن يشرب أكثر من جميع رفاقه على المائدة دون أن يصيبه أي دوار.
ولقد استبق سقراط المدرستين الرواقية
Stoic
والكلبية
Cynic
اللتين عرفتهما الفلسفة اليونانية فيما بعد. فكان يشارك الكلبيين عدم اكتراثهم بمتع الدنيا، ويشارك الرواقيين الحرص على الفضيلة بوصفها في الأسمى، ولم يكن سقراط ميالا إلى البحث العلمي إلا في أيام شبابه، وكان أقصى اهتمامه موجها إلى البحث في الخير.
وهكذا نجده في المحاورات الأفلاطونية الأولى، التي تظهر فيها شخصيته بوضوح كامل، يبحث عن تعريفات للمفاهيم الأخلاقية، ففي محاورة خارميدس
Charmides
يدور التساؤل حول مفهوم الاعتدال، وفي «ليسس
Lysis » حول مفهوم الصداقة، وفي «لاخيس
Laches » حول الشجاعة. ولا نجد في هذه المحاورات إجابات نهائية عن تلك الأسئلة، وإنما يبين لنا أن طرح الأسئلة أمر عظيم الأهمية.
وهذا يقودنا إلى الاتجاه الفكري الرئيسي عند سقراط ذاته؛ فعلى الرغم من أنه كان يقول دائما إنه لا يعرف شيئا، فإنه لم يكن يعتقد أن المعرفة بعيدة عن متناول يديه. والمهم في رأيه هو السعي من أجل اكتساب المعرفة؛ إذ كان يعتقد أن السبب الذي يجعل الإنسان يرتكب الخطيئة هو افتقاره إلى المعرفة، ولو عرف لما ارتكبها. وإذن فالسبب الأول للشر هو الجهل، ولكي نصل إلى الخير لا بد لنا من اكتساب المعرفة، ومن ثم فالخير هو المعرفة، والواقع أن الارتباط بين الخير والمعرفة من العلامات المميزة للفكر اليوناني طوال عهوده، أما الأخلاق المسيحية فعلى النقيض من ذلك؛ إذ إن أكثر ما تحرص عليه هو نقاء القلب، وهذا أمر قد يكون الوصول إليه أيسر بين الجهلاء.
وعلى ذلك فإن سقراط قد حاول إلقاء الضوء على هذه المشكلات الأخلاقية عن طريق المناقشة، ويطلق على هذه الطريقة في الاهتداء إلى الأشياء عن طريق السؤال والجواب اسم الجدل أو الديالكتيك، ولقد كان سقراط متمكنا منه، وإن لم يكن هو أول من استخدمه؛ إذ يقول أفلاطون في محاورة «بارمنيدس» إن سقراط التقى في شبابه مع زينون وبارمنيدس، وتلقى منهما درسا في الديالكتيك من ذلك النوع الذي أصبح هو ذاته يلقنه للآخرين فيما بعد. وتكشف محاورات أفلاطون عن سقراط بوصفه رجلا لديه ميل واضح إلى الدعابة، وقدرة على السخرية اللاذعة، وهكذا اشتهر بين الناس بتهكمه ، وكان الناس يعملون حسابا لتهكمه هذا، والواقع أن المعنى الحرفي للفظ التهكم
irony ، الذي هو لفظ يوناني في الأصل، أقرب إلى «التهوين
understatement » وعلى ذلك فعندما يقول سقراط إنه لا يعرف سوى أنه لا يعرف شيئا، فإنه يكون في ذلك متهكما (أو مهونا من شأن نفسه)، وإن كانت هناك دائما مسألة جادة تكمن وراء السطح الظاهري للهزل، ولا جدال في أن سقراط كان على دراية بما حققه جميع المفكرين والكتاب والفنانين في اليونان، غير أن ما نعرفه قليل، ولا يكاد يكون شيئا إذا ما قورن بالآفاق اللانهائية للمجهول. وحين ندرك ذلك عن وعي، يحق لنا القول إننا لا نعرف شيئا.
ولقد كانت أفضل صورة تكشف لنا عن سقراط وهو يمارس نشاطه هي تلك التي نجدها في محاورة «الدفاع»، التي تعرض علينا محاكمة سقراط. وهذه المحاورة تتضمن خطابه الذي دافع به عن نفسه، أو على الأصح ما تذكره منه أفلاطون فيما بعد، لا بطريقة حرفية، بل بالأحرى ما كان من الممكن أن يقوله سقراط دفاعا عن نفسه، ولم يكن مثل هذا النوع من الرواية أمرا غير مألوف، فقد مارسه ثوكوديدس المؤرخ بصراحة ووضوح. وعلى ذلك فإن محاورة الدفاع تدخل في باب الكتابة التاريخية.
لقد اتهم سقراط بالخروج على دين الدولة، وبإفساد الشباب بتعاليمه، ولكن ذلك لم يكن إلا اتهاما ظاهريا، أما المأخذ الحقيقي للحكومة عليه، فكان ارتباطه بالحزب الأرستقراطي الذي كان ينتمي إليه معظم أصدقائه وتلاميذه، ولكن نظرا إلى أن الحكومة كانت قد أعلنت عن عفو عام، فلم يكن من الممكن توجيه هذه التهمة إليه. ولقد كان القائمون بالادعاء ضده هم أنيتوس
Anytus
وهو سياسي ديمقراطي، ومليتوس
Melatus ، وهو شاعر تراجيدي، ولوكون
Lycon ، وهو معلم للبلاغة.
ومنذ البداية أطلق سقراط العنان لتهكمه ، فالذين وجهوا الاتهام إليه هم كما قال مذنبون باستخدام الفصاحة، وإلقاء خطب مليئة بالمحسنات اللفظية، أما هو ذاته فقد بلغ سن السبعين، ولم يمثل أمام أية محكمة من قبل، وهو يسأل القضاة أن يتحملوا طريقته غير القانونية في الكلام، ثم يتحدث سقراط بعد ذلك عن فئة أخرى من موجهي الاتهام، أقدم وأخطر من الفئة الموجودة فعلا؛ لأنها أشد مراوغة، تلك هي الناس الذين ظلوا يتحدثون في كل مكان عن سقراط بوصفه «رجلا حكيما، يتأمل بفكره السماء في الأعالي، وينقب عن شئون الدنيا في الأرض، ويجعل الحجة الأسوأ تبدو وكأنها هي الأفضل»، وعلى هؤلاء يرد سقراط بأنه ليس عالما، ولا يعلم لقاء أجر كالسفسطائيين، ولا يعرف ما يعرفون.
فلماذا إذن يسميه الناس حكيما؟ ذلك لأن نبوءة معبد دلفي قد أعلنت ذات مرة أنه لا أحد أحكم من سقراط. ولقد حاول هو ذاته أن يثبت خطأ النبوءة، فبحث عن أولئك الذين يعدون حكماء، وطرح عليهم أسئلته. وهكذا سأل سياسيين وشعراء وصناعا، فلم يجد واحدا منهم قادرا على أن يصف بدقة ما يفعل، ولم يجد بينهم حكيما، وحين كشف للناس جهلهم، جلب لنفسه عداوة الكثيرين، وفي النهاية فهم ما كانت تعنيه النبوءة؛ فالله وحده هو الحكيم، أما حكمة الناس فمتهافتة، وأحكم الناس هو الذي يدرك، كما أدرك سقراط، أن حكمته لا تساوي شيئا. وهكذا قضى حياته يفضح الادعاء بالحكمة، فلم يجن من وراء ذلك إلا الفقر، ولكن كان لزاما عليه أن يمتثل لحكم النبوءة.
وحين أخذ سقراط يحاور مليتوس، ممثل الادعاء، أجبره على الاعتراف بأن كل شخص في الدولة يعمل على تحسين أوضاع الشباب ما عدا سقراط ذاته، ولكن الحياة مع أناس أخيار أفضل من العيش مع الأشرار، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون قد أفسد الاثنين عامدا، وإذا كان قد فعل ذلك بغير قصد، فمن واجب مليتوس أن يقوم اعوجاجه، لا أن يدينه، ومن جهة أخرى فإن الاتهام يقول إن سقراط قد وضع آلهة جديدة خاصة به، على حين أن مليتوس ينسب إليه وصمة الإلحاد، وهذا تناقض صارخ.
وبعد ذلك ينبئ سقراط المحكمة بأن الواجب يقضي عليه بأن يلبي الأمر الإلهي بالبحث في دخيلة نفسه وفي الآخرين، حتى ولو كان في ذلك يخاطر بعداوة الدولة. ويذكرنا موقف سقراط هذا بأن مشكلة الولاء المنقسم أو الموزع هي من المحاور الرئيسية للتراجيديا اليونانية. ويصف بعد ذلك نفسه بأنه داعية ونذير للدولة، ويتحدث عن صوت داخلي يوجهه على الدوام. هذا الصوت يوجه إليه النواهي، ولكنه لا يأمره بأن يفعل شيئا، ولقد كان هذا الصوت هو الذي منعه من الاشتغال بالسياسة، التي لا تسمح لأحد بأن يحافظ على نزاهته وقتا طويلا، ولقد امتنع الادعاء عن الاستشهاد بأحد من تلاميذه السابقين الموجودين في قاعة المحكمة. وأخيرا أكد سقراط أنه لن يتوسل إليهم مسترحما ويأتي بأطفاله باكين، بل إن من واجبه أن يقنع القضاة، لا أن يلتمس عطفهم.
وعندما جاء الحكم بالإدانة، ألقى سقراط خطابا ساخرا لاذعا، واقترح أن يدفع غرامة مقدارها ثلاثون درهما، ولم يكن هناك مفر من رفض هذا الطلب، وبذلك تأكدت عقوبة الإعدام. وفي خطاب أخير حذر سقراط أولئك الذين أدانوه بأنهم سينالون بدورهم أشد العقاب جزاء على جرمهم، ثم توجه بالحديث إلى أصدقائه قائلا: إن ما حدث لم يكن شرا. فليس لأحد أن يخاف الموت؛ لأنه إما أن يكون نوما بلا أحلام، وإما أن يكون حياة في عالم آخر يستطيع فيه أن يتحدث بحرية مع أورفيوس وموزايوس وهزيود وهوميروس، وفي ذلك العالم لا يمكن أن يكون جزاء من يطرح الأسئلة هو القتل.
ولقد قضى سقراط شهرا في السجن قبل أن يشرب السم، فلم يكن من الممكن إعدام أحد قبل عودة سفينة الدولة، التي أخرتها العواصف في رحلتها الدينية السنوية إلى «ديلوس»، وقد رفض سقراط أن يهرب، وتعرض علينا محاورة «فيدون» لحظاته الأخيرة التي قضاها مع أصدقائه ومريديه يتحاورون عن الخلود.
إن القارئ لو قلب صفحات هذا الكتاب فلن يجد فيه فيلسوفا واحدا يشغل حيزا يعادل ذلك الذي يشغله أفلاطون أو أرسطو، ومرد ذلك إلى موقعهما الفريد في تاريخ الفلسفة؛ فهما أولا قد ظهرا بوصفهما وريثين للمدارس السابقة لسقراط ومنظرين منهجيين لها، طورا ما تلقياه منها، وألقيا الضوء على الكثير مما ترك بصورة ضمنية لدى المفكرين السابقين. وفضلا عن ذلك فقد كان لهما طوال العصور تأثير هائل على مخيلة البشر، فحيثما ازدهر التفكير النظري في الغرب، كانت ظلال أفلاطون وأرسطو محلقة في خلفية هذا التفكير، وأخيرا فإن إسهامهما في الفلسفة أهم على الأرجح من إسهام أي فيلسوف آخر قبلهما أو بعدهما؛ إذ لا تكاد توجد مشكلة فلسفية لم يقولا عنها شيئا له قيمته، وكل من يتصور في أيامنا هذه أنه يستطيع أن يأتي بشيء أصيل دون أن يكون قد استوعب تلك الفلسفة الأثينية عليه أن يتحمل عواقب مغامرته.
لقد امتدت حياة أفلاطون طوال الفترة الواقعة بين انهيار أثينا وبين صعود مقدونيا؛ فقد ولد عام 428ق.م. بعد عام من وفاة بريكليز، وبذلك يكون قد نشأ خلال الحرب البلوبنيزية، وقد عاش ما يربو على ثمانين عاما، ومات سنة 348ق.م، وكانت أصوله العائلية أرستقراطية، وكذلك كانت تربيته؛ فقد كان أبوه أريستون
Ariston
ينحدر من سلالة الملوك الأثينيين القدماء، على حين أن أمه بركتيوني
تنتمي إلى أسرة كان لها نشاط سياسي قديم العهد، وقد مات أبوه أريستون حين كان أفلاطون لا يزال في صباه، وتزوجت أمه بعد ذلك من عمها بريلامبيس
الذي كان صديقا ونصيرا لبريكليز، ويبدو أن أفلاطون قد أمضى سنوات تعليمه في بيت زوج أمه، وبمثل هذه الخلفية لا يعجب المرء حين يراه يقول بآراء هامة عن الواجبات السياسية للمواطن. وهو لم يكتف بعرض هذه الآراء، كما فعل في محاورة «الجمهورية»، وإنما مارسها بنفسه، ويبدو أنه كشف في سنواته المبكرة عن استعداد ليكون شاعرا، كما كان من المفهوم أنه سيشتغل بالعمل السياسي، ولكن هذا الطموح قد وضع له حد مفاجئ عندما حكم على سقراط بالموت؛ ذلك لأن هذا التآمر السياسي والحقد المخيف قد ترك في نفس أفلاطون الشاب أثرا لا يمحى، وأدرك أنه ليس في وسعه أن يظل محتفظا باستقلاله ونزاهته في إطار السياسة الحزبية. ومنذ ذلك الحين قرر أفلاطون، بصفة نهائية، أن يكرس حياته للفلسفة.
كان سقراط صديقا قديما لأسرة أفلاطون، وقد عرفه أفلاطون منذ طفولته، وبعد إعدام سقراط التجأ أفلاطون، مع بعض أتباع سقراط الآخرين إلى ميغارا
Megara ، حيث ظلوا إلى أن تلاشت ذيول الحادث. وبعد ذلك يبدو أن أفلاطون قام بأسفار طوال بضع سنوات، طاف خلالها صقلية وجنوب إيطاليا، وربما مصر أيضا، ولكنا لا نعرف عن هذه الفترة إلا أقل القليل، وعلى أية حال فإنه يعود إلى الظهور في أثينا عام 387ق.م، حين وضع أسس مدرسة أنشئت في بستان يبعد مسافة بسيطة في الاتجاه الشمالي الغربي للمدينة، وكان اسم قطعة الأرض هذه مرتبطا باسم البطل الأسطوري أكاديموس؛ ومن ثم فقد أطلق على الدراسة اسم الأكاديمية، وكان تنظيمها مستوحى من نموذج المدارس الفيثاغورية في جنوب إيطاليا، وهي المدارس التي عرفها أفلاطون خلال أسفاره. وتعد الأكاديمية هي الأصل الأول الذي تفرعت عنه الجامعات، منذ العصور الوسطى، وقد ظلت باقية بوصفها مدرسة طوال ما يربو على تسعمائة عام، وبذلك عاشت فترة أطول مما عاش أي معهد علمي آخر قبل ذلك العهد وبعده. وأخيرا أغلقها الإمبراطور جستينيان
Justinian
في عام 529 ميلادية، بعد أن شعر بأن هذا التراث الباقي من العصر الكلاسيكي يجرح مشاعره المسيحية.
كانت الدراسات في الأكاديمية تسير في خط كان موازيا على وجه الإجمال للموضوعات التقليدية في المدارس الفيثاغورية. فكان أهم المقررات الدراسية فيها هو الحساب وهندسة المسطحات والمكعبات، والفلك، والصوت أو التوافق (الهارمونيا). وهكذا كان الاهتمام الأكبر ينصب على الرياضيات، وهو أمر غير مستغرب في ضوء روابطها الفيثاغورية القوية. ويقال إن مدخل المدرسة كان يحمل لافتة تمنع أي شيء لا يحب هذه الدراسات الرياضية من الدخول. وكانت فترة تلقي التعليم في هذه المواد عشر سنوات.
ولقد كان الهدف من هذه الدراسة هو تحويل أذهان الناس عن التغيرات المتقلبة لعالم التجربة اليومية، وتوجيهها نحو الإطار الثابت الذي يكمن وراء هذه التغيرات، أي من الصيرورة إلى الوجود ، إذا استخدمنا تعبير أفلاطون.
ولكن أية دراسة كهذه لا تقوم بذاتها؛ فهي في النهاية تخضع لقواعد الجدل، ومن ثم فإن دراسة هذه القواعد هي السمة المميزة للتعليم الحق.
والواقع أن هذه القواعد تظل هي موضوع التعليم الصحيح بمعنى حقيقي إلى أبعد حد، حتى في يومنا هذا؛ فليس من مهمة الجامعة أن تحشو أدمغة الطلاب بأكبر عدد من الحقائق يمكن أن تتسع له، بل إن مهمتها الحقيقية هي أن تكون لديهم عادات الاختبار النقدي والفهم الصحيح للقواعد والمعايير التي تحكم كل موضوعات الدراسة.
وأغلب الظن أننا لن نستطيع أبدا أن نعرف تفاصيل الطريقة التي كانت تدار بها الأكاديمية، ولكننا نستطيع أن نستدل، من إشارات سريعة في كتابات أخرى، على أنها لا بد أن تكون مشابهة في نواح كثيرة لمعاهد التعليم العالي الحديثة؛ فقد كانت مزودة بأدوات علمية ومكتبة، وكانت تلقى فيها المحاضرات، وتعقد حلقات البحث.
وقد أدى تقديم التعليم في مدرسة كهذه إلى تدهور سريع للحركة السفسطائية، ولا شك أن أولئك الذين كانوا يحضرون دروسها كانوا يسهمون بأموال للإنفاق عليها، ولكن مسألة المال لم تكن هي المسألة الهامة، فضلا عن أن أفلاطون الذي كان ميسور الحال، كان يستطيع أن يتجاهل هذه الأمور، وإنما كان الشيء الهام حقا هو الهدف الأكاديمي، الذي كان تدريب عقول الناس على أن تفكر بنفسها في ضوء العقل، ولم يكن لهذه الدراسة أي هدف علمي مباشر، على عكس السفسطائيين الذين لم يكونوا يبحثون إلا عن البراعة في الأمور العملية.
ولقد كان أشهر تلامذة الأكاديمية هو واحد من أوائل هؤلاء التلاميذ، وأعني به أرسطو، الذي انتقل في شبابه إلى أثينا؛ لكي يلتحق بهذه المدرسة، وظل فيها قرابة العشرين عاما، إلى أن مات أفلاطون، وينبئنا أرسطو بأن أستاذه كان يحاضر دون مذكرات معدة سلفا، كما أننا نعرف من مصادر أخرى أنه في حلقات الدراسة أو المناقشة كانت المشكلات تطرح على الطلاب لكي يحلوها. وكانت المحاورات محاولات فلسفية بالمعنى الحرفي، لا تستهدف تلاميذ أفلاطون بقدر ما تستهدف الجمهور الواسع المتعلم . ولم يكتب أفلاطون كتابا مدرسيا واحدا، كما أنه كان يرفض دائما أن يصوغ فلسفته على شكل مذهب متكامل، ويبدو أنه كان يشعر بأن العالم أعقد من أن يشكل في قالب أدبي معد سلفا.
وكان قد مضى على عمل الأكاديمية عشرون عاما حين شد أفلاطون عصا الترحال مرة أخرى، ففي عام 367ق.م. مات ديونيزوس الأول، حاكم سراقوزة، وخلفه ابنه ووريثه ديونيزوس الثاني، الذي كان عندئذ شابا محدود المعرفة، قليل الخبرة في الثلاثين من عمره، ولم يكن لديه من الاستعداد ما يكفي لمهمة توجيه أقدار مدينة هامة مثل سراقوزة، وكانت السلطة الحقيقية في يد ديون
Dion
زوج أخت ديونيزوس الشاب، الذي كان صديقا حميما لأفلاطون ومعجبا متحمسا به. وكان ديون هو الذي وجه الدعوة إلى أفلاطون كي يأتي إلى صاقوزة لكي يلقن ديونيزوس تعاليمه، ويجعل منه رجلا واسع المعرفة. وكان احتمال النجاح في مثل هذه المهمة ضئيلا في أحسن الظروف، ولكن أفلاطون وافق على القيام بالمحاولة؛ لأسباب من بينها دون شك صداقته لديون، ولكن من بينها أيضا أن ذلك كان تحديا لسمعته الأكاديمية؛ فها هي ذي الفرصة قد حانت لأفلاطون كيما يضع نظريته في تعليم الحكام موضع الاختبار.
وبطبيعة الحال فليس من المؤكد أن تلقي رجل الدولة دروسا في العلم يكفي في ذاته لكي يجعله أعمق تفكيرا في الشئون السياسية، ولكن أفلاطون كما هو واضح كان يؤمن بذلك، فقد كان من الضروري وجود حاكم في صقلية إذا ما أراد اليونانيون الغربيون أن يصمدوا في وجه القوة المتزايدة لقرطاجة. ولو أمكن تحويل ديونيزوس إلى حاكم من هذا النوع عن طريق بعض التدريب في الرياضيات، لكانت الفائدة التي تجنى من ذلك هائلة، أما لو أخفق العلاج فلن يكون أحد قد خسر شيئا، وفي البداية تم إحراز بعض النجاح، ولكن لم يدم ذلك طويلا، إذ لم تكن لديونيزوس القدرة العقلية على تحمل علاج تعليمي طويل الأمد، فضلا عن أنه كان في ذاته شخصية سيئة الطوية. وهكذا فإنه شعر بالغيرة من نفوذ زوج أخته في سراقوزة ، وصداقته لأفلاطون، فنفاه قسرا من البلاد، ولم يعد بقاء أفلاطون بعد ذلك يفيد في شيء، ومن ثم فقد عاد إلى أثينا الأكاديمية، وحاول بقدر ما يستطيع أن يصلح الأمور عن بعد، ولكن بلا جدوى، وفي عام 361ق.م. رحل مرة أخرى إلى سراقوزة في محاولة أخيرة لإصلاح الأوضاع. وهناك قضى ما يقرب من عام يحاول وضع بعض التدابير العملية من أجل توحيد يونانيي صقلية في وجه خطر قرطاجة، ولكن تبين في النهاية أن سوء نية الجناح المحافظ في الدولة عقبة يستحيل التغلب عليها. وهكذا قرر أفلاطون أن يرحل إلى أثينا في عام 365ق.م. بعد أن تعرضت حياته ذاتها للخطر، وفيما بعد استعاد ديون مكانته بالقوة، ولكنه أثبت - برغم تحذيرات أفلاطون - أنه حاكم بعيد عن الكياسة، وأدت تصرفاته إلى اغتياله، ومع هذا كله ظل أفلاطون يحرض أتباع ديون على مواصلة السياسة القديمة، غير أن نصيحته ذهبت أدراج الرياح، وكان المصير الأخير لصقلية هو غزوها من الخارج، كما تنبأ أفلاطون.
ولدى عودة أفلاطون في عام 360ق.م. رجع إلى التعليم والكتابة في الأكاديمية، وظل نشطا في التأليف حتى النهاية، والواقع أن أفلاطون كان، من بين جميع كتاب العصر القديم، الوحيد الذي وصلتنا مؤلفاته شبه كاملة، على أنه لا ينبغي أن ننظر إلى المحاورات - كما ذكرنا من قبل - بوصفها دراسات رسمية متخصصة في موضوعات فلسفية؛ ذلك لأن أفلاطون كان على وعي تام بالصعوبات التي تعترض بحثا من هذا النوع، بحيث لم يحاول أبدا أن يضع مذهبا فلسفيا تختتم به كل المذاهب، كما فعل عدد كبير من الفلاسفة منذ ذلك الحين. وفضلا عن ذلك فإنه ينفرد عن جميع الفلاسفة بأنه جمع بين صفتي المفكر العظيم والكاتب العظيم؛ فأعمال أفلاطون تشهد بأنه واحد من أبرز الشخصيات في الأدب العالمي، غير أن هذا الامتياز ظل للأسف شيئا استثنائيا في تاريخ الفلسفة، فكم من الكتابات الفلسفية ثقيلة، جافة، جوفاء، بل إننا نجد في حالات معينة ما يشبه التقليد الراسخ الذي يقضي بأن تكون الكتابات الفلسفية غامضة معقدة في أسلوبها حتى تكون عميقة. وهذا أمر مؤسف؛ لأنه ينفر الشخص المهتم غير المتخصص، وبطبيعة الحال فلا ينبغي أن يتصور القارئ أن المثقف الأثيني في عمر أفلاطون كان يستطيع قراءة محاوراته، وإدراك أهميتها الفلسفية لأول وهلة، ولو توقعنا ذلك لكنا كمن ينتظر من شخص غير متخصص في الرياضيات أن يأخذ كتابا في هندسة التفاضل ويستوعبه لتوه. وعلى أية حال، فإن في إمكانك أن تقرأ أفلاطون، وهذا شيء لا يمكن أن يقال عن معظم الفلاسفة.
ولقد ترك أفلاطون إلى جانب المحاورات بعض الرسائل، ومعظمها لأصدقائه في سراقوزة، ولهذه الرسائل قيمتها بوصفها وثائق تاريخية، ولكن ليست لها فيما عدا ذلك أهمية فلسفية خاصة.
وهنا ينبغي أن نقول شيئا عن دور سقراط في المحاورات؛ ذلك لأن سقراط نفسه لم يكتب أي شيء، بحيث عاشت فلسفته أساسا من خلال ما نعرفه عن طريق أفلاطون، وفي الوقت ذاته، فإن أفلاطون وضع في أعماله المتأخرة نظريات خاصة به؛ ولذلك ينبغي أن يميز المرء في المحاورات بين ما ينتمي إلى أفلاطون، وما ينتمي إلى سقراط. وهذه مهمة غير هينة، ولكنها ليست مستحيلة. ومن الأسباب التي تجعلها ممكنة أن أفلاطون قد انتقد في محاوراته التي يمكن القول، بناء على أسباب مستقلة، إنها متأخرة، بعض النظريات التي عرضها سقراط من قبل. ولقد كان من الشائع القول في وقت ما إن سقراط الذي نجده في المحاورات ما هو إلا ناطق بلسان أفلاطون، الذي عرض بهذه الوسيلة الأدبية كل الآراء التي خطرت بباله في تلك الفترة، غير أن هذا الرأي يتعارض مع الحقائق، ولم يعد اليوم سائدا.
3
إن تأثير أفلاطون في الفلسفة هو على الأرجح أعظم من تأثير أي شخص آخر؛ فأفلاطون الذي كان وريثا لسقراط والفلاسفة السابقين له، وكان مؤسس الأكاديمية ومعلم أرسطو، يحتل موقعا مركزيا في الفكر الفلسفي، ولا شك أن هذا هو الذي دعا عالم المنطق الفرنسي أ. جوبلو
E. Goblot
إلى القول إن ما نجده لدى أفلاطون ليس واحدا من مذاهب الميتافيزيقا، بل هو الميتافيزيقا الواحدة والوحيدة. ولو تذكرنا التمييز بين سقراط وأفلاطون لكان الأدق أن نقول إن سقراط الأفلاطوني هو الذي أثرت تعاليمه في الفلسفة أعظم التأثير، أما إحياء أفلاطون نفسه، خالصا من كل عنصر آخر، فهو ظاهرة أحدث بكثير. وهو يرجع في الأوساط العلمية إلى أوائل القرن السابع عشر، على حين يرجع في الفلسفة ذاتها إلى عصرنا الحاضر.
ومن المهم عند دراستنا لأفلاطون أن نتذكر دائما الدور الرئيسي الذي تلعبه عنده الرياضيات، وتلك سمة تميز أفلاطون عن سقراط، الذي تباعد اهتمامه منذ وقت مبكر عن العلوم والرياضة، ولقد عملت العصور اللاحقة، التي لم يكن لديها العمق الكافي لفهم نظريات أفلاطون، على تحويل دراساته الجادة إلى نوع من الصوفية العددية، وهو انحراف لا يمكن أن نقول لسوء الحظ إنه اختفى، وبطبيعة الحال فإن الرياضة تظل ميدانا يهتم به عالم المنطق اهتماما خاصا، وعلينا الآن أن ننتقل إلى بحث بعض المشكلات التي عالجتها المحاورات. أما القيمة الأدبية لهذه الأعمال فليس من السهل التعبير عنها، كما أنها على أية حال ليست موضوع اهتمامنا الرئيسي.
ولكن هذه المحاورات تظل تحتفظ - حتى وهي مترجمة - بقدر من الحيوية يكفي لإثبات أن الفلسفة لا يتعين أن تكون مستعصية على القراءة حتى تكون ذات أهمية.
إن اسم أفلاطون يبعث في الذهن على الفور نظرية المثل، وقد عرض سقراط هذه النظرية في عدة محاورات. ولقد ثار خلاف طويل حول مسألة ما إذا كان سقراط بدلا من أفلاطون هو مؤسس النظرية. على أننا نجد في محاورة «بارمنيدس» وهي محاورة متأخرة، ولكنها تصف منظرا كان فيه سقراط شابا، ولم يكن أفلاطون قد ولد بعد، نجد سقراط يحاول الدفاع عن نظرية المثل أمام زينون وبارمنيدس، وفي مواضع أخرى نجد سقراط يحدث أشخاصا يفترض أنهم على علم بالنظرية، ولذلك يمكن القول إن الأصول الأولى للنظرية كانت فيثاغورية. فلنتأمل إذن العرض الذي قدمه لها أفلاطون في «الجمهورية».
ولنبدأ بالسؤال: ما الفيلسوف؟ إن الكلمة حرفيا تعني محب الحكمة، ولكن ليس كل شخص حريص على المعرفة فيلسوفا، فلا بد إذن من مزيد من التحديد للتعريف بحيث يصبح الفيلسوف: هو ذلك الذي يحب رؤية الحقيقة. إن جامع الأعمال الفنية يحب الأشياء الجميلة، ولكن هذا لا يجعل منه فيلسوفا، فالفيلسوف يحب الجمال في ذاته، وعلى حين أن محب الأشياء الجميلة حالم، فإن محب الجمال ذاته يقظ، وعلى حين أن محب الفن لا يملك إلا ظنا ، فإن محب الجمال ذاته لديه معرفة، على أن المعرفة ينبغي أن يكون لها موضوع، وينبغي أن تكون معرفة بشيء موجود، وإلا لما كانت شيئا كما كان بارمنيدس خليقا بأن يقول؛ فالمعرفة ثابتة ويقينية، وهي حقيقة متحررة من الخطأ، أما الظن فمعرض للخطأ، ولكن نظرا إلى أن الظن ليس معرفة بما هو موجود، وليس في الوقت ذاته عدما، فلا بد أنه يتعلق بما هو موجود وبما هو غير موجود، كما كان هرقليطس خليقا بأن يقول.
وهكذا يعتقد سقراط أن جميع الأشياء الجزئية التي ندركها بحواسنا لها سمات متعارضة؛ فالتمثال الجزئي الجميل فيه أيضا بعض الجوانب القبيحة، والشيء الجزئي الذي هو ضخم من وجهة نظر معينة، هو أيضا صغير من وجهة نظر أخرى، وهذه كلها في الواقع موضوعات ظنية، غير أن الجمال في ذاته، والضخامة في ذاتها لا تأتيان إلينا عن طريق حواسنا؛ لأنهما أزليتان لا تتغيران، أي إنهما موضوعان للمعرفة. وهكذا استطاع سقراط عن طريق الجمع بين بارمنيدس وهرقليطس أن يضع نظريته الخاصة في «المثل» أو «الصور»، وهي شيء جديد لم يكن موجودا لدى أي من الفيلسوفين السابقين، ولنلاحظ أن كلمة «المثال» في اليونانية
Eidos
تعني «الصورة» أو «النموذج».
ولهذه النظرية جانب منطقي وجانب ميتافيزيقي؛ ففي الجانب المنطقي نجدها تميز بين الموضوعات الجزئية التي تنتمي إلى نوع ما، والألفاظ العامة التي نطلقها عليها. وهكذا فإن اللفظ العام «فرس» لا يشير إلى هذا الفرس أو ذاك، وإنما إلى أي فرس، أي إن معناه مستقل عن أي فرس بعينه، وعما يحدث لأي فرس كهذا، كما أن هذا المعنى لا وجود له في المكان والزمان، وإنما هو أزلي، أما في الجانب الميتافيزيقي، فإن النظرية تعني أن هناك في مكان ما فرسا «مثاليا» - أي الفرس بما هو كذلك - فريدا لا يتغير، وهذا هو ما يشير إليه اللفظ «فرس»، أما الأفراس الجزئية فتكون ما تكونه بقدر ما تندرج تحت الفرس «المثالي» أو تشارك فيه، أي إن المثال كامل وحقيقي، على حين أن الشيء الجزئي ناقص وظاهري فحسب .
ولكي يساعدنا سقراط على فهم نظرية المثل؛ يعرض علينا تشبيه الكهف المشهور؛ فأولئك الذين لا يعرفون الفلسفة أشبه بسجناء في كهف، مقيدين بسلاسل لا يستطيعون معها أن يتلفتوا حولهما. وخلفهما توجد نار، وأمامهما الكهف الخاوي مسدودا بجدار، وهم يرون على هذا الجدار ظلالهما الخاصة، وظلال الأشياء الموجودة بينهم وبين النار، وكأنها معروضة على شاشة، ونظرا إلى أنهم لا يرون شيئا غير الظلال، فإنهم يظنون أنها هي الأشياء الحقيقية. وفي النهاية يتمكن أحد السجناء من التحرر من أغلاله، ويتلمس طريقه نحو مدخل الكهف. وهناك يرى لأول مرة نور الشمس ساطعا فوق الأشياء المجسمة في العالم الحقيقي. ثم يعود صاحبنا إلى الكهف لينبئ رفاقه بما شاهد، ويحاول أن يقنعهم بأن ما يرونه ليس إلا انعكاسا باهتا للحقيقة، وعالما من الظلال فحسب، ولكنه بعد أن رأى نور الشمس، أصبح إبصاره مبهورا بضوئها الساطع، ويجد من الصعب عليه الآن أن يميز الظلال. ويحاول أن يكشف لهم الطريق إلى النور، ولكنه يبدو لهم الآن أكثر حمقا مما كان، ومن ثم لا تكون مهمته في إقناعهم هينة. وهكذا فإننا لو كنا بعيدين عن الفلسفة، لكان حالنا أشبه بحال هؤلاء السجناء، فنحن لا نرى إلا ظلالا، ومظاهر للأشياء، أما حين نصبح فلاسفة، فإننا نرى الأشياء الخارجية في نور العقل والحق، وهذه هي الحقيقة. هذا النور الذي يهب لنا الحقيقة والقدرة على المعرفة، يعبر عن مثال «الخير».
إن النظرية - كما عرفناها هنا - مستوحاة أساسا من أفكار فيثاغورية، كما ذكرنا من قبل، ومما يشهد على أنها لم تكن تعبر عن رأي أفلاطون الخاص في مرحلته المتأخرة والناضجة على الأقل، إن نظرية المثل قد هدمت أولا في المحاورات المتأخرة ، ثم اختفت كلية. فمهمة تفنيدها كانت من المحاور الرئيسية لمحاورة «بارمنيدس»، ولم يكن التقاء بارمنيدس وزينون مع سقراط أمرا مستحيلا على الإطلاق، بل إنه من الممكن أن يعد حقيقة تاريخية، وإن كان من المستبعد بالطبع أن يكون الحوار قد سجل ما قيل في هذا اللقاء، ومع ذلك فإن المتحدثين جميعا يتحدثون بطريقة تتمشى مع شخصياتهم، ويعبرون عن آراء تتفق مع ما نعرفه عنهم من مصادر مستقلة. ولنذكر أن بارمنيدس كان قد تأثر أيام شبابه بالفيثاغوريين، ثم فصم روابطه بتعاليمهم فيما بعد. ومن ثم فإن نظرية المثل لم تكن جديدة بالنسبة إليه، وكان من السهل أن يجد انتقادات جاهزة توجه إلى الصيغ التي عبر بها سقراط الشاب عن هذه النظرية.
يشير بارمنيدس أولا إلى أنه لا يوجد سبب معقول يدعو سقراط إلى أن يجعل للموضوعات الرياضية ولمفاهيم كالخير والجمال مثلا، بينما ينكر وجود مثل للعناصر المادية والأشياء الوضيعة، ويؤدي به ذلك إلى مسألة أخطر بكثير. فالصعوبة الرئيسية في نظرية الصور السقراطية هي العلاقة بين الصور والأشياء الجزئية؛ ذلك لأن الصورة واحدة والأشياء الجزئية كثيرة، ولقد حاول سقراط أن يقدم وصفا للرابطة بينهما مستخدما فكرة «المشاركة» غير أن من المحير حقا أن نرى كيف تستطيع الجزئيات أن تشارك في الصورة، فمن الواضح أن الصورة الكاملة لا يمكن أن تكون موجودة في كل شيء جزئي؛ لأنها لن تعود عندئذ صورة واحدة، أما البديل فهو يحتوي كل شيء جزئي على جزء من الصورة، ولكن معنى ذلك أن الصورة لا تعود تفسر شيئا.
غير أن هناك نقدا أشد من ذلك، فلكي يفسر سقراط الارتباط بين الصورة والجزئيات التي تندرج تحتها، كان عليه أن يدخل فكرة المشاركة، وهذه الفكرة الأخيرة نظرا إلى أنها تتمثل في حالات متعددة، هي بدورها صورة، ولكن يتعين علينا عندئذ أن نتساءل: كيف ترتبط هذه الصورة بالصورة الأصلية من جهة، وبالشيء الجزئي من جهة أخرى؟ إذ يبدو أننا نحتاج لذلك إلى صورتين أخريين، وهذا يؤدي بنا إلى تسلسل لا يتوقف أبدا؛ ففي كل مرة نحاول فيها أن نسد الثغرة عن طريق إدخال صورة، تنفتح أمامنا ثغرتان أخريان، وهكذا فإن سد هذه الثغرة هي مهمة هرقلية، لا مهرب فيها لهرقل. وتلك هي حجة «الرجل الثالث» المشهورة، التي سميت بهذا الاسم على أساس الحالة الخاصة التي تكون فيها الصورة التي نبحثها هي صورة الإنسان. ويحاول سقراط أن يتجنب هذه الصعوبة بأن يقترح بأن تكون الصور نماذج، وأن تكون الجزئيات مشابهة لها. ولكن هذا الاقتراح تسري عليه حجة «الرجل الثالث». وهكذا يعجز سقراط عن تقديم وصف للطريقة التي ترتبط بها الصور مع أمثلتها الجزئية، ولكن هذا أمر يمكن أيضا إثباته بطريقة مباشرة؛ ذلك لأننا سلمنا من قبل بأن الصور ليست محسوسة وإنما معقولة، فهي لا تترابط إلا فيما بينها، وفي عالمها الخاص، وكذلك الحال في الأشياء الجزئية، وهكذا تبدو الصور غير قابلة لأن تعرف. ولكن إذا لم تكن الصور قابلة لأن تعرف، فإنها تغدو بالطبع شيئا زائدا، ومن ثم عاجزة أيضا عن تفسير أي شيء، ونستطيع أن نعبر عن المسألة بصورة أخرى فنقول: لو كانت الصورة بذاتها غير متصلة بعالمنا، لما كان لها جدوى، أما لو كانت متصلة به، فإنها لا تعود منتمية إلى عالم خاص بها، وبذلك تصبح النظرية الميتافيزيقية للصور غير مقبولة.
وسوف نرى فيما بعد كيف يعالج أفلاطون ذاته مشكلة الكليات. أما الآن فحسبنا أن نشير إلى أن هذه النظرية السقراطية لا تصمد أمام النقد، ولذلك لا تتابع محاورة «بارمنيدس» الموضوع أبعد من ذلك، وتنتقل إلى مشكلة مختلفة هي بيان أن كل شيء ليس على ما يرام، حتى في عالم الصور السقراطية؛ ذلك لأن الجدل المفصل على طريقة زينون، يكشف عدم صحة زعم سقراط الأصلي بأن الصور كلها ينفصل بعضها عن بعض، ويمهد ذلك الطريق للحل الذي يأتي به أفلاطون.
غير أن هناك صعوبة أخرى ترجع إلى الأصل الفيثاغوري لنظرية المثل؛ فقد رأينا من قبل كيف أن هذا الجانب من النظرية ينبع من وصف لطبيعة موضوعات البرهان الرياضي، إذ إن العالم الرياضي عندما يريد إثبات نظرية عن المثلثات لا يهتم بأي شكل فعلي قد يرسمه المرء على الورق؛ لأن أي شكل كهذا ينطوي على نواقص تخرج عن نطاق البحث الرياضي. فمهما حاول المرء أن يكون دقيقا في رسم خط مستقيم، فلن يكون ذلك الخط دقيقا إلى حد الكمال، والنتيجة التي نخلص إليها من ذلك هي أن الخط المستقيم الكامل ينتمي إلى عالم مختلف، ومن ثم ينشأ لدينا الرأي القائل إن المثل تنتمي إلى نوع من الوجود يختلف عن وجود الموضوعات المحسوسة.
هذا الرأي يبدو صائبا للوهلة الأولى؛ إذ إن من المعقول مثلا أن نقول إن موضوعين محسوسين يقتربان من التساوي، ولكنهما ليسا متساويين كلية؛ فمن الصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن نقرر إن كانا متساويين تساويا تاما، ولكن لنتأمل من جهة أخرى شيئين غير متساويين. هنا يسهل أن نرى على الفور أنهما غير متساويين، بحيث يبدو أن صورة اللامساواة تكشف عن نفسها بوضوح كامل في العالم المحسوس، ولكن بدلا من أن نصوغ هذه الفكرة باستخدام مصطلح الصور، لنتأمل كيف نعبر عادة عن هذه المسائل. فمن الطبيعي جدا أن نقول عن شيئين أنهما يكادان يتساويان، ولكنهما لا يتساويان تماما، ولكن لا معنى لأن نقول عن شيئين إنهما يكادان يكونان غير متساويين، ولكنهما ليسا غير متساويين تماما، وإذن فهذا نقد يصيب نظرية الصور في الصميم.
وهنا قد يتساءل المرء: إذا كانت نظرية الصور قد عانت على أيدي الإيليين من هذه الانتقادات القاضية، فلماذا ظل سقراط يتمسك بها دون تغيير؟ ذلك لأنه لا بد أن يكون قد أدرك بوضوح قوة هذا الهجوم، ولكن يبدو من الأسلم أن نعكس اتجاه هذا السؤال؛ لأن هذه الصعوبات بعينها هي التي جعلت سقراط يتراجع في اهتماماته العقلية إلى ميداني الأخلاق والجمال؛ فصفة الخير في الإنسان لا تظهر على أية حال بنفس المعنى الذي يظهر به لون شعره مثلا، ولكن حتى في هذا الميدان أصبح سقراط مع مرور الوقت غير راض عن نظرية المشاركة، وإن لم يكن قد تقدم أبدا بأية نظرية أخرى. غير أن هناك تلميحا إلى أن الحل ينبغي ألا يلتمس في الأشياء، بل فيما يمكننا قوله عنها، أي في حججنا، وفي هذا الاتجاه يواصل أفلاطون بذل جهوده من أجل حل مشكلة الكليات.
يشير سقراط إلى المسألة عرضا في محاورة «فيدون»، وإن لم يستمر في معالجة هذا الجانب من جوانب المشكلة، ثم يعود إليها في محاورتي «تيتاتوس» و«السفسطائي»، أما «الجمهورية» فلعلها أشهر محاورات أفلاطون، وهي تحتوي على البذور الأصلية لكثير من موضوعات البحث التي تابعها عدد كبير من المفكرين حتى يومنا هذا. وقد اشتقت المحاورة اسمها من الهدف الذي كانت تسعى إليه، وهو تشييد دولة مثلى. وسوف ننتقل الآن إلى وصف هذه الدولة، وكما رأينا من قبل كان اليونانيون ينظرون إلى الدولة على أنها مدينة، ويتضح ذلك من الاسم اليوناني
الذي يعني بصورة إجمالية «إدارة مدنية» بالمعنى الذي يشتمل على كل النسيج الإجماعي المرتبط بمدينة حسنة التنظيم، وهذه الكلمة هي العنوان اليوناني للمحاورة، ومنها اشتقت الكلمة الإنجليزية
political (سياسي).
يرى أفلاطون أن المواطنين في الدولة المثلى ينقسمون إلى ثلاث طبقات: الحراس، والجنود، وعامة الشعب. أما الحراس فهم صفوة محدودة العدد هي وحدها التي تملك زمام السلطة السياسية.
وعندما تنشأ الدولة للمرة الأولى، يعين المشرع الحراس، وبعد ذلك يخلفهم أمثالهم، ولكن من الممكن للأطفال الممتازين من الطبقات الدنيا أن يرتفعوا إلى مستوى الطبقة الحاكمة، على حين أن ذرية هذه الطبقة إذا كانت متدنية المستوى، يمكن أن تهبط إلى مستوى الجند أو العامة. ومهمة الحراس هي التأكد من تنفيذ إرادة المشرع، ويضع أفلاطون مجموعة كاملة من الخطط المتعلقة بطريقة تنشئتهم ومعيشتهم، كما يتأكد من أنهم سيفعلون ذلك؛ فمن الواجب أن تنمي التربية عقولهم وأجسامهم، أما العقول فتنميها «الموسيقى»، وتعني أي فن ترعاه ربات الفنون
muses . وأما الأجسام فتنميها الرياضة البدنية، وهي ألعاب لا تحتاج إلى فرق متكاملة. والهدف من تعلم «الموسيقى» أو الثقافة هو تكوين سادة مهذبين، والواقع إن فكرة السيد المهذب
gentleman
كما يفهمها الإنجليز، مستمدة من أفلاطون، فلا بد أن يتعلم الشباب كيف يسلكون باحترام ورقة وشجاعة. ولا بد لبلوغ ذلك من فرض رقابة صارمة على الكتب.
ويجب إبعاد الشعراء من الدولة؛ إذ إن هوميروس وهيزيود يصوران الآلهة، وهي تسلك وكأنها أفراد من البشر المشاغبين المتهورين، مما يقلل من احترام النشء لها. فلا بد أن يصور الله لنا، لا على أنه خالق العالم كله، بل على أنه خالق ما ليس شرا في العالم فحسب.
كذلك فإن لدى هؤلاء الشعراء فقرات تثير الخوف من الموت، أو الإعجاب بالسلوك الطائش، أو الاعتقاد بأن الشرير قد ينعم على حين أن الخير قد يشقى، كل ذلك ينبغي منعه، كذلك تفرض رقابة على الموسيقى، بمعناها الضيق الحالي، ولا يسمح إلا بتلك المقامات والإيقاعات التي تحض على الشجاعة والاعتدال. ولا بد أن تكون حياة الشباب بسيطة تكتفي بما هو ضروري، فلا يحتاجون إلى أطباء، ومن الواجب أن نحميهم في حداثتهم من المؤثرات السيئة، ولكن يتعين عليهم، بعد أن يبلغوا سنا معينة، أن يواجهوا المخاوف والإغراءات، ولا يصلح منهم لأن يكونوا حراسا إلا أولئك الذين يقاومون ذلك كله.
أما حياة الحراس الاجتماعية والاقتصادية فهي مشاعة صارمة؛ فبيوتهم بسيطة، وهم لا يملكون إلا ما يحتاجون إليه من أجل معيشتهم الخاصة. وهم يأكلون سويا في جماعات، ولا يقتاتون إلا مأكولات بسيطة، وتسود المساواة الكاملة بين الجنسين. فجميع النساء هن زوجات لجميع الرجال. ولكن الحاكم يحافظ على أعدادهم بأن يجمع في أعياد معينة بين مجموعة مناسبة من الرجال والنساء، يفترض أنها اختيرت بالقرعة، ولكنها في الواقع قد اختيرت من أجل تحسين النسل. ويؤخذ الأطفال من أمهاتهم عند ولادتهم، ويربون سويا على نحو لا يعرف معه أي شخص من هم أبواه الحقيقيان، أو من هم أبناؤه. أما أولئك الذين يولدون من زيجات لم يقرها الحاكم فيعدون أبناء غير شرعيين، كما يتم التخلص من المشوهين والمنتمين إلى سلالات هابطة. وهكذا تضعف المشاعر الخاصة وتقوى الروح العامة. ويختار أفضل الجميع لكي يتعلموا الفلسفة، ومن يتفوقون فيها يكونون في النهاية هم الصالحون للحكم .
ومن حق الحكومة أن تكذب إذا اقتضى ذلك الصالح العام، وهي تعمل بوجه خاص على غرس «الأكذوبة الملكية» التي تصور هذا العالم الجديد الغريب على أنه عالم من صنع الآلهة، ولن يمضي على ذلك سوى جيلين حتى يصدق الجميع ذلك دون اعتراض، أو على الأقل يصدقه القطيع.
وأخيرا نصل إلى تعريف العدالة، الذي كان هو ذريعة الدخول في المناقشة بأسرها؛ إذ إن أفلاطون أدخل فكرته عن المدينة المثالية؛ لأنه شعر بأنه قد يكون من الأسهل مناقشة العدالة على نطاق ضخم أولا، فالعدالة تسود حين يهتم كل شخص بشئونه الخاصة، أي إن على كل إنسان أن يقوم بالعمل الذي يصلح له، دون أن يحشر نفسه في شئون الآخرين، وعلى هذا النحو تتم إدارة شئون المدينة كلها بسلاسة وكفاءة. وفي هذا المعنى اليوناني ترتبط العدالة بفكرة الانسجام، ويعمل الكل بهدوء من خلال أداء كل جزء لعمله الصحيح.
إن الصورة التي تتمثل لنا هنا هي صورة مخيفة لدولة كالآلة الضخمة التي يكاد يختفي فيها البشر كأفراد اختفاء تاما، والواقع أن المدينة الفاضلة التي رسمت «الجمهورية» معالمها هي الحلقة الأولى في سلسلة طويلة من الصور الخيالية المماثلة التي امتدت حتى «العالم الجديد الشجاع» عند ألدوس هكسلي. ولا شك أيضا أنها ألهمت قادة مستبدين كانوا في وضع يتيح لهم إدخال تغييرات إجماعية كبرى دون عمل أي حساب للآلام المترتبة عليها، ولا بد أن يحدث ذلك كلما سادت الآراء التي تقول إن الناس إنما جعلوا لكي يتلاءموا مع أنظمة معدة سلفا. والواقع أن الفكرة القائلة إن الدولة يمكن أن تكون خادمة لمواطنيها، بدلا من أن يكونوا هم عبيدا لها، ما زالت حتى اليوم تعد بدعة في بعض الأوساط، أما أين يكمن التوازن السليم، فتلك مسألة معقدة ليست على أية حال مطروحة علينا في هذا المقام. ولكنا نستطيع أن نقول باختصار إن الدولة المثلى في «الجمهورية» قد أدت بالكثيرين ممن يعارضون مبادئها إلى إلصاق شتى الأوصاف المرعبة بأفلاطون؛ لذلك كان من واجبنا الآن أن نبحث بدقة في مدى أهمية النظرية السياسية التي تدعو إليها هذه المحاورة.
ينبغي أن نذكر في البدء أن تطور أفلاطون التالي في المسائل السياسية قد طرأ عليه تحول مختلف كل الاختلاف، وهذا ما سنراه بعد قليل؛ فالدولة المثلى في «الجمهورية» سقراطية أكثر منها أفلاطونية، ويبدو أنها تستلهم المثل العليا الفيثاغورية مباشرة.
وهذه النقطة تنقلنا إلى صميم الموضوع؛ فالدولة المثلى هي في حقيقتها رأي عالم في الطريقة الصحيحة لحكم الدولة، وبوصفها نموذجا وضعه عالم، فإنها قد تغري أحد المشتغلين بالهندسة الإجماعية بإطلاق العنان لتغييرات هائلة، معتقدا ببلاهة بأنه يرتكز في ذلك على أساس علمي. ولو تركت مقاليد الأمور للتكنولوجيين لكانت تلك هي الطريقة التي يسلكون بها. وفي الوقت ذاته فإن إدراكنا لهذه الحقيقة يزيل عن مفهوم الدولة المثالية قدرا كبيرا من الجوانب السلبية التي تتصف بها؛ ذلك لأنها في النهاية ليست إلا نموذجا يهدف إلى مناقشة مسائل معينة وإيضاحها. ولا شك أن سقراط قد طرحها وفي ذهنه هذا الهدف، ويتضح ذلك من خلال تأملنا لبعض الجوانب الأكثر تطرفا في جنة الأرض الموعودة هذه.
وفضلا عن ذلك فلا بد أن نضع في حسابنا أنها تنطوي على قدر معين من التهكم؛ إذ لا يوجد مثلا من يرغب في إبعاد الشعراء حقيقة، كما أن أحدا لا يفكر حقيقة في إدخال شيوعية جنسية كاملة. وبالطبع فإن بعض سمات الدولة المثلى مستمد من رؤية ما كانت عليه إسبرطة بالفعل، ومع ذلك فإن النموذج يظل نموذجا.
فهو لا يقترح بوصفه خطة عملية لإقامة مدينة فعلية. وعندما انغمس أفلاطون فيما بعد في الحياة السياسية لسراقوزة، لم يكن يحاول إقامة دولة مثلى على هذا النمط؛ فقد كان هدفه كما رأينا أكثر تواضعا وأقرب إلى الطابع العملي، وأعني به تحويل أمير مدلل إلى رجل صالح لإدارة شئون مدينة هامة كانت موضوعا لاهتمام كبير. أما إخفاق أفلاطون في ذلك فمسألة أخرى، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن التعليم ليس علاجا شاملا كما يظن عادة.
ولقد عاد أفلاطون مرتين في محاوراته المتأخرة إلى مناقشة المسائل السياسية؛ ففي محاورة «السياسي» (أو رجل الدولة) يقدم عرضا لمختلف التنظيمات السياسية التي يمكن أن توجد في المدينة، ويتوقف نوع هذه التنظيمات على عدد الحكام وطريقة حكمهم، فمن الممكن أن تكون هناك ملكية، أو أوليجاركية، أو ديمقراطية، وكل من هذه قد تعمل إما وفقا لمبادئ قانونية، أو بدون هذه المبادئ، مما يجعل المجموع ستة أنواع من النظم، فإن لم يكن هناك حكم للقانون، كان وجود السلطة في أيدي الكثرة هو أهون الشر؛ وذلك نظرا إلى غياب وحدة الهدف، أما إذا كان هناك حكم للقانون، فإن الديمقراطية تصبح أسوأ الدساتير؛ لأن الهدف المشترك يصبح الآن ضروريا لكي يتحقق أي شيء، وفي هذه الحالة يفضل وجود ملك.
ويبقى بعد ذلك إمكان قيام دستور مختلط، يجمع بعضا من عناصر الأنواع الستة البسيطة. وقد استقر رأي أفلاطون في محاورته الأخيرة «القوانين» على أن أفضل ما يمكننا عمله في عالمنا هذا الذي يبدو أن فكرة الملك الفيلسوف مستحيلة التحقق فيه، هو أن نجمع في ظل القانون بين حكم الواحد وحكم الكثرة، وتقدم محاورة «القوانين» إرشادات مفصلة إلى أبعد حد، تبين كيف يمكن إدارة هذا النوع من النظم، وكيف ينبغي انتخاب أصحاب الوظائف المختلفة. كذلك تقدم في ميدان التعليم تفصيلات كثيرة عن الوقت الذي يقدم فيه ما نسميه الآن بالتعليم الثانوي، ومضمون هذا التعليم، وقد أصبحت المدارس الثانوية في العصور الهلينستية مرحلة راسخة من مراحل تعليم الشباب، بعد أن أرسيت دعائم هذا النوع من المدارس في «القوانين».
وعلى حين أن المثل العليا لمحاورة «الجمهورية» لم تكن كما قلنا من قبل توصيات ينبغي ترجمتها إلى واقع، فإن تفكير أفلاطون المتأخر يختلف عنها في هذه الناحية اختلافا بينا؛ إذ تصبح اقتراحاته السياسية والتعليمية عملية وواقعية إلى أقصى حد. وقد تم تنفيذ الكثير من هذه الاقتراحات في العصور اللاحقة، وسرعان ما نسي الناس أصلها الأول، على أن الأمر يختلف في حالة «الجمهورية»، فقد أسيء فهمها بوجه عام بوصفها نظاما وإن كانت أفكارها الأكثر إثارة قد وجدت من آن لآخر مؤيدين شديدي التحمس، لسوء حظ حيوانات التجارب البشرية التي حلت على رءوسها النتائج. وهذه الحقيقة هي التي جعلت أفلاطون يوصف أحيانا بأنه هو الذي مهد الطريق لأولئك الذين أساءوا فهمه أولا، ثم سارعوا إلى القيام بتصرفات خرقاء بناء على هذا الفهم السيئ.
ومع هذا كله ينبغي أن نعترف بأن أفلاطون ذاته قد كشف عن نوع من ضيق الأفق في تفكيره السياسي. وهو في ذلك إنما يشارك في الشعور اليوناني العام، الذي يحفظ المسافة بينه وبين الأجنبي، ولكن ليس من السهل أن نحدد إن كان ذلك ناجما عن إحساس واع بالتفوق، أو عن مجرد طريقة طبيعية في التفكير نشأت عن التفوق المؤكد للثقافة اليونانية. وعلى أية حال فإن أفلاطون في «القوانين» ظل يعتقد أنه عند تأسيس مدينة جديدة - وهي الذريعة المصطنعة لكتابة المحاورة - ينبغي اختيار موقع بعيد عن البحر؛ تجنبا للتأثير المفسد للتبادل التجاري والاتصال بالأجانب، وبالطبع فإن ذلك يخلق صعوبات، ما دام من الضروري ممارسة قدر معين من النشاط التجاري، كما أن من الضروري بالنسبة إلى أولئك الذين لا يملكون موارد مستقلة أن يكسبوا رزقهم على نحو ما. ومما له دلالته أن أفلاطون حينما تحدث عن المعلمين في مدارسه الثانوية المقترحة، قال إنهم ينبغي أن يتلقوا أجرا، ومن ثم يجب أن يكونوا من الأجانب.
ولقد كان موقف العزلة في الشئون السياسية هذا هو الذي أدى في النهاية إلى عجز العالم اليوناني عن تحقيق تنظيم قادر على البقاء، على نطاق أوسع، فقد كان نوع الحياة السياسية الذي تصوروه ساكنا راكدا، على حين كان العالم المحيط بهما يتغير بسرعة. ولقد كانت هذه هي نقطة الضعف الكبرى في التفكير السياسي اليوناني. وفي النهاية تمكنت الإمبراطورية الرومانية من تأسيس دولة عالمية. وإذا كان الرومان قد افتقروا إلى الأصالة اليونانية، فإنهم كانوا أيضا متحررين من الفردية المفرطة لدولة المدينة.
وإذن فعلى حين أن من الممكن التمييز في موضوع النظرية السياسية بين نظرية سقراطية وبين التطورات الأفلاطونية التالية، فإن هناك سمات معينة للنظرية الإجماعية بوجه عام تظل مشتركة بين الرجلين. من هذه السمات رأيهما في طبيعة التعليم، بل إن موقفهما إنما هو تعبير صريح عن الطريقة التي نظر بها التراث اليوناني إلى البحث والمعرفة، فنحن نذكر أن العلم والفلسفة كانا يمارسان في مدارس أو جمعيات يتحقق فيها تعاون وثيق بين المعلمين وتلاميذهم. والحقيقة الهامة التي يبدو أنها قد أدركت ضمنيا على الأقل منذ البداية الأولى، هي أن التعليم ليس عملية سرد معلومات. صحيح أنه لا بد من وجود قدر من السرد، ولكنه ليس هو الوظيفة الوحيدة للمعلم، ولا أهم وظائفه، ولقد أصبحت هذه الحقيقة أوضح في أيامنا هذه مما كانت في ذلك العصر؛ لأن السجلات المكتوبة كانت أندر، وكان العثور عليها أصعب مما هو اليوم.
ففي وضعنا الراهن، يكون من المعقول أن يعمل أي شخص قادر على القراءة على جمع المعلومات من مكتبة، وأصبحت حاجة المعلم إلى تقديم معلومات مجردة أقل مما كانت عليه في أي وقت مضى. والواقع أنه مما يشهد بالفضل العظيم لفلاسفة اليونان أنهم أدركوا الطريقة التي يمكن بها ممارسة التعليم الأصيل؛ فدور المعلم هو التوجيه وتمكين التلميذ من إدراك الأمور بنفسه.
غير أن تعلم التفكير بطريقة مستقلة ليس قدرة تكتسب دفعة واحدة، وإنما ينبغي اكتسابها بجهد شخصي وبمساعدة مرشد قادر على توجيه هذا الجهد، وهذه هي طريقة البحث تحت إشراف أستاذ، كما نعرفها اليوم في جامعاتنا، ويمكن القول إن أية مؤسسة أكاديمية تكون قد تحققت وظيفتها الصحيحة بقدر ما تنمي عادات التفكير المستقل وروح البحث المتحرر من التحيز والهوى المؤقت، أما إذا أخفقت جامعة في تحقيق هذه المهمة، فإنها تهبط إلى مستوى التلقين، وفي الوقت ذاته تكون لهذا الإخفاق نتائج أخطر؛ إذ إنه حيثما يتهاوى التفكير المستقل، سواء بسبب الافتقار إلى الشجاعة أو انعدام النظام، تنمو تلك النباتات الشيطانية، نباتات الدعاية والسلطوية، دون أن يقف في وجهها شيء. وهكذا فإن قمع الفكر النقدي أخطر بكثير مما يتصور معظم الناس، فبدلا من أن يخلق وحدة هدف حية في المجتمع، نراه يفرض نوعا من التجانس الراكد القبيح على المجتمع ككل. ومن المؤسف أن هذا أمر لا تدركه الأقلية من الذين يتربعون على كراسي السلطة والمسئولية.
وعلى ذلك فالتعليم هو أن يتعلم المرء كيف يفكر بنفسه بتوجيه معلم. ولقد كان ذلك يمارس بالفعل منذ بداية المدرسة الأيونية، واعترف به الفيثاغوريون صراحة، بل لقد ذهب الفيلسوف الفرنسي جورج سوريل
G. Sorel
إلى أن كلمة الفلسفة لم تكن تعني أصلا حب الحكمة، وإنما «أصدقاء» الحكمة، حيث كان المقصود من هؤلاء «الأصدقاء» بالطبع هم أفراد الطائفة الفيثاغورية، وسواء أكان الأمر كذلك أم لم يكن، فإن في ذلك على الأقل تأكيدا على أن العلم والفلسفة ينموان بوصفهما تراثا مستمرا، لا على أنهما جهود فردية منعزلة، وفي الوقت ذاته يكشف لنا ذلك عن السبب الذي كان من أجله سقراط وأفلاطون يعارضان السفسطائيين بكل هذا العنف؛ ذلك لأن هؤلاء الأخيرين إنما كانوا موردين للمعارف المفيدة فحسب، وكانت تعاليمهم - إن كان ما يقدمونه جديرا بهذا الاسم - سطحية. ومن الجائز أنهم كانوا قادرين على أن يعلموا شخصا ما كيف يقوم باستجابات سليمة في مواقف متباينة، غير أن مثل هذه المعلومات المكدسة لم تكن ترتكز على أساس، ولم تكن خاضعة لاختبار نقدي، وليس معنى ذلك بالطبع أن المعلم الأصيل يستحيل أن يصادف حالات ميئوسا منها، بل إن من السمات المميزة للعملية التعليمية ضرورة بذل كل من الطرفين جهدا متبادلا.
ولقد ارتبطت هذه النظرية التعليمية عند سقراط بفكرة أخرى ترجع إلى عهد الفيثاغوريين الأوائل، ففي محاور «مينون» تسمى عملية التعليم تذكرا لأشياء سبق تعلمها في حياة سابقة، ثم نسيت منذ ذلك الحين، وعملية التذكر هذه هي التي تحتاج إلى ذلك الجهد المشترك الذي أشرنا إليه من قبل. أما مفهوم التذكر ذاته، فيرتكز على الرأي القائل إن النفس تمر بسلسلة من حالات التجسد واللاتجسد المتبادلة، وهو رأي يرتبط ارتباطا واضحا بنظرية تناسخ الأرواح كما كان يعتنقها الفيثاغوريون؛ فالنفس اللامتجسدة أشبه بالنائمة، وهذا هو السبب الذي يجعل من الضروري عندما تصبح في حالة يقظة وتجسد، إيقاظ ما تعلمته في حياة سابقة، ويحاول سقراط إثبات ذلك عن طريق توجيه الأسئلة إلى صبي من عبيد مينون، لم يكن لديه أي قدر من التعليم فيما عدا معرفة اللغة اليونانية العادية، ومع ذلك فإن سقراط ينجح عن طريق مجرد توجيه أسئلة بسيطة إليه في أن يستخلص من الفتى كيفية تكوين مربع تساوي مساحته ضعف مساحة مربع معلوم. وينبغي أن نعترف بأن السرد الذي قدمه أفلاطون ليس مقنعا تماما بوصفه دليلا على نظرية التذكر؛ لأن سقراط هو الذي يرسم الأشكال على الرمل ويصحح للصبي أخطاءه كلما ضل، ولكننا نجد ها هنا وصفا دقيقا إلى حد بعيد للموقف التعليمي، فالتفاعل بين المعلم والتلميذ على النحو المبين في هذا المثال هو الذي يؤدي إلى تعليم أصيل، وبهذا المعنى يمكن وصف التعليم بأنه عملية ديالكتيكية (جدلية) بالمعنى اليوناني الأصلي لهذه الكلمة.
ومن المهم أن نلاحظ أن النظرية التعليمية التي عرضنا معالمها ها هنا، قد تركت أثرها على لغة الكلام العادية، بغض النظر عن التعليم أو الفلسفة؛ ذلك لأننا نتحدث عادة عن إيقاظ أو إثارة إلهام شخص بموضوع ما. وهذا مثال لظاهرة عامة في نمو المصطلحات الكلامية؛ ذلك لأن اللغة العادية هي مستقر أجزاء متناثرة من التأملات الفلسفية الموروثة من الماضي. وهذا أمر يستحسن أن يتذكره من آن لآخر أولئك الذين يؤلهون الكلام العادي، وكأنه يعلو على كافة قواعد البحث والاستقصاء.
أما عن نظرية التذكر، فقد استخدمها سقراط في محاولة منه لإثبات خلود النفس، وقد وصفت هذه المحاولة في محاورة «فيدون» وإن كان من الواجب أن نلاحظ أنها لم تنجح، وعلى أية حال فمن المفيد أن نتذكر أن الفيثاغوريين المتأخرين قد تخلوا عن نظرية تناسخ الأرواح، وتبنوا كما ذكرنا من قبل رأيا مبنيا على فكرة الانسجام، يؤدي في الواقع إلى نتيجة عكسية، هي أن النفس فانية، أما بالنسبة إلى الجانب التعليمي لعملية التذكر، فنلاحظ أن ممارسة العلاج بالتحليل النفسي مبنية على نفس هذه الفكرة، أعني إيقاظ الذكريات من الماضي. وعلى الرغم من كل ما ينطوي عليه التحليل النفسي من عناصر غامضة، فإن إدراكه للارتباط بين التعليم والعلاج أسلم من إدراك علم النفس الترابطي
associationist
المرتكز على هيوم؛ فقد كان التعليم بالنسبة إلى سقراط علاجا للنفس بمعنى أوسع لهذه الكلمة، فهو عملية تؤدي إلى المعرفة، ومن ثم إلى الخير، وهكذا يمكن النظر إلى الجهل على أنه شيء يعترض طريق الحرية، أو الطريقة الحرة في الحياة، التي تكتسب بالمعرفة والاستبصار، وفي فلسفة هيجل نجد رأيا مماثلا توصف فيه الحرية بأنها فهم الإنسان لمسار الضرورة. وتعالج محاورة «مينون» مشكلة أخرى، ربما كانت أهم، وإن كانت قد عولجت في محاورة أوطيفرون بصورة أطرف، تلك هي مشكلة التعريف المنطقية، فالسؤال الذي يطرح في أوطيفرون هو السؤال عن ماهية المقدس، وتعرض المحاورة أوطيفرون وهو يحاول تقديم تعريف له، وليس من المهم أن جميع جهوده تخفق في النهاية؛ إذ إن سقراط يكشف له خلال المناقشة ما يلزم من أجل وضع تعريف، وبذلك يوضح الطابع المنطقي الشكلي لما يسمى بالتعريف عن طريق الجنس والفصل.
4
هذه الطريقة في معالجة مسائل المنطق تبدو في نظر القارئ الحديث شاذة إلى حد ما؛ ذلك لأن المرء قد اعتاد اليوم كتب المنطق المدرسية الجافة، على طريقة أرسطو. أما كتابة محاورات فلسفية، وهي الكتابة التي اخترعها أفلاطون، فإنها، بعد أن قلدها الكثيرون، أصبحت اليوم شيئا عتيقا لا يأخذ به أحد، وربما كان هذا شيئا مؤسفا؛ إذ لا يمكن القول إن أسلوب الكتابة الفلسفية في أيامنا يبلغ المستوى المطلوب، فالمحاورة تفرض على المؤلف قدرا من التنظيم الأدبي يفوق ما يفرضه أي شكل آخر للكتابة. وفي هذه الناحية لا نجد لمحاورات الأفلاطونية الأولى نظيرا؛ فهذه المحاورات قد كتبت بعد وقت قصير من موت سقراط، في وقت لم تكن فيه أفكار أفلاطون ذاته قد تبلورت بعد، على حين أن قدراته بوصفه فنانا دراميا كانت في الذروة، ونتيجة ذلك أن هذه المحاورات تقرأ بوصفها أدبا بطريقة أيسر من المحاورات المتأخرة، أما مضمونها الفلسفي فقيمته أقل.
في كثير من المحاورات المبكرة تصادف أشخاصا يرتكبون خطأ أوليا شائعا حين يطلب إليهم تقديم تعريف للفظ ما، فيقدمون بدلا من ذلك أمثلة له. فلا فائدة من الإجابة التي قدمها أوطيفرون عندما طلب إليه أن يذكر ما هو المقدس،
5
فقال إنه إدانة من يهاجم العقيدة؛ ذلك لأن هذا ليس تعريفا على الإطلاق، بل إن كل ما تقوله العبارة هو أن إدانة مهاجم العقيدة عمل فيه قداسة، وقد تكون هناك أعمال أخرى مثله. أما ما هي القداسة ذاتها، فإن هذه العبارة لم تزدنا بها معرفة على الإطلاق، وما أشبه ذلك بشخص يسأل ما هو الفيلسوف، فيرد بأن سقراط فيلسوف، ويكتسب الموقف طابعا هزليا طريفا حين نتذكر المناسبة التي دار فيها الحوار؛ ففي طريق سقراط إلى المحكمة كيما يعرف طبيعة التهمة الموجهة إليه، يقابل أوطيفرون الذي يذهب بدوره من أجل مسألة قانونية إذ كان يوجه إلى أبيه تهمة قتل عبد مات بسبب الإهمال، وكان أوطيفرون يسلك وفقا للطقوس الحقيقية للمجتمع وممارساته الدينية، وقد أبدى في كلامه نفس الثقة الجوفاء واليقين الساذج الذي يبديه كل من يوافق، باسم الفضيلة، موافقة عمياء، على العادات الشكلية لمجتمعه.
ومن هنا فإن سقراط يثني عليه بسخرة بوصفه خبيرا ويتظاهر بأنه يلتمس النصح الأخلاقي لدى أوطيفرون الذي لا بد أن يكون حجة في هذه المسائل.
فإذا تركنا المسألة الأخلاقية جانبا بصفة مؤقتة، وجدنا أن سقراط ينجح في إيضاح ما هو مطلوب منطقيا. فنحن نريد «صورة» المقدس، أعني تعبيرا عما يجعل الأشياء المقدسة على ما هي عليه. ونستطيع الآن باستخدام لغة أقرب إلى المألوف أن نعبر عن المسألة على أساس الشروط الضرورية والكافية. فالحيوان لا يكون إنسانا إلا إذا كان عاقلا، هذا إذا جاز لنا أن نستثني الأطفال الرضع، الذين يبدءون حياتهم بالزحف على أيديهم وأرجلهم كسائر الحيوانات ذوات الأربع، ونستطيع أن نعبر عن ذلك من خلال شكل توجد فيه دائرتان متقاطعتان، فالإنسان وهو اللفظ المطلوب تعريفه هو الجزء المشترك بين الدائرتين، اللتين تشملان على التوالي ما هو عاقل وما هو حيوان، والطريقة التي نصل بها إلى مثل هذا التعريف هي أن نأخذ أحد اللفظين، وهو في هذه الحالة الحيوان، ونحدده باللفظ الثاني، وهو العاقل. فالأول يسمى بالجنس، والثاني يسمى بالفصل، أي ما ينفرد به (أو ينفصل به) نوع الإنسان من بين سائر أنواع الحيوان، ونستطيع أن نقول إن الإنسان حيوان له فصل،
6
هو كونه عاقلا، هذا على الأقل ما تقول به كتب المنطق المدرسية، ولكننا لو تأملنا حولنا لوجدنا أنفسنا نتساءل إن كان هذا التعريف، الذي هو صحيح شكليا يعبر عن الحقيقة، أم أنه في جوهره خطأ ارتكب بحسن نية.
7
أما من الناحية الأخلاقية، فإن المحاورة تلقي بعض الضوء على عقيدة الدولة في أثينا، وعلى مدى اختلاف آراء سقراط الأخلاقية عنها. ذلك هو الاختلاف بين الأخلاق المرتكزة على السلطة، وتلك التي ترجع إلى الأصول، ويصل سقراط إلى جوهر المسألة عندما يسأل عن إيضاح لتعريف أوطيفرون للمقدس بأنه ما توافق عليه الآلهة بالإجماع. فسقراط يريد أن يعرف إن كان الشيء مقدسا؛ لأن الآلهة توافق عليه، أم أن الآلهة توافق عليه؛ لأنه مقدس، وهذا السؤال هو في حقيقته نقد غير مباشر لموقف أوطيفرون من المشكلة.
فكل ما يهم أوطيفرون هو أن تكون الآلهة قد أصدرت أمرا بضرورة عمل شيء، وقد كان المعنى الفعلي لذلك، في إطار المجتمع الأثيني الذي كانت توجد فيه عقيدة رسمية للدولة، هو أن أوامر هيئة الكهنوت ينبغي إطاعتها على ما هي عليه. ومن الغريب حقا أن سقراط كان يوافق على ذلك في ممارساته السياسية، ولكنه وجد نفسه في الوقت ذاته مضطرا إلى طرح السؤال الأخلاقي عن نشاط الدولة ذاتها، وهي نقلة لا يمكن حدوثها، ولا ينبغي حدوثها في نظر كل من هو على شاكلة أوطيفرون في عالمنا هذا. ويؤدي هذا على الفور إلى المشكلة القديمة العهد، مشكلة الولاء المنقسم أو الموزع، التي كانت كما قلنا من قبل من المحاور الأساسية للدراما اليونانية.
ومما يدل على أن هذه المشكلة ليست على الإطلاق مسألة عتيقة انتهى عهدها؛ أن مشكلة القانون والعدالة ما زالت قائمة بيننا على الدوام ، فما هي العلاقة بين الاثنين؟ وما الذي ينبغي علينا أن نفعله حين يطلب إلينا أن نطيع قانونا نجده ظالما؟ إن هذا السؤال يكتسب حيوية هائلة عندما تهدد الطاعة العمياء لساستنا المسيطرين بإلقاء العالم في أتون دمار شامل لا يبقي ولا يذر.
إن الاختلاف بين أوطيفرون وسقراط ينحصر آخر الأمر في أن الأول ينظر إلى القانون على أنه شيء ثابت، على حين أن رأي سقراط ينطوي على القول بأن القانون قابل للتغيير، وهنا يبدو سقراط أقرب إلى أن يكون تجريبيا في نظريته الاجتماعية، وإن لم يكن قد صرح بذلك بعبارات واضحة. ومن هنا يجد لزاما عليه أن يتساءل عما إذا كانت بعض الممارسات قيمة أم شريرة، أيا كان من أمرنا بها، ولا بد أنه قد عرف أن هذا السؤال سيعرضه لانتقام الدولة واضطهادها، بل إنه ليبدو أن هذا هو المصير المألوف لأولئك المفكرين المتمردين الذين يزعزعون جذور المعتقدات الراسخة، فحتى لو كان الدافع إلى سلوكهم نزيها، وهو تقويم الأخطاء التي ارتكبت في حق الآخرين، فإن العداء الذي يوجه إليهم يظل على ما هو عليه.
وفي محاورة «كريتون» يعرض سقراط موقفه من قانون أثينا، وهو في هذه المحاورة يرفض الهرب والتخلص من الحكم الذي أدين به، فعلى الرغم من أن القوانين ظالمة، ينبغي إطاعتها حتى لا تنهار مهابة حكم القانون، ولكنه لا يدرك أن هذا الانهيار قد يحدث بسبب هذا الظلم ذاته.
8
ولقد كان موقف سقراط غير المتسق إزاء المسائل المتعلقة بالسلطة هو الذي أدى به إلى نبذ الحل السهل الذي يتمثل في الهروب، وأدى به رفضه للحلول الوسطى إلى تضييق فرصة الاختيار أمام الادعاء، فأصبح بذلك شهيدا لحرية الفكر. وفي محاورة «فيدون» وهي من روائع الأدب الغربي، نجد وصفا لساعاته الأخيرة، فالمناقشة تدور في المحاورة حول محاولة ثبات خلود النفس، وهو موضع لا نحتاج هنا إلى الدخول في تفاصيل الحجج المقدمة فيه، لا سيما وأنها ليست حججا قوية، وإن كانت تثير أسئلة هامة عن مشكلة العلاقة بين العقل والجسم. وقرب نهاية المحاورة تصل المناقشة إلى نقطة لا يعود فيها أي شخص على استعداد لإثارة المزيد من الاعتراضات، ولا يمكن أن يكون قد غاب عن أذهان الفيثاغوريين المشاركين في المحاورة أن من الممكن إثارة صعوبات جديدة. ولكن يبدو أن الطابع المشئوم للحادث، مصحوبا بالشعور بالشفقة، جعل أصدقاء سقراط يمتنعون عن إثارة شكوك قاطعة في وجه استنتاجاته، أما الجزء الذي قد يكون هو الأهم فلسفيا في المحاورة فهو وصف طريقة الفرض والاستنباط، التي هي دعامة كل برهان علمي.
يشرح سقراط هذا الموضوع عندما يخيم على الجماعة شعور بعدم الارتياح، نظرا إلى أن المناقشة قد واجهت صعوبات كأداء، وهنا يحذر رفاقه من فقدان الثقة في النقاش ورفضه كلية، وبعد قليل ينتقل إلى تقديم عرض محدد لطريقته.
ولا بد لنا من أن نبدأ بفرض ما؛ فمن الواجب أن نضع الأساس الذي سوف نبني عليه المناقشة. ومن الفرض نستنبط النتائج التي تلزم عنه، ونرى إن كانت تتفق مع الوقائع، وهذا ما كانت تعنيه في الأصل عبارة المحافظة على المظاهر،
9
فالفرض الذي تتفق نتائجه مع الوقائع يحفظ المظاهر، أعني الأشياء المحيطة بنا كما تظهر، ولا شك أن هذه الفكرة مرتبطة في المحل الأول بعلم الفلك لدى الفيثاغوريين المتأخرين، وبوجه خاص بفكرة النجوم السيارة أو الكواكب، فحركتها الظاهرية غير منتظمة، وهي سمة لا تتلاءم مع مقتضيات البساطة الميتافيزيقية، ومن هنا كانت الحاجة تدعو إلى فرض بسيط يحفظ المظاهر.
فإذا لم تتفق النتائج مع الفرض، وجب التخلي عن هذا الأخير، وأصبح علينا أن نجرب فرضا آخر، والشيء الهام الذي ينبغي ملاحظته هو أن الفروض ذاتها تظل بغير إثبات. وليس معنى ذلك أن المرء يختار نقاط بدايته اعتباطا، وإنما يعني أن على المرء أن يبدأ عند تقديم برهان ما، بشيء يقبله جميع المشتركين، إن لم يكن عن اقتناع، فعلى الأقل من أجل مواصلة الجدل. أما البرهنة على الفروض فهي شيء مختلف كل الاختلاف؛ فهنا ينبغي أن نبدأ من نقطة بداية أعلى نستطيع أن نثبت أن الفرض موضوع البحث يمكن أن يكون نتيجة لها. وهذه بالضبط هي مهمة الديالكتيك كما تصورها سقراط. فعلينا أن نهدم الفروض الخاصة لمختلف العلوم، بمعنى استبعادها من حيث هي خاصة، ففي النهاية يكون هدف الجدل هو الوصول إلى نقطة البداية الواحدة العليا، وهي صورة الخير، وربما بدا لنا ذلك أملا يستحيل تحقيقه، ومع ذلك يظل من الصحيح أن العلم النظري يتحول دائما في اتجاه المزيد من التعميم وتوحيد الميادين التي قد تبدو للوهلة الأولى متفرقة. والأمر الذي كان يحرص عليه الفلاسفة الرياضيون على وجه التخصيص هو توحيد الحساب والهندسة، وهي المشكلة التي استطاع ديكارت أن يقدم لها آخر الأمر حلا عبقريا بعد حوالي ألفي عام من الفترة التي نتحدث عنها.
ولقد رأينا من قبل أن سقراط لم يكن أول من استخدم البرهان الذي يبدأ بوضع فرض، فقد سبق أن استخدم الإيليون هذه الطريقة في صراعهم الفكري مع القائلين بأن الأشياء كثيرة، ولكن هدفهم كان في مجمله هداما. والجديد في حالة سقراط هو فكرة المحافظة على المظاهر، أي إن المشكلة هي تقديم وصف إيجابي اللوجوس
Logos
للوقائع كما نلاحظها، وبتقديم هذا الوصف نفسر الوقائع من خلال الفرض. وينبغي أن نشير إلى أن هذه الطريقة تنطوي على فكرة أخلاقية ضمنية هي أن الواقعة المفسرة أفضل على نحو ما من الواقعة غير المفسرة. ولعلنا نذكر رأي سقراط القائل بأن أسلوب الحياة الذي لا يخضع للفحص والاختبار لا يستحق أن يعاش، وهذا كله يرتبط آخر الأمر بالأخلاق الفيثاغورية التي تذهب إلى أن البحث العلمي خير في ذاته. وفضلا عن ذلك فإن الاتجاه إلى تحقيق المزيد من التوحيد بالتدريج، حتى يندرج كل شيء آخر الأمر ضمن مثال الخير، يشير إلى المضمون الإيجابي للمذهب الإيلي.
ذلك لأن مثال الخير والواحد عند الإيليين يشتركان في أنهما يتضمنان توجيها إلى الطريق الذي يسيء فيه العلم النظري.
ولقد كان أفضل تعبير عن فكرة الفرض والاستنباط هو ذلك الذي تضمنته محاورة «فيدون»، ولكن من الغريب أن سقراط لم يتنبه أبدا على ما يبدو إلى عدم الاتساق العجيب بين هذه الفكرة وبين نظريته في المعرفة والظن؛ ذلك لأن نظرية الاستنباط من فروض تقتضي كما هو واضح أن تكون المظاهر التي يتعين المحافظة عليها واضحة بصورة لا تخطئها العين، وإلا لما أمكن المقارنة بينها وبين نتائج الفرض. غير أن المظاهر من جهة أخرى تدرك بالحواس، والحواس يقال عنها إنها تنتج ظنونا، أي إنها معرضة للخطأ، وعلى ذلك فإننا إذا أخذنا نظرية الفرض والاستنباط مأخذ الجد وجب علينا أن نتخلى عن نظرية المعرفة والظن، وهذا يؤدي بطريق غير مباشر إلى هدم نظرية المثل بقدر ما ترتكز على التمييز بين المعرفة والظن، وهذا ما فعله المذهب التجريبي.
وهناك مسألة لم نعرض لها على الإطلاق، هي كيفية التوصل إلى الفرض في المحل الأول. وتلك مسألة لا نستطيع أن نقدم عنها إجابة عامة. فليس ثمة «وصفة رسمية» تضمن النجاح في البحث العلمي، وربما كان من الدلائل على عمق بصيرة سقراط أنه لم يحاول حتى أن يثير السؤال، فليس ثمة شيء اسمه منطق الاختراع.
من الواضح أن محاورة «فيدون» هي وثيقة تاريخية بنفس المعنى الذي كان به «دفاع سقراط» وثيقة من هذا النوع. وهي بهذا الوصف تعرض علينا سقراط وهو متمسك بموقفه من الحياة حتى آخر لحظة فيها؛ فهو يهتم بشئون الآخرين، ويخفر بنفسه دون غرور، وهو شجاع رابط الجأش، وهو يرى في التعبير المتطرف عن الانفعالات أمرا غير جدير بالاحترام، ويعنف أصدقاءه الذين يبدو أنهم على وشك الانهيار بتأثير التوتر السائد في اللحظات الأخيرة التي سبقت تجرعه للسم. وهو يشرب السم بعدم اكتراث وتجرد عظيمين، ويرقد في انتظار الموت، وكان آخر طلب له هو الذي وجهه إلى صديقه كريتون
Crito ، وهو أن يذبح ديكا كقربان لأسقلبيوس
Asclepius
وكأن الموت، أي تحرر النفس من الجسد، أشبه بالشقاء من المرض.
10
لقد ناقشنا من قبل النقد الذي وجهه بارمنيدس، في المحاورة التي تحمل اسمه إلى نظرية سقراط في المثل. أما في «تيتاتوس»، التي يبدو أنها كتبت في نفس وقت كتابة «بارمنيدس»، فإننا نبتعد بصورة قاطعة عن نظريات سقراط ، وتبدأ آراء أفلاطون الخاصة في التشكل. ولنذكر هنا أن المعرفة في رأي سقراط هي معرفة بالصور أو المثل، على حين أن الحواس لا تنتج إلا ظنا، هذا الرأي يكشف على نحو صحيح عن الفرق بين المعرفة الرياضية والتجربة الحسية، ولكنه لا ينجح أبدا بوصفه نظرية عامة في المعرفة، بل إن محاورة «بارمنيدس» تثبت أنه عاجز عن النجاح، ولذلك تبذل في «تيتاتوس» محاولة جديدة للتخلص منه المشكلة.
يظل سقراط في هذه المحاورة هو الشخصية الرئيسية، ولما كانت المحاورة تتضمن نقدا لنظرية المعرفة التي تقول بها «الجمهورية»، فيبدو أن من المعقول أن يكون سقراط ذاته هو الذي يناقشها، ومع ذلك فإن وجهة نظر سقراط لم تعد هي السائدة؛ ففي المحاورات المتأخرة التي وصل فيها سقراط إلى آراء ناضجة خاصة به أصبح يستخدم طريقة إدخال شخص غريب ليعرض نظرياته، بينما تتوارى شخصية سقراط.
كان تيتاتوس، الذي تحمل المحاورة اسمه، رياضيا مشهورا تفوق في الحساب والهندسة معا، واخترع طريقة عامة لحساب الجذور الرباعية الصماء، وأكمل نظرية الأجسام الصلبة المنتظمة، وفي المحاورة نراه صبيا لامعا قبل وقت قصير من محاكمة سقراط، والمحاورة كلها مهداة إلى ذكرى تيتاتوس الذي مات متأثرا بجراحه ومرضه بعد معركة كورنثة عام 369م.
تبدأ المحاورة بمحادثة مرحة تفضي إلى السؤال عن ماهية المعرفة، وفي البدء يرتكب تيتاتوس الخطأ المألوف، وهو تقديم أمثلة بدلا من تقديم تعريف، ولكنه يدرك الخطأ بسرعة وينتقل إلى إعطاء أول تعريف. فالمعرفة كما يقول هي إدراك حسي (والكلمة اليونانية التي يستخدمها هي
aesthesis ، وتعبر عن الإدراك بوجه عام، ومنها جاءت الكلمة الحديثة المعبرة عن التخدير
anaesthetic
التي تعني ببساطة تغييب الإدراك)، على أن ما يهمنا هنا هو الإدراك الحسي. والواقع أن الرأي القائل إن المعرفة هي الإدراك الحسي يماثل صيغة بروتاجوراس القائلة إن الإنسان مقياس الأشياء جميعا؛ ففي الإدراك الحسي تبدو الأشياء كما تبدو، بحيث لا يمكن أن نكون على خطأ، ولكن يتضح في المناقشة التالية أن التعريف المقترح للمعرفة غير كاف؛ إذ ليس يكفي أولا أن يقال إن شيئا ما يكون على نحو ما يظهر عليه، ما دام أي شيء لا «يكون» بالمعنى الصحيح، فالأشياء في حالة صيرورة دائمة، كما قال هرقليطس، والواقع أن الإدراك الحسي تفاعل بين المدرك (بكسر الراء) والمدرك (بفتحها)، وفضلا عن ذلك فإن بروتاجوراس ذاته كان خليقا بأن يعترف بأنه في المسائل التي يتعين فيها اتخاذ قرار، لا يكون لرأي شخص ما نفس قيمة رأي الآخر؛ لأن الخبير حكمه أفضل من غير المتخصص، وفضلا عن ذلك فإن الشخص الذي لم يدرب على الفكر الفلسفي لن يوافق على هذه الصيغة، ومن ثم فإن بروتاجوراس مضطر إلى الاعتراف بناء على مقدماته ذاتها، إن النظرية ليست صحيحة بالنسبة إلى مثل هذا الشخص، وحصيلة هذه المناقشة هي أننا إذا حاولنا أن نصف المعرفة من خلال نظرية هرقليطية في التغير الدائم، فسوف نجد أنفسنا عاجزين عن أن نقول شيئا؛ إذ قبل أن يعمل اللفظ على تثبيت أي شيء، يكون قد ذاب متحولا إلى شيء آخر، ومن هنا كان لزاما علينا أن نجرب طريقة أخرى للإجابة عن السؤال: ما المعرفة؟
لنتأمل إذن هذه الحقيقة على حين أن لكل حاسة من الحواس موضوعاتها الخاصة، فإن أي شيء يتضمن ارتباطا بين إدراكات الحواس المختلفة يحتاج إلى عمل حاسة ما شاملة، وهذه هي النفس أو العقل، وهما لفظان غير متميزين عند أفلاطون، فالنفس تدرك صفات عامة، كالهوية والاختلاف والوجود والعدد، فضلا عن الصفات العامة التي تتضمنها الأخلاق والفن. ومن ثم لم يكن من الممكن تعريف المعرفة بأنها إدراك حسي فحسب، وعلى ذلك فلنحاول أن نرى إن كنا نستطيع الاهتداء إلى تعريف من جانب النفس. إن مهمة النفس هي إجراء محاورات مع ذاتها، وحين نصل إلى حل لمسألة ما نقول إن النفس أصدرت حكما، فهل نستطيع أن نعرف المعرفة بأنها الحكم الصائب؟ لو اختبرنا هذا التعريف لوجدنا أن من المستحيل بموجبه أن نقدم تعليلا معقولا للحكم الباطل أو الخطأ، غير أن الجميع يسلمون بأن ثمة أخطاء ترتكب، ومع ذلك فإن التمييز بين الصواب والخطأ لا يعرض في هذه المرحلة، وإنما يكتفي أفلاطون بتمهيد الأرض، ومن الجائز أن رأيه الخاص في هذه المشكلة لم يكن قد اكتمل في ذلك الحين.
غير أن الحكم الباطل يستحيل لو كان الحكم نشاطا تقوم به النفس وحدها، ونستطيع أن نتخيل الذهن على أنه لوح نقشت عليه علامات الذاكرة. عندئذ يكون قوام الخطأ هو ربط الإحساس الحاضر بالعلامة الخطأ، ولكن هذا التفسير لا يفلح في حالة الأخطاء الحسابية، حيث لا توجد أشياء ندركها عن طريق الإحساس. فإذا تصورنا العقل على شكل قفص للطيور من نوع ما، والطيور الموجودة داخله هي أجزاء من المعرفة، فعندئذ قد يحدث من آن لآخر أن نصطاد الطائر غير المقصود، فيكون هذا هو الخطأ، غير أن ارتكاب الخطأ في هذه الحالة لن يعود مماثلا للإدلاء بحقيقة غير منطبقة على الموضوع المطلوب؛ لذلك ينبغي أن نفترض أن بعض الطيور هي أجزاء من الخطأ، ولكننا إذا أمسكنا واحدا من هذه فإننا نعرف أن هذا خطأ بمجرد أن نمسك به، بحيث يستحيل أن نكون على خطأ، وفضلا عن ذلك فإن في وسعنا أن نشير إلى النقطة التي تغفلها هذه الحجة، وهي أن المرء إذا سرب إليها جوانب من الخطأ، فعندئذ تصبح القصة بأكملها، من حيث هي تفسير للخطأ، حلقة مفرغة.
كذلك فإن المرء قد يصدر حكما صحيحا بالصدفة، أو لأسباب أخرى، كالرغبة في اعتناق رأي يتصادف أنه صحيح بالفعل، وهذا ما يحاول أن يتجنبه التعريف الأخير؛ فالمعرفة حكم صائب يدعمه البرهان، أي إنه بغير البرهان لا يكون ثمة معرفة. ولنشبه هذا بحروف يمكن تسميتها، ولكن ليس لها معنى، وبتجمعات لهذه الحروف في مقاطع يمكن تحليلها بدورها، ومن ثم فهي موضوع للمعرفة، ولكن إذا كان المقطع هو مجموع حروفه، فإنه يكون غير قابل للمعرفة مثلها، وإذا كان أكثر من مجموع حروفه، فإن هذه السمة المضافة هي التي تجعله قابلا لأن يعرف، ومن ثم تصبح العبارة فارغة، ومن جهة أخرى فما المقصود هنا بالبرهان؟ من الواضح أنه وصف للطريقة التي يختلف بها الشيء عن جميع الأشياء الأخرى، وهذا الوصف إما أن يكون حكما آخر، أو معرفة بالاختلاف؛ فالأول يؤدي إلى تسلسل إلى ما لا نهاية، والثاني إلى دور في التعريف. ولا يقدم أفلاطون بعد ذلك حلا لهذه المشكلة، ولكنه طهر الجو من بعض المفاهيم الباطلة؛ فليس في وسع الإدراك الحسي وحده، أو الفهم العقلي وحده، أن يفسر المعرفة.
ومن الواضح أن مشكلة المعرفة ومشكلة الخطأ هنا وجهان لمسألة واحدة، ولما كانت المناقشة الحاضرة لم تفلح في الوصول إلى حل لأي منهما، فلا بد من البدء من جديد، وهذا ما سنفعله الآن.
سوف ننتقل الآن إلى محاورة تعلن أنها تواصل محادثة «تيتاتوس» في اليوم التالي، وهي محاورة «السفسطائي»، التي يمكن تحديد تاريخها بناء على خصائص أسلوبها بأنها قد كتبت بعد «تيتاتوس» بوقت طويل. في هذه المحاورة نجد المجموعة التي تتحاور هي نفسها المجموعة السابقة، ولكن يظهر على المسرح بالإضافة إليها غريب من إيليا، يحتل الموقع الرئيسي في الحوار، على حين أن سقراط يلعب دورا ضئيلا في المناقشة. والهدف الظاهر من «السفسطائي» هو الوصول إلى تعريف السفسطائي، وتمييزه عن الفيلسوف هذا التضاد الخفي الذي تنطوي عليه المحاورة يبدو أنه موجه أساسا ضد المدرسة السقراطية في ميغارا
Megara ، التي طورت طريقة هدامة أحادية الجانب في التلاعب بالمنطق على طريقة المدرسة الإيلية، ويكشف الغريب الإيلي، الذي يمكننا أن نرى فيه صوت أفلاطون ذاته، عن فهم أصدق للمشكلات، ويقدم حلا بارعا لمشكلة الخطأ، وهكذا يعرفنا أفلاطون مستخدما هذا الغريب بوصفه متحدثا بلسانه أنه هو ذاته ينتمي إلى التراث الحقيقي للتطور الفلسفي، على حين أن المتلاعبين بالمتناقضات على الطريقة السفسطائية في مدرسة ميغارا قد انحرفوا عن هذا الطريق.
والمشكلة الحقيقية التي تعالج في محاورة «السفسطائي» هي لغز اللاوجود، الذي نبه إليه بارمنيدس. ولقد كان هذا اللغز عند بارمنيدس متعلقا أساسا بالعالم الطبيعي، أما عند أتباعه فقد امتد إلى المنطق بدوره، وبهذه الصورة الأخيرة تبحثه هذه المحاورة.
وقبل أن نعرض لهذه المشكلة التي تحتل الموقع الرئيسي في المحاورة، نود أن نضيف بضع ملاحظات عن طريقة القسمة، لا سيما وأنها هي طريقة التصنيف التي كانت مستخدمة في الأكاديمية، كما أن كتاب أرسطو عن تصنيف الحيوانات ينتمي إلى فترة وجوده في الأكاديمية. تقدم الطريقة إلينا تعريفا مفصلا للألفاظ يبدأ بالجنس، ثم يقسمه قسمين في كل مرحلة، عن طريق تقديم صفات «فاصلة» متبادلة. وتقدم محاورة السفسطائي مثلا أوليا لشرح الطريقة، على أساس أن اللفظ المراد تعريفه هو «صيد الأسماك بالخطاف» فأولا يلاحظ أن صيد الأسماك فن، ومن ثم فإن الجنس الأول هو «الفنون»، وهذه الأخيرة تنقسم إلى فنون للإنتاج وفنون للاقتناء، ومن الواضح أن صيد السمك ينتمي إلى الفئة الثانية، ثم يقسم الاقتناء إلى حالات تتم برضاء موضوعها، وحالات تقتنص فيها هذه الموضوعات، وهنا أيضا نجد صيد الأسماك ينتمي إلى الفئة الأخيرة. ويقسم الاقتناص إلى ظاهر ومخفي، وينتمي صيد الأسماك إلى النوع الأخير، وقد تكون الأشياء المقتنصة جمادات أو أحياء، والصيد يتعلق بالأحياء، وقد تعيش هذه الأحياء، أو الحيوانات على اليابس أو في سائل، وهنا أيضا نرى اللفظ المراد تعريفه منتميا إلى الفئة الثانية، وقد تكون الحيوانات التي تسكن السوائل طيورا أو أسماكا، وقد تمسك الأسماك بالشبكة أو بالطعن، وقد نقتنصها ليلا أو نهارا. وصيد الأسماك بالخطاف يتم نهارا، وقد تضرب من أعلى أو من أسفل، وهذا النوع من الصيد يحدث فيه الضرب من أسفل، وبعد أن نستعيد خطواتنا ونجمع كل الصفات «الفاصلة»، نعرف صيد الأسماك بالخطاف بأنه فن اقتناء عن طريق قنص مخفي، لحيوانات تعيش في الماء، مع صيدها نهارا، وطعنها من أسفل. على أننا ينبغي أن نأخذ المثل بجدية أكثر مما ينبغي، بل لقد اختير لأن من الممكن النظر إلى السفسطائي بدوره على أنه صياد من هذا النوع، يصطاد نفوس البشر. وتلي ذلك تعريفات متعددة للسفسطائي، ولكننا لا نحتاج إلى متابعة هذا الموضوع.
وبدلا من ذلك سننتقل في مناقشتنا إلى المشكلة الإيلية؛ فالصعوبة المتعلقة باللاوجود تنشأ لأن الفلاسفة لم يفهموا المقصود بالوجود فهما صحيحا، وهذا ما يبينه الغريب بمقدرة فائقة ، ولو عدنا إلى «تيتاتوس» لتذكرنا أن المعرفة أيا كانت شروطها الأخرى، تقتضي على الأقل تفاعلا، ومن ثم حركة، ولكنها تقتضي أيضا سكونا، وإلا لما كان هناك شيء نتكلم عنه، فلا بد أن تكون الأشياء ساكنة بمعنى ما حتى تكون موضوعا للبحث. وهذا يعطينا بادرة لمواجهة المشكلة؛ ذلك لأن الحركة والسكون موجودان معا بغير شك، ولكن لما كانا ضدين، فلا يمكن أن يجتمعا، والواقع أن هناك ثلاثة إمكانات لتجمعهما؛ فإما أن تظل الأشياء جميعا منفصلة انفصالا تاما، وفي هذه الحالة لا يمكن أن تشارك الحركة والسكون في الوجود، وإما أن يكون من الممكن اندماج الأشياء جميعا، وفي هذه الحالة يمكن أن تجتمع الحركة والسكون، وهو ما لا يمكنهما تحقيقه، كما هو واضح. والبديل الباقي هو أن يكون من الممكن اتحاد بعض الأشياء ولا يكون من الممكن اتحاد البعض الآخر، ويكمن حل الصعوبات التي نواجهها في إدراك أن «الوجود واللاوجود» هما في ذاتهما تعبيران لا معنى لهما، بل يصبح لهما معنى فقط حين يدخلان في حكم. وهنا تصبح «الصور» أو الأنواع كالحركة والسكون والوجود، هي الصفات العامة التي سبق أن تحدث عنها «تيتاتوس»، ومن الواضح أنها تختلف كل الاختلاف عن الصور كما قال بها سقراط؛ فنظرية الصور الأفلاطونية هذه هي نقطة البدء التي أدى تطورها إلى ظهور نظرية المقولات.
ووظيفة الجدل (الديالكتيك) هي البحث في أي هذه الصور، أو «الأنواع العليا» يتجمع، وأيها لا يتجمع، فالحركة والسكون كما رأينا من قبل لا يتجمعان معا، ولكن كلا منهما يتجمع مع الوجود، أي إن كلا منهما يوجد. كذلك فإن الحركة تكون مماثلة لذاتها، ولكنها مختلفة عن السكون. فالمماثلة أو الهوية، والاختلاف أو الآخرة، يسريان على كل شيء، شأنهما شأن الوجود؛ ذلك لأن كل شيء مماثل لذاته، أو في هوية مع ذاته، ومختلف عن جميع الأشياء الأخرى.
ويمكننا الآن أن ندرك المقصود باللاوجود؛ ففي وسعنا أن نقول إن الحركة تكون ولا تكون؛ ذلك لأنها «تكون» الحركة، ولكنها لا تكون السكون، وبهذا المعنى يكون اللاوجود على نفس مستوى الوجود، ولكن من الواضح أن اللاوجود الذي نتحدث عنه هنا لا ينبغي أن يفهم بمعنى تجريدي كامل؛ فهو «ألا يكون» الشيء كذا وكذا، أو على الأصح أن يكون غير كذا وكذا،
11
وهكذا كشف أفلاطون عن مصدر الصعوبة، الذي يمكننا التعبير عنه بلغة حديثة، فنقول إن من الضروري التمييز بين الاستخدام الوجودي للفظ «يكون» واستخدامه بوصفه رابطة في قضية. والاستخدام الثاني هو المهم من وجهة النظر المنطقية.
وعلى هذا الأساس نستطيع الآن تقديم تعليل بسيط للخطأ؛ فالحكم الصحيح هو أن نحكم على شيء ما بأنه على ما هو عليه. أما لو حكمنا على شيء بأنه على غير ما هو عليه، لكان ذلك حكما باطلا، ولارتكبنا خطأ، وربما اندهش القارئ حين يرى أن حصيلة هذه المناقشة ليست أخطر ولا أعقد من ذلك، ولكن هذا يصدق على أية مشكلة بمجرد أن نعرف حلها.
ولنلاحظ في الختام أن مشكلة «تيتاتوس» قد تم التخلص منها خلال ذلك، بل إن هذه المشكلة ليست سؤالا صحيحا. فلا بد لنا من الالتزام بالأحكام، وهذه كما نرى الآن قد تكون صحيحة أو باطلة، ولكن كيف نعرف إن كان أحد الأحكام على هذا النحو أو ذاك؟ الرد هو أنه يكون صحيحا إذا كانت الأشياء ذاتها كذلك، ولا يكون إذا لم تكن، فليس ثمة معيار شكلي يضمن لنا عدم ارتكاب الخطأ.
ويتيح لنا التفسير الذي قدمناه لمشكلة اللاوجود، أن نتخلص من الآن فصاعدا من مشكلة التغير؛ ذلك لأنه يوضح نظرية هرقليطس وينزع عنها طابع التناقض الظاهري. ومع ذلك فإن لدى أفلاطون نظرية أخرى في التغير ترتبط مباشرة بكل من المذهب الذري والفيزياء الرياضية كما نعرفهما اليوم، وهو يعرض هذه النظرية في محاورة «طيماوس»، وهي محاورة أخرى تنتمي إلى المرحلة الأخيرة والناضجة من فكر أفلاطون، ونظرا إلى أن تقديم وصف للنظريات التي تعرضها المحاورة عن نشأة الكون سوف يمضي بنا بعيدا، فإننا نكتفي بأن نشير إلى أن المحاورة تتضمن قدرا كبيرا من الآراء الفيثاغورية المتطورة، مع بعض تلميحات عن التفسير الصحيح لحركة الكواكب، بل إنه ليمكن القول إن الفرض القائل بأن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية ربما كان من اكتشافات الأكاديمية. وتعالج المحاورة عددا كبيرا من المسائل العلمية الأخرى، ولكن ينبغي علينا أن نتركها جانبا، وننتقل إلى ما يمكن تسميته بالنظرية الذرية الهندسية أو الرياضية عند أفلاطون. فتبعا لهذا الرأي يتعين علينا أن نقوم بتمييز ثلاثي بين الصورة والمادة الأساسية، والحقيقة الجسمية للعالم المحسوس، والمقصود بالمادة الأساسية هنا هو المكان الخالي فحسب. أما الواقع المحسوس فهو حصيلة الجمع بين الصور والمكان الذي تنطبع عليه هذه الصور على نحو ما. وعلى ذلك يكون لدينا وصف للعالم المادي؛ الفيزيائي منه والبيولوجي، على أساس العناصر الأربعة. ولكن هذه بدورها تعد الآن أجساما هندسية تتألف من نوعين من المثلثات الأولية؛ ذلك الذي يتألف من نصف مثلث متساوي الأضلاع، والمثلث القائم الزاوية متساوي الساقين، الذي يشكل نصف مربع، ومن هذين المثلثين نستطيع أن نكون أربعة من الأنواع الخمسة المنتظمة للأجسام الجامدة؛ فالشكل الرباعي الأوجه هو الجزيء الأساسي للنار، والمكعب هو جزيء التراب، والمثمن جزيء الهواء، والشكل ذو العشرين وجها جزيء الماء، وعن طريق تفتيت هذه الأجسام إلى مثيلاتها المكونة، وإعادة ترتيبها نستطيع أن نحدث تحولا من أحد هذه العناصر إلى الآخر. كذلك فإن الجزئيات النارية التي لها أطراف حادة تتغلغل في الأجسام الأخرى، أما الماء فيتألف من جزيئات أنعم بكثير، ومن هنا كانت مرونة السوائل.
والواقع أن نظرية التحول التي تعرض ها هنا تستبق النظريات الفيزيائية الحديثة بصورة ملفتة للنظر؛ فأفلاطون يتجاوز كثيرا الذرية المادية عند ديمقريطس. ومن الواضح أن المثلثات الأساسية عنده هي المقابل لما يطلق عليه في الفيزياء الحديثة اسم الجزيئات الذرية أو الأولية، التي هي مكونات الجزيئات الأساسية، ولنلاحظ أيضا أن هذه الجزيئات لا تسمى ذرات. ولو كان هذا اللفظ قد استخدم لكان في ذلك - بالنسبة إلى أي يوناني - خروج صارخ عن معاني الألفاظ، وما زال الأمر كذلك إلى الآن؛ فكلمة «ذرة
atom » تعني حرفيا شيئا لا يتجزأ، أما الشيء الذي يتألف من أشياء أخرى فلا ينبغي إن شئنا الدقة أن نسميه ذرة.
في هذه النواحي يظهر أفلاطون على أنه يستبق التراث الأساسي للعلم الحديث؛ فالرأي القائل إن كل شيء يمكن رده إلى الهندسة، أصبح يقول به ديكارت صراحة، كما يقول به أينشتين، ولكن بصورة مختلفة، وبطبيعة الحال فإن اقتصار أفلاطون على أربعة عناصر هو تقييد لنظريته بمعنى ما، ولكن سبب هذا الاختيار هو أن ذلك كان الرأي السائد في عصره، والشيء الذي حاول أفلاطون القيام به هو أن يقدم تعليلا أو تفسيرا لهذا الرأي كيما يحفظ الظاهر، وكان الفرض الذي استخدمه في ذلك رياضيا. وكما رأينا من قبل فإن الفكرة القائلة بأن العالم قابل للفهم في نهاية الأمر على أساس العدد، كانت جزءا من النظرية الفيثاغورية التي أخذ بها أفلاطون، وهكذا يكون لدينا نموذج رياضي للتفسير الفيزيائي، وهذا بعينه هو، من حيث المنهج، هدف الفيزياء الرياضية الحاضرة.
أما الربط بين هذه النظرية وبين نظرية الأجسام الجامدة المنتظمة، فربما كان أثرا من آثار الصوفية الفيثاغورية. فليس هناك وفقا لهذا التخطيط مكان للشكل الاثني عشري؛ إذ إن هذا وحده من بين الأشكال الخمسة للأجسام له أوجه لا تتألف من المثلثين الأوليين، وإنما من أشكال ثمانية منتظمة، وينبغي أن نذكر أن الشكل الثماني كان من الرموز الصوفية للفيثاغوريين، ويحتاج تكوينه إلى العدد الأصم الذي تحدثنا عنه عندما عرضنا للفيثاغوريين المتأخرين، وفضلا عن ذلك فإن الشكل الاثني عشري يبدو أقرب إلى الاستدارة من أي من الأشكال الأربعة الأخرى، لذلك يجعله أفلاطون معبرا عن العالم. غير أن هذا الخيال التأملي لا يؤثر في صحة النموذج الرياضي أو عدم صحته.
إن المقام لا يتسع هنا لمعالجة النظرية الرياضية عند أفلاطون معالجة كاملة. وعلى أية حال فإن من الضروري تجميع هذه النظرية من لمحات بسيطة في المحاورات، ومن بعض عبارات أرسطو. غير أن من المهم مع ذلك أن نلاحظ أمرين؛ الأول: هو أن أفلاطون، أو الأكاديمية على أية حال، قد أعاد النظر في نظرية العدد الفيثاغورية كيما يتخلص من انتقادات الإيليين لها. وهنا يستبق أفلاطون أيضا رأيا حديثا كل الحداثة، فهو يرى أن بداية السلسلة الرقمية هي الصفر بدلا من الواحد، مما يتيح له وضع نظرية عامة للأعداد الصماء، التي لا ينبغي أن تعد بعد ذلك صماء إذا كنا نلتزم الدقة العلمية الصارمة. وبالمثل أصبح في الهندسة ينظر إلى الخط المستقيم على أنه ينشأ من حركة نقطة، وهو رأي يلعب دورا أساسيا في نظرية المعادلات المتغيرة عند نيوتن، التي كانت من الصور الأولى لما أصبح يعرف بعد ذلك باسم حساب التفاضل. وإنا لنرى بوضوح كيف يسهم هذان التطوران في توحيد الحساب والهندسة في إطار روح الديالكتيك.
أما النقطة الهامة الثانية فهي عبارة لأرسطو ذكر فيها أن أفلاطون قال إن الأعداد لا يمكن أن تجمع. هذه العبارة الموجزة تنطوي في الواقع على بذرة رأي حديث إلى أبعد حد في العدد؛ ذلك لأن أفلاطون اقتفى أثر الفيثاغوريين في النظر إلى الأعداد على أنها صور.
ومن الواضح أن الصور لا يمكن أن تجمع سويا؛ لأن ما يحدث عندما نقوم بعمليات جمع هو أننا نضم أشياء من نوع واحد، ولتكن مثلا حصى، أما الشيء الذي يتحدث عنه الرياضيون فهو مختلف عن الحصى، مثلما هو مختلف عن الصور. إنه على نحو ما شيء وسط بين الاثنين، فما يجمعه الرياضيون هو أشياء من نوع غير محدد، أي من أي نوع، بشرط أن يكون النوع واحدا في الجانب المطلوب بالنسبة إلى كل الأشياء التي يتم جمعها، وهذا كله يقترب كل الاقتراب من تعريف العدد الذي قدمه الرياضي الألماني فريجة
Frege ، وفيما بعد قدمه وايتهد
Whitehead
وكاتب هذه السطور.
فالعدد ثلاثة مثلا هو فئة كل الأشياء الثلاثية، والثلاثي هو فئة الأشياء من نوع محدد. وهذا ينطبق على أي عدد أصلي آخر، فالعدد اثنان هو فئة الأشياء الزوجية، والزوج فئة لأشياء. وفي استطاعتك أن تجمع ثلاثيا وزوجا من نوع واحد، ولكنك لا تستطيع أن تجمع العدد ثلاثة والعدد اثنين.
وهذا يؤدي بنا إلى نهاية العرض الموجز الذي قدمناه لأهم نظريات أفلاطون. والواقع أن قليلا من الفلاسفة هم الذين بلغوا ما بلغه من اتساع مدى الفكر وعمقه، إن كان أحد قد ناظره على الإطلاق، ولكن أحدا من الفلاسفة لم يتجاوزه، ولا شك أن أي شخص يود الاشتغال بالبحث الفلسفي يكون قد ارتكب خطأ جسيما لو تجاهله.
أما أرسطو وهو ثالث ثلاثة من المفكرين العظام عاشوا في أثينا، وقدموا تعاليمهم فيها، فقد كان على الأرجح أول الفلاسفة المحترفين، وعلى يد أرسطو نجد الفترة الكلاسيكية في الفلسفة قد اجتازت خط الذروة، أما من الناحية السياسية، فقد أخذت أثينا تصبح أقل أهمية، بعد أن وضع الإسكندر المقدوني، الذي كان في صباه تلميذا لأرسطو أسس إمبراطورية بدأ العالم الهلينستي يزدهر في ظلها، ولكنا سنفصل الكلام في هذا الموضوع فيما بعد.
كان أرسطو، على خلاف سقراط وأفلاطون، غريبا في أثينا؛ إذ إنه ولد في إسطاغيرا
Stagira
في إقليم تراقية حوالي عام 384ق.م..
وكان أبوه طبيب البلاط لملوك مقدونية، وعندما بلغ أرسطو الثامنة عشرة من عمره أوفد إلى أثينا ليتلقى العلم على أفلاطون في الأكاديمية. وقد ظل عضوا في الأكاديمية حتى وفاة أفلاطون في عام 348 / 7ق.م، أي إنه قضى فيها ما يقارب عشرين عاما، ولقد كان رئيس الأكاديمية الجديد سبيوسبيوس
Speusippus
متعاطفا بشدة مع الاتجاه الرياضي في الفلسفة الأفلاطونية، وهو الجانب الذي كان أرسطو أقل فهما له من كافة الجوانب الأخرى، وأشد كراهية له أيضا، لذلك غادر أثينا وظل طوال الاثني عشر عاما التالية يعمل في أماكن مختلفة، ثم قبل أرسطو دعوة وجهها إليه هرمياس
Hermeias
زميله السابق في الدراسة الذي أصبح حاكما على ميسيا
Mysia
على ساحل آسيا الصغرى، وهناك انضم إلى مجموعة من دارسي الأكاديمية، وتزوج من ابنة أخي مضيفه، وبعد ثلاث سنوات سافر إلى ميتليني
Mytilene
في جزيرة لسبوس.
وكما قلنا من قبل، فإن كتاب أرسطو عن تصنيف الحيوان ينتمي إلى فترة دراسته في الأكاديمية، وخلال إقامته في إقليم بحر إيجة، لا بد أن يكون قد أجرى أبحاثه في علم الأحياء المائية، وهو ميدان أسهم فيه بنصيب لم يتم تجاوزه إلا في القرن التاسع عشر. وفي عام 343ق.م. استدعي إلى بلاط فيليب الثاني في مقدونيا؛ ليكون معلم الإسكندر بن فيليب. وظل أرسطو يقوم بعمله هذا طوال ثلاث سنوات، غير أننا لا نعرف تفاصيل هذه الفترة من مصادر موثوق بها. وربما كان هذا أمرا مؤسفا، إذ إن المرء لا بد أن يلح عليه التساؤل عن مدى السيطرة التي استطاع الفيلسوف الحكيم أن يمارسها على الأمير المدلل. ومع ذلك يبدو من المعقول القول إنه لم يكن هناك الكثير مما يشترك فيه الاثنان؛ فقد كانت آراء أرسطو السياسية مبنية على دولة المدينة اليونانية التي كانت على وشك الزوال. أما الإمبراطوريات المركزية كتلك التي شادها الملك الأعظم «الإسكندر» فكانت خليقة بأن تبدو له، كما تبدو لجميع اليونانيين، بدعة دخيلة. فقد كان لدى اليونانيين في هذه المسألة، كما في غيرها من المسائل الثقافية، اعتزاز محمود بتفوقهم، غير أن العصر كان يسير نحو التغير، وكانت دولة المدينة في أفول، والإمبراطورية الهلينستية في صعود. أما إعجاب الإسكندر بأثينا بسبب ثقافتها فأمر لا ينكره أحد، غير أن هذا شيء كان يشاركه فيه الجميع، ولم يكن أرسطو هو سببه.
ومنذ عام 340ق.م. حتى وفاة الملك فيليب في عام 335ق.م، عاش أرسطو في موطنه الأصلي مرة أخرى، ثم عمل في أثينا منذ ذلك التاريخ حتى وفاة الإسكندر في عام 323ق.م. وفي هذه الفترة أسس مدرسة خاصة به، هي اللوقيوم
Lyceum
التي سميت باسم معبد قريب منها هو معبد أبولولوكيوس، أي قاتل الذئب. في هذه المدرسة كان أرسطو يحاضر تلاميذه، ماشيا بين القاعات والحدائق، ومتحدثا خلال سيره، ومن هذه العادة اكتسب التدريس في اللوقيوم اسمه المعروف هو: الفلسفة المشائية
peripatetic . ومن الطريف أن نلاحظ أن الكلمة الإنجليزية «حديث أو خطاب
discourse » تعني حرفيا الجري هنا وهناك. ولم يصبح مقابلها اللاتيني مستخدما بمعناه الحالي، وهو معنى البرهان المرتكز على العقل، إلا في العصور الوسطى، ومن الجائز أنها اكتسبت هذا المعنى من استخدامها في صدد الفلسفة المشائية، وإن كان هذا أمرا يثير الكثير من الجدل.
وبعد موت الإسكندر، هب الأثينيون ثائرين على الحكم المقدوني، وكان من الطبيعي أن تتجه الشكوك إلى أرسطو على أساس أنه موال للمقدونيين، كما اتهم بالخروج عن العقيدة، وكما أثبتت حالة سقراط من قبل، فإن مثل هذه الإجراءات القانونية يمكن أن تسفر أحيانا عن نتائج لا تسر. غير أن أرسطو لم يكن مثل سقراط، وقرر أن يتجنب غضب الوطنيين، حتى لا يرتكب الأثينيون جريمة أخرى ضد الفلسفة، فترك إدارة اللوقيوم لثيوفراسطس
Theophrastus ، ورحل إلى خالكيس
Vhalcis ، حيث مات سنة 322ق.م.
إن معظم ما نعرفه من مؤلفات أرسطو ينتمي إلى الفترة الأثينية الثانية، وليس كل هذه المؤلفات كتبا بالمعنى الصحيح، فمن المرجح أن بعض هذه المؤلفات مبني على مذكرات دونت أثناء قيامه بالتدريس. وهكذا يبدو أن أرسطو كان أول مؤلف لكتب مدرسية، بل إن بعض هذه المؤلفات تبدو تدوينات قام بها الطلاب أنفسهم، وترتب على ذلك أن جاء أسلوب أرسطو مملا يفتقر إلى الشاعرية، رغم أن من المعروف أنه كتب محاورات على طريقة أفلاطون، لم يبق منها شيء، وإن كانت بقية مؤلفات أرسطو تشهد بأنه لم يكن شخصية أدبية على مستوى أفلاطون، فبينما كتب أفلاطون روائع درامية، أنتج أرسطو كتبا مدرسية جافة. وبينما كان قلم أفلاطون يتدفق بمحاورات حية نابضة، كان أرسطو ينتج أبحاثا منهجية.
ولكي نفهم أرسطو ينبغي أن نذكر أنه أول ناقد لأفلاطون، ومع ذلك لا يمكن القول إن نقد أرسطو كان يرتكز في كل الأحوال على معرفة صحيحة. وعادة يكون من المأمون أن نثق بأرسطو عندما يسرد آراء أفلاطون، أما عندما ينتقل إلى تفسير معناها فإنه لا يعود موثوقا منه، وبالطبع يمكننا أن نفترض أن أرسطو قد عرف الرياضيات السائدة في عصره، وهو أمر يبدو أن عضويته في الأكاديمية تؤكده، ولكن من المؤكد أيضا أنه لم يكن ميالا إلى الفلسفة الرياضية لأفلاطون، بل إنه لم يفهمها أبدا في الواقع. وينطبق هذا الحكم نفسه على تعليقات أرسطو على الفلاسفة السابقين لسقراط، فحين يقدم سردا مباشرا لآرائهم نستطيع أن نعتمد على ما يكتب، أما التفسيرات فلا بد أن تؤخذ كلها بحذر.
وعلى حين أن أرسطو كان عالما مرموقا للأحياء، حتى لو تسامحنا مع بعض الأخطاء التي تبدو غريبة إلى حد ما، فإن آراءه في الفيزياء والفلك كانت مضطربة إلى حد ميئوس منه، والواقع أن أفلاطون الذي جمع بين تراث المدرستين، الملطية والفيثاغورية، كان في هذه الناحية أفضل منه بكثير، وكذلك كان العلماء الهلينستيون المتأخرون مثل أرسطارخوس
Aristarchus
وإراتوسثنيس
Eratosthenes ، وربما كان أشهر إسهام قدمه أرسطو إلى الفكر المنهجي هو مؤلفاته في المنطق. صحيح أن الكثير من هذه المؤلفات كان مستمدا من أفلاطون، ولكن النظريات المنطقية كانت عند أفلاطون مبعثرة بين مواد أخرى كثيرة، على حين أنها أصبحت عند أرسطو مركزة ومعروضة بصورة ظلت تعلم بها دون تغيير تقريبا حتى الوقت الحاضر.
ولقد كان تأثير أرسطو من الناحية التاريخية معوقا، ويرجع ذلك أساسا إلى الجمود الأعمى والذليل لدى الكثير من أتباعه، ولكن هذا شيء لا يمكننا بالطبع أن نلقي فيه اللوم على أرسطو نفسه. ومع ذلك يظل من الصحيح أن الإحياء العلمي في عصر النهضة كان يمثل انشقاقا على أرسطو وعودة إلى أفلاطون. والواقع أن أرسطو ظل في نظرته العامة ابنا للعصر الكلاسيكي، على الرغم من أن أثينا كانت قد بدأت في التدهور قبل أن يولد، ولم يفهم أرسطو أبدا مغزى التغيرات السياسية التي حدثت خلال حياته، والتي كان فيها العصر الكلاسيكي قد بلغ نهايته منذ أمد طويل.
ليس من السهل أن نناقش ميتافيزيقا أرسطو؛ وذلك لأسباب من بينها أنها مبعثرة بين عدد كبير من مؤلفاته، ومن بينها أنه يفتقر إلى الالتزام الواضح القاطع، وينبغي أن نلاحظ منذ البداية أن ما نسميه الآن بالميتافيزيقا لم يكن يحمل ذلك الاسم في عصر أرسطو؛ فالميتافيزيقا حرفيا تعني ببساطة «ما بعد الفيزيقا»، وقد اكتسب الكتاب هذا العنوان؛ لأن ناشرا قديما وضعه بعد كتاب الفيزيقا (الطبيعة) عند ترتيبه لمؤلفات أرسطو. ولقد كان الأجدر به أن يضعه قبل كتاب الطبيعة؛ لأن هذا موضعه المعقول ،
12
وقد أطلق أرسطو عليها اسم الفلسفة الأولى، أي البحث في الشروط العامة الأولى للمعرفة، غير أن اسم الميتافيزيقا هو الذي قدر له أن يشيع.
ويمكننا أن ننظر إلى أعمال أرسطو في هذا الميدان على أنها محاولة للاستعاضة عن نظرية المثل السقراطية بنظرية جديدة خاصة به. والنقد الأساسي الذي يوجهه أرسطو هو حجة «الرجل الثالث» مطبقة على فكرة المشاركة. وليس في ذلك إلا ترديد للنقد الذي سبق أن عرضه أفلاطون في محاورة «بارمنيدس». أما البديل الذي اقترحه أرسطو فهو نظرية المادة والصورة، فلنتأمل مثلا المادة الخام التي تستخدم في صناعة عمود في مبنى، تلك هي «المادة»، أما الصورة فهي أشبه بالتصميم الذي يضعه المعماري للعمود.
والفكرتان معا هما، بمعنى معين، تجريدان، من حيث إن الشيء الفعلي يجمع بين الاثنين معا. ويقول أرسطو إن الصورة عندما تطبع على المادة، هي التي تجعل هذه الأخيرة على ما هي عليه، فالصورة تضفي على المادة خصائصها، وتحولها بالفعل إلى شيء أو جوهر. ومن المهم ألا نخلط بين المادة والجوهر إذا شئنا أن نفهم أرسطو فهما صحيحا؛ فكلمة الجوهر تعني في أصلها اليوناني الشيء الموجود في الأساس، وهو شيء ثابت حامل للصفات، والواقع أن ميلنا الطبيعي إلى التفكير من خلال شكل من أشكال النظرية الذرية هو الذي يجعلنا نتجه إلى التوحيد بين الجوهر والمادة.
ذلك لأن الذرات، بالمعنى المطلوب هنا هي كيانات جوهرية وظيفتها حمل الصفات وتفسير التغير، وهذا ما أشرنا إليه من قبل عند حديثنا عن الذريين.
وفي نظرية أرسطو يتبين أن الصورة أهم في نهاية الأمر من المادة؛ ذلك لأن الصورة هي الخلاقة، على حين أن المادة التي هي بالطبع لازمة أيضا، مجرد أساس خام، والصورة جوهرية بالمعنى الحرفي؛ إذ يتبين مما قيل الآن أن الصور كيانات ثابتة أزلية تكمن من وراء تغير العالم الحقيقي. وعلى ذلك فإن الصور بهذا المعنى لا تختلف كثيرا عن المثل أو الصور عند سقراط؛ فالقول إن الصور جوهرية يعني أنها توجد مستقلة عن الأشياء الجزئية. أما كيف توجد هذه الجواهر فذلك ما لم يشرحه أرسطو بوضوح أبدا. وعلى أية حال يبدو أنه لم يحاول أن يعزو إليها عالما متميزا خاصا بها. ومن الجدير بالملاحظة أن أرسطو يعتقد أن الصور عنده مختلفة كل الاختلاف عن الكليات. والواقع أن نقد نظرية المثل يرتبط بالفعل بمسألة لغوية بحت؛ ففي اللغة العادية ألفاظ تدل على الأشياء وألفاظ تدل على ما تكونه هذه الأشياء؛ الأولى أسماء، والثانية صفات، والكلمة الإنجليزية النحوية المعبرة عن الأسماء هي
substantives (وتعني الجوهريات) وهي لفظ يرجع إلى العصور الهلينستية، ويثبت مدى قوة التأثير الذي كان للنظريات الأرسطية على النحويين. وعلى ذلك فالأسماء ألفاظ جوهرية، على حين أن الصفات ألفاظ كيفية.
ولكن من الخطأ أن نستدل من ذلك على أن من الضروري أن تكون هناك كليات موجودة على نحو مستقل، تكون الصفات أسماء لها. وهكذا كان رأي أرسطو في الكليات أقرب إلى الطابع العضوي، وهو أمر متوقع من عالم بيولوجي مثله؛ فالكليات تتدخل على نحو ما في إنتاج الأشياء، ولكنها لا توجد في عالم غامض خاص بها. وعلى الرغم من أن أرسطو لم يكن يقصد من نظريته في المادة والصورة أن تحل محل الكليات، فلا شك أن لها صلة وثيقة بهذه المشكلة، وهي كما رأينا لا تنجح تماما في التحرر من نظرية المثل. كما أن من المهم أن نتذكر أيضا أن نظرية أرسطو تسمح لنا تماما بأن نتحدث عن جواهر لا مادية، ومن أمثلة ذلك النفس، التي هي جوهر؛ لأنها هي التي تضفي على الجسم صورته، ولكنها ليست مادية.
وترتبط بمشكلة الكليات مشكلة تفسير التغير، وهي مشكلة قديمة العهد؛ فالبعض يجد هذا التفسير عسيرا إلى حد لا يرى معه مفرا من إنكاره، كما فعل بارمنيدس، وغير هؤلاء يقولون بنوع من المذهب الإيلي المعدل، ويلجئون إلى تفسيرات ذرية، على حين أن غير هؤلاء وأولئك يلجئون إلى شكل من أشكال نظرية الكليات، وقد تحدثنا عن هذا كله من قبل. أما عند أرسطو فنجد نظرية القوة والفعل (أو الإمكان والتحقق)، وهي أقرب إلى نظرية الكليات منها إلى النظرية الذرية.
عند مناقشة نظرية القوة أو الإمكان
potentiality
ينبغي أن نحرص على استبعاد شكل سطحي من أشكالها؛ فهناك طريقة في الكلام تستخدم فيها كلمة «بالقوة» للتعبير عن نوع من الحكمة الخاملة بعد وقوع الحادث ذاته، فإذا بدأت زجاجة زيت في الاحتراق فقد نقول إن هذا راجع إلى أنها كانت قابلة للاحتراق بالقوة حتى في الأصل . غير أن هذا ليس تفسيرا على الإطلاق، والواقع أن أسبابا كهذه هي التي دعت بعض المدارس الفلسفية إلى القول باستحالة الإتيان بشيء له جدواه حول هذا الموضوع. ولقد كان أنتيسثنس
Antisthenes
الميغاري واحدا من هؤلاء، كما سنرى فيما بعد. فأصحاب هذا الرأي يذهبون إلى أن الشيء قد يكون على نحو ما وقد لا يكون، وكل ما عدا ذلك هراء، ولكن من الواضح أننا نطلق بالفعل أحكاما مثل «الزيت قابل للاشتعال»، وهي أحكام لها معناها بلا جدال.
وهنا يأتي تحليل أرسطو ليقدم الإجابة الصحيحة، فحين نقول إن الشيء يتصف بالصفة س بالقوة، نعني أنه سيصبح كذلك بالفعل إذا توافرت شروط معينة؛ فالقول إن الزيت قابل للاشتعال معناه الاعتراف بأنه، إذا توافرت مجموعة من الشروط يمكن تحديدها، سيشتعل الزيت، أي إنه إذا كانت الحرارة هي المطلوبة، وأشعلت عود ثقاب وقربته من سطح الزيت، فإنك ستوقد فيه النار.
وبالطبع فإن الشروط المطلوبة لا بد أن تكون من النوع القابل للحدوث أو للتحقيق. وبهذا المعنى يكون المتحقق أو الموجود بالفعل سابقا منطقيا للممكن، أو لما يوجد بالقوة. وهكذا يمكن الآن تقديم تفسير للتغيير على أساس القول بجوهر يحمل بالقوة مجموعة من الصفات التي تتحقق فيه واحدة تلو الأخرى. وأيا كانت عيوب مثل هذا التفسير من الناحية العملية، فإنه على الأقل ليس سطحيا أو منعدم القيمة من حيث المبدأ، إذا تذكرنا التحليل الأرسطي للإمكان أو الوجود بالقوة. ولا شك أن هذا الفهم يذكرنا بسقراط وأفلاطون أكثر مما يذكرنا بالذريين، على أن رأي أرسطو قد تأثر جزئيا باهتماماته العلمية بعلم الأحياء، حيث يكون لفكرة الإمكان فائدة خاصة، على أن العرض الذي قدمناه ها هنا ناقص في ناحية واحدة هامة؛ فهو لا يذكر كيف أو لماذا تحدث التغيرات، وهذه مسألة كانت لدى أرسطو عنها إجابة مفصلة جدا، سوف نبحثها عندما تصل إلى نظريته في السببية. أما نظرياته في نشأة الكون ورأيه في أن الله هو العلة الأولى أو المحرك الذي لا يتحرك، فسوف نتركها بدورها إلى وقت لا حق، ولكن ينبغي أن نتذكر أن أرسطو كان ينظر إلى مذهبه في الإلهيات على أنه جزء مما نسميه اليوم بالميتافيزيقا.
ولنعد الآن إلى أعمال أرسطو في المنطق، فقد ذكرنا من قبل أن في السمات المميزة للعلم والفلسفة اليونانيين وجود فكرة البرهان فيهما. فعلى حين أن فلكيي الشرق كانوا يكتفون بتسجيل أرصادهم، فإن مفكري اليونان حاولوا تعليها. وتنطوي عملية إثبات قضية ما على إقامة حجج أو براهين منطقية، وبطبيعة الحال فقد كان ذاك يحدث قبل أرسطو بوقت طويل، ولكن لم يحاول أحد فيما نعلم أن يقدم وصفا عاما مفصلا للشكل الذي تتخذه البراهين. وفي هذا الصدد تقدم إلينا أعمال أرسطو عرضا شاملا بدا له، كما بدا للفيلسوف الألماني «كانت» كاملا. ولكن ليس من المهم أن نشير إلى أنه كان في هذه الناحية مخطئا إلى حد مؤسف؛ إذ إن الخطورة الكبرى هي أنه أدرك إمكان تقديم عرض عام للمنطق الصوري.
وربما كان من المفيد أن نؤكد من البدء أنه لا يوجد شيء اسمه المنطق غير الصوري؛ فالمقصود هنا هو الصورة العامة للبراهين، وهي دراسة تنتمي إلى ميدان المنطق.
ويرتكز المنطق الأرسطي على عدد من المسلمات المرتبطة بمذهبه الميتافيزيقي؛ أولاها أنه يسلم بلا مناقشة بأن جميع القضايا تتخذ شكل الموضوع والمحمول. والواقع أن كثيرا من قضايا الحديث المعتاد تتخذ هذا الشكل، كما أن هذا كان مصدرا من مصادر ميتافيزيقا الجوهر والعرض. وبالطبع فإن صورة الموضوع والمحمول قد أشير إليها في محاورة «تيتاتوس» لأفلاطون، والأرجح أن أرسطو قد استمدها منها أولا. وفي هذا السياق تنشأ مشكلة الكليات؛ إذ تقسم القضايا تبعا لكونها تتحدث عن كليات أو عن أفراد، ففي الحالة الأولى يمكن أن تشتمل على مجال الكلي كله، كما في قولنا: «كل الناس فانون»، التي تسمى قضية كلية، أو قد تغطي القضية جزءا من الكلي فقط، كقولنا: «بعض الناس حكماء»، وتسمى هذه قضية جزئية. أما حالة القضية الشخصية فتمثلها قضية مثل «سقراط إنسان»، وعندما نصل إلى الجمع بين القضايا في برهان ينبغي أن تعامل القضية الشخصية معاملة القضية الكلية. وتكون القضايا موجبة أو سالبة إذا كان شيء ما يثبت أو ينفني عن الموضوع.
وعلى أساس هذا التصنيف يمكننا الآن أن نبحث ما يحدث في حالة البرهان، فنحن في البرهان نبدأ من قضية واحدة أو أكثر، نسميها بالمقدمات، ونستنبط قضايا أخرى تلزم عن هذه المقدمات أو تكون نتائج لها. والنموذج الأساسي لكل برهان، في رأي أرسطو، هو ما نسميه بالقياس، فالقياس برهان يشتمل على مقدمتين لكل منهما موضوع ومحمول، وبينهما حد واحد مشترك. هذا الحد الأوسط يختفي في النتيجة، ونستطيع أن نضرب للقياس المثل الآتي: كل البشر عقلاء، والأطفال الرضع بشر، إذن فالأطفال الرضع عقلاء. في هذه الحالة تلزم النتيجة من المقدمات، فيكون البرهان صحيحا. أما صحة المقدمات أو بطلانها، فتلك بالطبع مسألة أخرى. بل إن من الممكن استخلاص نتائج صحيحة من مقدمات باطلة، ولكن المهم في الأمر أنه إذا كانت المقدمات صادقة، فإن أية نتيجة تستخلص منها بطريقة صحيحة تكون صادقة؛ لذلك فإن من المهم أن نكتشف أي البراهين القياسية صحيح وأيها فاسد. وقد قدم أرسطو عرضا منهجيا للأقيسة الصحيحة، فقسم البراهين أولا حسب شكلها، الذي يتوقف على ترتيب الحدود. وقد اعترف أرسطو بأشكال ثلاثة مختلفة، وتوصل جالينوس الطبيب (حوالي 120-250 ميلادية) إلى شكل رابع. وفي كل شكل توجد براهين صحيحة وأخرى فاسدة. وقد اخترع الرياضي السويسري أويلر
Euler
الذي عاش في القرن الثامن عشر، طريقة بارعة لاختيار البراهين القياسية، فقد مثل النطاق الذي يمتد إليه الحد في القياس بدائرة، فأصبح من السهل إدراك ما إذا كان البرهان صحيحا أم لا.
فمن الواضح مثلا أن المثال الذي ضربناه من قبل صحيح؛ فهو قياس من الشكل الأول أطلق عليه مدرسو العصور الوسطى اسما فنيا هو «باربارا
Barbara ». وبالمثل فإن المثل الآتي قياس صحيح من الشكل الأول؛ لا حيوان ثدييا يستطيع الطيران، وكل الخنازير حيوانات ثديية، إذن لا خنزير يستطيع الطيران، وهذا الضرب يسمى «كيلارنت
Celarent »، ولنلاحظ في هذا المثل الخاص أن النتيجة صحيحة برغم أن إحدى المقدمات باطلة؛ لأن الخفافيش ثديية ومع ذلك تستطيع الطيران.
وقد ترتب على سلطة أرسطو التي سيطرت على العصور اللاحقة أن ظل القياس يعد النوع الوحيد من البرهان الذي يعترف به المناطقة قرابة ألفي عام. غير أن أرسطو ذاته كان قد تنبه إلى بعض الانتقادات التي وجهت إليه في النهاية. ففي حالة برهان مثل: كل الناس فانون، وسقراط إنسان، إذن سقراط فان، قيل إن معرفة المقدمة الأولى تعني ضمنا معرفة النتيجة، بحيث ينطوي البرهان على مصادرة على المطلوب. غير أن هذا الاعتراض مبني على سوء فهم للطريقة التي نتوصل بها إلى قضية مثل: كل أ هي ب، فليس من الضروري بل ليس من المألوف أن ننظر إلى كل أ على حدة، ونرى إن كانت ب. بل إننا على العكس نكتفي في كثير من الأحيان بتأمل مثل واحد لكي ندرك الارتباط المطلوب. ويظهر ذلك بوضوح في حالة الهندسة؛ فمجموع زوايا كل مثلث يساوي قائمتين، ولكن لا يوجد عالم هندسة جدير بهذا الاسم على استعداد لتفحص كل المثلثات حتى يرضي ضميره قبل أن يغامر بإطلاق حكم عام كهذا.
هذا باختصار، هو لب نظرية القياس، وقد عالج أرسطو أيضا أنواعا من القياس تتألف من قضايا الجهة، أي القضايا التي تشتمل على ألفاظ مثل «ربما» و«يجب» بدلا من «يكون» وسوف تبرز أهمية منطق الجهة هذا مرة أخرى في ميدان المنطق الرمزي المعاصر.
وعلى أية حال فإن نظرية القياس تبدو الآن في ضوء التطورات الأقرب عهدا أقل أهمية إلى حد ما مما كان يعتقد. وفيما يتعلق بالعلم، فإن عملية القياس تترك المقدمات دون إثبات، مما يؤدي إلى إثارة مشكلة نقطة البداية، ويرى أرسطو أن العلم ينبغي أن يبدأ بقضايا لا تحتاج إلى إثبات، يسميها «بديهيات
axioms »، وهذه القضايا لا يتعين أن تكون شائعة في التجربة، بشرط أن تكون مفهومة بوضوح بمجرد أن تفسر. وربما كان من المفيد أن نشير إلى أن هذا يتعلق بعرض هيكل للوقائع العلمية، ولا يتعلق بعملية البحث والإثبات العلمي ذاتها؛ ذلك لأن ترتيب العرض يخفي دائما ترتيب الاكتشاف؛ ففي السعي الفعلي وراء الكشف يوجد قدر كبير من الاضطراب وعدم الدقة، يتم التخلص منه بمجرد أن تحل المشكلة.
والأمر الذي يبدو أنه كان في ذهن أرسطو حين تحدث عن البديهيات، هو الهندسة التي كانت في عصره قد بدأت تتخذ شكلا منهجيا؛ فأرسطو لا تفصله إلا عقود قليلة عن إقليدس، على أنه لم يظهر في ذلك الحين أي علم آخر كان قد بلغ المرحلة التي تتيح عرضه بالطريقة التي عرضت بها الهندسة. ويلزم عن ذلك أن العلوم يمكن أن ترتب تصاعديا على نحو ما. وهنا تأتي الرياضيات أولا، ويليها الفلك؛ لأنه يحتاج إلى الاستعانة بالرياضيات من أجل تقديم أسباب للحركات التي يرصدها. وفي هذا الصدد يستبق أرسطو أعمالا لاحقة، ولا سيما تصنيف العلوم عند الفيلسوف الوضعي الفرنسي أوجست كونت
Auguste Conte .
لقد كانت دراسة اللغة عند أرسطو مبحثا فلسفيا هاما. وكان أفلاطون قد بدأ البحث في هذا الميدان في محاورتي «تيتاتوس» و«السفسطائي»، بل إن من المفاهيم الرئيسية في الفلسفة اليونانية مفهوم «اللوجوس
Logos »، وهو لفظ نصادفه لأول مرة في هذا السياق عند فيثاغورس وهرقليطس، ولهذا اللفظ معان متعددة، منها:
الكلمة، المقدار، الصيغة، البرهان، التحليل. ولا بد لنا من أن نتذكر هذه المعاني المتعددة إذا ما أردنا أن نستوعب روح الفلسفة اليونانية. وواضح أن لفظ «المنطق
Logos » مشتق من هذا الأصل؛ لأن المنطق هو علم «اللوجوس».
غير أن للمنطق مركزا فريدا على نحو ما؛ فهو لا يماثل بالضبط ما نطلق عليه عادة اسم العلوم، ولقد ميز أرسطو بين ثلاثة أنواع من العلوم تبعا للهدف الرئيسي الذي يحققه كل نوع منها؛ فالعلوم النظرية تزودنا بالمعرفة بالمعنى الذي تكون فيه المعرفة مضادة للظن، وأوضح مثال لها هو الرياضة، وإن كان أرسطو يدرج ضمنها الفيزياء والميتافيزيقا. وهو يفهم الفيزياء بمعنى لا يعادل بالضبط المعنى الذي نفهمه اليوم؛ فهي أقرب إلى أن تكون دراسة عامة للمكان والزمان والسببية، وهي دراسة يندرج جزء منها تحت باب الميتافيزيقا، أو حتى المنطق ذاته مفهوما بمعنى أوسع.
وتلى ذلك العلوم العملية كالأخلاق التي تستهدف تنظيم سلوك الإنسان في المجتمع، وأخيرا العلوم الإنتاجية، التي تهدف إلى توجيهنا نحو إنتاج موضوعات مفيدة أو ممارسة الفنون، على أن المنطق لا يدخل على ما يبدو ضمن إطار أي من هذه العلوم؛ لذلك لم يكن علما بالمعنى المعتاد، وإنما هو طريقة عامة للتعامل مع الأشياء تعد أمرا لا غناء عنه للعلم؛ فهو يزودنا بمعايير للتمييز والبرهان، ويمكن أن يعد أداة نستعين بها في البحث العلمي. وهذا هو معنى الكلمة اليونانية «أورجانون»، التي استخدمها أرسطو حين كان يتحدث عن المنطق، أما لفظ المنطق ذاته فقد وضعه الرواقيون فيما بعد. وأما عن دراسة صورة البرهان، فقد أطلق عليها أرسطو اسم التحليلات
analyties
التي تعني حرفيا «تحرير»، أما الشيء الذي نحرره لكي نفحصه فهو تركيب البرهان.
وعلى الرغم من أن المنطق له علاقة بالألفاظ، فإنه عند أرسطو لا يختص بالألفاظ وحدها؛ ذلك لأن معظم الألفاظ علامات اعتباطية تدل على أشياء غير لفظية. فالمنطق إذن مختلف عن النحو، وإن كان من الممكن أن يؤثر المنطق في علم النحو كذلك فإن المنطق مختلف عن الميتافيزيقا؛ لأنه لا يتعلق بالوجود بقدر ما يتعلق بطريقة معرفتنا له، وهنا يكون لرفض أرسطو لنظرية المثل أهمية خاصة؛ إذ إن من يعتنق هذه النظرية قد ينظر إلى المنطق بالمعنى الضيق الذي نبحثه على أنه هو ذاته الميتافيزيقا، أما أرسطو فيراهما متميزين. وقد استعان في محاولته حل مشكلة الكليات بما يمكننا أن نسميه بالتصورات، التي تتميز عن المثل بأنها لا توجد في عالم خاص بها.
وأخيرا، فإن المنطق مختلف عن علم النفس. وتكشف لنا الرياضيات عن هذا الفارق بوضوح؛ فالترتيب الاستنباطي لكتاب إقليدس في الهندسة شيء، والمسارات الذهنية المتعرجة التي ينطوي عليها التفكير الرياضي المؤدي إلى كشف هذه المعرفة شيء آخر مختلف كل الاختلاف. أي إن البناء المنطقي للعلم وسيكولوجية البحث العلمي شيئان متميزان ومنفصلان وكذلك الحال في علم الجمال؛ حيث لا تكون لمزايا أي عمل فني علاقة بالأحوال النفسية التي تحكمت في إنتاجه.
ولا بد لأي بحث في المنطق أن يقوم، على سبيل التقديم، بدراسة بناء اللغة وما يمكن أن يقال فيها. وفي مؤلفات أرسطو المنطقية (الأورجانون) تتم هذه الدراسة في كتاب بعنوان «المقولات»، وهنا أيضا نجد البداية عند أفلاطون، كما رأينا عند مناقشة محاورة «السفسطائي»، غير أن مناقشة أرسطو للموضوع أقرب كثيرا إلى الواقع، وأكثر اهتماما بحقائق اللغة، فهو يميز بين عشرة أصناف مختلفة يمكن الاهتداء إليها في الحديث؛ هذه الأصناف هي: الجوهر، والكيف، والكم، والإضافة (العلاقة)، والمكان، والزمان، والوضع، والملك، والفعل، والانفعال.
الأول هو الجوهر، أي ما تتحدث عنه أية عبارة. أما المقولات الأخرى فتشمل مختلف أنواع العبارات التي يمكن أن تقال عن الجوهر، وهكذا فإننا إذا تحدثنا عن سقراط فقد نقول إن لديه صفة (أو كيفية) معينة، مثل كونه فيلسوفا. كما أن له حجما معينا، وهذا يعني تطبيق مقولة الكم، وله علاقات معينة بالأشياء الأخرى، كما أنه يحل في مكان وله موقع في الزمان، ويتفاعل مع ما يحيط به بأن يقوم بأفعال وتحل عليه أفعال أخرى، وسوف نرى فيما بعد أن هناك صيغا أخرى أحدث عهدا لنظرية المقولات، وإن كانت هذه في معظم الحالات قد اصطبغت بصبغة ميتافيزيقية تختلف عن الدراسة اللغوية التي قام بها أرسطو، ويصدق هذا بوجه خاص على كانت وهيجل.
وبطبيعة الحال فإن المقولات تجريدات، وهي تجيب عن أهم الأسئلة التي يمكن أن تطرح عن أي شيء. وقد نظر أرسطو إلى المقولات على أنها ما تعنيه الألفاظ بذاتها، ومعاني الألفاظ موضوعات للمعرفة بمعنى يختلف عن دلالة الأحكام، ففي الحالة الأولى يكون لدينا إدراك مباشر، كما يقول أرسطو وعلم اللغويات الحديث يعبر عن ذلك أحيانا بقوله إن «لدينا تصورا» لشيء ما، أما نوع المعرفة التي نكتسبها في حالة الحكم الصائب فأمرها يختلف كل الاختلاف.
فهنا تتجمع التصورات لكي تدل على حالة معينة.
إن منطق أرسطو هو أول محاولة لعرض الصورة العامة للغة والبرهان بطريقة منهجية. وقد كان أفلاطون هو المصدر الذي استوحى منه جانبا كبيرا من هذا المنطق، غير أن هذا لا ينقص من قدره في شيء؛ فعند أفلاطون تثار المسائل المنطقية هنا وهناك في مختلف أجزاء المحاورات، وقد تطرح مسألة معينة، ثم يصرف النظر عنها حسبما تمليه الظروف في اللحظة نفسها. أما أرسطو فقد أنجز بالنسبة إلى المنطق ما سينجزه إقليدس بالنسبة إلى الهندسة بعده بوقت قصير. وقد ظل لواء السيادة منعقدا لمنطق أرسطو حتى القرن التاسع عشر. وأصبح المنطق، شأنه شأن الكثير مما أنتجه أرسطو، يعلم بطريقة متحجرة على أيدي أناس انبهروا بسلطة أرسطو إلى حد لم يعودوا معه يجرءون على مناقشة أية فكرة من أفكاره. غير أن من السمات المميزة لمعظم فلاسفة العصر الحديث في فترة إحياء العلوم أنهم كانوا ساخطين أشد السخط على أتباع أرسطو من المدرسيين، فأدى ذلك إلى رد فعل ضد أي شيء يرتبط باسم أرسطو، وهو أمر يؤسف له؛ إذ إننا نستطيع أن نتعلم من أرسطو أشياء كثيرة قيمة.
غير أن منطق أرسطو كان مشوبا بنقص خطير في ناحية هامة؛ هي أنه لم يهتم بالبراهين التي تنطوي على علاقة، والتي لها أهمية خاصة في الرياضيات. فلنتأمل مثلا بسيطا كقولنا: «أ» أكبر من «ب»، و«ب» أكبر من «ج»، إذن «أ» أكبر من «ج». هنا يكون الشيء الأساسي هو الطابع المتعدي (القابل للانتقال) للعلامة «أكبر من» ولا شك أن المرء يستطيع أن يحشر هذا البرهان، بشيء من البراعة، في قالب القياس، ولكن هذا يبدو مستحيلا في الحالات الأكثير تعقيدا، وحتى في هذه الحالة يختفي الطابع العلائقي للبرهان.
ولننتقل الآن إلى بعض المشكلات العامة التي تندرج تحت باب الفلسفة الطبيعية، وهو الموضوع الذي يناقش أساسا في كتاب يحمل هذا الاسم، ولنذكر أن الكلمة اليونانية «الفيزياء» تعني الطبيعة.
وحين ألف أرسطو كتابه هذا كان هناك من قبله عدد كبير من الفلاسفة السابقين الذين كتبوا مؤلفات بعنوان: «في الطبيعة»، وعلى هذا النحو كتب كل فيلسوف، منذ أيام طاليس، كان يعتقد أنه قد اكتشف أخيرا الأسرار الحقيقية لعمل الطبيعة. أما المعنى الحالي لكلمة الفيزياء فيدل على شيء أكثر تحديدا، وإن كانت هذه المسائل العامة تظل تتدخل فيها. وقد ظلت الفيزياء حتى عهد ليس بالبعيد تسمى بالفلسفة الطبيعية، وهو تعبير ما زال يستخدم في جامعات اسكتلندة، ولكن من الواجب ألا نخلط بين هذا التعبير وبين فلسفة الطبيعة عند المثاليين الألمان، التي هي نوع من الانحراف الميتافيزيقي في الفيزياء، ولكن هذه على أية حال مسألة سنعرض تفاصيلها فيما بعد.
ومن أهم الموضوعات في هذا الصدد نظرية أرسطو في السببية، التي ترتبط بنظريته في المادة والصورة؛ فالسببية لها جانب مادي وجانب صوري، والجانب الثاني ينقسم ثلاثة أقسام؛ أولها: هو الجانب الصوري بالمعنى الدقيق، الذي يمكن أن نسميه بالتشكيل أو التصميم. والثاني هو الفاعل الذي يحدث التغيير بالفعل، مثلما يؤدي الضغط على الزناد إلى إطلاق البندقية. أما الثالث: فهو الهدف أو الغاية التي يسعى التغيير إلى تحقيقها. هذه الجوانب الثلاثة تسمى بالأسباب، أو العلل الصورية والفاعلة، والغائية، على التوالي.
ولنضرب لذلك مثلا يوضح المعنى المقصود؛ فلنتصور حجرا معلقا على حافة درجة من درجات سلم، يدفع به فوق الحافة، ويوشك على السقوط، في هذه الحالة يكون السبب المادي هو مادة الحجر ذاته، ويكون السبب الصوري هو الشكل العام للسلم وموقع الحجر فيه، أما السبب الفاعل فهو ما يقوم بدفع الحجر. وأخيرا فإن السبب الغائي هو رغبة الحجر في البحث عن أدنى مستوى ممكن، أي قوة الجاذبية.
ولسنا في حاجة إلى أن نقول الكثير عن السببين المادي والصوري. فنحن لم نعد نتحدث عنهما بوصفهما أسبابا أو عللا، وإنما هما شرطان ضروريان في موقف سببي، بمعنى أنه لا بد من وجودهما لكي يحدث أي شيء على الإطلاق. أما العلة الفاعلة والعلة الغائية فهما تستحقان شيئا من التعليق؛ فالعلة الفاعلة هي ما يطلق عليه في المصطلح الحديث اسم العلة أو السبب فحسب، فالحجر يسقط من سلم؛ لأن شيئا ما أو شخصا ما قد دفعه، وهذا هو النوع الوحيد من السببية المعترف به في العلم الفيزيائي؛ فالاتجاه العام في العلم يحاول إيجاد تفسيرات على أساس العلل الفاعلة . أما فكرة العلة الغائية فلا يعترف بها اليوم في الفيزياء، وإن كان المصطلح الفيزيائي يحوي آثارا من فكرة الغائية، فهناك تعبيرات مثل الجذب والتنافر، والبحث عن المركز، وما شابهها، هي بقايا للمفاهيم الغائية، وهي تذكرنا بأن نظرية أرسطو في السببية ظلت لا تناقش حتى ما يقرب من ثلاثمائة وخمسين عاما من عصرنا الحالي. والمشكلة التي تنطوي عليها العلة الغائية تشبه إلى حد بعيد ذلك الخطر الذي نتعرض له حين نستخدم فكرة الإمكان أو الوجود بالقوة، كما أوضحنا من قبل. فأقول إن الحجر قد سقط؛ لأن لديه ميلا إلى السقوط يعني في الواقع عدم تقديم أي تفسير على الإطلاق، ولكننا نلاحظ في هذه الحالة أيضا أن هناك مناسبات معينة يحقق فيها استخدام المصطلح الغائي أهدافا معقولة؛ ففي ميدان الأخلاق مثلا لن يكون من الخطأ أن نشير إلى هدف ما على أنه سبب لسلوك أو فعل من نوع معين. وهذا يصدق على ميدان الفاعلية الإنسانية بوجه عام. فتوقع أحداث مستقبلية في الوقت الحاضر يمكن أن يكون دافعا لأفعالنا، كما يصدق هذا على الحيوانات أيضا، بل إن هناك حالات قد يشعر المرء فيها بالميل إلى استخدام هذه الطريقة في الكلام في حالة النباتات بدورها. فمن الواضح إذن أن الغائية ليست تعبيرا باطلا حين يكون موضوعنا متعلقا بمشكلات بيولوجية أو اجتماعية.
ولقد كانت اهتمامات أرسطو بالبيولوجيا هي التي أوحت إليه بفكرة العلل الغائية. وفي هذا الصدد يتضح أن الغائية والإمكان أو الوجود بالقوة يسيران جنبا إلى جنب. فعالم البيولوجيا يتساءل كيف تؤدي البذرة إلى ظهور نبات أو حيوان مكتمل النمو. ولو استخدم لغة أرسطو لقال إن البذرة تحتوي بالقوة على الشجرة، وإن ما يجعلها شجرة هو ميل لديها إلى أن تحقق ذاتها، هذه الطريقة في الكلام هي بالطبع نموذج للاستخدام السيئ لهاتين الفكرتين، ويمكن القول بوجه عام إنه كلما تطور العلم، حلت محل التفسيرات الغائية تعليلات تستخدم الأسباب الفاعلة. وحتى علم النفس ذاته يسير في هذا الاتجاه، فالتحليل النفسي أيا كانت مزاياه أو عيوبه ، يحاول تفسير السلوك عن طريق ما حدث من قبل، بدلا من تفسيره عن طريق ما يمكن أن يحدث فيما بعد.
إن المصدر النهائي الذي تستمد منه النظرة الغائية قوتها هو ذلك النظام الذي تكشف عنه مظاهر البيئة الطبيعية المحيطة بنا؛ ذلك لأن الضرورة السببية التي ترتبط بالسببية الفاعلة، تبدو قوة عمياء لا يقدم إلينا مسارها تفسيرا لهذا النظام. أما الغائية فتبدو وكأنها قد اكتسبت قدرة على التنبؤ، وهنا أيضا قد يؤدي الإلهام بالمجال البيولوجي إلى تفضيل وجهة النظر الغائية، ولكن أرسطو على أية حال يعترف بتأثير الضرورة والغائية معا. ومن الواضح أن معرفة الطبيعة لا يمكن أن تزدهر لو سارت في هذا الطريق. غير أن علم الفيزياء بوجه خاص قد عانى من نكسة خطيرة لم تتم إزالة آثارها إلا حين حدثت على يد جاليليو عودة، في ميدان المنهج، إلى أفلاطون؛ ذلك لأن فكرة الغائية لا تجد لها عند الرياضي مكانا كذلك الذي تجده عند عالم البيولوجيا، وليس لنا أن ندهش حين نجد أفلاطون متحررا منها،
13
والخطأ الأساسي في الغائية هو أنها لاهوتية أو تشبيهية بالإنسان. فالبشر هم الذين توجد لديهم أهداف، ويسعون إلى تحقيق غايات، وعلى ذلك ففي الميدان البشري يكون للغائية معنى بالفعل، ولكن العصي والأحجار لا تستهدف غايات، ولا جدوى من محاولة الحديث عنها كما لو كانت لها غايات كهذه.
وبطبيعة الحال، فإننا نستطيع أن نستخدم مفهوم الميل أو الاتجاه
tendency
بعد اتخاذ الاحتياطات اللازمة، كما حدث في حالة مفهوم الإمكان أو الوجود بالقوة.
إن القول بأن لدى الحجر ميلا إلى السقوط يعني أنه سيسقط إذا توافرت شروط معينة، ولكن هذا لم يكن ما تصوره أرسطو.
فالغائية عنده ترتبط بالهدف، وهو يستدل على ذلك من وجود النظام الذي يدل في رأيه على وجود تدبير مقصود، ومن الواضح أن دراسة العلم الفيزيائي لا يمكن أن تزدهر في ظل مثل هذه المبادئ؛ ذلك لأننا إذا أشبعنا حب الاستطلاع لدى الباحث بتفسيرات وهمية، فعندئذ لن تظهر التفسيرات الحقيقية للظواهر الطبيعية. ولقد أساء أرسطو للعلم إساءة بالغة في ميدان الفلك بالذات؛ فقد أدت به نظرية الغائية التي كانت تنسب لكل شيء مكانه الخاص إلى التمييز بين عالم ما تحت القمر وعالم ما فوق القمر، بحيث كان يرى أن العالمين تحكمهما مبادئ مختلفة. مثل هذا التأمل المسرف في الخيال يبدو لنا جنونا محضا إذا ما قارناه بعلم الفلك المتقدم في الأكاديمية. غير أن الضرر الحقيقي قد أتى من جانب أولئك الذين لم يرضوا أن يتعاملوا مع أرسطو بطريقة نقدية، وقبلوا كل ما قال به بدلا من أن يرفضوا ما كان غير مقبول لديه، مما أدى إلى النيل من سمعته بوجه عام.
وهناك موضوع عام آخر تناقشه الفلسفة الطبيعية، هو المكان والزمان والحركة. وقد تحدثنا عن المفهوم الأخير في صدد الكلام عن التغير، ولكن يجدر بنا أن نلاحظ طريقة أرسطو في معالجة الموضوع؛ فعلى حين أن الإيليين قد وجدوا صعوبات يستحيل التغلب عليها عندما حاولوا إيجاد تفسير للحركة، نرى أرسطو يعالج المسألة من طرفها الآخر؛ فالحركة تحدث بالفعل، ولا بد أن تكون هذه هي نقطة بدايتنا. وبناء على تسليمنا بذلك تصبح المشكلة هي كيفية تعليلها. ونستطيع أن نقول في هذا الصدد مستخدمين تعبيرا حديثا إن أرسطو اتخذ الموقف التجريبي في مقابل الموقف العقلي عند الإيليين. ولهذه النقطة أهميتها، وخاصة لأن هناك اعتقادا خاطئا يشيع القول به، وهو أن ثمة شيئا غير سليم، ولا يمكن الاعتماد عليه في الموقف التجريبي. ففي حالة الحركة مثلا يدافع أرسطو عن الرأي القائل بأن هناك اتصالا، وهذا موقف معقول إلى أبعد حد يتيح له أن يمضي بعد ذلك إلى التساؤل عما ينطوي عليه هذا الاتصال، مع الاعتراف باستحالة التوصل إلى المتصل عن طريق المنفصل. وهذه النقطة الأخيرة كثيرا ما يغفلها الرياضيون الذين كانوا يأملون منه أيام فيثاغورس في تشييد عالم رياضي من لا شيء. فعلى حين أن من الممكن بناء نظرية تحليلية في الاتصال على أساس منطقي بحت، فإن تطبيقها على الهندسة يتوقف على التسليم مقدما بالاتصال.
لقد كان نوع الحركة الذي بحثناه من قبل هو التغير الكيفي، ولكن هناك نوعين آخرين للحركة، هما التغيير الكمي والتغير في المكان. وهذه هي الفئات الثلاثة الوحيدة التي يمكن أن تندرج تحتها الحركة، فليس من الممكن وفقا لنظرية أرسطو إرجاع كل تغير إلى حركة الجزئيات، كما فعل الذريون؛ إذ إن من المستحيل إرجاع مقولة أو فئة إلى الأخرى، وهنا أيضا نجد رأي أرسطو يميل إلى ناحية المذهب التجريبي، أما الذريون الذين كانوا - كما رأينا - ورثة التراث الإيلي، فكانوا يفكرون على أساس مبدأ الرد، الذي يتميز به الفلاسفة العقليون.
أما نظرية أرسطو في الزمان والمكان فتشترك مع الآراء الحديثة في جوانب كثيرة؛ فأرسطو يستدل على وجود المحل أو الموقع من حقيقة أن الموضوعات المختلفة يمكنها أن تشغل نفس المكان في أزمنة مختلفة. وعلى ذلك فمن الواجب التمييز بين المكان وبين ما يوجد في المكان، ولكي نحدد موقع شيء ما يمكننا أن نبدأ بتحديد منطقة يكون فيها، ثم نزيد هذه المنطقة تحديدا بالتدريج، حتى نصل إلى محله الخاص. وهذه الطريقة في التفكير هي التي أدت بأرسطو إلى تعريف محل جسم ما بأنه حدوده، ولكن هذا يبدو ظاهريا كما لو كان نتيجة هزيلة يتم الوصول إليها بعد مناقشة مشكلة تبدو عويصة حقا. غير أن تحليل هذا النوع من المشكلات يؤدي في كثير من الأحيان إلى بلوغ نتيجة تدهشنا بساطتها وواقعيتها، وفضلا عن ذلك فإن هذه الحلول مهما بدت مائعة، تنطوي دائما على نتائج هامة؛ ففي الحالة الراهنة نستنتج أن من المعقول بالنسبة إلى أي موضوع أن نسأل: أين هو، ولكن لا معنى للسؤال: أين العالم؟ ذلك لأن الأشياء كلها موجودة في المكان، أما الكون فلا، فالكون ليس متضمنا في أي شيء، وهو في الواقع ليس شيئا بالمعنى الذي تكون به الكراسي والطاولات أشياء. وهكذا نستطيع بكل ثقة أن نقول لأي شخص يود السفر إلى الأطراف النهائية للعالم إنه يبحث عن شيء يستحيل الاهتداء إليه.
ولكن ينبغي القول إن أرسطو في تحليله للمحل أو الموضع لا يقدم نظرية في المكان بالمعنى الذي يقصده الرياضيون أو الفيزيائيون، بل إن ما يقوم به أقرب إلى التحليل اللغوي، ومع ذلك فإن هناك صلة بين الأمرين، فإذا استطعنا تحليل معنى المواضع أو المحلات، فإن هذا سيساعدنا بغير شك على تحسين فهمنا للقضايا المتعلقة بالمكان.
وقد ذهب أرسطو على عكس الذريين، إلى أنه لا وجود للفراغ، وهو يقدم عددا من الحجج لإثبات هذا الرأي، وكلها حجج باطلة. وأطرف هذه الحجج هو «برهان الخلف
reduction ad absurdum »، الذي يبدأ من أن سرعة الأجسام في وسط ما تتفاوت حسب كثافة الوسط ووزن الجسم، ومن هذا يستنتج أولا أن الأجسام لا بد أن تتحرك في الفراغ بسرعة لا نهائية، وهو أمر ممتنع؛ لأن كل حركة تحتاج إلى وقت ما. وفضلا عن ذلك فإن الجسم الأثقل لا بد أن يتحرك أسرع من الجسم الأخف، ولكن هذا لا يتعين أن يحدث في الفراغ، وعلى أساس هاتين الحجتين يعلن أن الفراغ مستحيل، ولكن النتائج لا تلزم في الواقع عن المقدمات.
فقولنا إن الجسم يتحرك على نحو أسرع في الوسط الأقل كثافة لا يلزم عنه أن يتحرك الجسم بسرعة لا نهائية في الفراغ. أما عن النقطة الأخرى فإن الملاحظة تثبت أن الجسم الخفيف يسقط في المكان المفرغ بنفس السرعة التي يسقط بها الجسم الثقيل. على أن أخطاء أرسطو بشأن الفراغ لم تكتشف إلا بعد عصره بحوالي ألفي عام، ومع هذا كله فإن الإنصاف يقتضينا أن نقول إن العلماء لم يكونوا مرتاحين لفكرة الفراغ، حتى في العصر الحديث؛ ولذا ملئوه بمادة من نوع خاص كالكثير، أو في الفترة الأخيرة بتوزيعات للطاقة.
أما مناقشة أرسطو للزمان فتشبه تحليله للمكان إلى أبعد حد؛ فالأحداث تقع في تعاقبات زمنية مثلما توجد الأشياء في سلسلة من الأمكنة. وكما أن لكل شيء مكانه الخاص، فإن لكل حادث أيضا زمانه الخاص. وفيما يتعلق بالاتصال يميز أرسطو ثلاث طرق يمكن أن ترتب بها الأشياء؛ فهي إما أن تكون متعاقبة، بحيث يأتي أحدها بعد الآخر دون أي حد متوسط في السلسلة التي نبحثها، وإما أن تكون الأشياء متصلة، كما يحدث حين تتجاور الحدود المتعاقبة، وأخيرا يكون الترتيب متصلا إذا كانت الأطراف المتوالية تشترك في حدود واحدة، وإذا كان شيئان متصلين أحدهما بالآخر فإنهما يكونان متلاصقين، ولكن العكس ليس صحيحا، وبالمثل فإن الشيئين المتلاصقين متعاقبان أيضا، ولكن ليس العكس.
وبعد تأكيد هذه الأمور الأولية، نرى أن الكم المتصل لا يمكن أن يتألف من عناصر غير قابلة للقسمة، ومن الواضح أن غير القابل للقسمة لا يمكن أن تكون له حدود، وإلا لأمكن تقسيمه بعد ذلك.
أما إذا لم يكن للأشياء غير القابلة للقسم حجم، فلا معنى لوصفها بأنها متعاقبة أو متجاورة أو متصلة، فمثلا توجد بين أية نقطتين في مستقيم نقط أخرى، وبالمثل توجد بين أية لحظتين في امتداد زمني لحظات أخرى. وهكذا فإن المكان والزمان متصلان وقابلان للقسمة إلى ما لا نهاية، وفي هذا الصدد ينتقل أرسطو إلى تفسير مفارقات زينون. والحل الذي يقدمه صحيح بالفعل، ولكن تغيب عنه النقطة الرئيسية في حجج زينون. فكما رأينا من قبل لم يحاول زينون أن يقدم نظرية إيجابية خاصة به، وإنما أخذ على عاتقه أن يثبت وجود شوائب في نظرية الوحدات التي قال بها الفيثاغوريون. ولو تركنا جانبا تحريفاته الإيلية لكان من الممكن جدا أن يتفق مع أرسطو.
أما تفاصيل النظريات العلمية عند أرسطو، فلا ينبغي أن تشغلنا ها هنا؛ فعلى الرغم من أنه قام ببعض الأعمال الجيدة، ولا سيما في البيولوجيا، فإن سجله يتعرض للتشويه بفعل آراء مسرفة ما كان ليقبلها أي فيلسوف من السابقين لسقراط.
لقد رأينا من قبل أن من الممكن ومن المشروع البحث عن العلل الغائية في ميدان الأخلاق؛ لأن هذا هو الميدان الذي تستمد منه الغائية في المحل الأول؛ ذلك لأن الخير عند أرسطو هو ما تسعى إليه الأشياء جميعا، ولما كان يرفض نظرية المثل فلن نجده عنده بالطبع مثالا للخير. ويشير أرسطو إلى أن لكلمة «الخير» استخدامات عديدة متباينة لا يمكن الجمع بينها في فئة واحدة، ومع ذلك فإن الخير في كافة مظاهره مستمد آخر الأمر من خيرية الله. وعلى ذلك فإن اختلافه وبعده عن نظرية المثل ليس بالقدر الذي يبدو عليه للوهلة الأولى، والواقع أننا نصادف هذا النوع من التأرجح في كافة جوانب فلسفة أرسطو؛ فهو من جهة ينفصل عن الأكاديمية، ومن جهة أخرى يبدو راجعا إليها. وفي بعض الحالات التي نتحدث عنها الآن يكون من الممكن التمييز بين الجانبين وبحث الجانب الأول بحثا مستقلا. والواقع أن التحليل الذي يقدمه لاستخدامات لفظ «الخير» يزودنا ببعض التمييزات القيمة التي قد يغفلها المرء أحيانا، وهذه مسألة هامة، ولكنها لا توصلنا إلى الكثير، وإن كان بعض المحللين اللغويين المحدثين قد يقولون إنه لا يتبقى شيء ينبغي عمله بعد هذه النقطة، ولكنهم ربما كانوا في ذلك متعجلين، إذ إنهم لا يعملون حسابا لذلك الانتشار الشعبي الواسع الذي تحظى به بعض ضروب اللغو. وعلى أية حال فإن الحقيقة ليست مسألة قرار يؤخذ بالأغلبية.
أما عن الموقع الميتافيزيقي لفكرة الله، فإن هذه في نظر أرسطو مسألة لا شخصية تماما؛ فالله هو المحرك غير المتحرك الذي يعطي للعالم الدفعة المحركة الأولى. وبعد أن يقوم بهذا العمل، لا يعود لديه اهتمام إيجابي بالعالم، وهو قطعا لا يراقب انفعال البشر. إن إلهه إله فلسفي لا لون له، وما هو إلا ملحق من ملاحق نظريته في السببية.
ولكي نلم بجوهر النظرية الأخلاقية عند أرسطو ينبغي أن نقول شيئا عن نظرية النفس عنده؛ فهو يستعير من أفلاطون التقسيم الثلاثي للنفس، فيتحدث عن النفس العادية أو النامية، وعن النفس الحاسة، والنفس العاقلة، وأولى هذه النفوس تنتمي إلى جميع الكائنات الحية؛ لأن لديها كلها تمثيلا غذائيا. أما الحساسية فتنتمي إلى الحيوانات والبشر، لا إلى النبات، على حين أن العقل وقف على الجنس البشري. ولا تظهر الأخلاق إلا على المستوى العاقل؛ فالنباتات تتغذى وتنمو فحسب، والحيوانات تكتفي بأن تعيش كالحيوانات، والنفس التي تضفي على الجسم وحدة هي صورة لمادتها، وهي لا تظل باقية بعد الموت بمعنى شخصي، وإن كان العقل بما هو كذلك خالد.
وتنشأ المشكلة الأخلاقية عندما نسأل عن غاية الحياة البشرية، وهنا يرى أرسطو أن الغاية هي سعادة النفس العاقلة، وهذه بدورها تعني عنده حياة عقلية نشطة تزينها الفضيلة، ويمارسها المرء بلا انقطاع، وهكذا فإن الفضيلة تبعا لنظرية أرسطو هي وسيلة لغاية. أما هذه الغاية فإنها بالطبع لا تتحقق بنفس المقدار لكل شخص، غير أنها مع ذلك هي أسمى هدف يمكن أن يبلغه الإنسان؛ فحياة التأمل النظري هي الأفضل تماما كما كانت عند سقراط.
ومن المهم أن ندرك أن هذا لا يعني بالنسبة إلى اليوناني الذي كان يعيش في عمر أرسطو اعتزال الحياة والانصراف عن شئونها.
فالحياة الأخلاقية تتطلب أولا نشاطا وفاعلية، وإن كانت هذه ينبغي أن تكون نزيهة، وهكذا فإن حياة التأمل النظري ليست هي السبب الذي أدى إلى التخلي عن المنهج التجريبي، على الرغم من أن أرسطو يؤكد أهمية التأمل النظري لحقيقة أدركت من قبل، أكثر مما يؤكد أهمية الكشف الجديد. ويؤدي هذا إلى صعوبة لم ينتبه إليها أرسطو؛ إذ إن المرء لكي يكون لديه شيء يختبره أو يقدره، لا بد أن يقوم بجهد عقلي أولي؛ فمن الذي يحدد إن كان قد أنفق من هذا الجهد قدرا كافيا؟ الواقع أن البحث العلمي لا يمكن أن يحدد على هذا النحو، وثانيا فإن المواطن الصالح لا بد أن يؤدي واجباته الإجماعية، ويقوم بخدمات متعددة في السلم والحرب. أما تصور الفلسفة في برج عاجي، فيرجع إلى الرواقيين، الذين كان انصرافهم عن عالم الحس هو الذي أدى إلى ذبول الحركة العلمية.
وفيما يتعلق بالفضائل الأخلاقية، أو فضائل الشخصية، يقدم أرسطو نظرية الفضيلة بوصفها وسطا؛ ففي كل حالة يمكن أن يكون هناك إفراط أو تفريط، وكلاهما لا يشكل أساسا للسلوك القويم، وإنما تكمن الفضيلة في موقع ما بين هذين الطرفين. مثال ذلك أن الشجاعة الحقة ليست هي العدوانية المتهورة، ولا الانسحاب الهياب.
وقد كانت نظرية الوسط مستوحاة من نظرية التناغم التي ترجع إلى فيثاغورس وهرقليطس. وينتقل أرسطو إلى تقديم صورة للإنسان الذي يملك كل الفضائل، أي الإنسان ذي النفس الكبيرة. وهذه الصورة تعطينا فكرة معقولة عن الأشياء التي كان يشيع الإعجاب بها في سلوك المواطنين في ذلك العصر. ونتيجة هذه الصورة باختصار تفرض نفسها علينا فرضا، وإن كان غياب التواضع الكاذب منها أمرا يدعو إلى الارتياح؛ فعلى المرء ألا يبالغ في تقدير قيمته، ولكن عليه أيضا ألا يحط من قدر نفسه، ولكن الإنسان الكريم النفس لا بد أن يكون في النهاية نوعا نادرا بحق؛ لأن معظم الناس لا تتوافر لهم أبدا فرص ممارسة كل هذه الفضائل. ويركز أرسطو جهده كما فعل سقراط وأفلاطون على الصفوة الأخلاقية.
على أن نظرية الوسط لا تنجح كل النجاح، فكيف نعرف الصدق مثلا؟ إننا نعترف بأنه فضيلة، ولكنا لا نستطيع القول إنه يحتل موقعا وسطا بين الكذب السافر والكذب المحدود، وإن كان المرء قد يعتقد أن هذا الرأي ليس مكروها في بعض الأوساط. وعلى أية حال فإن مثل هذه التعريفات لا تنطبق على الفضائل العقلية.
أما عن الخير والشر الذي يمارسه البشر، فإن أرسطو يعتقد أن العقل البشري إرادي، إلا حيث يكون هناك قهر أو جهل، وعلى عكس ما كان يقول به سقراط، اعترف أرسطو بأن المرء قد يقترف الشر عامدا، وقد قام إلى جانب هذا بتحليل لمعنى الاختيار، وهي مشكلة لم يكن من الممكن بالطبع أن تنشأ في إطار النظرية القائلة إنه لا أحد يرتكب الخطأ مختارا.
وقد دافع أرسطو في نظريته عن العدالة، عن مبدأ العدالة التوزيعية الذي نراه ساريا في تعريف سقراط للعدالة في محاورة «الجمهورية». فالعدالة تتحقق عندما يتلقى كل فرد النصيب الذي يستحقه، ولكن الصعوبة الكامنة في هذا الرأي هي أنه لا يقدم أساسا لتحديد ما يستحقه كل شخص. فماذا ينبغي أن تكون المعايير في هذه الحالة؟ إن سقراط يؤكد معيارا واحدا على الأقل، وهو معيار يبدو موضوعيا بدرجة معقولة، وأعني به معيار التعليم. وهذا رأي واسع الانتشار بيننا اليوم، على أنه لم يكن كذلك في العصور الوسطى، على أن من الضروري كما هو واضح أن تحل مشكلة تحديد ما يستحقه المرء إذا ما شئنا تطبيق نظرية العدالة هذه. وأخيرا لا بد أن نقول كلمة عن آراء أرسطو في الصداقة.
فلكي يعيش المرء حياة خيرة ينبغي أن يكون له أصدقاء يشاورهم ويرتكن إليهم في وقت الشدة. وفي رأي أرسطو أن الصداقة امتداد لحرص المرء على ذاته، يسير في اتجاه الآخرين؛ فمن مصلحتك الخاصة أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك. وهنا أيضا نجد الأخلاق الأرسطية مشوبة بطابع التعالي والتركيز حول الذات.
وحين ننتقل إلى بحث النظرية السياسية عند أرسطو، نجد أمرين يستلفتان انتباهنا بقوة منذ البداية؛ أولهما: أن البرهان في مجال السياسية غائي بالضرورة، وقد كان أرسطو على وعي تام بذلك.
وثانيهما: أن هناك شبه تركيز كامل على دولة المدينة وحدها، ولنلاحظ بالنسبة إلى هذا الأمر الثاني أن أرسطو لم ينتبه إلى أن أيام دولة المدينة اليونانية كانت قد بدأت تزول حتى خلال حياته هو ذاته؛ إذ كانت مقدونيا قد امتلكت زمام القيادة في اليونان، وانتقلت تحت زعامة الإسكندر إلى تشييد إمبراطورية كبرى. ومع ذلك لم يبد أرسطو إلماما بالمشكلات السياسية لتنظيم كهذا. صحيح أن هناك بضع إشارات باهتة إلى الملك الأعظم (ملك الفرس)، وإلى مصر وبابل، غير أن هذه الاستطرادات الثانوية المتعلقة ببلاد خارجية لم يكن لها من وظيفة سوى زيادة إبراز التضاد بينها وبين اليونان.
وظلت دولة المدينة في نظر أرسطو هي التي تمثل الحياة السياسية في أعلى صورها، أما ما يحدث في الخارج فهو ضرب من البربرية مهما اختلفت أشكاله.
ومنذ البداية يستخدم أرسطو المنظور الغائي الذي تحدثنا عنه في موضع سابق ؛ فالتجمعات تتكون لكي تسعى نحو غاية معينة، ولما كانت الدولة هي أعظم هذه التجمعات وأشملها، فلا بد أن تكون الغاية التي تسعى إليها هي الأعظم. وهذه الغاية هي بالطبع الحياة الخيرة كما عرضها مذهبه في الأخلاق، وهي تتحقق من خلال مجتمع له حجم معين، وأعني به دولة المدينة، التي تتكون عن طريق ضم جماعات أصغر ترتكز بدورها على الجماعة المنزلية أو الأسرة. ومن طبيعة الإنسان أن يحيا بوصفه حيوانا سياسيا؛ لأنه يصبو إلى الحياة الخيرة. فلا يوجد إنسان من الفانين العاديين قادر على الاكتفاء بذاته إلى حد أن يعيش وحيدا.
وينتقل أرسطو إلى مناقشة مشكلة الرق، فيقول إننا نجد في كافة مظاهر الطبية ازدواجية بين الأعلى والأدنى، ويتمثل ذلك في النفس والجسم، والإنسان والحيوان. وفي مثل هذه الظروف يكون الأفضل للطرفين أن يكون هناك حاكم ومحكوم، فاليونانيون أعلى بطبيعتهم من البرابرة؛
14
ومن ثم فإن من الطبيعي أن يكون الأجانب عبيدا، ولكن هذا لا ينطبق على اليونانيين. ونستطيع أن نجد في ذلك اعترافا على نحو ما بأن الرق لا يمكن تبريره في نهاية الأمر؛ ذلك لأن كل قبيلة من البرابرة ستنظر إلى نفسها بغير شك على أنها أسمى، وتعالج المسألة من وجهة نظرها الخاصة. والواقع أن هذا هو ما كان يقوم به بالفعل أشباه البرابرة المقدونيون.
وعندما تحدث أرسطو عن مشكلة الثروة ووسائل اكتسابها، قام بتمييز أصبح له تأثير كبير خلال العصور الوسطى؛ فالشيء تكون له قيمتان؛ إحداهما: قيمته الخاصة، أو قيمته عند الاستعمال كما يحدث عندما يلبس المرء زوجا من الأحذية. أما الثانية: فهي قيمته في التبادل، وهي تؤدي إلى نوع من القيمة غير الطبيعية، كما يحدث عند مبادلة زوج الأحذية، لا بسلعة أخرى من أجل الاستعمال الخاص المباشر، بل بمبلغ من المال. وللمال مزايا معينة، من حيث إنه يمثل شكلا مركزا من أشكال القيمة يمكن حمله بطريقة أسهل، ولكن له عيوبه التي تتمثل في أنه يكتسب نوعا من القيمة المستقلة الخاصة به، وأسوأ مثل لذلك عندما يقرض المال بفائدة ، على أن قدرا كبيرا من اعتراضات أرسطو يرجع على الأرجح إلى التحامل الاقتصادي والإجماعي؛ إذ كان يرى أنه لا يليق بالسيد المهذب أن يعكف على جمع المال على حساب رعاية الحياة الفاضلة، ولكنه نسي أن السعي وراء هذه الأهداف مستحيل بغير بعض الموارد المالية. أما عن الإقراض فإن اعتراضه عليه مبني على نظرة ضيقة إلى وظيفة رأس المال. فلا جدال في أن الرجل الحر إذا أصابه الفقر فقد يصبح عبدا إذا ما استعان بأحد المرابين في وقت تكون فيه ثروته الخاصة سائرة نحو الهبوط، وهذا أمر يحق لنا أن نعترض عليه بقوة، غير أن هناك استخدامات أخرى بناءة لرأس المال من أجل تمويل المشروعات التجارية، ولكن من الجائز أن أرسطو لم يشعر بالرضا عن هذا النوع من الإقراض؛ لأن التجارة الواسعة النطاق، وخاصة مع الأجانب كانت تعد ضرورة مؤسفة.
فإذا انتقلنا الآن إلى مناقشة الدولة المثلى، وجدنا أن أوصافها عند أرسطو أكثر مرونة وأقل إحكاما من ذلك التخطيط الدقيق الذي نجده في «الجمهورية»، ويؤكد أرسطو بوجه خاص أهمية وحدة الأسرة، وهو يرى أن تكوين عاطفة حقيقة يحتم تضييق النطاق الذي تمارس عليه هذه العاطفة؛ ولذا فإن الطفل لا بد له لكي يتلقى العناية السليمة من أن يعيش في ظل رعاية والديه، أما المسئولية الجماعية الخالصة في هذا الميدان فتؤدي إلى الإهمال. ومن جهة أخرى فإن المدينة المثلى كما رسمتها «الجمهورية» موحدة الاتجاه أكثر مما ينبغي. وهي تغفل حقيقة هامة، هي أن الدولة تجمع - في حدود معينة - بين مصالح متباينة. ولنلاحظ في هذا الصدد أن المرء لو اعترف بتعدد المصالح لما وجد حاجة إلى «الأكاذيب الملكية»، وفيما يتعلق بملكية الأرض يوصي أرسطو بأن تكون ملكية خاصة، ولكن نواتج الأرض ينبغي أن تتمتع بها الجماعة كلها، ومعنى ذلك أنه يدعو إلى شكل مستنير من أشكال الملكية الخاصة، يستخدم فيها المالك ثروته من أجل صالح الجماعة، والشيء الذي يولد هذا الشعور بالمسئولية (اتجاه المجتمع) هو التعليم.
ولقد أخذ أرسطو بوجهة نظر ضيقة إلى حد ما في نظرته إلى المواطنة؛ فهو يريد أن يقصر لقب المواطن على أولئك الذين لهم حق الاقتراع، ويكون لهم في الوقت ذاته دور مباشر وفعال في عملية حكم الدولة. وهذا يؤدي إلى استبعاد جماهير الزراع والصناع الغفيرة، الذين يحكم عليهم بأنهم لا يصلحون لممارسة المهام السياسية. أما إمكان الاشتراك لا الحكم عن طريق التمثيل النيابي فلم يكن يخطر ببال أحد في ذلك الحين.
وقد اقتفى أرسطو إلى حد بعيد أثر التخطيط الذي وضعه أفلاطون في محاورة «السفسطائي» بالنسبة إلى مسألة أنواع الدساتير المختلفة.
غير أنه يبرز أهمية الثروة في مقابل العدد؛ فليس من المهم أن تحكم القلة أو الكثرة، وإنما المهم هو مدى السلطة الاقتصادية التي يملكها من يحكمون. أما عن عدالة حقوق المطالبين بالسلطة، فإن أرسطو يعترف بأن الجميع يطالبون بالسلطة لأنفسهم، مستندين إلى مبدأ واحد للعدالة في كل حالة؛ هو المبدأ القائل إن الناس المتساوين ينبغي أن يكون لهم نصيب متساو، أما غير المتساوين فلا، ولكن الصعوبة تكمن في تقدير معنى المساواة واللامساواة؛ ذلك لأن من يتفوقون في ميدان معين كثيرا ما يتصورون أنفسهم متفوقين في كل شيء. والوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هي في النهاية الاعتراف بالمبدأ الأخلاقي، فالمساواة ينبغي أن يحكم عليها على أساس معيار الخير، والخير هو الذي ينبغي أن تكون له السلطة.
وبعد عرض طويل لأنواع الدساتير المختلفة، يصل أرسطو إلى نتيجة هي أن أفضل دستور على وجه العموم هو ذلك الذي لا تكون فيه الثروة مفرطة، ولا تكون شحيحة؛ فالدولة التي تغلب فيها الطبقة الوسطى هي الأفضل والأكثر استقرارا، ثم ينتقل إلى مناقشة أسباب الثورة ووسائل مكافحتها. فالسبب الأساسي هو العدوان على مبدأ العدالة؛ لأن تساوي الناس أو عدم تساويهم في جوانب معينة، لا يعني أنهم كذلك في كافة الجوانب. وأخيرا يقدم عرضا للدولة المثلى؛ فسكان هذه الدولة ينبغي أن يكون لهم الحجم المناسب، والمهارات المناسبة، ويجب أن يكون في استطاعة العين البشرية أن تحيط بحدودها من فوق قمة جبل، ولا بد أن يكون مواطنوها من الإغريق؛ لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يجمعون بين حيوية الشعوب الشمالية وذكاء الشعوب الشرقية.
وأخيرا ينبغي أن نشير إلى كتاب كان له، برغم ضآلة حجمه، تأثير هائل على تاريخ النقد الفني، ولا سيما في ميدان الأدب المسرحي، ذلك هو كتاب «الشعر» لأرسطو، وهو الكتاب الذي خصصه كله لمناقشة التراجيديا والشعر الملحمي. وينبغي أن يلاحظ أن لفظ «الشعر» ذاته
poetics
يعني حرفيا في أصله اليوناني، عملية صنع الأشياء. ولذلك كان من الممكن بوجه عام استخدامه للتعبير عن أي نشاط إنتاجي، ولكن هذا الاستخدام يقتصر في سياقنا هذا على الإنتاج الفني، فالشاعر بالمعنى الذي تحمله هذه الكلمة اليوم هو صانع الأبيات.
إن كل فن في رأي أرسطو يعتمد على المحاكاة، وهو يقدم تصنيفا للفنون يبدأ بتمييز التصوير والنحت عن الباقين، تاركا الموسيقى والرقص والشعر بمعناه الحديث بوصفها فئة واحدة.
وتتميز الأنواع المختلفة للشعر تبعا لمختلف الطرق التي تحدث بها المحاكاة، غير أنه لا يشرح لنا أبدا المقصود بالمحاكاة. وبطبيعة الحال فإن الفكرة مألوفة في ضوء نظرية المثل التي يمكن فيها أن يقال عن الجزئيات إنها تحاكي الكليات. ويبدو أن المحاكاة عند أرسطو تنطوي على استخدام وسائل مصطنعة من أجل إثارة مشاعر مشابهة للمشاعر الحقيقية، ويظهر لنا أن المناقشة بأسرها تدور وفي ذهن أرسطو فكرة الفن الدرامي، ما دام هذا هو الميدان الذي يطبق فيه مبدأ المحاكاة طريقة طبيعية تماما. ويزداد ذلك وضوحا حين ينتقل أرسطو إلى الحديث عن محاكاة الفعل البشري؛ فسلوك الناس يمكن أن يصور على أنحاء ثلاثة؛ فقد نصورهم على ما هم عليه بالضبط، أو قد نستهدف محاكاة شيء أعلى من مقاييس السلوك العادية، أو شيء أدنى منها. وعلى هذا النحو يمكننا أن نميز بين المأساة (التراجيديا) والملهاة (الكوميديا). ففي المأساة يصور البشر بطريقة أعظم مما هم عليه في الحياة، وإن لم تكن بعيدة عنا إلى الحد الذي يحول بينا وبين إبداء اهتمام متعاطف بأحوالهم. أما الملهاة فتصور الناس بطريقة أسوأ مما هم عليه؛ لأنها تؤكد الجانب المضحك في الحياة. فالعنصر الهزلي في شخصية الإنسان يعد نقصا، وإن لم يكن نقصا ضارا بوجه خاص. ولنلاحظ هنا نوعا من المزج بين القيم الفنية والقيم الأخلاقية، وهو ميل يرجع أصله إلى محاورة «الجمهورية» حيث يرتبط التقدير الفني بالمعايير الاجتماعية والأخلاقية ارتباطا وثيقا.
فالشر البحت لا يمكن أن تكون له قيمة جمالية، وهي نظرة قاصرة لا تعترف بكل المقاييس الأدبية الحديثة.
ويميز أرسطو بعد ذلك بين الشعر الذي يروي قصة، والشعر الذي يعرض حدثا، وهذا يؤدي إلى التمييز بين الملحمة والدراما.
فأصل الفن الدرامي يرجع إلى فنون الإلقاء المرتبطة بالطقوس الدينية. ومن الواضح أن المأساة اليونانية قد بدأت من أناشيد معينة كانت تلقى في الطقوس الأوروبية، بل إن من التفسيرات الممكنة للفظ ذاته أنه يشير إلى أغنية للماعز، وهو الحيوان الذي كان رمزا من رموز أورفيوس، والكلمة اليونانية التي تدل على الماعز هي
tragos ، كما أن تكملتها في كلمة «تراجيديا» وهي
ode
تعني أنشودة، ولقد كان للطقوس التراجيدية في أقدم صورها منشد يروي أشعارا، وجمهور يرد عليه، كما يحدث في الشعائر الدينية في أيامنا هذه إلى حد بعيد. ومن هذا الشكل تطورت فكرة الممثل الأول والجوقة (الكورس)، كما يبين أرسطو. أما الملهاة فقد نشأت عن الأعياد الديونيزية الصاخبة، كما يدل اسمها، الذي يعني أنشودة صاخبة.
وعلى حين أن الشعر الغنائي يستخدم وزنا واحدا طوال الوقت، فإن المأساة تستخدم أوزانا مختلفة في الأجزاء المختلفة، ولكن الأهم من ذلك أن إطار المشاهد في المأساة محدود. ولا يقدم إلينا أرسطو نظرية واضحة المعالم عن وحدة المكان والزمان والحدث، بل إن ما يقدمه أقرب إلى أن يكون حدودا عملية كامنة في نوعي التأليف، فلا بد أن تؤدى المسرحية في جلسة واحدة، وفي مكان محصور، على حين أن الملحمة يمكن أن تكون طويلة إلى غير حد، وتستخدم الخيال مسرحا لها. ويعرف أرسطو المأساة بأنها محاكاة الفعل البشري، وينبغي أن تكون فاضلة، مكتملة، ذات أبعاد معقولة، وأن تثير في المشاهد شعورين متعاطفين بالرهبة والشفقة، بحيث تتطهر نفسه بمثل هذه المشاعر.
وفيما يتعلق بالاكتمال يؤكد أرسطو أن المأساة يجب أن تكون لها بداية ووسط ونهاية. وقد يبدو لأول وهلة أن هذه العبارة لا تضيف إلى معلوماتنا الكثير، غير أن المقصود منها شيء معقول تماما؛ فلا بد أن تكون للمأساة نقطة بداية معقولة، وأن تتطور بطريقة منسقة، وتكون لها نتيجة حاسمة، أي إنها لا بد أن تكون مكتملة بمعنى أنها مكتفية بذاتها. وللحجم أهميته؛ لأن الذهن يتراخى إذا كانت المسرحية أطول مما ينبغي، أما إذا كان قصرها مفرطا، فإنها لا تثبت في الذهن.
والعلة الغائية للمأساة هي تنقية الروح عن طريق تطهير الانفعالات، وهذا هو معنى الكلمة اليونانية
catharsis (التطهير). فعن طريق تجربة الانفعالين البديلين؛ انفعالي الرهبة والشفقة، تزيح النفس عن ذاتها هذا الحمل، وعلى ذلك فإن للمأساة هدفا علاجيا، وهنا نجد المصطلح المستخدم مستمدا من الطب. أما الجانب الذي كانت فيه آراء أرسطو تتسم بالأصالة فهو اقتراح العلاج عن طريق جرعة بسيطة من الداء ذاته، وهو نوع من التحصين العلاجي النفسي، وبالطبع فلا بد أن يسلم المرء في هذا الوصف لغاية المأساة بأن الرهبة والشفقة يتملكاننا جميعا، وهو أمر صحيح على الأرجح.
وينتقل أرسطو إلى النظر في الجوانب المختلفة للعمل التراجيدي.
وأهم هذه الجوانب هو عقدة المسرحية، التي لولاها لما وجدت المسرحية أصلا، وبقدر ما تحقق الشخصيات ذاتها من خلال هذه العقدة، فإنها تعد تابعة لها، وتصبح الشخصية الموجودة بالقوة متحققة بالفعل في العقدة. أما الحدث فهناك نوعان من الأحداث لهما أهمية خاصة؛ أولهما: التحول المفاجئ في المصير، وثانيهما: اكتشاف طرف غير متوقع يؤثر في عقدة المسرحية. هذه الأحداث ينبغي أن تطرأ على شخص لا يتميز بفضائل أرفع مما ينبغي، ويكون انهياره ناتجا لا عن رذيلة، وإنما عن سوء تقديره الذي ينزل به من مكانته العليا، ويجعله منبوذا. ولهذا النوع من المواقف أمثلة كثيرة في المسرح اليوناني.
ويشترط أرسطو بالنسبة إلى مسألة معالجة الشخصية أن تكون قبل كل شيء مطابقة لنمط معين، فلا بد أن تظهر الشخصيات في صورة مشابهة لما يحدث في الحياة الفعلية، كما هي الحال في عقدة المسرحية، وهذا هو المعنى الذي ينبغي أن تفهم به تلك العبارة التي أدلى بها أرسطو في موضع آخر، والقائلة إن الشعر يتعامل مع مواقف كلية، على حين أن التاريخ يصف الجزئي؛ ففي المأساة نتعرف على السمات العامة للحياة البشرية اليت تضفي على العمل طابعا موحدا، ومن المهم أن نلاحظ أن أرسطو لا يقيم وزنا كبيرا لما قد نطلق عليه اسم جانب الإخراج المسرحي، على الرغم من أنه قد تحدث عنه، ومعنى ذلك أن اهتمامه يكاد ينحصر كله في القيمة الأدبية للعمل. ومن الجائز أنه نظر إلى التراجيديا على أنها تصلح للقراءة بقدر ما تصلح للتمثيل على المسرح.
وعلى أية حال، فإن كتاب «الشعر» لا يقدم إلينا نظرية شاملة في الفن والجمال، وإنما يعرض بوضوح عددا من المعايير التي كان لها تأثير ضخم على النقد الأدبي منذ ذلك الحين، وأهم ما فيه هو امتناعه عن الحديث عن مشاعر الكاتب ومقاصده، وتركيزه على الأعمال ذاتها، وهو أمر يحمد له.
لقد رأينا أن ظهور الفلسفة اليونانية قد اقترن بظهور العلم العقلي؛ ذلك لأن من طبيعة المشاكل الفلسفية أن تظهر عند الحدود القصوى للبحث العلمي. وهذا يصدق بوجه خاص على الرياضيات؛ فمنذ وقت فيثاغورس لعب الحساب والهندسة دورا أساسيا في الفلسفة اليونانية. وهناك أسباب متعددة تجعل للرياضيات أهمية خاصة في هذا الصدد؛ أولها: أن المشكلة الرياضية بسيطة واضحة المعالم، وهذا لا يعني أن حلها سهل دائما، بل إنها لا يتعين أن تكون بسيطة بهذا المعنى. غير أن المشاكل العادية في الرياضيات بسيطة إذا ما قورنت بمشاكل علم وظائف الأعضاء مثلا، ثانيا: فإن الرياضيات تتميز بأن لديها طريقة مستقرة للسير في البرهان، وبالطبع فلا بد أن يكون شخص ما قد اهتدى إلى هذه الطريقة في البدء. والواقع أن عمومية البرهان والإثبات هي اختراع يوناني على وجه التحديد، وفي الرياضة تظهر وظيفة البرهان بوضوح يفوق ما نجده في معظم العلوم الأخرى، حتى على الرغم من كل ما دار من مناقشات وما حدث من سوء فهم حول حقيقة ما يحدث في البرهان الرياضي، وثالثا: فإن نتائج أي برهان رياضي، بمجرد أن تفهم على النحو الصحيح، لا تقبل أي شك. وبطبيعة الحال فإن هذا يصدق أيضا على أي برهان سليم تكون مقدماته مقبولة، ولكن الشيء المميز للرياضيات هو أن قبولك للمقدمات جزء لا يتجزأ من عملية البرهان ذاتها، على حين أننا في الميادين الأخرى نقارن دائما بين النتائج والوقائع؛ خوفا من أن تكون إحدى المقدمات باطلة. فلا توجد في الرياضيات وقائع خارجها تحتاج إلى مقارنة، ونظرا إلى سمة اليقين هذه، فقد اعترف الفلاسفة في جميع العصور بأن الرياضيات تزودنا بمعرفة من نوع أرفع وأوثق مما يمكن اكتسابه في أي ميدان آخر. وقال الكثيرون إن الرياضيات هي المعرفة، بينما أنكروا هذا الوصف على أي مصدر آخر للمعلومات، ونستطيع أن نقول مستخدمين لغة محاورة «الجمهورية»: إن الرياضيات تنتمي إلى عالم الصور، ومن ثم فهي تزودنا بمعرفة، على حين أن الميادين الأخرى تختص بالجزئيات التي لا نملك عنها - على أحسن الفروض - إلا ظنا. والواقع أن نظرية المثل يرجع أصلها إلى الرياضيات الفيثاغورية، وقد توسع فيها سقراط بحيث جعلها نظرية عامة للكليات، على حين أنها انكمشت عند أفلاطون مرة أخرى إلى ميدان العلم الرياضي.
وقرب نهاية القرن الرابع انتقل مركز النشاط في الرياضيات إلى الإسكندرية، وكان الإسكندر الأكبر قد أسس هذه المدينة في عام 322ق.م، وأصبحت بسرعة من أهم المراكز التجارية في البحر المتوسط، ونظرا إلى أنها تقف على بوابة أقاليم الشرق، فإنها تشكل نقطة اتصال بين الغرب وبين المؤثرات الثقافية الآتية من بابل وبلاد الفرس. وبعد فترة قصيرة انتشرت فيها طائفة يهودية كبيرة، واكتسبت الطابع الهيني (اليوناني) بسرعة. وقد أسس الباحثون اليونانيون مدرسة ومكتبة اكتسبتا شهرة كبيرة في جميع أرجاء العالم القديم، ولم تكن تداني مكتبة الإسكندرية أية مجموعة أخرى من الكتب، ولكن من سوء الحظ أن هذا المصدر الفريد للعلم القديم والفلسفة القديمة قد التهمته النيران عندما استولت جحافل يوليوس قيصر على المدينة في عام 47ق.م، وبذلك ضاعت إلى الأبد مواد عظيمة الأهمية عن كبار الكتاب في العصر الكلاسيكي، ولا شك أن هناك أشياء أخرى أقل أهمية بكثير قد احترقت، وربما كان هذا الخاطر يقدم بعض العزاء عندما نسمع عن تدمير مكتبات.
كان أشهر رياضيي الإسكندرية هو إقليدس، الذي كان يلقي تعاليمه حوالي عام 300ق.م، وما زال كتابه «الأركان أو العناصر
Elements » واحدا من أعظم ما تركه لنا العلم اليوناني؛ فهو يجمع في هذا الكتاب بطريقة استنباطية كل المعارف الهندسية التي عرفت في عصره، وهكذا فإن الكثير مما يضمه كتاب إقليدس لم يكن من ابتكاره هو، غير أننا ندين له بالعرض المنهجي للموضوع، ولقد ظل هذا الكتاب طوال العصور نموذجا حاول أن يحتذيه الكثيرون.
فعندما عرض اسبينوزا كتابه «الأخلاق» طريقة هندسية، كان إقليدس هو النموذج الذي حاكاه، ومثل هذا يقال عن «مبادئ» نيوتن.
كان من المشكلات التي عالجها الفيثاغوريون المتأخرون - كما رأينا - تكوين الأعداد الصماء بوصفها قيما محددة لتتابعات الجذور المتصلة، ومع ذلك لم يصغ أحد أية نظرية حسابية كاملة عن هذه المشكلة، وترتب على ذلك استحالة تقديم عرض للنسب على أساس حسابي؛ إذ إنه ظل من المستحيل إعطاء العدد الأصم، أي العدد الذي لا يمكن قياسه اسما رقميا. أما في حالة الأطوال فإن الأمر يختلف، بل إن الصعوبة قد كشفت لأول مرة في محاولة إعطاء رقم لوتر مثلث متساوي الساقين قائم الزاوية طول ضلعه وحدة واحدة؛ لذلك ظهرت نظرية متكاملة عن النسب في الهندسة، ويبدو أن مخترعها كان يودكسوس
Eudoxus ، الذي كان معاصرا لأفلاطون، أما الصورة التي وصلت إلينا هذه النظرية بها فنجدها عند إقليدس، حيث عرضت المسألة كلها بقدر من الوضوح والدقة يدعو إلى الإعجاب، ثم حدثت عودة أخيرة إلى الحساب مع اختراع الهندسة التحليلية بعد ذلك بألفي عام. والواقع أن ديكارت عندما افترض أن الهندسة يمكن أن تعالج بالجبر، كان يتابع نفس المثل الأعلى العلمي الذي استهدفه الديالكتيك عند سقراط، وحين هدم ديكارت الفروض الخاصة بالهندسة، وجد مبادئ أعم يبني الهندسة عليها.
وهذا بعينه هو الهدف الذي سعى إليه رياضيو الأكاديمية، أما مدى نجاحهم في بلوغه فهو أمر لن نعرفه أبدا.
إن كتاب «الأركان» لإقليدس هو رياضة بحتة بالمعنى الحديث، ولقد تابع رياضيو الإسكندرية أبحاثهم؛ لأنهم كانوا مهتمين بتلك المشكلات، وكانوا في ذلك سائرين على درب تراث الأكاديمية، ولا تظهر هذه السمة في أية حالة بنفس القدر من الوضوح الذي تظهر به عند إقليدس؛ إذ لا نجد لديه أبسط تلميح إلى أن الهندسة يمكن أن تكون مفيدة عمليا، وفضلا عن ذلك فإن إتقان علم كهذا يقتضي مرانا ودأبا طويلا. وهكذا فعندما طلب ملك مصر إلى إقليدس أن يعلمه الهندسة في دروس قليلة سهلة، كان الرد المشهور الذي أجاب به هو أنه لا يوجد طريق ملكي إلى الرياضيات.
غير أن من الخطأ الاعتقاد بأن الرياضيات لم تكن لها فائدة عملية، ومن الخطأ كذلك الاعتقاد بأن المشاكل الرياضية لا تنشأ في أحيان كثيرة من مشاكل عملية، ولكن التنقيب عن أصل نظرية معينة شيء، ومعالجتها في ذاتها شيء آخر. فهذان اهتمامان لا يميز بينهما الناس - في كثير من الأحيان - بما فيه الكافية. فلا معنى لإلقاء اللوم على إقليدس؛ لأنه لم يبد اهتماما كافيا بالظروف الاجتماعية للكشف الرياضي؛ إذ إن هذا شيء لم يكن له ببساطة اهتمام به، فحين تقدم إليه كمية معينة من المعرفة الرياضية أيا كانت الطريقة التي ظهرت بها هذه المعلومات، فإنه يمضي في طريق معالجتها، ويضعها في ترتيب استنباطي دقيق. وهذا نوع من الممارسة العلمية لا تتوقف صحته على وضع المجتمع، أو على أي شيء آخر، بل إن هذه الملاحظات تنطبق على الفلسفة ذاتها. صحيح بالطبع أن أوضاع العصر توجه أنظار الناس إلى مشكلات معينة في الوقت الراهن بدلا من أن توجههم إليها في وقت سابق أو لاحق، غير أن هذا لا يؤثر بأي حال في قيمة النظريات التي توضع لمواجهة هذه المشكلات.
وهناك اختراع آخر ينسب إلى يودكسوس
Eudoxus ، هو ما يسمى بطريقة الاستنفاد أو الاستغراق، وهي طريقة تستخدم في حساب المساحات التي تحدها أقواس أو منحنيات، والهدف هنا هو استنفاد المكان المتاح عن طريق ملئه بأشكال أبسط يمكن معرفة مساحاتها بسهولة، وهذا بالضبط من حيث المبدأ هو ما يحدث في حالة حساب التكامل، الذي كانت طريقة الاستنفاد في الواقع ممهدة له.
ولقد كان أشهر رياضي استخدم طريقة الحساب هذه هو أرشميدس، الذي لم يكن عظيما في ميدان الرياضيات فحسب، بل كان أيضا مهندسا فذا، وعالما بارزا في الفيزياء. وقد عاش في سراقوزة، وذكر المؤرخ بلوتارك أن مهارته الفنية ساعدته أكثر من مرة في حماية المدينة من أن تجتاحها جيوش الأعداء. وفي النهاية غزا الرومان صقلية بأكملها، ومعها سراقوزة، وسقطت المدينة في عام 212، وقتل أرشميدس خلال عملية التدمير التي أعقبت احتلالها.
وتقول الأسطورة إن جنديا رومانيا طعنه فأرداه قتيلا، في الوقت الذي كان يعكف فيه على حل مشكلة هندسية رسمها على الرمال في حديقته.
وقد استخدم أرشميدس طريقة الاستنفاد من أجل تربيع القطع الناقص والدائرة؛ فبالنسبة إلى القطع الناقص، يمكن الوصول إلى صيغة عددية دقيقة عن طريق رسم عدد متعاقب إلى ما لا نهاية من المثلثات الأصغر فالأصغر. أما في حالة الدائرة، فإن الإجابة تتوقف على العدد الذي يمثل النسبة التقريبية ط، وهو نسبة المحيط إلى القطر، ولما كان هذا عددا أصم، فإن طريقة الاستنفاد يمكن استخدامها للوصول إلى مقادير تقريبية لهذه النسبة، وهكذا نضع أشكالا منتظمة داخلية وخارجية متعددة الأضلاع يزداد عدد أضلاعها بالتدريج، بحيث تقترب أكثر فأكثر من المحيط. وتظل الأشكال الداخلية المتعددة الأضلاع التي نضعها أقل في محيطها دائما من الدائرة، بينما تظل الأشكال الخارجية دائما أكثر، غير أن الفرق يتضاءل بالتدريج مع ازدياد الأضلاع في العدد.
أما الرياضي العظيم الآخر في القرن الثالث فكان أبولونيوس
Apollonius
السكندري، الذي اخترع نظرية القطاعات المخروطية، وهنا أيضا نجد مثالا آخر للتخلي عن الفروض الخاصة؛ إذ إن كل الأشكال المنحنية التي ترسم بين خطين مستقيمين تبدو في ظل هذه النظرية على أنها حالات خاصة لشيء واحد ؛ هو القطع المخروطي.
أما بالنسبة إلى الميادين الأخرى، فإن أعظم نجاح أحرزه اليونانيون كان على الأرجح في ميدان الفلك. وقد تحدثنا من قبل عن بعض هذه الإنجازات عند مناقشتنا لفلاسفة متعددين، على أن أعظم وأعجب إنجاز تحقق في هذه الفترة هو كشف نظرية مركزية الشمس؛ إذ يبدو أن أرسطارخوس الساموسي، وهو معاصر لإقليدس وأبولونيوس، كان أول من عرض هذا الرأي عرضا كاملا مفصلا، وإن كان من الجائز أنه كان معترفا به في الأكاديمية قرب نهاية القرن الرابع. وعلى أية حال فإن شهادة أرشميدس الموثوق بها تقول إن أرسطارخوس كان يعتنق هذه النظرية بالفعل، كما نجد إشارات إليها عند بلوتارك، وجوهر هذه النظرية هو القول إن الأرض والكواكب تدور حول الشمس التي تظل ثابتة هي والنجوم، وإن الأرض تدور حول محورها مع سيرها في مدارها، وكان هراكليدس
Heraclides ، وهو أكاديمي ينتمي إلى القرن الرابع، قد عرف أن الأرض تدور حول محورها مرة في اليوم، على حين أن بيضاوية المدار كانت كشفا ينتمي إلى القرن الخامس، وعلى ذلك فلم تكن نظرية أرسطارخوس ابتكارا خالصا، ومع ذلك فقد كانت هناك خصومة، بل عداوة تجاه هذا الخروج الجريء عن النظرة السائدة لدى الإنسان العادي في ذلك الحين، ولا بد أن نعترف بأن خصومها كانوا يشتملون حتى على بعض الفلاسفة؛ وذلك على الأرجح لأسباب أخلاقية في المحل الأول؛ ذلك لأن إزاحة الأرض عن مركز العالم لا بد أن تؤدي إلى هدم المعايير الأخلاقية. وقد ذهب الفيلسوف كليانثس
CleaNthes
إلى حد مطالبة اليونانيين بإدانة أرسطارخوس بتهمة الضلال، وهكذا فإن الآراء غير المألوفة عن الشمس والقمر والنجوم تكون لها في بعض الأحيان نفس خطورة الآراء الرافضة في السياسة. ويبدو أن أرسطارخوس أصبح بعد هذه الأزمة يعبر عن آرائه بقدر أكبر من التحفظ، وقد أدى الرأي القائل بأن الأرض تتحرك إلى إثارة المشاعر الدينية في مناسبة أخرى مشهورة، عندما اعتنق جاليليو نظرية كبرنيكوس. وينبغي أن نلاحظ أن كبرنيكوس قد اقتصر على إحياء أو إعادة اكتشاف نظرية الفلكي اليوناني الذي عاش في ساموس. وهناك ملاحظة هامشية تحمل اسم أرسطارخوس في أحد مخطوطات كبرنيكوس، تشهد على هذه الحقيقة على نحو قاطع. أما عن قياس الحجم والأبعاد النسبية في داخل النظام الشمسي، فإن النتائج لم تصل كلها إلى نفس القدر من النجاح؛ فأفضل تقدير للمسافة بين الأرض والشمس كان يبلغ حوالي نصف المسافة الحقيقية. أما بعد القمر فقد تم حسابه بقدر معقول من الدقة، وتم التوصل إلى قطر الأرض في حدود 16 في المائة من الرقم الصحيح، وقد تحقق هذا الإنجاز على يد إراتوسثنيس
Eratosthenes
الذي كان أمينا لمكتبة الإسكندرية، وكان ملاحظا علميا بارعا، فلكي يقيس محيط الأرض، اختار نقطتين للملاحظة تقعان تقريبا على خط طول واحد، وكانت إحدى النقطتين هي «سيني
Syene » على مدار السرطان، الذي تكون الشمس عنده في قمتها وقت الظهيرة، وقد لاحظ ذلك عن طريق انعكاس الشمس في بئر عميقة، وعلى مبعدة أربعمائة ميل إلى الشمال في الإسكندرية، كان كل ما يلزم هو تحديد زاوية الشمس، وهو أمر يسهل القيام به عن طريق قياس أقصر ظل لأحد الأبراج. ومن هذه المعلومة يمكن بسهولة الاستدلال على محيط الأرض وقطرها.
على أن الكثير من هذه المعلومات قد نسي بسرعة؛ وذلك أساسا لأنها كانت تتعارض مع المعتقدات الدينية في ذلك الحين. ومن المفهوم بوضوح أن الفلاسفة أنفسهم قد أسهموا في ارتكاب هذا الخطأ؛ إذ إن علم الفلك الجديد كان يهدد بالقضاء على نظرية الأخلاقية التي قالت بها الحركة الرواقية. وقد تدفع هذه الحقيقة المراقب المحايد إلى أن يعلن أن الرواقية مذهب سيئ، ومن ثم ينبغي التخلي عنه، غير أن هذه النصيحة مثالية، ومن المؤكد أن أولئك الذين تدان آراؤهم على هذا النحو لن يتخلوا عن موقعهم بلا قتال، والواقع أن من أندر النعم أن يكون المرء قادرا على أن يعتنق رأيا معينا باقتناع وتجرد في الوقت ذاته. وهذا ما يحاول الفلاسفة العلماء أكثر من غيرهم من البشر أن يدربوا أنفسهم عليه، وإن كانوا في النهاية لا ينجحون فيخ أكثر مما ينجح الإنسان العادي. على أن الرياضيات من أفضل الوسائل التي تساعد على دعم هذا الاتجاه، ومن هنا لم يكن من قبيل الصدفة أن كان عدد كبير من الفلاسفة رياضيين في الآن نفسه.
وأخيرا، فربما كان من واجبنا أن نؤكد أن الرياضيات بالإضافة إلى ما تتميز به من بساطة مشكلاتها ووضوح تركيبها، تفسح المجال لخلق الجمال، والواقع أن اليونانيين كانوا يملكون حاسة استطيقية (جمالية) شديدة الرهافة، إذا جاز لنا أن نستخدم بالنسبة إليهم تعبيرا لم يعرف إلا في وقت متأخر؛ فقد صيغ لفظ «الاستطيقا» لأول مرة في القرن الثامن عشر، على يد الفيلسوف الألماني باومجارتن
Baumgarten ، وعلى أية حال فإن الرأي الذي أعرب عنه الشاعر كيتس
Keats
حين قال إن الحقيقة هي الجمال، هو رأي مستلهم من الروح اليونانية. وينطبق هذا أيضا على بناء البرهان الرياضي، فالمفاهيم التي نستخدمها في هذا الميدان، كالأحكام والإيجاز، هي مفاهيم ذات طابع جمالي.
الفصل الثالث
الهلينية
إذا كان الجزء الأول من القرن الخامس ق.م. قد شهد اليونانيين يحاربون الغزاة الفرس، فإن الجزء الأول من القرن الرابع قد أثبت أن إمبراطورية الملك العظيم (ملك فارس) كانت عملاقا يرتكز على أقدام من الفخار. ألم يثبت «زينوفون» أن جماعة صغيرة من الجند اليونانيين الذين أحسن تدريبهم وقيادتهم تستطيع الصمود في وجه جبروت الفرس، حتى في أرضهم ذاتها؟
وبحلول عهد الإسكندر الأكبر، انتقل العالم اليوناني إلى مرحلة الهجوم، وخلال عشر سنوات قصار من 334 إلى 324ق.م. انهارت الإمبراطورية الفارسية تحت أقدام الغازي المقدوني الشاب، وأصبح العالم كله، من اليونان إلى باكتريا،
1
ومن نهر النيل إلى السند خاضعا خلال فترة قصيرة من الزمان لحاكم واحد هو الإسكندر، الذي كان ينظر لنفسه على أنه حامل مشعل الحضارة اليونانية، على الرغم من أنه كان في نظر اليونانيين أنفسهم مجرد قائد مقدوني منتصر. والواقع أن الإسكندر لم يكن فاتحا فحسب، بل كان مستعمرا أيضا؛ فحيثما حملته جيوشه كان يؤسس مدنا يونانية تدار شئونها بأساليب يونانية، وفي مراكز الحياة اليونانية هذه كان المستوطنون الإغريق أو المقدونيون الأصليون ينصهرون مع السكان المحليين. وكان الإسكندر يشجع مواطنيه المقدونيين على الزواج من النساء الآسيويات، ولم يجد غضاضة في أن يمارس بنفسه ما كان يحض عليه، ولكي تكون النسب محفوظة، فقد اتخذ من أميرتين فارسيتين زوجتين له.
على أن إمبراطورية الإسكندر كانت من حيث هي دولة شيئا عارضا زائلا. فبعد موته توصل قواد جيوشه آخر الأمر إلى تقسيم مناطق الإمبراطورية إلى ثلاثة أجزاء؛ فوقع الجزء الأوروبي أو الأنتيجوني
2
من الإمبراطورية في فترة تزيد قليلا عن المائة العام في أيدي الرومان، وتفككت أوصال المملكة الآسيوية أو السيلوسية
Seleucid ،
3
واستولى عليها الرومان في الغرب والبارثيون
4
وغيرهم في الشرق. أما مصر البطلمية فقد أصبحت رومانية في عهد أغسطس، غير أن الفتح المقدوني أحرز مزيدا من النجاح من حيث هو ناقل للمؤثرات اليونانية. فقد أخذت الحضارة اليونانية تصب في آسيا، وأصبحت اللغة اليونانية هي لغة الثقافة في كل مكان، وتطورت بسرعة فأصبحت هي اللغة الشائعة للتبادل التجاري، تماما كما حدث للغة الإنجليزية في العقود الأخيرة. وهكذا فإن الإنسان في حوالي عام 255ق.م. كان يستطيع أن يتكلم اليونانية من بوابة هرقل حتى نهر الكنغ.
5
وهكذا أصبح علم الإغريق وفلسفتهم، والأهم من ذلك فنهم، يمارس تأثيره على الحضارات الشرقية القديمة، وتشهد الآثار الباقية من العملات والأواني والمباني والتماثيل، وكذلك المؤثرات الأدبية إلى حد أقل على هذا الغزو الثقافي، وبالمثل فإن الشرق مارس تأثيرا جديدا على الغرب، ولكن هذا التأثير كان أقرب إلى التراجع والانتكاس؛ إذ يبدو أن ما استحوذ على خيال اليونانيين أكثر من أي شيء آخر في ذلك الحين كان التنجيم البابلي. وهكذا كان العصر الهلينستي، برغم كل ما فيه من توسع علمي وثقافي، أشد إيغالا في الخرافة من العصور الكلاسيكية بكثير. وهذا أمر يحدث مثله في عصرنا هذا وأمام أعيننا، فعندما كنت شابا كان التنجيم مقتصرا على قلة من المختلين المهووسين، أما اليوم فإن هذا المرض قد أصبح له من القوة ما يكفي لإقناع المهيمنين على الصحافة الشعبية بأن يخصصوا أعمدة لما تضمره النجوم. وربما لم يكن ذلك بالأمر المستغرب؛ ذلك لأن العصر الهلينستي بأسره كان حتى مجيء الرومان غير منضبط ولا مستقر ولا آمن، وكانت جيوش المرتزقة التي تنتمي إلى الجماعات المتنازعة تعيث فسادا في المناطق الريفية من آن لآخر، أما المدن الجديدة التي بناها الإسكندر فكانت تفتقر سياسيا إلى استقرار المستعمرات الأقدم عهدا، التي كانت تجمعها روابط تقليدية بوطنها الأم، وكانت الجو العام في ذلك العصر يفتقر إلى الشعور بالأمان ، إذ كانت إمبراطوريات جبارة قد زالت، وكان خلفاؤها يتقاتلون على السيطرة في جو متقلب. وهكذا فإن تقلب الأحوال قد انتقل إلى نفوس الناس بطريقة لا لبس فيها ولا غموض.
أما من الوجهة الثقافية، فقد انتشر التخصص على نحو متزايد، وعلى حين أن كبار الشخصيات في العصر الكلاسيكي كانوا يستطيعون بوصفهم أفرادا في دولة المدينة، أن ينتقلوا بين موضوعات شتى، حسبما تقتضيه الظروف، فإن باحثي العالم الهلينستي كانوا يقتصرون على ميدان واحد محدد. وانتقل مركز البحث العلمي من أثينا إلى الإسكندرية، وهي أنجح مدن الإسكندر الجديدة، وملتقى العلماء والكتاب من كافة أرجاء العالم. فكان الجغرافي إراتوسثنيس خلال بعض الوقت أمينا عاما لمكتبة الإسكندرية الكبرى، كما كان إقليدس يعلم الرياضيات، وكذلك فعل أبولونيوس، على حين أن أرشميدس قد تعلم هناك. أما من الوجهة الاجتماعية فإن أساس الحياة المستقرة قد تزعزع بنمو عدد العبيد بين السكان، ولم يكن في استطاعة الأحرار أن ينافسوا العبيد بسهولة في الميادين التي اعتادوا العمل فيها، ومن هنا كان الشيء الوحيد الذي يمكنهم أن يفعلوه هو أن يصبحوا جنودا مرتزقة، آملين أن يشتركوا في غزوة تتيح لهم الثراء عن طريق السلب والنهب، وعلى حين أن اتساع نطاق التأثير اليوناني قد علم الناس مثلا عليا أوسع نطاقا مما تعلموه في دولة المدينة، فلم يكن هناك رجل أو قضية لهما من القوة ما يجعل البقايا المبعثرة لعالم الإسكندر تلتف حولهما.
ولقد أدى الإحساس المتأصل بانعدام الأمان إلى الإقلال من الاهتمام بالشئون العامة، وإلى هزال عام في الكيان العقلي والأخلاقي، وإذا كان اليونانيون القدماء قد تهاونوا في المشاركة في مشاكل عصرهم السياسية، فإن يونانيي العصر الهلينستي قد تهاونوا على نفس النحو، وفي النهاية كان على الرومانيين، بما عرف عنهم من عبقرية التنظيم، أن يصنعوا من الفوضى نظاما، وأن ينقلوا حضارة اليونان إلى العصور التالية.
وبانتهاء العصر الذهبي لدول المدن، أصيب العالم اليوناني بهبوط عام في نضارته وحيويته، والواقع أنه إذا كانت هناك صفة بارزة يشترك فيها كل الفلاسفة الأثينيين الكبار، فهي موقفهم الإيجابي المقبل على الحياة؛ فلم يكن العالم في نظرهم مكانا سيئا للعيش، والدولة يمكن الإحاطة بجميع أطرافها في لمحة واحدة.
وقد اتخذ أرسطو من هذه الصفة - كما رأينا - واحدة من صفات مدينته المثلى، غير أن التوسع المقدوني أدى إلى زعزعة هذه النظرة السعيدة الراضية، وانعكس ذلك في كل الاتجاهات الفلسفية السائدة في تلك الأيام على صورة تشاؤم شامل وإحساس بانعدام الأمان. أما الشعور بالثقة الذاتية، الذي كان يتملك المواطنين الأرستقراطيين من أمثال أفلاطون، فقد اختفى إلى غير رجعة.
ويمكن القول بمعنى معين إن موت سقراط كان هو الحد الفاصل في الثقافة اليونانية. صحيح أن أعمال أفلاطون ستظهر بعد ذلك، غير أننا نشعر بالفعل بأننا بدأنا نهبط إلى وديان الثقافة الهلينستية، وبدأ يظهر في الفلسفة عدد من الحركات الجديدة؛ أولاها ترتبط مباشرة بأنتيسثنيس، وهو أحد تلاميذ سقراط، ويرتبط اسم أنتيسثنيس بإحدى المفارقات في التراث الإيلي، وهي المفارقة التي تقول إن من المستحيل إصدار أحكام ذات معنى؛ فإما أن تقول: أ هي أ، وهو حكم صحيح، ولكنه لا يستحق أن يقال، وإما أن تقول: أ هي ب، ولما كانت ب ليست هي أ، فلا بد أن يكون الحكم باطلا، فلا عجب إذن أن يفقد أنتيسثنيس ثقته بالفلسفة، ويعتزل في أخريات أيامه حياة الطبقة العليا التي كان يحياها، ويعيش الحياة البسيطة للناس العاديين، وقد تمرد على عادات عصره، وكان يتمنى أن يعود إلى حياة بدائية لا تشوبها شائبة من أعراف المجتمع المنظم وقيوده.
وكان من تلاميذه ديوجين
Diogenes
الذي كان مواطنا لسينوبي، وهي مستوطنة يونانية على شاطئ الأوكسين
Euxine ، ومنه استمدت الحركة الجديدة طابعها، وقد عاش ديوجين حياة تماثل حياة الكلب في بدائيتها، مما أكسبه لقب «الكلبي
Cynic »، وتقول الأسطورة إنه عاش في حوض، وإن الإسكندر جاء مرة ليزور هذا الرجل المشهور، فسأله أن يبدي أية رغبة وسوف يحققها له، فكان الجواب: «لا تحجب عني النور»، وقد بلغ من إعجاب الإسكندر به أنه رد قائلا: «لو لم أكن الإسكندر لكنت ديوجين».
وكان جوهر التعاليم الكلبية هو الانصراف عن المتع الدنيوية، والتركيز على الفضيلة بوصفها الشيء الوحيد الجدير بأن نمتلكه، ومن الواضح أن هذه إحدى الأفكار الموروثة عن مذهب سقراط، غير أنها تمثل رد فعل سلبيا إلى حد ما على أحداث العالم. صحيح أنه كلما ضعفت روابط المرء بالعالم قل احتمال إصابته بالأذى أو خيبة الأمل، غير أن مثل هذه المنابع لا يتوقع منها أن تلهم المرء أي شيء يزيد عن ذلك، ولقد تحول المذهب الكلبي بمضي الوقت إلى تراث قوي واسع الانتشار، وأصبح له في القرن الثالث ق.م. تأييد شعبي واسع في جميع أرجاء العالم الهلينستي. وبالطبع فإن كل ما يعنيه ذلك هو أن شكلا متدهورا من التعاليم الكلبية أصبح يعبر بصدق عن الأوضاع الأخلاقية للعصر، وكان ذلك نوعا من الموقف الانتهازي من الحياة، يغترف منها بكلتا يديه إن كان هناك ما يؤخذ، ولكنه لا يشكو في أوقات العسر، ويستمتع بالحياة حين يمكن الاستمتاع بها، ولكنه يقبل صرف الدهر بغير اكتراث. ومن هذا التطور للمذهب اكتسبت كلمة
cynical
معناها المذموم، غير أن الكلبية من حيث هي حركة فلسفية لم يكن فيها من الاستقلال والتلقائية ما يكفي لكي تستمر بذاتها، وإنما أدمج مضمونها الأخلاقي في المدرسة الرواقية، التي سنتحدث عنها بعد قليل.
وهناك نتاج آخر، مختلف إلى حد ما لفترة التدهور الفلسفي هذه، هو حركة الشكاك، وإذا كان اسم هذه الحركة مستمدا من مجرد الشك أو الارتياب، فإن المذهب بوصفه فلسفة يرتفع بالشك إلى مرتبة العقيدة الراسخة؛ فهو ينكر أن يكون في وسع أي شخص أن يعرف أي شيء معرفة يقينية، ولكن المشكلة بالطبع هي أن المرء يود أن يعرف من أين جاء الفيلسوف الشكاك بهذه المعلومة.
فكيف يعرف أن الأمر كذلك إذا كان موقفه ينكر صراحة إمكان المعرفة؟ إن هذا قد يصبح منطقيا بمجرد أن نحول طابع الشك في آرائنا إلى مبدأ، أما إذا كان الهدف من هذا الشك هو أن يذكرنا بفائدة الحذر، فإن هذا وضع صحي لا حرج عليه.
ولقد كان أول الفلاسفة الشكاك هو بيرون
من بلدة إليس
Ellis ، الذي طاف العالم مع جيوش الإسكندر، ولم تكن التعاليم الشكاكة شيئا جديدا؛ لأننا رأينا الفيثاغوريين والإيليين من قبل يثيرون الشكوك حول إمكان الثقة في الحواس، على حين أن السفسطائيين استحدثوا مفاهيم مماثلة اتخذوها أساسا لنسبيتهم الاجتماعية والأخلاقية، غير أن أحدا من هؤلاء المفكرين لم يجعل من الشك في ذاته قضية رئيسية، وعندما كان كتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر يتحدثون عن الفلاسفة البيرونيين، كانوا يقصدون شكاكا من هذا النوع، أما بيرون نفسه فلا نكاد نعرف عنه شيئا، غير أن تلميذه تيمون
Timon
يبدو أنه أنكر إمكان الوصول إلى المبادئ الأولى للاستنباط. ولما كان التفسير الأرسطي للبرهان العلمي يرتكز على المبادئ الأولى، فقد كان ذلك هجوما خطيرا على أتباع أرسطو، وهذا هو السبب الذي جعل مدرسية العصور الوسطى تعادي الفلسفة البيرونية إلى هذا الحد. أما العرض الذي قدمه سقراط لمنهج الفرض والاستنباط فلا يتأثر بهجوم الشكاك، وهكذا فإن إحياء العلم في القرن السابع عشر كان يتباعد عن أرسطو، ويعود إلى أفلاطون.
وبعد أن مات تيمون في عام 235ق.م. لم يعد مذهب الشك بدوره مدرسة مستقلة، وإنما اندمج في الأكاديمية، التي ظلت تتمسك بطابع من الشك قرابة مائتي عام، وكان ذلك بطبيعة الحال تشويها للتراث الأفلاطوني، صحيح أننا نجد عند أفلاطون فقرات لو انتزعت من سياقها لبدت وكأنها دعوة إلى التخلي عن أية محاولة للتفكير البناء، ويتمثل ذلك في الألغاز الجدلية في محاورة «بارمنيدس»، غير أن الجدل عند أفلاطون ليس أبدا غاية في ذاته، ولا يمكن تحريفه بمعنى شكا إلا إذا أسيء فهمه على هذا النحو. ومع ذلك ففي عصر كانت الخرافات قد بدأت تغرقه، يمكن القول إن الشكاك قد أدوا خدمة جليلة بوصفهم فاضحين لهذه الخرافات، ولكنهم في الوقت ذاته كان يمكن أن يقرروا ممارسة بعض الطقوس الخرافية دون أن يشعروا داخليا بأنهم ملتزمون بها. وهذا الموقف السلبي الكامل هو الذي جعل حركة الشك، بوصفها مذهبا تتجه إلى أن تجعل من معتنقيها جيلا يعرب عن ازدرائه بغير حماس، ويتميز بالذكاء أكثر مما يتميز بالسداد.
وخلال القرن الأول ق.م. عاد مذهب الشك ليصبح مرة أخرى تراثا مستقلا وإلى هذا المذهب الشكي المتأخر ينتمي لوسيان
Lucian
المفكر الساخر في القرن الثاني الميلادي، وسكستوس إمبريقوس
Sextus Empiricus
الذي ظلت أعماله باقية. غير أن مزاج العصر كان يحتاج آخر الأمر إلى نسق من المعتقدات أكثر تحديدا، وأبعث على الراحة والاطمئنان. وهكذا فإن نمو النظرة القطعية الجازمة أخذ يطغى على فلسفة الشك.
إن المرء حين يقارن بين التأملات الفلسفية للعصر الهلينستي ونظائرها في التراث الأثيني العظيم وفي الفلسفات السابقة له، لا بد أن يلفت نظره موقف التراخي والعناء الذي يميز عصر التدهور؛ فقد كانت الفلسفة في نظر المفكرين القدامى مغامرة تحتاج إلى يقظة الرائد وشجاعته. وصحيح أن الفلسفات اللاحقة بدورها يمكن أن يقال عنها إنها اقتضت من ممارسيها شجاعة، غير أن هذه أصبحت شجاعة الاستسلام والتحمل بصبر، بدلا من ذلك الإقدام الجريء الذي يتميز به المستكشف، فقد أصبح الناس في ذلك العصر الذي تهاوت فيه أركان المجتمع القديم يلتمسون الأمان، وإذا لم يتيسر لهم الحصول عليه بسهولة، جعلوا من الصمود للمصاعب التي لا يمكن تجنبها فضيلة. ويظهر ذلك أوضح ما يكون في المدرسة الفلسفية لأبيقور
Epicurus .
ولد أبيقور في عام 342ق.م. لأبوين أثينيين، وعندما بلغ الثامنة عشرة انتقل من ساموس إلى أثينا، ثم رحل بعد وقت قصير إلى آسيا الصغرى، حيث بهرته فلسفة ديمقريطسن. وبعد أن تجاوز سن الثلاثين بقليل أسس مدرسة كان مقرها أثينا منذ عام 357ق.م. حتى وفاته في عام 270ق.م، وكانت المدرسة أشبه بجماعة صغيرة تعيش في بيته وأرضه، وتسعى بقدر الإمكان إلى الانعزال عن صخب الحياة الخارجية ونزاعاتها، وقد ظلت الأمراض تداهم أبيقور طوال حياته، فتعلم كيف يتحملها دون أن يشكو. وهكذا كان الهدف الرئيسي لمذهبه هو بلوغ حالة من الطمأنينة لا يعكر صفوها شيء.
إن الخير الأسمى عند أبيقور هو اللذة، ولولاها لكانت الحياة السعيدة مستحيلة، وتشمل اللذات التي كان يعنيها، ملذات الجسم وملذات العقل معا. أما الأخيرة فقوامها تأمل الملذات الجسمية، وهي ليست أسمى من الأولى بأي معنى حقيقي، ومع ذلك فلما كانت لدينا سيطرة أكبر على اتجاه أنشطتنا العقلية، فإننا نستطيع إلى حد ما أن نختار موضوعات تأملنا، على حين أن انفعالات الجسم تفرض علينا إلى حد بعيد، وهنا تكمن الميزة الوحيدة للملذات العقلية، وتبعا لهذا الرأي فإن الإنسان الفاضل يحصر همه في السعي إلى ملذاته.
هذه النظرية العامة تؤدي إلى ظهور مفهوم للحياة الخيرة يختلف كل الاختلاف عن مفهوم سقراط وأفلاطون، ويتجه كلية إلى الابتعاد عن الفاعلية والمسئولية، وبطبيعة الحال فإن سقراط كان ينظر بالفعل إلى حياة التأمل العقلي على أنها أفضل حياة على الإطلاق. غير أن ذلك لم يكن يعني عنده الانعزال والعزوف، بل إن من صميم واجبات الصفوة أن يقوموا بدور فعال في إدارة دفة الشئون العامة.
كذلك كان أفلاطون متشبعا بقوة بهذا الإحساس بأداء الواجب.
فالفيلسوف الذي خرج من الكهف ينبغي أن يرجع ويساعد على تحرير أولئك الذين لا يملكون ما يملكه من نفاذ البصيرة، وكان اقتناعه هذا هو الذي دفعه إلى القيام بمغامراته في صقلية. أما عند أبيقور فلا يتبقى شيء من فاعلية الحياة ونشاطها. صحيح أنه يميز بين اللذات الإيجابية والسلبية، ولكنه يعطي الأولوية للثانية، أما اللذة الإيجابية فتمارس في السعي إلى غاية تنطوي على لذة، بدافع الرغبة في الشيء الذي نفتقر إليه، وما أن يتم بلوغ الهدف، حتى تتحقق لذة سلبية في غياب أية رغبة أخرى، إنه انتشاء تخديري بحالة من الاكتفاء والتشبع.
وفي وسع المرء أن يفهم أن هذا النوع من أخلاق الحذر والفطنة كان مطلوبا في عصر يعاني من انعدام الاستقرار واليقين في الحياة.
أما من حيث هو إيضاح لطبيعة الخير، فهو بلا شك أحادي الجانب إلى أبعد حد؛ فهو يغفل، من بين ما يغفله، أن غياب الرغبة أو الشعور الشخصي سمة للسعي الإيجابي إلى المعرفة بالذات، ولقد كان سقراط على حق تماما حين ذهب إلى أن المعرفة خير؛ ذلك لأن السعي المتجرد إلى الفهم هو الذي يجعلنا نصل إلى ذلك النوع من اليقظة المنزهة التي كان يبحث عنها أبيقور.
غير أن مزاج أبيقور الشخصي أدى به إلى أن يكون أقل اتساقا مما توحي به آراؤه الأقرب إلى التقشف؛ فقد كان يقدر الصداقة فوق كل شيء آخر، على الرغم من أن الصداقة لا يمكن أن تعد - كما هو واضح - ضمن اللذات السلبية، أما أن كلمة «الأبيقوري» أصبحت تستخدم علامة على حياة الترف والمتعة، فذلك يرجع إلى أن قدرا كبيرا من الافتراء قد حل بأبيقور على أيدي معاصريه من الرواقيين وخلفائهم، الذين استنكروا ما بدا لهم أنه نظرة إلى الحياة مفرطة في المادية لدى الأبيقوريين. وهذا رأي يزداد خطؤه وتضليله وضوحا إذا أدركنا أن مجموعة الأبيقوريين كانت تحيا بالفعل حياة متقشفة.
لقد كان أبيقور ماديا بمعنى أنه كان يؤمن بالمذهب الذري عند ديمقريطس، غير أنه لم يأخذ بالرأي القائل إن حركة الذرات تحكمها قوانين صارمة؛ ففكرة القانون - كما أوضحنا من قبل - مستمدة في الأصل من المجال الاجتماعي. ولم تطبق على أحداث العالم الطبيعي إلا فيما بعد، والدين بدوره ظاهرة إجماعية، ومن هنا فإن هذين الاتجاهين الفكريين يتلاقيان في قولهما بمفهوم الضرورة.
فالآلهة هي المشرعة النهائية للقوانين، وهكذا فإن أبيقور في رفضه للدين اضطر إلى استبعاد قانون الضرورة الصارم بدوره. وعلى ذلك فإن الذرات عند أبيقور يسمح لها بقدر معين من الاستقلال التلقائي، وإن كانت أية عملية معينة ما إن تبدأ في الحدوث، حتى يصبح مجراها التالي متمشيا مع القوانين كما هي الحال عند ديمقريطس.
أما عن النفس، فإنها لا تعدو أن تكون نوعا من المادة تختلط جزيئاته بالذرات المكونة للجسم. ويفسر الإحساس بأنه تصادم انبعاثات من الأشياء مع ذرات النفس، وحين يحل الموت تفقد ذرات النفس تماسكها مع الجسم وتتبعثر، فتظل باقية بوصفها ذرات، ولكنها لا تعود قادرة على الإحساس، وعلى هذا النحو يثبت أبيقور أن الخوف من الموت أمر يتنافى مع العقل؛ لأن الموت ذاته ليس شيئا يمكننا أن نجربه، وعلى الرغم من أنه كان يعارض الدين بشدة ، فإنه لم يرفض فكرة وجود الآلهة، غير أن وجودها لا يزيد حياتنا خيرا أو شرا؛ ذلك لأن الآلهة ذاتها تمارس المبادئ الأبيقورية بكل شغف، ومن ثم فهي لا تكترث بمشاكل البشر، ولا تفرض ثوابا أو عقابا.
ومجمل القول إن من واجبنا أن نسلك سبيل الحرص والاعتدال بهدف بلوغ حالة من التوازن الذي لا يعكره شيء، وهو أرفع اللذات، ومن ثم فهو الخير الأسمى.
على أن الأبيقورية، على خلاف المدارس الأخرى، لم تصنع تراثا علميا، وقد ظلت اتجاهاتها الفكرية التحررية، ومعارضتها للممارسات الخرافية، تلقى احتراما بين صفوة مختارة من الطبقات العليا في أوائل عهد الإمبراطورية الرومانية، على الرغم من أن الرواقية أخذت تحل محلها بالتدريج، حتى على المستوى الأخلاقي، ولا يظهر بعد ذلك في التراث الأبيقوري إلا اسم واحد مشهور هو اسم الشاعر الروماني لوكريتيوس
Lucretius ، الذي عاش من عام 99 حتى عام 55ق.م؛ إذ قدم لوكريتيوس عرضا للمذهب الأبيقوري في كتاب شعري مشهور اسمه «في طبيعة الأشياء
De rerum natural »، أما أقوى الحركات الفلسفية تأثيرا من بين المذاهب التي ازدهرت في العصر الهلينستي فهي الرواقية. ولقد كانت الرواقية مذهبا أضعف ارتباطا بأرض اليونان الأصلية من المدارس الأثينية الكبرى؛ ولذلك كان البعض من أشهر ممثليها شرقيين، وفيما بعد كانوا من الرومان الغربيين، وكان مؤسس الحركة فينيقيا قبرصيا اسمه زينون، لا نعرف تاريخ مولده بالضبط، ولكنه يقع خلال النصف الثاني من القرن الرابع ق.م، وقد انتقل في شبابه أولا إلى أثينا؛ لمتابعة الأعمال التجارية لأسرته، وهناك ظهرت ميوله الفلسفية، فتخلى عن التجارة وأنشأ بعد مدة مدارسة خاصة به، وكان من عادته أن يحاضر في رواق بويكيلي
Stoa Poikile ، وهو ممر مسقوف ومصبوغ بألوان متعددة، ومن هنا جاء اسم المذهب الرواقي
Stoicism
استمرت الفلسفة الرواقية زهاء خمسة قرون، وخلال هذه المدة طرأت على تعاليمها تغيرات كبيرة، غير أن ما يجمع الحركة كلها هو تعاليمها الأخلاقية التي ظلت على ما هي عليه طوال الوقت. ويرجع أصل هذا الجانب في الرواقية إلى الطريقة السقراطية في الحياة، وهكذا كانت الفضائل التي يقدرها الرواقيون هي الشجاعة في مواجهة الخطر والألم، وعدم الاكتراث بالأوضاع المادية. وكان هذا التأكيد لأهمية قوة التحمل والتنزه هو الذي أضفى على كلمة «الرواقي» معناها الحديث.
إن الرواقية - من حيث هي نظرية أخلاقية - تبدو نظاما صارما لا لون له، إذا ما قورن بنظريات العصر الكلاسيكي، غير أنها نجحت من حيث هي مذهب في اجتذاب محدد من الأتباع يفوق ما اجتذبه مذهب أفلاطون وأرسطو، ومن الجائز أن تأكيد أفلاطون للمعرفة بوصفها الخير الأسمى لم يكن يقبل بسهولة بين أناس كانوا منغمسين في الحياة العملية. وعلى أية حال فقد كان الذهب الرواقي هو الذي استحوذ على خيال الملوك والحكام الهلينستيين. أما مسألة إن كان هذا يكفي لتحقيق آمال سقراط في أن يصبح الفلاسفة ملوكا والملوك فلاسفة، فهذا أمر مشكوك فيه.
ولم يتبق لنا شيء من أعمال الرواقيين الأوائل إلا على شكل شذرات، وإن كان من الممكن تكوين فكرة معقولة عن تعاليمهم عن طريق تجميعها، ويبدو أن اهتمام زينون كان أخلاقيا في المحل الأول، ومن المسائل الرئيسية التي ظلت تشغل الاهتمام طوال عهد الفلسفة الرواقية مشكلة الحتمية وحرية الإرادة، وهي مسألة فلسفية كبرى ظلت تحتفظ بقدر من الحيوية جعلها موضوعا لاهتمام الفلاسفة عبر العصور حتى يومنا هذا؛ ففي رأي زينون أن الطبيعة خاضعة بدقة لحكم القانون، ويبدو أن نظريته الكونية قد استلهمت آراء الفلاسفة السابقين لسقراط أساسا؛ فقد كان زينون يرى، مثل هرقليطس، أن المادة الأصلية هي النار، ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمضي الوقت، وذلك على نحو يشبه نظريات أنكساجوراس إلى حد ما. وفي النهاية يحدث حريق شامل، ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، وتبدأ الأمور كلها سيرتها من جديد، كما في نظرية الدورات عند أنبادقليس، أما القوانين التي يسير العالم في مجراه وفقا لها فتصدر عن سلطة عليا تحكم التاريخ في كافة تفاصيله؛ فكل شيء يحدث من أجل هدف معين على نحو مقدر مقدما. أما الفاعلية العليا أو الإلهية فلا تعد شيئا خارجا عن العالم، وإنما هي تسري فيه كالماء حين يتسرب في الرمال. وهكذا فإن الله قوة كامنة يحيا جزء منها داخل كل كائن بشري، وقد أصبح هذا الاتجاه في التفكير مشهورا في العصر الحديث بفضل الكتابات الفلسفية لاسبينوزا الذي تأثر بالتراث الرواقي.
وأسمى خير هو الفضيلة التي يكون قوامها هو العيش في وحدة مع العالم، ولكن ينبغي ألا نتصور هذه الفكرة على أنها تحصيل حاصل، على أساس أن كل ما يوجد لا بد أن يكون في وحدة مع العالم، بل إن المقصود هنا هو توجيه إرادة الشخص، بحيث تمتزج بالطبيعة بدلا من أن تعارضها، أما النعم الدنيوية فلا تعد ذات قيمة كبيرة؛ فقد يحرم طاغية إنسانا من كل الأشياء الخارجية التي يملكها، بل حتى من الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يسلبه فضيلته، التي هي ملك له متأصل فيه، يستحيل انتزاعه منه، وهكذا نصل إلى النتيجة القائلة إن الإنسان حين يرفض المطالب الزائفة للخيرات الخارجية تصبح حريته كاملة؛ لأن فضيلته التي هي وحدها الشيء الجدير بالاهتمام، لا يمكن أن يؤثر فيها أي ضغط خارجي.
وعلى الرغم مما تثيره هذه الآراء من إعجاب بوصفها قواعد لحياة كريمة، فإن في المذهب أخطاء خطيرة من حيث هو نظرية أخلاقية؛ وذلك لأنه إذا كان العالم يحكمه القانون، فلا جدوى من أن تعظ الناس بأن الفضيلة تعلو على كل شيء، إذ إن السبب الوحيد الذي جعل الفضلاء فضلاء هو أن الأمور كان ينبغي أن تكون على هذا النحو، وكذلك الحال في الأشرار، وماذا نقول عندئذ عن الألوهية التي تدبر للشر مقدما؟ إن الاقتراح الذي تقدم به أفلاطون في أحد مواضع «الجمهورية»، والقائل إن الله هو فاعل الخير وحده في العالم، لن يجدي هنا فتيلا. يمكننا أن نوجه اعتراضات مماثلة إلى اسبينوزا وليبنتس
6
اللذين يحاولان تجنب الصعوبة بالقول إن العقل البشري عاجز عن إدراك ضرورة الأشياء ككل، على حين أن كل شيء مرتب على أفضل نحو في أحسن عالم ممكن.
ولكن بغض النظر تماما عن الصعوبات المنطقية في النظرية، فيبدو أن هناك أخطاء واقعية واضحة؛ ذلك لأن من حقنا أن نخشى ألا يكون البؤس بوجه عام مؤديا إلى رفع شأن الفضيلة أو إعلاء الروح، وفضلا عن ذلك فإن من الاكتشافات الباعثة للأسى في هذا العصر التقدمي الذي نعيش فيه أن من الممكن باستخدام المهارة اللازمة تحطيم إرادة أي شخص تقريبا مهما كانت صلابة معدنه، ولكن الأمر الذي تصدق فيه الرواقية بحق هو إدراكها أن الفضيلة من حيث هي خير داخلي، أهم بمعنى ما من كل ما عداها. فمن الممكن دائما أن نعوض بقدر معين ما يضيع من الممتلكات المادية، أما إذا فقد المرء احترامه لذاته، فإنه ينحط إلى ما دون مستوى البشر.
أما أول عرض منهجي للمذهب الرواقي فيقال إنه يرجع إلى كريسبوس
Chrysippus
207-280ق.م، وإن كانت مؤلفاته لم يبق منها شيء. في هذه المرحلة كان الرواقيون يبدون اهتماما أكبر بالمنطق واللغة، فصاغوا نظرية القياس الشرطي والانفصالي، واكتشفوا علاقة منطقية هامة تسمى في المصطلح الحديث بالتضمن (أو اللزوم) المادي، تلك هي العلاقة بين القضيتين في الحالة التي لا تكون فيها الأولى صادقة والثانية كاذبة. فلنتأمل القضية: «إذا هبط البارومتر (مقياس الضغط الجوي) نزل المطر»، هنا نجد العلاقة بين عبارة «هبط البارومتر» وعبارة «نزل المطر» علاقة لزوم مادي.
كذلك اخترع الرواقيون مصطلحات للنحو الذي أصبح لأول مرة على أيديهم ميدانا للبحث العلمي المنظم؛ فأسماء الحالات النحوية اختراع رواقي، وقد وصلت الترجمات اللاتينية لهذه الحالات إلى اللغات الأجنبية الحديثة عن طريق النحويين الرومان، وما زالت تستخدم حتى اليوم.
ولقد اكتسبت التعاليم الرواقية مكانة قوية في روما بفضل الجهود الأدبية للفيلسوف شيشرون
Cicero
الذي درس على الفيلسوف الرواقي بوزيدونيوس
، وكان هذا الإغريقي القادم من سوريا قد قام بأسفار كثيرة، وأسهم في ميادين متعددة، منها ميدان الفلك الذي تحدثنا عن بحوثه فيه من قبل، ومنها ميدان التاريخ الذي واصل فيه أعمال المؤرخ بوليبيوس
. أما موقفه الفلسفي فكان فيه جانب من تراث الأكاديمية القديم، في وقت كانت فيه الأكاديمية ذاتها قد أصبحت خاضعة لتأثير الشكاك كما ذكرنا من قبل، وعلى الرغم من أن ممثلي الرواقية المتأخرين كانوا من الوجهة الفلسفية أقل أهمية، فقد بقيت لنا كتابات ثلاثة منهم كاملة، كما أننا نعرف معلومات كثيرة عن حياتهم. ورغم أن أوضاعهم الاجتماعية كانت تتفاوت بشدة، فإن فلسفاتهم كانت متشابهة إلى حد بعيد، هؤلاء هم: سنكا
Seneca
عضو مجلس الشيوخ الروماني الذي كان ينحدر من أصل أسباني، وإبكتيتوس
Epictetus
العبد اليوناني الذي أعتق في عهد نيرون، وماركوس أوريليوس
Marcus Aurelius
الإمبراطور الذي ينتمي إلى القرن الثاني الميلادي، وكلهم كتبوا مقالات أخلاقية تسري فيها الروح الرواقية.
ولد سنكا عام 3ق.م. أو حوالي ذلك، وكان ينتمي إلى أسرة أسبانية ميسورة الحال، انتقلت إلى العيش في روما، ومارس العمل السياسي حتى احتل منصبا وزاريا، ولكن الأقدار تربصت له في عهد كلاوديوس
Claudius ، الذي كانت شخصيته ضعيفة، ورضخ لرغبة زوجته ميسالينا
Messalina
حين طلبت إليه أن ينفي سنكا عام 41 ميلادية. ويبدو أن سنكا، الذي كان عندئذ عضوا في مجلس الشيوخ، قد مارس قدرا زائدا من الحرية في انتقاد سلوك الإمبراطورة التي كانت بدورها تسلك في حياتها بطريقة أكثر تحررا مما ينبغي، والتي انتهت حياتها على أية حالة نهاية مفاجئة بعد بضع سنوات، وتزوج كلاوديوس بعدها من أجريينا
Agrippina
التي أنجبت له نيرون. وفي عام 48 ميلادية استدعي سنكا من منفاه في كورسيكا؛ لكي يتولى تربية وريث العرش الإمبراطوري. غير أن الأمير الروماني لم يكن يبشر بأي خير بالنسبة إلى الجهود التربوية التي بذلها الفيلسوف الرواقي. ومع ذلك فإن سنكا ذاته كان بعيدا كل البعد عن نوع الحياة المتوقع من شخص يعظ الناس بالأخلاق الرواقية، فقد جمع ثروة طائلة اكتسب معظمها عن طريق إقراض النقود إلى سكان بريطانيا بأرباح ضخمة. ومن الجائز أن هذا كان أحد أسباب التذمر الذي أدى إلى التمرد في الولاية البريطانية، ولكن البريطانيين - ولله الحمد - يحتاجون الآن، لكي تتولد لديهم عقلية ثورية، إلى ما هو أكثر من أسعار فائدة عالية. وعندما أصبح نيرون أكثر استبدادا وجنونا عاد إلى اضطهاد سنكا مرة أخرى، وفي النهاية طلب إليه أن ينتحر بدلا من أن توقع عليه عقوبة الإعدام، ففعل ذلك بالطريقة التي كانت سائدة في ذلك الحين، وهي قطع شرايينه. وهكذا يمكن القول إن طريقة موته كانت متمشية مع فلسفته، على الرغم من أن حماته لم تكن في عمومها متسمة بالطابع الرواقي.
أما إبكتيتوس فكان يونانيا، ولد حوالي عام 60 ميلادية، ويذكرنا اسمه ذاته بأنه كان عبدا؛ لأن معنى الاسم هو الشخص المقتنى. ولقد ترك فيه سوء المعاملة الذي تعرض له خلال سنواته الأولى آثارا دائمة هي رجل عرجاء، واعتلال عام في صحته.
وعندما اكتسب إبكتيتوس حريته، بدأ يقوم بالتدريس في روما حتى عام 90 ميلادية، حين طرده دوميتيان
Domitian ، ومعه رواقيون آخرون؛ لأنهم كانوا ينتقدون حكم الإمبراطور الإرهابي، ويشكلون قوة معنوية تقف في وجه العرش الإمبراطوري، وقضى سنوات حياته الأخيرة في نيكوبوليس
Nicopolis
في الشمال الغربي لليونان، حيث توفي حوالي عام 100 ميلادية، وبفضل تلميذه أريان
Arrian
حفظت لنا بعض أحاديث إبكتيتوس، وفيها نجد الأخلاق الرواقية معروضة بطريقة تتمشى إلى حد بعيد مع ما أوضحناه من قبل.
وإذا كان إبكتيتوس قد ولد عبدا، فإن آخر الكتاب الرواقيين العظام كان، على العكس من ذلك، إمبراطورا. فقد عاش ماركوس أوريليوس ما بين عام 121 وعام 180 ميلادية، وتبناه عمه، أنطونينوس بيوس
Antoninus Pius
الذي كان من أكثر أباطرة الرومان تحضرا، كما يوحي بذلك لقبه الأخير (الذي يعني: التقي). وقد خلفه ماركوس أوريليوس على العرش في عام 161 ميلادية، وقضى بقية حياته في خدمة الإمبراطورية، وكان الزمن الذي عاش فيه زمن اضطرابات طبيعية وعسكرية، وانشغل الإمبراطور دوما بكبح جماح القبائل البربرية الذين أخذت غاراتهم على حدود الإمبراطورية تهدد سيادة روما. وعلى الرغم من أن حمل المنصب كان ثقيلا عليه، فقد رأى من واجبه أن يضطلع به، ونظرا إلى أن الدولة كانت مهددة بأخطار خارجية وداخلية، فقد اتخذ من الإجراءات ما يساعد على حفظ النظام، فاضطهد المسيحيين، لا بدافع الشر، بل لأن رفضهم لعقيدة الدولة كان مصدرا للشقاق. ولعله كان في ذلك على حق، وإن كان الاضطهاد في الوقت ذاته هو دائما علامة على ضعف من يمارسه؛ فالمجتمع الواثق من نفسه، المستقر بثبات، لا يحتاج إلى اضطهاد الخارجين عنه.
ولقد وصل إلينا النص الكامل لكتاب «التأملات
Meditations » لماركوس أوريليوس، وهذه التأملات هي يوميات من الخواطر الفلسفية سجلت بقدر ما كان يسمح الوقت، خلال لحظات الراحة التي كان الإمبراطور يختطفها اختطافا من وسط مهامه الحربية، ومشاغله في إدارة الشئون العامة. ومن الجدير بالذكر أن ماركوس أوريليوس على الرغم من اعتناقه للنظرية الرواقية العامة في الخير، كان يحمل آراء عن الواجب الاجتماعي أقرب إلى روح أفلاطون. فلما كان الإنسان كائنا اجتماعيا، فإن من واجبنا أن نقوم بدورنا في الشئون السياسية العامة، ويؤدي ذلك على الصعيد الأخلاقي إلى تأكيد الصعوبة المتعلقة بحرية الإرادة والحتمية، التي أشرنا إليها من قبل؛ فقد رأينا أن الفضيلة أو الرذيلة لدى الإنسان هي، حسب الموقف الرواقي العام، مسألة شخصية لا تأثير لها على الغير، أما في ضوء الموقف الاجتماعي فإن الصفات الأخلاقية لكل شخص يمكن أن يكون لها تأثير واضح جدا على كل شيء آخر.
ولو كان الإمبراطور قد نظر إلى واجباته بطريقة أقل تشددا لازداد الشقاق بلا جدال بالنسبة إلى ما كان موجودا من قبل. على أن الرواقية لم تستطع قط أن تهتدي إلى حل مقنع لهذه الصعوبة.
أما فيما يتعلق بمسألة المبادئ الأولى، التي كانت مشكلة تخلفت من عصر أفلاطون وأرسطو، فقد وضع الرواقيون نظرية في الأفكار الفطرية، التي هي نقاط بداية بديهية وواضحة بذاتها، يمكن أن تبدأ بها العملية الاستنباطية. وقد أصبح هذا الرأي سائدا في فلسفة العصور الوسطى، كما قال به بعض أصحاب المذهب العقلي من المحدثين؛ إذ إنه يعد حجر الزاوية من الوجهة الميتافيزيقية في المنهج الديكارتي. وقد كان المذهب الرواقي، في تصوره للإنسان، أكرم من نظريات العصر الكلاسيكي؛ فأرسطو - كما ذكرنا من قبل - قد ذهب إلى حد الاعتراف بأن اليوناني ينبغي ألا يكون عبدا لأي واحد من مواطنيه، أما الرواقية فإنها ذهبت إلى أن الناس جميعا، بمعنى معين، متساوون، وكانت في ذلك تسير على هدي الممارسة التي اتبعها الإسكندر، وإن كان الرق قد انتشر خلال عصور الإمبراطورية على نطاق أوسع مما كان في أي عهد مضى. وفي ضوء هذا الاتجاه الفكري، أدخلت الرواقية التمييز بين القانون الطبيعي وقانون الأمم، والمقصود بالحق الطبيعي هنا ما يكون من حق الإنسان بناء على طبيعته البشرية وحدها. ولقد كان لنظرية الحقوق الطبيعية بعض التأثيرات النافعة على التشريع الروماني؛ لأنها خففت من محنة أولئك الذين حرموا من أن يكون لهم مركز اجتماعي بالمعنى الكامل. وقد أعيد إحياء هذه النظرية لأسباب مماثلة، في الفترة التالية لعصر النهضة الأوروبية، وذلك خلال الصراع ضد فكرة حقوق الملوك الإلهية.
وعلى الرغم من أن اليونان كانت هي ذاتها المركز الثقافي للعالم، فإنها لم تتمكن من الاستمرار بوصفها أمة حرة مستقلة. ومن جهة أخرى فإن التقاليد الثقافية اليونانية قد انتشرت طولا وعرضا، وخلفت آثارا دائمة، وذلك في الحضارة الغربية على الأقل؛ فقد اصطبغ الشرق الأوسط بالصبغة اليونانية بفضل تأثير الإسكندر، أما في الغرب فقد أصبحت روما حاملة لواء التراث اليوناني.
كان أول اتصال بين اليونان وروما هو ذلك الذي حدث عن طريق المستعمرات اليونانية في جنوب إيطاليا، ولم يترتب على حملات الإسكندر تعكير للأوضاع في البلاد التي تقع غرب اليونان.
ففي بداية العصر الهلينستي، كانت القوتان الكبيرتان في المنطقة هما سراقوزة وقرطاجة، وكلتاهما سقطت في أيدي الرومان خلال القرن الثالث؛ نتيجة للحربين الأوليين في الحرب البونية
.
وخلال هذه العمليات العسكرية ضمت أسبانيا، وقد شهد القرن الثاني غزو اليونان ومقدونيا، ثم نشبت حرب «بونية» ثالثة انتهت بتدمير شامل لمدينة قرطاجة في عام 146. وفي العام نفسه لقيت كورنثة نفس المصير على أيدي الجحافل الرومانية، على أن عمليات التدمير هذه، التي كانت تتسم بقسوة متعمدة، كانت هي الاستثناء، وقد وجدت من ينتقدونها في ذلك العصر، كما في العصور التالية. ومن هذه الناحية يمكننا أن نقول إن عصرنا الحاضر يعود بسرعة إلى العصور البربرية.
وخلال القرن الأول ق.م. أضيفت آسيا الصغرى وسوريا ومصر وبلاد الغال إلى الأقاليم الرومانية، بينما بريطانيا في القرن الأول الميلادي. ولم تكن هذه الغزوات المتعاقبة نتيجة تعطش إلى المغامرة فحسب، بل لقد أملاها البحث عن حدود طبيعية يمكن الدفاع عنها دون صعوبة كبيرة في وجه إغارات القبائل المعادية التي تعيش وراء هذه الحدود، وقد أمكن بلوغ هذا الهدف في السنوات الأولى للإمبراطورية؛ إذ كانت أراضي روما تحد من الشمال بنهرين كبيرين، هما الراين والدانوب، ومن الشرق بالفرات والصحراء العربية، ومن الجنوب بالصحراء الكبرى، ومن المغيط بالمحيط. وفي هذا الإطار عاشت الإمبراطورية الرومانية في سلام واستقرار نسبيين خلال القرنين الأولين بعد الميلاد.
وكانت روما قد بدأت سياسيا بوصفها دولة مدينة مشابهة من نواح كثيرة لنظائرها في اليونان. ومرت بفترة أحيطت بالأساطير حكمها خلالها الملوك الإتروسكيون
Etruscan ، أعقبتها جمهورية تسودها طبقة حاكمة أرستقراطية كانت تسيطر على مجلس الشيوخ (الأعيان). ومع نمو حجم الدولة وازدياد أهميتها، حدثت تغيرات دستورية في اتجاه الديمقراطية، وفرضت هذه التغييرات نفسها عليها. صحيح أن مجلس الشيوخ ظل يحتفظ لنفسه بسلطات كبيرة، ولكن المجلس الشعبي أصبح يمثل بلجان كلها لها صوت في شئون الدولة، كذلك أصبح منصب القنصل في النهاية متاحا لأشخاص من أصول غير أرستقراطية. غير أن الغزو والتوسع أديا إلى اكتساب الأسر الحاكمة ثروات هائلة، على حين أن صغار الملاك طردوا من الأرض باستخدام قوة عمل العبيد في الأراضي الزراعية ذات المساحة الضخمة التي كان يحوزها ملاك غير مقيمين. وهكذا أصبحت السيادة المطلقة لمجلس الشيوخ، ولم يكتب النجاح لحركة ديمقراطية شعبية قادها جراكي
Gracchi
قرب نهاية القرن الثاني ق.م. كما أدت سلسلة من الحروب الأهلية في نهاية الأمر إلى إقامة الحكم الإمبراطوري. وأخيرا نجح أوكتافيان
Octavian
ابن يوليوس قيصر بالتبني، في إعادة النظام، ومنح لقب «أغسطس
Ougustus » (الممجد)، وحكم بوصفه إمبراطورا، وإن كان قد احتفظ شكليا بالمؤسسات الديمقراطية.
ولقد ظلت الإمبراطورية الرومانية تعيش - على وجه العموم - في سلام طوال ما يقرب من مائتي عام بعد موت أغسطس في عام 41 ميلادية. صحيح أنه قد ثارت بعض القلاقل الداخلية، وحدثت اضطهادات، ولكنها لم تكن ذات أبعاد تؤدي إلى زعزعة أركان الحكم الإمبراطوري. وهكذا كانت الحروب تشن على طول الحدود ، على حين أن روما كانت تحيا حياة هادئة منظمة.
وفي النهاية أخذ الجيش ذاته يعمل على استغلال قوته، التي كان يستخدمها في الحصول على الذهب مقابل منحه التأييد للحاكم.
وعلى هذا النحو أصبح الأباطرة يرتقون العرش بتأييد من الجيش، ويسقطون بمجرد سحب هذا التأييد، وقد أمكن تجنب الكارثة لفترة ما بفضل الجهود الدائبة التي بذلها ديوكليتيان
Diocletian (286-305) وقسطنطين
Constantine (337-312)، ولكنهما اتخذا تدابير للطوارئ أدى بعضها إلى زيادة سرعة التدهور، وكان يحارب في صف الإمبراطورية أعداد كبيرة من المرتزقة الألمان، وقد تبين في النهاية أن هذا كان واحدا من عوامل سقوطها. وبمضي الوقت أصبح الأمراء البرابرة، الذين تدربوا على فنون الحرب خلال خدمتهم في الجيوش الرومانية، يعتقدون أن مهاراتهم التي اكتسبوها حديثا يمكن أن تجلب مكسبا أكبر إذا ما استخدمت لتحقيق مصالحهم الخاصة بدلا من مصلحة سادتهم الرومان. وهكذا سقطت مدينة روما في أيدي القوط بعد فترة قصيرة لا تتجاوز مائة عام. ومع ذلك فقد بقي شيء من التراث الثقافي الماضي عن طريق تأثير المسيحية، التي أصبحت في عهد قسطنطين هي العقيدة الرسمية للدولة. فبقدر ما اعتنق الغزاة هذا الدين، استطاعت الكنيسة أن تحتفظ إلى حد ما بمعارف الحضارة اليونانية، أما الإمبراطورية الشرقية فكان مصيرها مختلفا؛ إذ فرض المسلمون عليها عقيدتهم، ونقلوا التراث اليوناني إلى الغرب من خلال حضارتهم الخاصة.
لقد كانت لروما حضارة تكاد تكون كلها مستعارة؛ إذ كان العالم الروماني في فنونه وعماراته وآدابه وفلسفته يحاكي النماذج اليونانية العظيمة مع تفاوت في حظه من النجاح. وبرغم ذلك فإن هناك ميدانا واحدا نجح فيه الرومان حيث أخفق اليونانيون، بل والإسكندر ذاته. ذلك هو ميدان الحكم على نطاق واسع بما فيه من قانون وإدارة، في هذا الميدان كان لروما بعض التأثير على الفكر اليوناني؛ فقد رأينا من قبل أن يونانيي العصور الكلاسيكية كانوا في المسائل السياسية عاجزين عن تجاوز المثل العليا لدولة المدينة. أما روما فكانت رؤيتها أوسع، وفرض هذا نفسه على المؤرخ بوليبيوس
، وهو يوناني ولد حوالي عام 200ق.م. وسقط في أسر الرومان، وكان بوليبيوس، شأنه شأن بانايتيوس
الرواقي، ينتمي إلى حلقة من المثقفين كانت تتجمع حول سكيبيو
Scipio
الأصغر، ولكن باستثناء هذا التأثير السياسي لم يكن في استطاعة روما أن تقدم شيئا يمكنه أن يلهم المفكرين اليونانيين أفكارا جديدة. ومن جهة أخرى فإن اليونان وإن تكن قد تحطمت من حيث هي دولة، كانت منتصرة في الميدان الثقافي على غزاتها الرومان. فقد كان الرومان المثقفون يتكلمون اليونانية، مثلما كان المثقفون الأوروبيون حتى عهد قريب يتكلمون الفرنسية. وكانت الأكاديمية في أثينا تجتذب أبناء الطبقة الرومانية العليا، وفيها تعلم شيشرون. وهكذا فإن المعايير اليونانية كانت تطبق في كل مجال، وكانت نواتج روما في نواح كثيرة مجرد نسخة باهتة لأصول يونانية. وكانت الفلسفة الرومانية بوجه خاص عقيمة في التفكير الأصيل.
ولقد أسهم طابع النقد والتشكيك الذي اتسم به التراث اليوناني، مقرونا بالانهيار الذي حدث في العصور الهلينستية، في التخفيف من صرامة الفضائل الرومانية القديمة، وخاصة عندما تدفقت على البلاد ثروات هائلة نتيجة للتوسع فيما وراء البحار.
صحيح أن التأثير الإغريقي الأصيل قد تناقصت قوته، وأصبح مركزا في أفراد قلائل، وخاصة بين الطبقة الأرستقراطية في مدينة روما.
ولكن العناصر غير الإغريقية في الحضارة الهلينستية أخذت تزداد قوة بمضي الوقت؛ فقد كان الشرق كما لاحظنا من قبل يقدم عنصرا من التصوف كان في مجمله أقل سيطرة في الحضارة اليونانية، وعلى هذا النحو تسربت إلى الغرب المؤثرات الدينية الوافدة من بلاد ما بين النهرين ومن مناطق أخرى مجاورة، وأدت إلى حركة تلفيقية نشطة، خرجت منها المسيحية ذاتها ظافرة في نهاية الأمر. وفي الوقت ذاته شجع التيار الصوفي على انتشار شتى أنواع المعتقدات والممارسات الخرافية. وأخذت القوى اللاعاقلة تزداد رسوخا كلما قل رضاء الناس عن نصيبهم في هذه الحياة الأرضية، وكلما تضاءلت ثقتهم في قدراتهم الخاصة. صحيح أن الإمبراطورية قد تمتعت بقرنين من السلام، ولكن عهد السلام الروماني
Romana
لم يكن عصر نشاط عقلي بناء. فكانت الفلسفة، بقدر ما يمكن أن يقال إنها كانت موجودة، تسير في التيار الرواقي. أما في الجانب السياسي فقد كان ذلك يمثل تقدما بالقياس إلى النزعة الإقليمية التي كان يتسم بها كبار المفكرين الكلاسيكيين؛ إذ إن الرواقية كانت تدعو إلى الإخاء بين البشر. ونظرا إلى أن روما قد أصبحت هي حاكمة العالم المعروف عندئذ طوال قرون عدة، فإن هذه الفكرة الرواقية قد اكتسبت أهمية ملموسة، ولكن الإمبراطورية كانت بالطبع تنظر بدورها إلى العالم الخارجي عن حدودها بنفس الترفع الذي كان يمكن أن تنظر به دول المدينة اليونانية إليه. صحيح أنه كانت هناك بعض الاتصالات بالشرق الأقصى، غير أنها لم تكن تكفي لكي تقنع المواطن الروماني بأن هناك حضارات عظيمة أخرى لا يمكن استبعادها ببساطة على أنها أجنبية أو بربرية. وهكذا فإن روما، مع كل ما كانت تتسم به من اتساع أفق الرؤية، كانت معرضة لنفس الغرور الذي اتسم به أسلافها الثقافيون اليونان، بل إن الكنيسة المسيحية ذاتها قد ورثت هذه الرؤية المشوهة؛ لأنها أطلقت على نفسها اسم «الكاثوليكية» أي الشاملة أو العالمية، على الرغم من أنه كانت توجد في الشرق عقائد أخرى عظيمة لم تكن مذاهبها الأخلاقية تقل تقدما عن المسيحية؛ فقد كان الناس لا يزالون يحلمون بحكومة وحضارة عالميتين.
وهكذا فإن أعظم دور قامت به روما كان نقل ثقافة أقدم من ثقافتها وأرفع منها. وقد تحقق ذلك بفضل العبقرية التنظيمية للحكام الرومان، والتماسك الاجتماعي للإمبراطورية. وما زالت بقايا شبكة الطرق الواسعة في كافة أرجاء الأقاليم الرومانية تشهد بعظمة هذه القدرة التنظيمية. فقد أتاح التوسع الروماني لجزء كبير من أوروبا أن يصبح وحدة ثقافية واحدة، برغم الاختلافات القومية والعداوات التي نشبت في عصور لاحقة، وحتى الغزوات البربرية لم تتمكن من تحطيم هذا الأساس الثقافي إلى الحد الذي يستحيل إصلاحه. أما في الشرق فإن تأثير روما كان أقل دواما؛ وذلك بسبب الحيوية الهائلة التي اتسم بها العرب المسلمون الفاتحون.
وعلى حين أن الغزاة في الغرب قد اندمجوا في تراث يدين بالكثير لروما، فإن الشرق الأوسط كله تقريبا قد اعتنق عقيدة الفاتحين.
ولكن الغرب يدين للعرب بقدر كبير من معرفته باليونانيين، وهي المعرفة التي نقلها إلى أوروبا مفكرون مسلمون، وخاصة عن طريق أسبانيا.
وفي بريطانيا التي ظلت رومانية لمدة ثلاثة قرون، يبدو أن الغزوات الأنجلوسكسونية قد أدت إلى انفصال كامل عن التراث الروماني، وترتب على ذلك أن التراث الروماني العظيم في مجال القانون، الذي ظل باقيا في جميع أرجاء أوروبا الغربية الخاضعة لحكم روما، لم ترسخ أقدامه في بريطانيا، وما زال القانون العام الإنجليزي حتى يومنا هذا أنجلوسكسونيا. ولهذه المسألة نتيجة جديرة بالملاحظة في ميدان الفلسفة؛ ذلك لأن الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى ترتبط بالقانون ارتباطا وثيقا، وكان علم التفسير الفلسفي يسير جنبا إلى جنب مع الممارسة الشكلية الصارمة للتراث الروماني القديم. أما في إنجلترا حيث كان التراث القانوني الأنجلوسكسوني هو السائد، فإن الفلسفة ظلت في معظم الأحيان تحتفظ بطابع أكثر تجريبية حتى في ذروة العصر المدرسي.
ولقد اقترنت الاتجاهات التلفيقية التي كانت في ظل الإمبراطورية تمارس تأثيرها في ميدان الدين، بتطور مماثل في الفلسفة؛ فقد كان التيار الرئيسي للفلسفة رواقيا بوجه عام في العهد الأول من الإمبراطورية، على حين أن المذاهب الأفلاطونية والأرسطية الأكثر تفاؤلا قد استبعدت، ولكن بحلول القرن الثالث برز تفسير جديد للأخلاق القديمة في ضوء المذهب الرواقي، وهو تطور يتمشى إلى حد بعيد مع الأوضاع العامة للعصر. وأصبح هذا المزيج بين نظريات مختلفة يعرف باسم الأفلاطونية الجديدة، التي قدر لها أن تمارس تأثيرا كبيرا على اللاهوت المسيحي، فهي بمعنى ما جسر يمتد من العالم القديم إلى العصور الوسطى، بها انتهت فلسفة القدماء ، ومنها بدأ الفكر الوسيط.
وقد ظهرت الأفلاطونية الجديدة في الإسكندرية ملتقى طرق الشرق والغرب؛ ففيها كانت توجد مؤثرات دينية فارسية وبابلية، وبقايا الشعائر المصرية القديمة، وطائفة يهودية قوية تمارس عقيدتها الخاصة، وفرق مسيحية، ويضاف إلى هذا كله خلفية عامة من الحضارة الهلينستية. ويقال إن مؤسس المدرسة الأفلاطونية الجديدة هو أمونيوس ساكاس
Ammonius Saccas ، الذي لا يعرف عنه إلا القليل، ولكن أهم تلاميذه كان أفلوطين (204-270) الذي هو أعظم الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد. وقد ولد في مصر ، ودرس في الإسكندرية حيث عاش حتى عام 243.
ونظرا إلى اهتمام أفلوطين بعقائد الشرق وتصوفه، فقد سار في ركاب الإمبراطور جورديان
Gordian
الثالث في حملة ضد الفرس، غير أن هذه المهمة لم تنجح؛ إذ كان الإمبراطور شابا تعوزه الخبرة، وكانت تصرفاته تثير سخط أفراد جيشه، غير أن مثل هذه النزاعات كانت تحل في ذلك الحين بالطريقة الحاسمة، وهكذا لقي القيصر الشاب مصرعه قبل الأوان على أيدي أولئك الذين يفترض أنه قائدهم، وعلى أثر ذلك فر أفلوطين عام 244 من بلاد ما بين النهرين، التي كانت مسرح الجريمة، واستقر في روما، حيث عاش وقام بالتدريس حتى نهاية حياته. وقد بنيت كتاباته على مذكرات من الدروس التي كان يلقيها في سنواته الأخيرة، وأشرف على تحريرها تلميذه فرفوريوس
الذي كان يميل إلى الفيثاغورية. ونتيجة لذلك فقد اصطبغت أعمال أفلوطين كما وصلتنا بصبغة فيها شيء من التصوف، ربما كان سببها هو المشرف على التحرير.
وتحمل أعمال أفلوطين الباقية اسم «التساعيات
Enneads »؛ إذ يتألف كل منها من تسع كتب، وهي تتسم بطابع أفلاطوني عام، وإن كانت تفتقر إلى اتساع نطاق أعمال أفلاطون وحيويتها؛ إذ تكاد تقتصر كلها على نظرية المثل وبعض الأساطير الفيثاغورية. ويجد المرء في أعماله قدرا من الانعزال عن العالم الواقعي، وهو أمر لا يثير الدهشة حين يعرف المرء حالة الإمبراطورية في ذلك الحين؛ ذلك لأن المرء لا بد أن يكون متبلد الحس تماما، أو قوي الإرادة إلى حد غير عادي، حتى يحتفظ بحالة من الرضا الدائم إزاء القلاقل السائدة في ذلك العصر. وهكذا فإن نظرية المثل تنظر إلى عالم الحس، وما فيه من مظاهر التعاسة على أنه غير حقيقي تصلح تماما لإقناع الناس بقبول مصيرهم.
ولقد كانت النظرية الأساسية في ميتافيزيقا أفلوطين هي نظريته في الثالوث، الذي يتألف من الواحد، والعقل (النوس) والنفس، بهذا الترتيب في الأولوية والاعتماد، ولكن علينا أن نلاحظ قبل أن نعرض لهذا الموضوع أن هذه النظرية، برغم كل ما كان لها من تأثير على اللاهوت المسيحي، لم تكن هي ذاتها مسيحية، بل كانت أفلاطونية جديدة. ولقد كان هناك فيلسوف معاصر لأفلوطين، درس على أستاذه نفسه هو أوريجين
Origen ، الذي كان مسيحيا، وقال أيضا بنظرية في الثالوث، وضعت بدورها الأطراف الثلاثة على مستويات مختلفة، فاستحقت الإدانة فيما بعد بوصفها هرطقة. أما أفلوطين الذي كان تفكيره يقع خارج نطاق المسيحية فلم يكن معرضا لمثل هذه الإدانة، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل تأثيره يظل أعظم حتى عهد قسطنطين.
إن «الواحد» في ثالوث أفلوطين يشبه إلى حد بعيد الفلك الواحد عند بارمنيدس، الذي لا يمكننا أن نقول عنه أكثر من أنه «يوجد».
أما تقديم أي وصف آخر له، فيعني أنه قد تكون هناك أشياء أخرى أعظم منه. ويتحدث أفلوطين عن هذا الواحد أحيانا، وكأنه هو الإله، وأحيانا أخرى على أنه «الخير» على طريقة محاورة «الجمهورية». غير أنه أعظم من «الوجود»، حاضر في كل مكان، وليس في مكان شامل، ولكنه لا يعرف، وأفضل ما يمكن أن يفعله المرء إزاءه هو أن يصمت بدلا من أن يقول أي شيء، وهنا نرى بوضوح تأثير التصوف؛ ذلك لأن المتصوف بدوره يلوذ وراء حاجز الصمت والعجز عن الاتصال، ونستطيع أن نقول إن عظمة الفلسفة اليونانية تكمن آخر الأمر في اعترافها بالدور الأساسي للكلمة «اللوجوس». وهكذا فإن الفكر اليوناني، على الرغم من وجود بعض العناصر الصوفية فيه، كان في أساسه مضادا للتصوف.
والعنصر التالي في ثالوث أفلوطين هو ما يسميه بالعقل أو النوس، وهي كلمة يكاد يكون من المستحيل إيجاد ترجمة مطابقة لها، والمقصود هنا شيء يشبه الروح، لا بمعنى صوفي، بل بمعنى عقلي. وخير سبيل إلى إيضاح العلاقة بين النوس والواحد، هو استخدام تشبيه.
فالواحد أشبه بالشمس التي تبعث نورها الخاص، وعندئذ يكون النوس هو ذلك النور الذي يرى به الواحد ذاته. ويمكن بمعنى معين أن نشبهه بالوعي الذاتي، وحين نستخدم أذهاننا في الاتجاه الذي يبعدنا عن الحس يمكننا أن نصل إلى معرفة النوس، ومن خلاله إلى «الواحد» الذي يعد النوس صورة له. وهنا نجد نظيرا لفكرة الجدل في جمهورية أفلاطون، حيث يقال إن عملية مماثلة تؤدي بنا إلى رؤية صورة الخير.
أما العنصر الثالث والأخير في الثالوث، فيسمى بالنفس التي تتصف بطبيعة مزدوجة؛ فهي في جانبها الداخلي تتجه إلى أعلى، صوب النفوس، أما مظهرها الخارجي فيهبط بها إلى عالم الحس، الذي تكون خالقة له. والواقع أن نظرية أفلوطين تنكر مذهب «شمول الألوهية
»، وذلك على خلاف الطريقة الرواقية في التوحيد بين الله والعالم، وتعود إلى رأي سقراط، ولكن على الرغم من أنها تنظر إلى الطبيعة على أنها صادرة عن النفس، وهي في حالة هبوطها، فإنها لا ترى الطبيعة شرا، كما فعل «الغنوصيون
Gnostics »، بل إن صوفية أفلوطين تعترف اعترافا تاما بأن الطبيعة جميلة، وبأنها خيرة بوصفها تعبيرا عن نظام الأشياء كما ينبغي أن يكون. على أن الصوفية المتأخرين لم يشاركوا أفلوطين هذه النظرة السخية إلى الطبيعة، وكذلك فعل الدعاة الدينيون، بل والفلاسفة أنفسهم؛ فقد غلب عليهم طابع الانصراف إلى الحياة الأخرى، حتى أصبحوا يلعنون الجمال والمتعة بوصفهما انحطاطا وشرا، وإنه لمن المشكوك فيه إلى أبعد حد أن تلقى هذه التعاليم القاسية استجابة من أي شخص فيما عدا المتعصبين المهووسين. ومع ذلك فإن عقيدة القبح المعكوسة هذه ظلت سائدة طوال قرون عديدة، ويمكن القول إن المسيحية تنطوي في صورتها الرسمية على الفكرة الغريبة القائلة إن اللذة آثمة.
أما في موضوع الخلود، فقد أخذ أفلوطين بالرأي الذي عرض في محاورة «فيدون». إذ يقال إن نفس الإنسان ماهية، ولما كانت الماهيات أزلية فلا بد أن تكون النفس أزلية، وهذا يوازي رأي سقراط القائل إن النفس تدخل ضمن إطار الصور، ومع ذلك فقد تضمنت نظرية أفلوطين عنصرا أرسطيا معينا. فعلى الرغم من أزلية النفس، فإنها تتجه إلى الاندماج في النفوس، ومن ثم فإنها تفقد طابعها الشخصي، حتى لو لم تكن تفقد هويتها.
ها نحن الآن قد وصلنا إلى نهاية العرض الذي قدمناه للفلسفة القديمة، وخلال هذا العرض مررنا بما يقرب من تسعة قرون، من عصر طاليس حتى عصر أفلوطين. وإذا كنا قد حددنا خط التقسيم على هذا النحو، فهذا لا يعني أنه لم يكن هناك مفكرون لاحقون يمكن النظر إليهم على أنهم ينتمون بحق إلى تراث القدماء؛ فهذا الانتماء يصدق بمعنى معين على الفلسفة كلها في واقع الأمر. ومع ذلك فمن الممكن إدراك حالات انقطاع رئيسية في تطور التراث الثقافي، من هذه الحالات تلك النقطة التي بلغتها الفلسفة مع أفلوطين؛ فمنذ ذلك الحين أصبحت الفلسفة في الغرب على الأقل منطوية تحت جناح الكنيسة، وظلت هذه الحقيقة قائمة حتى مع وجود استثناءات، مثل بويتيوس
Boethius ، وفي الوقت ذاته فإن من المفيد أن نذكر أنفسنا بأنه عندما سقطت روما، استمر في المناطق الشرقية، تحت حكم بيزنطة أولا ثم في ظل الحكم الإسلامي، تراث فلسفي متحرر من الروابط الدينية (المسيحية).
إن المرء حين يعود بأنظاره إلى الإنجازات الفلسفية للعالم القديم، يشعر بالانبهار إزاء القوة غير العادية التي أبداها العقل اليوناني في إدراكه للمشكلات العامة.
وإذا كان أفلاطون قد قال إن بداية الفلسفة تكمن في الحيرة، فإن هذه القدرة على التعجب والدهشة قد توافرت لدى اليونانيين الأوائل بدرجة غير عادية، والواقع أن الفكرة العامة للبحث والتمحيص هي من الاختراعات اليونانية الكبرى التي أضفت على العالم الغربي طابعه الخاص. وبطبيعة الحال، فإن من غير المستحب في جميع الأحوال أن يجري المرء مقارنات بين ثقافات مختلفة، ولكن المرء لو شاء أن يلخص الحضارة الغربية في جملة واحدة قصيرة، لأمكن القول إنها مبنية على نزوع أخلاقي إلى بذل الجهد العقلي، وهو نزوع يوناني في المحل الأول.
أما السمة الأخرى الحيوية للفلسفة اليونانية، فهي أنها تستهدف العلانية أساسا؛ فحقائقها، على النحو الذي وجدت عليه، لا تدعي لنفسها هالة العصمة من الخطأ، ومنذ البداية أبدت تلك الفلسفة اهتماما كبيرا باللغة والاتصال. صحيح أنها تنطوي أيضا على بعض العناصر الصوفية، وذلك منذ أقدم عهودها، تتمثل في ذلك التيار الصوفي الفيثاغوري الذي يمتد طوال مجرى الفلسفة القديمة.
غير أن هذه الصوفية هي في واقع الأمر خارجة عن البحث العقلي ذاته. فهدفها هو في الواقع توجيه أخلاق الباحث نفسه، ولم يصبح للتصوف دور أهم من ذلك إلا عندما دب الانحلال، فالتصوف كما قلنا عند مناقشتنا لأفلوطين مضاد لروح الفلسفة اليونانية.
ومن أبرز المشكلات التي واجهت المفكرين القدامى بحدة تفوق مواجهة المحدثين لها بكثير أن الفلاسفة اليونانيين الأوائل لم يكونوا يرتكزون على دعامة من التراث الماضي، على حين أننا اليوم نستطيع أن نعود دوما إلى هذا التراث، فنحن نستمد الجانب الأكبر من مصطلحنا الفلسفي والعلمي والتكنولوجي من مصادر كلاسيكية، وكثيرا ما يفوتنا أن نقدر أهميتها حق قدرها. أما بالنسبة إلى الباحث اليوناني فقد كان لزاما عليه أن يبدأ كل شيء من البداية، وأن يصطنع طرقا جديدة للتعبير، وينحت مصطلحات فنية جديدة، بنيت على أساس المادة التي تقدمها لغة الحديث اليومي، فإذا بدا أحيانا أن طريقتهم في التعبير غير موفقة، فلا بد أن نتذكر أنهم كانوا في أحيان كثيرة يتلمسون طريق التعبير عن أنفسهم في وقت كانت فيه الأدوات اللازمة ما تزال في طور الإعداد. ولا بد للمرء من جهد عقلي لكي يعود بذهنه إلى تصور موقف كهذا، هو في الواقع أشبه بموقف الإنجليز الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى التفلسف بلغة أنجلوسكسونية، منفصلة عن اليونانية واللاتينية. وكان لا بد أن ينقضي اثنا عشر قرنا منذ العصر الذي وصلنا إليه حتى عهد إحياء المعرفة، وظهور العلم الحديث على أساس العودة إلى المصادر القديمة، وربما كان من قبيل إضاعة الوقت أن نتساءل: لماذا كان ينبغي أن تحدث فترة توقف النمو هذه؟ لأن أية محاولة للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن تكون مفرطة في التبسيط، ومع ذلك فمن الصحيح بلا شك أن مفكري اليونان وروما لم ينجحوا في تطوير نظرية سياسية صالحة للتطبيق.
وإذا كان سبب إخفاق اليونانيين هو نوع من الغرور الذي ولدته قدراتهم العقلية المتفوقة، فإن الرومان أخفقوا بسبب افتقارهما إلى الخيال فحسب. ويتمثل هذا الجمود الذهني على أنحاء شتى؛ من أبرزها العمارة الضخمة في عصور الإمبراطورية. فمن الممكن أن نرمز للفرق بين الروح اليونانية والروح الرومانية عن طريق تأمل معبد يوناني في مقابل كنيسة رومانية، وسنجد عندئذ أن التراث العقلي اليوناني قد تحول على أيدي الرومان إلى شيء أقل رقة ورشاقة بكثير.
لقد كان التراث الفلسفي اليوناني في أساسه حركة تنوير وتحرر؛ ذلك لأنه يستهدف تحرير العقل من نير الجهل، والتخلص من الخوف من المجهول عن طريق تصوير العالم على أنه قابل لأن يعرف بالعقل. وكانت أداة هذا التراث هي اللوجوس (العقل أو الكلمة)، وهدفه هو السعي إلى المعرفة في إطار مثال الخير. ولقد نظروا إلى البحث المنزه على أنه غير أخلاقي، يوصل الناس إلى الحياة الصالحة بدلا من أن يصلوا إليها عن طريق الأسرار الدينية. وإلى جانب تراث البحث العقلي، نجد نوعا من النظرة المتفائلة التي تخلو من المشاعر الزائفة؛ ففي رأي سقراط أن الحياة التي لا تخضع للنقد لا تستحق أن تعاش، وفي رأي أرسطو أن المهم ليس أن يعيش الإنسان طويلا، بل أن يعيش جيدا. ومن الصحيح أن جانبا من هذه النضارة قد فقد في العصور الهلينستية والرومانية، عندما توطدت أقدام مذهب رواقي كان وعيه بذاته أقوى. ولكن يظل من الصحيح أيضا أن أفضل ما في التكوين العقلي للحضارة الغربية يرجع إلى تراث المفكرين اليونانيين.
الفصل الرابع
المسيحية المبكرة
كانت الفلسفة في العصر اليوناني الروماني - كما هي اليوم - مستقلة في الأساس عن الدين. صحيح أن الفلاسفة يمكنهم أن يطرحوا أسئلة يمكن أن تكون لها في الوقت ذاته أهمية بالنسبة إلى من تعنيهم المسائل الدينية. غير أن المنظمات الكهنوتية لم يكن لها تأثير أو سلطة على مفكري تلك العصور، ومن هنا فإن الفترة الواقعة بين سقوط روما ونهاية العصور الوسطى تختلف في هذه الناحية عن العهد السابق والعهد اللاحق لها، فقد أصبحت الفلسفة في الغرب نشاطا يزدهر تحت رعاية الكنيسة، وفي ظل توجيهاتها، ولهذه الظاهرة أسباب عدة؛ ذلك لأنه عند انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، كانت مهام الأباطرة الآلهة عند الرومان قد توزعت بين سلطتين.
فمنذ أن أصبحت المسيحية عقيدة الدولة في عهد قسطنطين، استحوذت الكنيسة على جميع المسائل المتعلقة بالله والعقيدة، تاركة للإمبراطور الاهتمام بالشئون الدنيوية، وظلت سلطة الكنيسة قائمة لا ينازعها من حيث المبدأ شيء، وإن كانت قد أخذت تتناقص بالتدريج، حتى قضت حركة الإصلاح الديني على سيطرتها عندما أكدت أن علاقات الإنسان بالله ذات طابع شخصي، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكنائس أدوات في يد الدول القومية الناشئة.
وعلى حين أن التوارث الدنيوي (العلماني) في المعرفة ظل مستمرا لبعض الوقت في الأجزاء الوسطى من الأساس القديمة، فإن الشمال البربري لم يكن يملك تراثا كهذا لكي يعود إليه، وهكذا أصبحت فيه معرفة القراءة والكتابة وقفا على أعضاء الكنيسة، أو رجال الإكليروس
Clerics ، وهو تطور تاريخي ما زالت ذكراه باقية في الكلمة الإنجليزية الحديثة
Clerk (ومعناها كاتب، أو «شخص متعلم»)، وقد عملت الكنيسة على المحافظة على ما تبقى من تراث الماضي، وأصبحت الفلسفة فرعا من فروع المعرفة يستهدف تبرير سيطرة الكنيسة والساهرين على حمايتها، ولكن كانت هناك أنواع أخرى من التراث تكافح من أجل السيطرة، منها التراث الروماني القديم الذي كان تدهوره قد أدى إلى بروز دور الكنيسة في الأصل، ومنها التراث الجرماني الجديد الذي انبثقت منه تلك الأرستقراطيات الإقطاعية التي حلت محل التنظيم السياسي للإمبراطورية القديمة.
ولكن لم يكن أي من أنواع التراث هذه ممثلا بفلسفة اجتماعية متماسكة، فكان ذلك من أهم الأسباب التي جعلته عاجزا عن تحدي سلطة الكنيسة بنجاح، ولكن منذ النهضة الإيطالية التي بدأت منذ القرن الرابع عشر، أخذ التراث الروماني يعيد تأكيد ذاته بالتدريج، كما أن التراث الروماني انطلق مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، أما خلال العصور الوسطى فقد ظلت الفلسفة وثيقة الصلة بالكنيسة.
ولقد برزت في هذه الفترة ثنائيات أخرى كثيرة كانت موجودة في حالة كمون، إلى جانب الاستعاضة عن الإمبراطور الإله بسلطتي البابا بوصفه ممثلا لله من جهة، والإمبراطور من جهة أخرى.
فهناك تلك الثنائية الملموسة بين اللغة اللاتينية واللغة التيوتونية؛ إذ إن سلطة الكنيسة ظلت لاتينية، على حين أن الأساس سقطت في أيدي الخلفاء التيوتونيين للغزاة البرابرة. وظلت الأساس تعرف باسم الأساس الرومانية المقدسة للأمة الألمانية، حتى سقطت تحت وطأة هجمات نابليون، ثم يأتي بعد ذلك انقسام الناس إلى رجال لاهوت وأناس عاديين، وكان الأولون هم حماة العقيدة القديمة، ولما كانت الكنيسة قد قاومت بنجاح تأثير عدة حركات منشقة عنها، وذلك في الغرب على الأقل، فقد أدى ذلك إلى دعم كبير لمركز رجال الدين. ولقد كان بعض الأباطرة المسيحيين في الفترة الأولى متعاطفين مع الأريانية
Arianism ،
1
ولكن العقيدة الحرفية هي التي انتصرت في النهاية. ويأتي بعد ذلك التضاد بين مملكة السماء ومختلف ممالك الأرض، وهو تضاد نجد أصوله في الأناجيل، ولكنه اكتسب أهمية مباشرة بعد سقوط روما، إذ إنه أدى إلى الاعتقاد بأن البرابرة، وإن كانوا قادرين على تدمير المدينة، عاجزون عن تخريب مدينة الله. وأخيرا هناك التضاد بين الروح والبدن، وهو تضاد يرجع إلى أصول أقدم بكثير، من أهمها نظرية سقراط في الجسم والنفس، وقد أصبحت هذه المفاهيم في صورتها الأفلاطونية الجديدة أساسية في الصيغة التي وضعها القديس بولس للعقيدة الجديدة، ومن هذا المصدر استلهمت روح الزهد التي اتسمت بها المسيحية الأولى.
هذا، باختصار شديد، هو العالم الذي تطور فيه ما يمكن أن يطلق عليه إيجازا اسم الفلسفة الكاثوليكية، وقد وصلت هذه الفلسفة إلى أول مراحل نضوجها على يد القديس أوغسطين، الذي تأثر بأفلاطون أساسا، وبلغت قمتها على يد القديس توما الأكويني، الذي أرسى الكنيسة على أسس أرسطية ظل كبار أنصارها يدافعون عنها منذ ذلك الحين، ونظرا إلى أن هذه الفلسفة ترتبط بالكنيسة أوثق الارتباط، فإن أي عرض لتطورها وتأثيرها في العصور اللاحقة لا بد أن يتضمن قدرا من السرد التاريخي قد يبدو لأول وهلة زائدا عن الحد، ولكنه في الواقع ضروري لفهم روح ذلك العصر وفلسفته.
إن المسيحية التي أصبحت لها السيطرة في الغرب، منبثقة من عقيدة اليهود، مع بعض العناصر اليونانية والشرقية؛ فالمسيحية تشترك مع اليهودية في الرأي القائل إن الله يصطفي أناسا معينين، وإن كان نوع الناس المختارين يختلف بالطبع في الحالتين.
وللعقيدتين نفس النظرة إلى التاريخ الذي يبدأ بالخلق الإلهي، ويسير نحو تحقيق غاية إلهية، صحيح أنه كانت هناك بعض الاختلافات في الرأي في مسألة من هو المسيح، وما الذي سيقوم به؛ ففي نظر اليهود سيأتي المخلص فيما بعد، ويضمن لهم الغلبة في الأرض، على حين أن المسيحيين رأوه في يسوع الناصري، الذي لم تكن مملكته مع ذلك تنتمي إلى هذا العالم، وبالمثل فإن المسيحية استمدت من اليهودية مفهوم الصلاح بوصفه مبدأ يوجه المرء نحو مساعدة أقرانه، كما استمدت منها تأكيد ضرورة وجود أركان أساسية للعقيدة، وقد اشتركت اليهودية اللاحقة والمسيحية معا في تأكيد فكرة العالم الآخر، التي كانت فكرة أفلاطونية جديدة في المحل الأول،
2
ولكن على حين أن النظرية عند اليونانيين كانت فلسفية لا يسهل فهمها على الجميع، فإن الرأي اليهودي والمسيحي كان أقرب إلى فكرة تسوية الحسابات في العالم الآخر، حين يذهب الأخيار إلى الجنة ويحترق الأشرار في النار، ولقد أدى عنصر القصاص في هذه النظرية إلى جعلها مفهومة للجميع.
ولكي نفهم كيف تطورت هذه المعتقدات، ينبغي أن نتذكر أن «يهوه»، إله اليهود، كان في البداية إلها لقبيلة سامية قبل كل شيء، وكان يتولى حماية شعبة الخاص، بينما توجد إلى جانبه آلهة ترعى شئون القبائل الأخرى. ولما يكن يوجد في ذلك الحين أي تلميح إلى عالم آخر، فرب إسرائيل يدير الشئون الدنيوية لقبيلته، وهو إله غيور لا يقبل أن يرى لدى قومه آلهة غيره. أما الأنبياء القدامى فكانوا زعماء سياسيين قضوا وقتا طويلا في القضاء على عبادة الآلهة الآخرين، اتقاء لغضب «يهوه» وتحريض تماسك اليهود الاجتماعي للخطر. هذا الطابع القومي والقبلي للعقيدة اليهودية أذكته مجموعة من الكوارث التي حلت بهؤلاء القوم؛ ففي 722ق.م. سقطت إسرائيل المملكة الشمالية في أيدي الآشوريين الذين رحلوا معظم سكانها، وفي 606ق.م. استولى البابليون على نينوى ودمروا الإمبراطورية الآشورية، أما مملكة «جودا» الجنوبية فقد غزاها نبوخذ نصر ملك بابل، الذي استولى على أورشليم في عام 586ق.م، وحرق المعبد وأخذ أعدادا كبيرة من اليهود أسرى إلى بابل.
ولم يسمح لليهود بالعودة إلى أرض فلسطين إلا بعد السنة التي تمكن فيها قورش ملك فارس من الاستيلاء على بابل في عام 538، والواقع أن العقيدة الجامدة والطابع القومي للدين اليهودي قد اتخذا طابعا متصلبا خلال فترة الأسر في بابل، ولما كان المعبد قد دمر، فقد اضطر اليهود إلى الاستغناء عنه بطقوس للتضحية، وإلى هذه الفترة يعود جزء كبير من الشعائر التقليدية لعقيدتهم كما ظلت إلى اليوم.
وإلى هذه الفترة بدورها يرجع تشتت اليهود؛ ذلك لأنهم لم يعودوا جميعا إلى موطنهم، وإنما عاد البعض فقط وظل هؤلاء يشكلون دولة دينية قليلة الأهمية نسبيا، ولكنهم بعد الإسكندر حاولوا على نحو ما أن يحتفظوا باستقلالهم في النزاعات الطويلة الأمد بين آسيا السليوسية
Seleucid
ومصر البطلمية، وعاشت في الإسكندرية جماعة يهودية كبيرة العدد، سرعان ما اصطبغت بالصبغة الهلينية في كل شيء ما عدا الدين، وهكذا كان من الضروري ترجمة الكتب العبرية المقدسة إلى اليونانية، مما أدى إلى ظهور الكتاب السبعيني
Septuagint ، الذي أطلق عليه هذا الاسم؛ لأن القصة تقول إن سبعين مترجما مستقلا قد أتوا بصيغ له متشابهة في كل شيء.
ولكن عندما حاول الملك أنتبوخ
Antiochus
الرابع صبغ اليهودية بالصبغة الهلينية بالقوة في النصف الأول من القرن الثاني ق.م. هبوا ثائرين تحت قيادة الإخوة المكابيين، وحاربوا باستبسال من أجل عبادة ربهم على طريقتهم الخاصة، وانتصروا في النهاية، وأصبحت أسرة المكابيين هي الحاكمة باعتبارها تضم كبار الكهنة، وتسمى مجموعة الحكام هذه باسم الأسرة الهسمونية
Hasmonean ، وقد ظلت تحكم حتى عصر هيرود
Herod .
ولقد كان نجاح مقاومة المكابيين هو أهم العوامل التي ضمنت بقاء العقيدة اليهودية في الوقت الذي أخذ فيه اليهود المشتتون يصطبغون بسرعة بالصبغة الهلينية، وهيأ بذلك الشروط التي ما كان من الممكن بدونها أن تظهر العقائد التالية، وكان هذا أيضا هو الوقت الذي ظهرت فيه عقيدة العالم الآخر في الديانة اليهودية؛ لأن أحداث الثورة أظهرت أن الكوارث، لا هذه الحياة الدنيا، كثيرا ما تحل بأفضل الناس، وخلال القرن الأول ق.م. أدى التأثير الهلينستي إلى تطوير حركة أخرى، إلى جانب العقيدة الرسمية، كانت أكثر اعتدالا، وكانت تعاليمها تمهد الطريق لعملية المراجعة الأخلاقية التي قام بها يسوع في الأناجيل، فحقيقة الأمر هي أن المسيحية الأولى كانت يهودية إصلاحية أو معدلة، تماما كما كانت البروتستانتية في البداية حركة إصلاح داخل الكنيسة.
وفي عهد مارك أنتوني ألغى حكم كبار الكهنة، وعين هيرود، الذي كان يهوديا اصطبغ تماما بالصبغة الهلينية، ملكا، وبعد وفاته في عام 4ق.م. أصبحت مملكة يهودا خاضعة مباشرة لحاكم روماني. غير أن اليهود لم يستسيغوا أباطرة الرومان الآلهة، وكذلك كان حال المسيحيين بالطبع، ومع ذلك فقد كان اليهود مختلفين عن المسيحيين الذين كانوا من حيث المبدأ على الأقل يؤمنون بفضيلة الخضوع والاستسلام، في أنهم كانوا عموما أكثر اعتدادا بأنفسهم وأشد ازدراء لغيرهم، وهم في ذلك يشبهون اليونانيين في العصور الكلاسيكية، وهكذا رفضوا بعناد أن يعترفوا بأي إله سوى إلههم الخاص. وتعد النصيحة التي وجهها يسوع إلى الناس بأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، مثالا نموذجيا لهذا العناد اليهودي. فعلى الرغم من أنها كانت في ظاهرها حلا وسطا، فقد كانت مع ذلك رفضا للاعتراف بألوهية الإمبراطور. وفي عام 66 ميلادية، ثار اليهود على الرومان، وبعد حرب مريرة سقطت أورشليم عام 70م، وهدم المعبد للمرة الثانية. وقد احتفظ المؤرخ اليهودي الهلينستي «يوسفوس»
Josephus
بسجل هذه المعركة.
ومن هذا الحادث أتى الشتات الثاني والأخير لليهود، وأصبحت العقيدة الرسمية أكثر تشددا، كما حدث وقت الأسر في بابل، وبعد القرن الأول الميلادي أصبحت اليهودية والمسيحية تواجه كل منهما الأخرى بوصفهما عقيدتين متميزتين ومتعارضتين؛ ففي الغرب أثارت المسيحية شعورا قويا بالعداء للسامية، بحيث أصبح اليهود منذ ذلك الحين يعيشون على هامش المجتمع، مضطهدين ومستغلين، حتى وقت تحريرهما في القرن التاسع عشر. وكان المكان الوحيد الذي ازدهروا فيه هو البلاد الإسلامية، وخاصة في أسبانيا. وعندما أخرج العرب من أسبانيا أخيرا كانت جهود المفكرين اليهود الذين يتقنون عدة لغات، والذين عاشوا في أسبانيا العربية، قد أسهمت في نقل التراث الكلاسيكي، وكذلك علم العرب، إلى المثقفين في الغرب.
وينبغي أن نلاحظ أن الجماعات اليهودية المنشقة التي تكونت منها المسيحية البدائية، لم تكن تنوي في البداية أن تجعل العقيدة الجديدة تنتشر بين الجماعات غير المسيحية؛ فقد كان هؤلاء المسيحيون الأوائل محافظين، بحكم عزلتهم، على التقاليد القديمة، ولم تحاول اليهودية أبدا أن تنشر دعوتها بين الغرباء، ولا هي قادرة على أن تجذب أتباعا في الوقت الراهن، حتى بعد أن اتخذت صورة معدلة، ما دامت تطبق الختان والتحريمات في الطعام. وهكذا كان من الممكن أن تظل المسيحية طائفة يهودية منشقة، لولا أن أحد أتباعها أخذ على عاتقه أن يوسع نطاق الإنماء إليها؛ فقد عمل بولس الطرسوسي، الذي كان يهوديا ومسيحيا ذا ثقافة هلينية، على إزاحة هذه العقبات الخارجية، وبذلك جعل المسيحية مقبولة على أوسع نطاق.
ومع ذلك فإن مواطني الإمبراطورية الرومانية المتأثرين بالثقافة الهلينية لا يكفيهما أن يقال عن المسيح إنه ابن إله اليهود. وهكذا عملت الغنوصية، وهي حركة تلفيقية ظهرت في نفس الوقت الذي ظهرت فيه المسيحية، على تجنب هذا العيب؛ ففي رأي الغنوصية أن العالم المادي المحسوس خلقه «يهوه» الذي كان في الواقع إلها ثانويا، هبط عن مكانه مع الإله الأعلى، وبدأ بعد ذلك يمارس الشر. وأخيرا جاء ابن الإله الأعلى ليعيش بين البشر على هيئة إنسان فان؛ حتى يفند التعاليم الزائفة للعهد القديم.
من هذه العناصر، مصحوبة ببعض الآراء الأفلاطونية، كانت تتألف الغنوصية؛ فهي تجمع عناصر من الأساطير اليونانية وتصوف الأورفية مع التعاليم المسيحية وغيرها من المؤثرات الشرقية، وتضم هذا كله في إطار في المزيج الفلسفي التلفيقي، يشمل عادة أفلاطون والرواقية، أما المانوية، التي تفرعت فيما بعد عن الغنوصية، فقد ذهبت إلى حد القول إن التمييز بين الروح والمادة يساوي التضاد بين الخير والشر. وهكذا ذهبوا في احتقارهم للأشياء المادية أبعد من كل ما تجاسر عليه الرواقيون. وقد نهوا عن أكل اللحم، وأعلنوا أن الجنس بكافة أشكاله أو صوره عمل آثم كل الإثم، ومن حق المرء أن يستدل، من استمرار هذه الدعوة طوال بضعة قرون، على أن هذه المذاهب الزاهدة لم تكن تمارس بنجاح تام.
ولقد أصبحت الطائفة الغنوصية أقل أهمية بعد قسطنطين، ولكنها ظلت تمارس قدرا من التأثير، أما طائفة الدوسيين
Docetics (المشبهين) فقد ذهبت إلى أن المسيح لم يكن هو الذي صلب، بل بديل أشبه بشبح له، وهو ما يذكرنا بتضحية إفيجينيا في الأسطورة اليونانية. وقد ظهر رأي مماثل لذلك في الإسلام الذي نظر إلى المسيح على أنه نبي، وإن لم يكن أهم أنبياء البشرية.
وإذ أصبحت المسيحية أشد رسوخا، ازداد عداؤها لعقيدة العهد القديم ضراوة؛ فقد ذهبت إلى أن اليهود لم يعترفوا بالمسيح الذي بشر به قدامى الأنبياء، ومن ثم فلا بد أن تكون شرا. ومن عهد قسطنطين فصاعدا أصبح العداء للسامية شكلا له احترامه من أشكال التقوى المسيحية، وإن لم يكن الدافع الديني هو الوحيد في واقع الأمر. وإنه لمن الغريب حقا أن نجد المسيحية، التي كانت قد عانت هي ذاتها من اضطهاد مخيف، تنقلب بنفس الضراوة بمجرد إمساكها بزمام الأمور على أقلية لا تقل عنها تمسكا بمعتقداتها.
ولقد تحولت العقيدة الجديدة في جانب من جوانبها في اتجاه جديد ملفت للنظر؛ ذلك لأن عقيدة اليهود كانت في عمومها تتسم بالبساطة الشديدة، ولا تنطوي على طابع لاهوتي. وهذا الطابع المباشر يظل واضحا حتى في الأناجيل الجامعة، ولكنا نجد عند يوحنا بداية لذلك التأمل اللاهوتي الذي ازدادت أهميته باطراد مع سعي المفكرين المسيحيين إلى وضع ميتافيزيقا اليونانيين في إطار عقيدتهم الجديدة. فلم يعد الأمر هنا يقتصر على شخصية المسيح الإله الإنسان «المختار »، بل أصبح يتعلق بجانبه اللاهوتي بوصفه «الكلمة»، وهو مفهوم يرتد إلى الرواقين، ومن قبلهم إلى أفلاطون وهرقليطس. ولقد كان أول تعبير منهجي عن هذا التراث اللاهوتي هو أعمال أوريجيين
Origen ، الذي عاش في الإسكندرية ما بين 185 و254، ودرس على أمونيوس ساكاس، معلم أفلوطين، الذي كان يشترك معه في أمور كثيرة، وفي رأي أورجين أن الله وحده هو الذي لا يتجسد في جوانبه الثلاثة. وهو يؤمن بنظرية سقراط القديمة القائلة إن النفس تعيش في حالة مستقلة قبل الجسد، وتدخل الجسد عند الميلاد. ولهذا السبب، وكذلك بسبب رأيه القائل إن الخلاص سيمتد إلى الجميع في النهاية، اتهم بعد موته بالهرطقة، ولكنه حتى أثناء حياته جلب على نفسه سخط الكنيسة، فقد دفعته حماقة الشباب في حداثته إلى اتخاذ احتياطات متطرفة ضد ضعف البدن، فلجأ إلى الإخصاء، وهو علاج لم تكن الكنيسة ترضى عنه، ونتيجة لهذا النقص لم يعد صالحا للعمل في سلك الكهنوت، وإن كان يبدو أن هناك قدرا من الاختلاف في الرأي حول هذا الموضوع.
ويقدم أوريجين في كتابه «ضد كلسوس
Against Celsus » ردا مفصلا على كلسوس الذي ألف كتابا ضد المسيحية ضاع فيما بعد.
هنا نرى لأول مرة ذلك النوع من الحجج الدفاعية التي تؤكد أن الكتاب المقدس موحى به من الله، ومن بين الحجج التي يقدمها، القول بأن الإيمان صحيح نظرا إلى تأثيره المفيد اجتماعيا على المؤمنين، وهو رأي برجماتي قال به مفكر قريب العهد هو وليم جيمس. ولكن من السهل أن نرى أن هذه الحجة سلاح ذو حدين؛ ذلك لأن كل شيء يتوقف على ما تراه مفيدا. فالماركسيون الذين لا يؤمنون بالمسيحية من حيث هي مؤسسة، يعتبرون الدين أفيونا للشعوب، ومن ثم يكون لهم كل الحق في أن يفعلوا لأسباب برجماتية كل ما في وسعهم من أجل معارضتها.
ولقد كان صبغ الكنيسة بالصبغة المركزية عملية مندرجة، ففي البدء كان الأساقفة ينتخبون محليا بواسطة شعب الكنيسة، وبعد قسطنطين أخذت سلطات أساقفة روما تزداد، واكتسبت الكنيسة، عن طريق معاونتها للفقراء، حشدا من المؤيدين يماثل ذلك الذي كان يتجمع حول أسر أعضاء مجلس الشيوخ في روما خلال العصور الماضية، ولقد كان عصر قسطنطين عصر صراع مذهبي أدى إلى نشوب قلاقل كثيرة في الإمبراطورية؛ ولذلك عمد الإمبراطور من أجل تسوية بعض هذه الخلافات إلى استخدام نفوذه لعقد مجمع نيقية
Nicaea
في عام 325م، وقام هذا المجمع بتحديد معايير الدين القويم في مقابل المذهب الأرياني
Arianism ، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكنيسة تتبع وسائل كهذه في حل الخلافات المذهبية؛ فقد كان مذهب أريوس
Arius ، وهو كاهن من الإسكندرية، يرى أن الرب الأب له الأولوية على الابن، وأن الاثنين متميزان. أما سابليوس
Sabelluis
فقد اعتنق الهرطقة المضادة، ورأى أنهما ليسا إلا وجهين لشخص واحد. ولكن الرأي الرسمي، الذي كسب المعركة في النهاية، يضعهما على نفس المستوى، وإن كان يرى أنهما متشابهان في الجوهر ومختلفان كشخصين. غير أن الأريانية ظلت تزدهر، وكذلك الحال بالنسبة إلى عدد من الهرطقات الأخرى.
ولقد كان المدافع الرئيسي عن المعسكر الرسمي هو أطناسيوس
Athanasius
أسقف الإسكندرية من 328م إلى 373م، وكان خلفاء قسطنطين منحازين إلى الأريانية، باستثناء جوليان
Julian
الذي كان وثنيا، ولكن مع تولي ثيودوسيوس
Theodosius
العرش عام 379م، أصبحت العقيدة الرسمية تلقى أيضا تأييد الإمبراطور.
وهناك ثلاثة من رجال الدين كانت لهم أهمية خاصة، وينتمون إلى الفترة الأخيرة المسيحية من الإمبراطورية الرومانية الغربية، وساعدوا على دعم سلطان الكنيسة، وقد منح الثلاثة فيما بعد لقب القديس؛ وهم: أمبروز
Ambrose
وجيروم
Jerome
وأوغسطين، الذين ولدوا في أواسط القرن الرابع، وفي وقت لا يفصل الواحد منهم فيه عن الآخر سوى بضع سنوات، وقد أصبحوا يعرفون بأسماء آباء الكنيسة الغربية، وانضم إليهم في هذا اللقب البابا جريجوري
Gregory
الأكبر، الذي ينتمي إلى القرن السادس.
ولقد كان ثالث هؤلاء الثلاثة فقط (أي أوغسطين) فيلسوفا، أما أمبروز، وهو مدافع غير هياب عن سلطة الكنيسة، فقد وضع أسس العلاقة بين الكنيسة والدولة كما ظلت سائدة طوال القرون الوسطى. وأما جيروم فكان أول من وضع ترجمة لاتينية للكتاب المقدس. وقد كانت لأوغسطين تأملات في اللاهوت والميتافيزيقا.
وإليه أساسا يرجع الإطار اللاهوتي للكاثوليكية حتى عصر الإصلاح الديني، وكذلك المبادئ الرئيسية للمعتقدات الإصلاحية. وقد كان لوثر نفسه راهبا أوغسطينيا.
ولد أمبروز عام 340م في تريف
Treves
وتعلم في روما، واشتغل بالقانون، وفي سن الثلاثين عين حاكما لليجوريا
Liguria
وأيميليا
Aemilia
في شمال إيطاليا، وظل يشغل هذا المنصب أربع سنوات.
ولكنه، لسبب غير معروف، تخلى عن الحياة الدنيوية في هذه المرحلة، وإن لم يتخل عن نشاطه السياسي، وانتخب أسقفا لميلانو، التي كانت عندئذ عاصمة الإمبراطورية الغربية. وقد مارس أمبروز من خلال منصبه الكنسي تأثيرا سياسيا واسع المدى عن طريق إصراره الجريء، الذي اتسم بالصلابة وعدم المهادنة، على السيادة الروحية للكنيسة.
ولقد كان الموقف الديني في البداية واضح المعالم، ولم يكن يبدو من المحتمل قيام أي خطر يهدد العقيدة الرسمية في الوقت الذي كان فيه جراتيان
Gratian
وهو كاثوليكي إمبراطورا، غير أن إهمال جراتيان لواجباته كإمبراطور، أدى في النهاية إلى مصرعه، وبدأت المتاعب تظهر في عهد خلفائه؛ فقد اغتصب مكسموس
Maximus
السلطة في كافة أرجاء الغرب، باستثناء أربع، حيث انتقل الحكم شرعيا إلى شقيق جراتيان الأصغر فالنتينيان
Valentinian
الثاني، ونظرا إلى أن الإمبراطور الشاب كان لا يزال قاصرا، فقد كانت أمه جوستينا
Justina
هي الحاكمة الفعلية. ولما كانت جوستينا من أتباع المذهب الأرياني، فقد كان من المحتم أن يحدث تصادم، وبطبيعة الحال فإن النقطة المحورية التي تصادمت فيها الوثنية والمسيحية بكل قوة كانت مدينة روما ذاتها. فقد أزيح تمثال النصر من مقر مجلس الشيوخ في عهد كونستانتيوس
Constantius
ابن قسطنطين، فأعاده جوليان الرسولي، ثم انتزعه جراتيان مرة أخرى، فطالب بعض أعضاء مجلس الشيوخ بإعادته. غير أن الجناح المسيحي في مجلس الشيوخ كانت له الغلبة بمساعدة أمبروز والبابا داماسوس
Damasus ، ولكن ابتعاد جراتيان عن مسرح الأحداث جعل الحزب الوثني يتقدم مرة أخرى في عام 384م بالتماس إلى فالنتينيان الثاني.
وهنا تصدى أمبروز لكي يحول دون أن تؤثر هذه الحركة الجديدة في إصراره، فتجعله يميل إلى تأييد الوثنيين، فذكر إصراره بأن من واجبه أن يخدم الله بنفس الطريقة التي يخدم بها المواطنون إصراره بوصفهم جنودا له . وهذا القول ينطوي ضمنا على ما يتجاوز مطالبة يسوع للناس بأن يعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. فهنا نجد مطلبا يؤكد أن الكنيسة، التي هي الأداة الإلهية لضمان الطاعة في الأرض، أرفع من الدولة. ويعد هذا تعبيرا صادقا عن الطريقة التي كانت بها سلطة الدولة تتراجع في ذلك الحين؛ فالكنيسة من حيث هي مؤسسة عالمية تتخطى حدود الدول، ظلت قائمة بعد انحلال الإمبراطورية سياسيا. ولا شك أن قدرة مثل هذا الأسقف على الإشارة إلى هذه الأمور دون أن يخشى على نفسه شيئا، إنما هي دليل على تدهور الإمبراطورية الرومانية. على أن مسألة تمثال النصر لم تنته عند هذا الحد، فقد أعيد التمثال في عهد يوجينيوس
Eugenius ، وهو مغتصب تولى الحكم فيما بعد، ولكن الطرف المسيحي هو الذي قدر له الفوز النهائي بعد أن انتصر ثيودوسيوس
Theodosius
على يوجينيوس في عام 394م.
لقد كان الخلاف بين أمبروز وجوستينا راجعا إلى اعتناقها للمذهب الأرياني، ومطالبتها بأن يخصص مكان للعبادة في ميلانو من أجل الفرق القوطية التي كانت تابعة لهذا المذهب، غير أن الأسقف لم يقبل ذلك، وانحاز الناس إليه في موقفه هذا. وعندما أرسل جنود قوطيون للاستيلاء على الكنيسة، اندمجوا مع الشعب، ورفضوا استخدام القوة. والواقع أنه كان من أوضح علائم الشجاعة عند أمبروز عدم استسلامه في مواجهة مرتزقة مسلحين من البرابرة، واضطره إصراره إلى الاستسلام مما أعطى أمبروز نصرا معنويا هائلا في كفاحه من أجل استقلال الكنيسة.
غير أن أعمال الأسقف لم تكن كلها جديرة بالثناء كهذا العمل.
ففي خلال حكم ثيودوسيوس، عارض الإمبراطور الذي كان قد أمر أسقفا محليا بأن يدفع تعويضا مقابل تحريضه على حرق كنيس يهودي، وكان الإمبراطور حريصا على ألا يشجع هذا النوع من الإرهاب، ولكن أمبروز ذهب إلى أنه ليس من الواجب بأي حال أن يعد أي مسيحي مسئولا عن تعويض مثل هذا الضرر، وهو مبدأ خطير أدى إلى قدر كبير من الاضطهاد في العصور الوسطى.
وعلى حين أن أهم مزايا أمبروز كانت تكمن في ميدان الإدارة والقيادة السياسية، فإن جيروم كان من أبرز مثقفي عصره. وقد ولد عام 345م في ستريدون
Stridon
قرب حدود دلماشيا، ورحل وهو في الثامنة عشرة إلى روما للدراسة، وبعد بضع سنوات من التجوال في بلاد الغال استقر في أكويليا
Aquileia
بالقرب من مسقط رأسه، وفي أعقاب بعض المشاحنات، رحل إلى الشرق، وقضى خمس سنوات ناسكا في الصحراء السورية، ثم توجه إلى القسطنطينية، وعاد إلى روما حيث ظل من 382م إلى 385م. وكان الباب داماسوس قد توفي قبل عام، ويبدو أن خليفته لم يكن ميالا إلى القول المشاكس، وهكذا توجه جيروم مرة أخرى إلى الشرق، مصحوبا هذه المرة بمجموعة من سيدات روما الفاضلات اللاتي كن يعتنقن آراءه في الامتناع عن الزواج والتعفف، واستقروا أخيرا في دير في بيت لحم عام 386م إلى أن مات عام 420م، وأعظم أعماله هو الكتاب المقدس اللاتيني الشعبي
Vulgate
الذي أصبح هو الصيغة المعترف بها رسميا من الكنيسة، وقد ترجم الأناجيل عن الأصل اليوناني خلال إقامته الأخيرة في روما، أما بالنسبة إلى العهد القديم، فقد رجع إلى المصادر العبرية، وهي مهمة اضطلع بها في الفترة الأخيرة بمساعدة باحثين من اليهود.
ولقد أصبح لجيروم، بفضل أسلوب حياته، تأثير قوي في تشجيع حركة الرهبنة التي كانت تزداد قوة في ذلك الوقت. فقامت مجموعة المريدين الرومان الذين اصطحبوه إلى بيت لحم بتأسيس أربعة أديرة هناك. وقد كتب، مثل أمبروز، عددا كبيرا من الرسائل، كان الكثير منها موجها إلى فتيات، يحثهن فيها على التزام طريق العفة والفضيلة. وعندما نهب الغزاة القوط روما في عام 410م، كان موقفه على ما يبدو استسلاميا، وظل مشغولا بامتداح قيمة العذرية أكثر من البحث عن وسيلة لإنقاذ الإمبراطورية.
أما أوغسطين فقد ولد في مقاطعة نوميديا
Numidia ، وتلقى تعليما رومانيا كاملا، وسافر في سن العشرين إلى روما ومعه عشيقته وطفلهما، وبعد قليل نجده في ميلانو حيث كان يرتزق من التدريس. أما من الوجهة الدينية فكان خلال هذه الفترة مانويا، غير أن التأنيب الدائم لضميره وصرامة أمه، دفعاه في النهاية إلى حظيرة الدين القويم، فعمده أمبروز في عام 387م، وعاد إلى أفريقيا، حيث أصبح أسقفا لمدينة هيبوه
Hippo ، وظل هناك إلى أن مات في عام 430م.
ويقدم إلينا أوغسطين في كتابه «الاعترافات» وصفا شيقا لصراعه مع الخطيئة، وقد ظلت حادثة وقعت له في حداثته راسخة في ذهنه طوال حياته، على الرغم من تفاهتها، فقد سرق ذات مرة شجرة كمثرى من حديقة أحد الجيران، وذلك بدافع السلب المتعمد، وعمل انشغاله المرضي بالخطيئة على تضخيم هذا الخطأ إلى حد أنه لم يستطع أبدا أن يغتفره لنفسه. ويبدو أن العبث بأشجار الفاكهة هو في كل العصور عملية لا تخلو من مخاطر، وعلى حين أن حالة الإثم والخطيئة كانت في العهد القديم تعد عيبا يتسم به شعب بأسره، فقد تحولت بالتدريج في نظر الناس إلى نقيصة في الفرد ذاته، وكان هذا التحول أساسيا بالنسبة إلى المسيحية؛ لأن الكنيسة بوصفها مؤسسة لا يمكن أن تخطئ، وإنما المسيحيون الأفراد هم الذين يمكن أن يرتكبوا خطايا. والواقع أن أوغسطين قد استبق البروتستانتية بتأكيده لذلك الجانب الفردي، أما الكاثوليكية فكانت تنظر إلى وظيفة الكنيسة على أنها هي الشيء الأساسي. ولقد كان أوغسطين يرى أن للجانبين معا أهميتهما؛ فالإنسان من حيث هو في جوهره عاص آثم، يحقق الخلاص بتوسط الكنيسة. غير أن أداء الشعائر الدينية، بل والتزام الحياة الفاضلة لا يكفيان لضمان الخلاص.
ذلك لأنه لما كان الله خيرا، والإنسان شريرا، فإن منح الخلاص فضل إلهي، على حين أن منعه ليس بالشيء الذي يستحق اللوم، وهنا نجد نظرية قدرية أخذتها اللاهوتية الإصلاحية المتزمتة فيما بعد. ومن ناحية أخرى فإن رأيه القائل إن الشر ليس مبدأ أساسيا، كما اعتقد المانويون، وإنما هو نتيجة إرادة شريرة، كان فكرة قيمة أخذت بها العقائد الإصلاحية فيما بعد، وهي أساس مفهوم المسئولية في البروتستانتية.
أما مؤلفات أوغسطين اللاهوتية فكانت تستهدف أساسا الجدل مع الآراء الأكثر اعتدالا، التي قال بها بلاجيوس
، وقد كان بلاجيوس رجل دين ينتمي إلى إقليم ويلز في إنجلترا، وكان مزاجه أقرب إلى الروح الإنسانية من معظم رجال الكنيسة في عصره. وقد رفض فكرة الخطيئة الأولى، ورأى أن الإنسان يمكنه بلوغ الخلاص بجهوده الخاصة، وذلك إذا اختار أن يحيا حياة فاضلة، ولقد كان من الطبيعي أن تجد هذه النظرية، بما تتسم به من اعتدال وتحضر، أنصارا عديدين، ولا سيما بين أولئك الذين كانوا لا يزالون يحتفظون بشيء من روح الفلسفة اليونانية، أما أوغسطين فقد حارب تعاليم بيلاجيوس بحماسة بالغة، وكان من العوامل الهامة التي أدت في نهاية الأمر إلى إعلان أنها هرطقة. وقد بنى نظريته القدرية على رسائل بولس الذي ربما كان خليقا بأن يصاب بالدهشة حين يرى مثل هذه الآراء المخيفة تستنبط من تعاليمه. وفيما بعد اعتنق كالفن
Calvin
هذه النظرية، ولكن الكنيسة أحسنت صنعا بالتخلي عنها في ذلك الحين.
كانت اهتمامات أوغسطين لاهوتية في الأساس، وحتى في الحالات التي كان فيها يهتم بالمسائل الفلسفية، كان هدفه الأكبر هو التوفيق بين تعاليم الكتاب المقدس والتراث الفلسفي للمدرسة الأفلاطونية، وقد استبق في ذلك تراث اللاهوتيين المدافعين عن العقيدة بالحجة العقلية. ومع ذلك فإن تأملاته الفلسفية لها أهميتها في ذاتها، وهي تكشف عن وجود قدر من التعمق في تفكيره.
وهذه المادة الفلسفية توجد في الكتاب الحادي عشر من الاعترافات، ولما كان مختلفا عن أسلوب الثرثرة الذي اعتاده الناس، فإنه يحذف عادة في الطبعات الشعبية.
كانت المشكلة التي تصدى لها أوغسطين هي أن يبين كيف يمكن التوفيق بين قدرة الله على كل شيء وبين حدوث الخلق على النحو الوارد في سفر التكوين، ومنذ البدء ينبغي التمييز بين فكرة الخلق اليهودية والمسيحية وبين تلك التي نجدها في الفلسفة اليونانية، فبالنسبة إلى أي يوناني في أي عصر من عصور الفلسفة اليونانية، يبدو من الممتنع تماما أن يكون العالم قد خلق من لا شيء. ووفقا لتصوره فإنه إذا كان الله قد خلق العالم، فلا بد أن يكون أشبه بالمعماري الذي يبني من مادة خام موجودة من قبل؛ ذلك لأن فكرة ظهور شيء من لا شيء كانت غريبة على المزاج العلمي للعقل اليوناني. أما إله الأناجيل فأمره يختلف؛ إذ ينبغي النظر إليه على أنه يخلق مواد البناء بالإضافة إلى تشييده للمبنى، ويؤدي الرأي اليوناني بطبيعته إلى فكرة شمول الألوهية
، التي يكون فيها الله هو العالم، وهي فكرة كانت في كل العصور تجتذب أولئك الذين يميلون بقوة إلى التصوف، وأشهر أنصار هذا الرأي بين الفلاسفة هو اسبينوزا. أما أوغسطين فيؤمن بصفات الخالق الواردة في العهد القديم، أي بإله خارج عن العالم، هو روح لا يسري عليها الزمان، ولا تخضع للعلية أو للتطور التاريخي. وعندما خلق الله العالم خلق معه الزمان، فنحن لا نستطيع أن نتساءل عما حدث قبل خلق العالم؛ إذ لم يكن هناك زمان يمكن أن نسأل بشأنه هذا السؤال.
والزمان في رأي أوغسطين هو حاضر ذو ثلاثة أوجه؛ فالحاضر الفعلي هو الشيء الحقيقي الوحيد، أما الماضي فيحيا بوصفه ذاكرة في الحاضر، والمستقبل يحيا بوصفه توقعا في الحاضر. ولا تخلو هذه النظرية من عيوب، غير أن أهميتها تكمن في تأكيدها الطابع الذاتي للزمان بوصفه جزءا من التجربة الذهنية للإنسان، الذي هو كائن مخلوق. لذلك فلا معنى، تبعا لهذا الرأي، من التساؤل عما جاء قبل الخلق. وفي وسعنا أن نجد تفسيرا ذاتيا مماثلا للزمان عند «كانت»، الذي جعله صورة من الصور الذهنية. وقد أدت هذه النظرة الذاتية بأوغسطين إلى استباق رأي ديكارت القائل: إن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يشك فيه المرء هو أنه يفكر. إن الذاتية في نهاية المطاف نظرية لا تصمد أمام الاختبار المنطقي، ومع ذلك فقد كان أوغسطين واحدا من أقدر الفلاسفة الذين عرضوها. كان عصر أوغسطين يتميز بأنه العصر الذي سقطت فيه الإمبراطورية الغربية.
فقد استولى القوط بزعامة ألاريك
Alaric
على روما في عام 410م.
وربما رأى المسيحيون في ذلك عقابا يكفر عن خطاياهم، أما بالنسبة إلى العقل الوثني فقد كانت المسألة مختلفة؛ إذ إن الناس تخلوا عن الآلهة القدامى، فعاملهم جوبيتر بما يستحقون، وحرمهم من حمايته؛ لذا كتب أوغسطين كتابه «مدينة الله» لكي يرد على هذه الحجة من وجهة نظر مسيحية، وتحول هذا الكتاب خلال تأليفه إلى نظرية مسيحية كاملة في التاريخ. وعلى الرغم من أن الكثير مما يتضمنه هذا الكتاب لم تعد له الآن إلا قيمة تاريخية، فإن القضية التي دار حولها، وهي استقلال الكنيسة عن الدولة، كانت لها أهمية كبرى في العصور الوسطى، وما زالت لها أهميتها في بعض الأماكن حتى الآن. والواقع أن الرأي القائل إن الدولة ينبغي أن تطيع الكنيسة؛ لكي تصل إلى الخلاص، مبني على نموذج الدولة اليهودية في العهد القديم.
وفي عهد تيودريك
Theodoric
كان يعيش في روما مفكر مرموق، كانت حياته وأعماله تتسمان بطابع مضاد بشدة للتدهور الحضاري العام السائد عندئذ؛ ذلك هو بويتيوس
Boethius ، الذي ولد في روما حوالي عام 480م، لأب كان من النبلاء. وكانت لبويتيوس صلات قوية بطبقة أعضاء مجلس الشيوخ، كما كان صديقا لتيودوريك، وعندما أصبح الملك القوطي حاكما لروما في عام 500م، عين بويتيوس بعد فترة قنصلا في عام 510م. غير أن الأقدار انقلبت عليه في أخريات سني حياته؛ ففي عام 524م سجن وأعدم بتهمة الخيانة، وفي فترة سجنه، مترقبا الموت، ألف الكتاب الذي كان مصدر شهرته، وهو «عزاء الفلسفة».
كان بويتيوس حتى في عصره مشهورا بالحكمة والعلم، وإليه يرجع الفضل في تقديم أولى الترجمات اللاتينية لمؤلفات أرسطو المنطقية، كما كتب شروحا ومؤلفات خاصة به على المنطق الأرسطي. وظلت دراساته في الموسيقى والحساب والهندسة تعد لفترة طويلة مراجع أساسية في مدارس الفنون والآداب في العصور الوسطى، ولكن لسوء الحظ أن خططه من أجل القيام بترجمة كاملة لأفلاطون وأرسطو لم تتحقق.
ومع ذلك، فإن الأمر الذي يدعو إلى الدهشة هو أن العصور الوسطى لم تكن تقدره بوصفه باحثا عظيما في الفلسفة الكلاسيكية، بل كانت تكن له تقديرا كبيرا بوصفه مسيحيا. صحيح أنه نشر بعض الدراسات في المسائل اللاهوتية، كان يعتقد أنه هو كاتبها، وإن لم يكن من المرجح أن تكون نسبتها إليه صحيحة، غير أن موقفه كما عرضه في كتاب «عزاء الفلسفة» أفلاطوني. وبطبيعة الحال فإن الاحتمال كبير في أنه كان بالفعل مسيحيا، كما كان معظم الناس في ذلك الحين، ولكن إذا صح هذا فإن مسيحيته - إذا حكمنا عليها في ضوء فكره - لم تكن إلا اسمية؛ ذلك لأن تأثير فلسفة أفلاطون عليه كان أقوى بكثير من تأثير التأملات اللاهوتية لآباء الكنيسة. ومع ذلك فربما كان من حسن الحظ أنه اعتبر متدينا لا شبهة على إيمانه؛ لأن هذا هو الذي جعل رجال الدين في القرون التالية يستوعبون قدرا كبيرا من المذهب الأفلاطوني في وقت كانت فيه أدنى شبهة من الهرطقة كفيلة بأن تطوي مؤلفاته في زوايا النسيان.
وعلى أية حال، فإن كتاب «عزاء الفلسفة» خال من اللاهوت المسيحي ، وهو يتألف من أقسام يتناوب فيها الشعر والنثر؛ إذ يتحدث بويتيوس نفسه نثرا، بينما ترد عليه الفلسفة، بلسان امرأة، شعرا. ويختلف الكتاب في مذهبه وفي نظرته العامة اختلافا كبيرا عن الاهتمامات التي كانت تشغل رجال الكنيسة في ذلك الحين؛ فهو يستهل بفقرة تعيد تأكيد أولوية الفلاسفة الأثينيين الثلاثة الكبار.
وقد التزم بويتيوس في حياته الفاضلة تقاليد الفيثاغوريين.
وكانت نظرياته الأخلاقية رواقية إلى حد بعيد، كما أن ميتافيزيقاه ترجع إلى أفلاطون مباشرة، وتصطبغ بعض فقراته بصبغة شمول الألوهية
، ومن ثم فهو يضع نظرية لا يعد الشر فيها حقيقيا؛ ذلك لأن الله الذي هو ذاته الخير، لا يمكن أن يقترف شرا. ولما كان قادرا على كل شيء، فلا بد أن يكون الشر وهما.
وفي هذا الكثير مما يخرج عن اللاهوت المسيحي والأخلاق المسيحية، ولكنه لسبب ما لم يكن مصدر إزعاج للمعسكر الديني المحافظ. والواقع أن روح الكتاب بأسره تذكرنا بأفلاطون، وهو يتجنب صوفية الكتاب الأفلاطونيين المحدثين، مثل أفلوطين، ويتحرر من الخرافات السائدة في ذلك الحين. كذلك لا تظهر فيه على الإطلاق روح الخطيئة المحمومة التي سيطرت على المفكرين المسيحيين في ذلك العصر. على أنه ربما كانت أبرز سمات الكتاب هي أنه من تأليف إنسان كان مسجونا ومحكوما عليه بالموت. فمن الخطأ النظر إلى بويتيوس على أنه مفكر يكتب من برج عاجي، وينصرف عن المشاغل العملية لعصره، بل إنه كان على العكس من ذلك يواجه الشئون العملية مباشرة، بوصفه إداريا قديرا رابط الجأش أدى خدمات ثمينة ومخلصة لسيده الحاكم القوطي. وقد أصبح في نظر العصور اللاحقة يعد شهيدا للاضطهاد الأرياني، وهو خطأ في الحكم ربما ساعد على إذاعة شهرته بوصفه كاتبا. ومع ذلك فإنه لم يمنح أبدا لقب «القديس» نظرا لموضوعية فكره البعيد عن التعصب، على حين أن سيريل
Cyril (الذي سنتحدث عنه بعد قليل) قد نال هذا اللقب.
إن أعمال بويتيوس تثير في إطارها التاريخي مشكلة قديمة العهد، هي مدى التزام الإنسان بأن يكون نتاجا لعصره؛ فقد عاش بويتيوس في عالم معاد للبحث المنطقي النزيه، وفي عصر تفشت فيه الخرافات وأعماه التعصب القاتل. ومع ذلك لا يبدو أن شيئا من هذه المؤثرات الخارجية يظهر في أعماله، كما أن مشكلاته ليست بأي حال تلك التي تميز عصره على وجه التخصيص. وبالطبع فمن الصحيح أن الأوساط الأرستقراطية في روما كانت أقل تعرضا للخضوع للأذواق المتقلبة والأمزجة المتغيرة من يوم لآخر؛ ففي هذه الأوساط وحدها ظلت بعض الفضائل القديمة باقية بعد وقت طويل من زوال الإمبراطورية، وربما كان هذا تعليلا جزئيا للروح الرواقية التي تسري في فكر بويتيوس الأخلاقي. غير أن هذه الحقيقة ذاتها - أعني استمرار وجود مجموعة كهذه على الرغم من الغارات البربرية من الخارج والتعصب الأعمى في الداخل - تحتاج بدورها إلى تفسير.
وفي اعتقادي أن التفسير المنشود مزدوج؛ فصحيح أن الناس نتاج تراثهم؛ فهم يتشكلون أولا بالبيئة التي ينشئون فيها، وفيما بعد يجد أسلوب حياتهم دعما من ذلك التراث الذي يدين له بالولاء، إما عن وعي كامل، أو عن طاعة عمياء. غير أن هذا التراث - من جهة أخرى - ليس خاضعا لتقلبات الزمان على هذا النحو، وإنما هو يكتسب حياة خاصة به، ويظل باقيا لفترات طويلة، مختفيا وراء السطح، حتى يظهر مرة أخرى إلى النور عندما يكتسب دعما متجددا. ولقد ظل تراث العصور الكلاسيكية باقيا على نحو ما في الظروف الصعبة للغزوات البربرية، وعلى هذا النحو أمكن ظهور شخص مثل بويتيوس. ومع ذلك فلا بد أنه كان على وعي بالفجوة التي كانت تفصله عن معاصريه. فالدفاع عن تراث ما يحتاج إلى قدر من الشجاعة يتناسب مع قوة هذا التراث، ومن المؤكد أن بويتيوس كان في حاجة إلى كل ما كان يستطيع أن يستجمعه من الشجاعة.
وفي إمكاننا الآن أن نجيب عن سؤال آخر مرتبط بالسابق، فهل من الضروري دراسة تاريخ الفلسفة من أجل فهم مسألة فلسفية؟ وهل نحن في حاجة إلى الإلمام بتاريخ فترة معينة كيما نفهم فلسفتها؟ من الواضح تبعا للرأي الذي عرضناه من قبل أن هناك قدرا من التأثير المتبادل بين التراث الاجتماعي والتراث الفلسفي؛ فالتراث الذي تسوده الخرافة لا ينتج مفكرين متحررين من الخرافة.
والتراث الذي يعزو إلى العفة قيمة أكبر من النشاط البناء لا يفرز تدابير سياسية إيجابية لمواجهة تحديات العصر. ومن جهة أخرى فإن المسألة الفلسفة يمكن أن تفهم بالفعل دون خلفية كاملة من المعرفة التاريخية. وقيمة دراسة تاريخ الفلسفة تكمن في أنه يتيح لنا إدراك أن معظم الأسئلة قد طرحت من قبل، وأن بعض الإجابات الذكية عنها قد قدمت في الماضي.
كان نهب روما إيذانا بعصر من الغزو والمنازعات، أدى إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، واستقرار القبائل الجرمانية في كافة أرجائها؛ ففي الشمال اجتاحت بريطانيا قبائل الإنجليز
Angles
والسكسون والقوط، وانتشرت قبائل الفرنجة في بلاد الغال، وهبطت قبائل الوندال
Vandals
جنوبا إلى أسبانيا وشمال أفريقيا. وقد ظلت أسماء البلدان والأقاليم باقية لتذكرنا بهذه الأحداث، فمن قبائل الإنجليز جاء اسم إنجلترا، ومن قبائل الفرنجة جاء اسم فرنسا، ومن الوندال جاءت الأندلس.
وقد احتل الفيزيقوط
Visigoths
جنوب فرنسا، واستولى الغزاة الأستروقوط
Ostrogoths
على إيطاليا، بعد أن هزموا في وقت سابق أثناء محاولة فاشلة لاجتياح الإمبراطورية الشرقية. والواقع أن المرتزقة من القوط كانوا منذ نهاية القرن الثالث يحاربون في خدمة الرومان، فتعلموا بذلك المهارات والأساليب الحربية، وظلت الإمبراطورية قائمة لبضع سنوات بعد سقوط روما، ثم حطمها الأستروقوط نهائيا في عام 476م بقيادة ملكهم أدوكر
Adoacar ، الذي حكم حتى عام 493م، ثم قتل بتحريض تيودوريك، الذي أصبح ملكا لهم وحكم إيطاليا حتى وفاته في عام 526م. ومن وراء القوط كانت قبائل الهون المغولية بقيادة ملكهم أتيلا
Attila
تزحف من الشرق وتندفع غربا. وعلى الرغم من أنهم كانوا أحيانا يتعاونون مع جيرانهم القوط، فإنهم كانوا على علاقة سيئة بهم عندما غزا أتيلا بلاد الغال في 451م. وقد تصدت قوة قوطية ورومانية مشتركة للغزاة، وأوقفتهم في «شالون»، كذلك أخفقت محاولة تالية للاستيلاء على روما بفضل الضغط المعنوي، الذي كان يمارسه البابا ليون
Leo
بشجاعة. وبعد وقت قصير توفي أمير المغول، وترك قبائله بغير القيادة التي اعتادتها، فاختفت بذلك قوة الفرسان الآسيويين المغيرين.
وربما ظن المرء أن هذه القلاقل كانت تستدعي رد فعل جريئا من جانب الكنيسة، ولكن الواقع أن اهتمام الكنيسة كان منصبا على التفاصيل الدقيقة لنظرية تعدد المسيح أو وحدانيته. فقد كان هناك من يرون أنه شخص واحد له جانبان، وهو الرأي الذي كتبت له الغلبة في النهاية، وكان أهم أنصاره هو سيريل، بطريرك الإسكندرية من عام 412م حتى 444م. وكان سيريل داعية متحمسا ضيق الأفق للشكل التقليدي للدين، وقد أظهر تحمسه بطرق عملية حين شجع على اضطهاد الطائفة اليهودية في الإسكندرية، وتآمر على تدبير جريمة قتل وحشية ضد هيباتيا
Hypatia ، وهي من النساء القليلات اللاتي يزدان بهن تاريخ الرياضيات. وقد منح سيريل في الوقت المناسب لقب القديس.
ومن جهة أخرى، فإن أتباع نسطوريوس
Nestorius
بطريرك القسطنطينية، كانوا يؤيدون الرأي القائل إن هناك شخصين: المسيح الإنسان والمسيح ابن الله، وهو رأي كانت له سوابق غنوصية، كما أوضحنا من قبل. ولقد كان للنظرية النسطورية مؤيدوها في آسيا الصغرى وسوريا أساسا. وقد بذلت محاولة للتغلب على هذا الخلاف اللاهوتي، ودعي مجلس للاجتماع في إفسوس
Ephesus
عام 431م. وعمدت الجماعة المؤيدة لسيريل إلى الوصول إلى مكان الاجتماع أولا، واتخذت بسرعة قرار مؤيدا لموقفها قبل أن تتاح للمعارضة فرصة الدخول، وأعلن أن النسطورية أصبحت منذ ذلك الحين هرطقة، وساد الرأي القائل إن المسيح شخص واحد. وبعد وفاة سيريل ذهب مجلس كنسي آخر عقد في إفسوس عام 449م إلى أبعد من ذلك، وأعلن أن المسيح ليس فقط شخصا واحدا، بل إن له طبيعة واحدة. وأصبح المذهب يعرف باسم «بدعة الطبيعة الواحدة
Monophysite Heresy ». وقد أدانته الكنيسة في قلقدون
Calcedon
عام 451م. ولو لم يكن سيريل قد مات في الوقت الذي مات فيه، لكان الأرجح أن يصبح مهرطقا من القائلين ببدعة الطبيعة الواحدة، بدلا من أن يرسم قديسا، ولكن على الرغم من الجهود التي بذلتها المجالس المسكونية، من أجل وضع معايير للتدين القويم، فقد استمرت البدع، وخاصة في الشرق. ولا شك أن من الأسباب التي أتاحت للإسلام فيما بعد أن يحرز نجاحه الساحق، تشدد السلطة الدينية الرسمية إزاء الكنائس التي كانت تدين بآراء تعتبرها هرطقة.
أما في إيطاليا فإن الغزاة القوط لم يدمروا النسيج الاجتماعي تدميرا أعمى؛ ذلك لأن تيودوريك، الذي حكم حتى موته في عام 526م، احتفظ بالإدارة المدنية القديمة. ويبدو أنه كان معتدلا في المسائل الدينية. وقد كان هو ذاته يؤمن بالمذهب الأرياني، ويبدو أنه تسامح مع العناصر غير المسيحية التي ظلت باقية، وخاصة بين العائلات العريقة في روما. فقد كان بويتيوس المنتمي إلى الأفلاطونية المحدثة وزيرا لتيودوريك. أما الإمبراطور جستين الأول فكان أضيق أفقا؛ ولذا أصدر في عام 523م أمرا ينص على أن الهراطقة الأريانيين خارجون عن القانون، وهي خطوة أحرجت تيودوريك؛ لأن أراضيه الإيطالية كانت كاثوليكية متمسكة، على حين أن قوته الخاصة لم تكن كافية للصمود في وجه الإمبراطور. ونظرا إلى أنه كان يخشى وقوع مؤامرة بين أنصاره أنفسهم، فقد أمر بسجن بويتيوس وإعدامه في عام 524م. ومات تيودوريك عام 526م، ثم جستين في العام التالي، وخلفه جستينيان الأول.
وكان جستينيان هو الذي أمر بجمع مواد القانون الروماني في مجلدين شاملين؛ أحدهما كبير ويعرف باسم
Codex ، والآخر صغير ويعرف باسم
Digests . ولقد كان جستينيان من أقوى أنصار العقيدة الرسمية. ولذا أمر في أوائل سني حكمه، أي في عام 529م، بإغلاق الأكاديمية في أثينا، بعد أن ظلت قائمة بوصفها معقلا أخيرا للتراث القديم، وإن كانت تعاليمها في ذلك الحين قد أصبحت مائعة إلى حد بعيد نتيجة لاختلاط عناصر صوفية أفلاطونية جديدة بها. وفي عام 532م بدأ تشييد كنيسة القديسة صوفيا في القسطنطينية، وظلت هي مركز الكنيسة البيزنطية إلى أن سقطت في أيدي الأتراك عام 1453م.
ولقد كانت تيودورا زوجة الإمبراطور الشهيرة تشاركه اهتماماته الدينية، وكانت سيدة لها ماض عابث، كما أنها كانت من الأنصار المتحمسين لفكرة الطبيعة الواحدة للمسيح. ومن أجلها خاض جستينيان المعركة المعروفة باسم «معركة القسس الثلاثة».
ففي قلقدون أعلن انتماء ثلاثة آباء للكنيسة لهم ميول نسطورية إلى العقيدة الرسمية، وكان في ذلك إهانة صارخة لآراء القائلين بالطبيعة الواحدة. فأمر جستينيان بإعلان هرطقة الرجال الثلاثة، مما أثار مناقشات طويلة في الكنيسة. وفي نهاية الأمر وقع هو ذاته في الهرطقة؛ إذ أخذ بالرأي القائل إن جسد المسيح لا يفنى، وهو رأي يمثل نتيجة من نتائج مذهب الطبيعة الواحدة.
وقد بذلت في عهد جستينيان محاولة أخيرة لاسترداد المقاطعات الغربية من مغتصبيها البرابرة. فهوجمت إيطاليا عام 535م، وظلت الحرب تمزقها قرابة ثمانية عشر عاما. كذلك أعيد فتح شمال أفريقيا، ولكن الحكم البيزنطي أثبت أنه نعمة غير مضمونة. وعلى أية حال، فإن قوى بيزنطة لم تكن أهلا لمهمة استعادة الإمبراطورية كلها، على الرغم من أن الكنيسة كانت في صف الإمبراطور. وتوفي جستينيان عام 565م، وبعد ثلاث سنوات تعرضت أيدي لهجوم جديد من البرابرة. وتمكن الغزاة اللومبارديون من احتلال المناطق الشمالية بصفة دائمة، وأصبحت هذه المناطق تعرف باسم لومبارديا. وظل اللومبارديون لمدة قرنين يكافحون البيزنطيين، الذين انسحبوا في نهاية الأمر بعد أن تعرضوا لضغط العرب من الجنوب. وسقطت رافينا آخر معقل بيزنطي في أيدي، في أوائل اللومبارديين عام 751م.
إن ظهور شخصية مثل بويتيوس خلال الفترة التي نتحدث عنها كان ظاهرة استثنائية تماما؛ إذ لم يكن مزاج العصر فلسفيا. ومع ذلك ينبغي أن نذكر تطورين أصبحت لهما نتائج هامة بالنسبة إلى فلسفة العصور الوسطى؛ أولهما: هو نمو حركة الرهبنة في الغرب، والثاني: زيادة قوة البابوية وسلطتها. ويرتبط هذان التطوران باسمي بندكت وجريجوري على التوالي.
بدأت الرهبنة في الإمبراطورية الشرقية في القرن الرابع، ولم تكن في مراحلها الأولى ترتبط بالكنيسة، وإنما كان أطناسيوس
Athanasius
هو الذي اتخذ الخطوات الأولى التي أدت في النهاية إلى إخضاع حركة الرهبنة لسلطان الكنيسة. ولقد كان جيروم - كما رأينا - من أقوى أنصار أسلوب حياة الرهبنة. وخلال القرن السادس أخذت الأديرة تشيد في بلال الغال وإيرلندا، وكانت أهم الشخصيات في تاريخ الرهبنة الغربية هي شخصية بندكت، الذي أطلق اسمه على الطريقة البندكتية. وقد ولد عام 480م لأسرة من النبلاء، ونشأ في حياة الترف والبذخ التي تميز بها نبلاء الرومان، ولكن حدث له وهو في العشرين من عمره رد فعل عنيف على تقاليد نشأته الأولى، فقضى ثلاث سنوات من حياته ناسكا في كهف. وفي عام 520م أسس ديرا في مونتي كاسينو أصبح مركزا للطريقة البندكتية. وكان نظام هذه الطريقة كما حدده مؤسسها يشترط على أعضائها أن ينذروا أنفسهم للفقر والطاعة والعفة، أما مظاهر التقشف الشديدة التي كان يمارسها الرهبان الشرقيون فلم تكن تروق لبندكت؛ ذلك لأن تقاليدهم كانت تفسر الرأي المسيحي القائل إن الجسد آثم تفسيرا حرفيا. وهكذا كانوا يتنافسون فيما بينهم على الوصول إلى أشد حالة من حالات تجاهل الجسد. أما الطريقة البندكتية فقد قررت أن تضع حدا لهذه الممارسات الشاذة الضارة.
وكانت السلطة والقوة تترك لكبير الرهبان، الذي كان يعين مدى الحياة. وفي العهود اللاحقة أصبحت للطرق البندكية تقاليدها الخاصة التي كانت تتباين إلى حد ما مع مقاصد مؤسسها. وقد جمعت مكتبة كبيرة في مونتي كاسينو، وبذل العلماء البندكتيون جهودا كبيرة في سبيل المحافظة على ما تبقى من تراث العلم الكلاسيكي.
وظل بندكت في مونتي كاسينو حتى وفاته عام 543م، وبعد حوالي أربعين عاما نهب اللومبارديون الدير، وفرت الطائفة إلى روما. وقد واجه مونتي كاسينو الدمار مرتين خلال تاريخه الطويل؛ كانت الأولى خلال الفتح العربي في القرن التاسع، والثانية في الحرب العالمية الثانية، ولكن من حسن الحظ أن مكتبته قد أنقذت، وقد أعيد بناء الدير الآن من جديد.
وقد سجل جريجوري في كتاب المحاورات الثاني بعض تفاصيل حياة بندكت، كان معظمها روايات عن خوارق ومعجزات، تلقي بعض الضوء على الحالة الذهنية العامة للمتعلمين في ذلك الحين.
ولا بد أن نذكر أن القراءة كانت قد هبطت في ذلك الحين إلى مستوى الصنعة التي تتقنها أقلية ضئيلة جدا، أي إن هذه الكتابات لم تكن موجهة إلى مجموعة من الأميين الجهلاء، كما هي الحال في قصص سوبرمان وتفاهات الخيال العلمي الشائعة في أيامنا هذه. والمهم في الأمر أن هذه المحاورات تؤلف مصدر معلوماتنا الرئيسي عن بندكت. ويعد مؤلفها جريجوري الأكبر رابع علماء الكنيسة الغربية، وقد ولد عام 540م، وكان منتميا إلى أسرة من النبلاء الرومان. ونشأ في بيئة من الترف والبذخ، وتلقى نوع التعليم اللائق بمركزه الاجتماعي، وإن لم يتعلم اليونانية، وهو قصور لم يستطع أبدا أن يعوضه على الرغم من إقامته لمدة ست سنوات في البلاط الإمبراطوري في سنوات لاحقة. وفي عام 573م اشتغل عمدة للمدينة. ولكن يبدو أنه بعد فترة وجيزة شعر بأن هناك رسالة ينبغي أن يكرس لها حياته، فاستقال من منصبه وتخلى عن ثرواته لكي يصبح راهبا بندكتيا. وقد أدت الحياة القاسية المتقشفة التي أعقبت هذا التحول المفاجئ إلى إلحاق ضرر دائم بصحته. ومع ذلك لم يقدر له أن يحيا حياة التأمل التي كان يحن إليها، إذ لم ينس البابا بلاجيوس الثاني مواهبه السياسية، فاختاره سفيرا له لدى البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية، التي كان الغرب لا يزال يدين لها بولاء نسبي. ومنذ عام 585م ظل جريجوري في البلاط، ولكنه أخفق في مهمته الرئيسية، وهي حث الإمبراطور على أن يشن حربا ضد اللومبارديين؛ إذ كانت فرصة التدخل العسكري قد ضاعت، وكانت آخر محاولة من هذا القبيل في عهد جستينيان قد أدت إلى نجاح مؤقت، ولكنها لم تسفر عن شيء في النهاية. وعندما عاد جريجوري إلى روما قضى خمس سنوات في الدير الذي كان قد أنشئ في قصره السابق. وعندما توفي البابا عام 590م اختير جريجوري خليفة له، على الرغم من أنه كان يفضل كثيرا أن يظل راهبا.
ولقد احتاج الأمر إلى كل ما يملكه جريجوري من حنكة سياسية لكي يتعامل مع الموقف الخطير الذي تردت فيه البلاد بعد انهيار السلطة الرومانية الغربية؛ ذلك لأن اللومبارديين كانوا يعيثون في إيطاليا فسادا، وكانت أفريقيا مسرحا للصراعات بين حكم بيزنطي ضعيف وقبائل البربر المناوئة، وكانت بلاد الغال ساحة للحرب بين الفيزيقوط والفرنجة، أما بريطانيا فقد أصبحت إنجلترا الوثنية بعد أن أزال عنها الغزاة الأنجلوسكسون طابعها المسيحي. واستمرت الهرطقات تثير المتاعب للكنيسة، وأدى التدهور العام للقيم إلى القضاء على نفس المبادئ المسيحية التي كان ينبغي أن تحكم أسلوب حياة رجال الدين؛ إذ كانت عادة شراء المناصب الكنيسة بالمال منتشرة، ولم يصبح من الممكن مكافحتها بصورة فعالة طوال ما يقرب من خمسمائة عام .
كل هذه الصعوبات المضنية ورثها جريجوري، وبذل كل ما في وسعه من أجل درء خطرها، ومع ذلك فإن نفس الفوضى التي كانت مستشرية في كافة أرجاء الغرب قد أتاحت له أن يقيم السلطة البابوية على أساس أقوى مما كانت تقوم عليه في أي وقت سابق؛ إذ لم يستطع أي أسقف لروما حتى ذلك الحين أن يفرض سلطته بنفس القدر من الاتساع وبنفس الدرجة من النجاح التي فرضها بها جريجوري. وقد أنجز ذلك أساسا عن طريق كتابة رسائل عديدة إلى رجال الدين والحكام الدنيويين الذين كانوا مقصرين في أداء رسالتهم الصحيحة، أو الذين أدينوا بسبب تجاوزهم النطاق المشروع لسلطتهم. وقد أصدر كتابا موحدا هو «قواعد رعاة الكنيسة
» وضع به أسس سيادة روما في تنظيم شئون الكنيسة بوجه عام. وظل هذا الكتاب يلقى احتراما بالغا طوال العصور الوسطى، بل لقد شق طريقه إلى الكنيسة الشرقية، حيث كان يستخدم في صيغته اليونانية، وقد أثرت تعاليمه اللاهوتية في دراسات الكتاب المقدس في اتجاه التفسير الرمزي، وتجاهلت المضمون التاريخي الخالص، الذي لم تصبح له الصدارة إلا في عصر إحياء العلوم.
وعلى الرغم من كل جهود جريجوري الدائبة في دعم مركز الكاثوليكية الرومانية، فقد كان رجلا ذا نظرة انتهازية إلى حد ما.
ففي السياسة كان على استعداد للتغاضي عن الشطط الذي يبديه الأباطرة إذا كان ذلك يخدم مصالحه، أو إذا شعر بأن المعارضة قد تعرضه للخطر. وهكذا فإنه إذا ما قورن برجل مثل أمبروز، يبدو انتهازيا ماكرا. ولقد بذل الكثير من أجل نشر نفوذ الطريقة البندكتية، التي أصبحت نموذجا لمؤسسات الرهبنة، غير أن الكنيسة لم تظهر في عهده إلا احتراما ضئيلا للمعرفة العلمانية، ولم يكن جريجوري استثناء من هذه القاعدة.
الفصل الخامس
الحركة المدرسية
مع انهيار السلطة المركزية لروما، بدأت أقاليم الإمبراطورية الغربية تتردى إلى عصر بربري عانت فيه أوروبا من تدهور ثقافي عام، عرف باسم عصر الظلام، ودام من عام 600 ميلادية حتى عام 1000م تقريبا. وبطبيعة الحال فإن أية محاولة لوضع فترات تاريخية كهذه في تصنيفات محددة المعالم لا بد أن تكون محاولة مصطنعة إلى حد بعيد، ولا يمكن أن يجني المرء من مثل هذه التقسيمات فائدة كبيرة، وقصارى ما يمكنها أن تشير إليه هو إيضاح بعض السمات العامة التي كانت تسود خلال الفترة موضوع البحث؛ لذلك لا ينبغي أن يتصور أحد أن أوروبا قد سقطت فجأة، مع بداية القرن السابع، في هاوية لم تخرج منها إلا بعد أربعة قرون؛ ذلك لأن التراث الكلاسيكي الماضي ظل باقيا على نحو ما، وإن كان تأثيره قد أصبح محدودا ومحفوفا بالأخطار. وكانت الأديرة مركزا لبعض أنواع العلم، ولا سيما في الأركان النائية مثل أيرلندة. ومع ذلك فليس من الخطأ أن نصف هذه القرون بأنها مظلمة، لا سيما إذا قورنت بما جاء قبلها، وما أتى بعدها. وفي الوقت ذاته يحسن بنا أن نذكر أن الإمبراطورية الشرقية لم تشارك بقدر متساو في هذا الانهيار الشامل؛ فقد ظلت قبضة الإمبراطورية في بيزنطة قوية، مما أدى إلى بقاء التعليم مصطبغا بصبغة أكثر علمانية مما ظل عليه في الغرب طوال قرون عديدة. وبالمثل فعلى حين أن الثقافة الغربية تهاوت كانت حضارة الإسلام الفتية القوية، التي ضمت جزءا كبيرا من الهند، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وأسبانيا، تصعد إلى أعلى قممها. فإذا مضينا أبعد من ذلك وجدنا حضارة الصين في عهد أسرة تانج
Tang
تشهد عصرا من أزهى عصور الثقافة في تاريخها.
ولكي ندرك السبب الذي جعل الفلسفة ترتبط بالكنيسة إلى هذا الحد الوثيق، ينبغي أن نعرض بإيجاز لأهم خطوط التطور التي سارت فيها البابوية والقوى العلمانية خلال الفترة التي نبحثها ها هنا. فقد كان أهم الأسباب التي أتاحت للباباوات ضمان مركزهم المسيطر في الغرب هو ذلك الفراغ السياسي الذي تركه زوال الإمبراطورية الرومانية. أما البطاركة الشرقيون، الذين كانت سلطة الإمبراطورية تحد من نفوذهم، فلم يكونوا يستجيبون في أي وقت لمطالب أساقفة روما، وانتهى الأمر بالكنائس الشرقية إلى أن سلكت طرقها الخاصة. وفضلا عن ذلك فإن تأثير القبائل الهمجية الغازية في الغرب قد أدى إلى هبوط المستويات العامة للثقافة، التي كانت تسود خلال عصر الإمبراطورية في كافة أرجائها. وهكذا أصبح رجال الدين الذين حافظوا على ما تبقى من آثار العلم، جماعة مميزة تستطيع القراءة والكتابة؛ ولذلك فإن رجال الدين هم الذين أسسوا المدارس وأشرفوا عليها عندما دخلت أوروبا بعد بضعة قرون من الصراع، مرحلة أكثر استقرارا. وظلت الفلسفة المدرسية بلا منافس حتى عصر النهضة.
لقد كانت البابوية في أوروبا الغربية تسير خلال القرنين السابع والثامن في طريق محفوف بالأخطار بين القوى السياسية المتنافسة للأباطرة البيزنطيين والملوك البرابرة. وكان الارتباط باليونان أفضل في بعض النواحي من الاعتماد على الغزاة؛ فقد كانت سلطة الأباطرة على الأقل، مرتكزة على أسس شرعية، على حين أن حكام القبائل الغازية قد استولوا على السلطة بالقوة. وفضلا عن ذلك فإن الإمبراطورية الشرقية حافظت على المقاييس الحضارية التي كانت سائدة عندما كانت روما في أوج عظمتها، فاحتفظت على هذا النحو بقدر من تلك النظرة الكلية الشاملة التي كانت تقف على طرفي نقيض مع القومية الضيقة الأفق السائدة لدى البرابرة. ولنضف إلى ذا أن القوط واللومبارديين كانوا حتى عهد قريب يدينون بمذهب الأريانية، على حين أن بيزنطة كانت متمسكة - مع تفاوت في الدرجة - بأصول العقيدة، حتى على الرغم من رفضها أن تنحني أمام السلطة الكنسية لروما.
ومع ذلك فإن الإمبراطورية الشرقية لم تعد بالقوة التي تكفي للاحتفاظ بسلطتها في الغرب؛ ففي عام 739م قام اللومبارد بمحاولة فاشلة لغزو روما، فحاول البابا جريجوري الثالث الاستعانة بالفرنجة
Franks
من أجل مواجهة التهديد اللومباردي. وفي تلك الفترة كان الملوك الميروفنجيون
Merovingian
الذين خلفوا كلوفيس
Clovis
قد فقدوا كل سلطة حقيقية في مملكة الفرنجة، وكان الحاكم الحقيقي هو المستشار الأكبر
Domus ، وهو منصب احتله في أوائل القرن الثامن شارل مارتل
Charles Martel
الذي أوقف المد الإسلامي الصاعد في موقعة تور
Tours
عام 732م. ومات شارل وجريجوري معا في عام 741م، فخلفهما بيبان
والبابا ستيفن الثالث، اللذان تفاهما معا، فطلب المستشار الأكبر من البابا أن يعترف رسميا به ملكا، وهكذا حل محل أسرة الميروفنجيين. وفي مقابل ذلك أعطى بيبان البابا مدينة رافينا
Rovenna
التي كان اللومبارد قد استولوا عليها عام 751م، مع بعض الأقاليم الأخرى الواقعة تحت سيطرته، وكان ذلك هو العامل الذي قصم ظهر بيزنطة نهائيا.
وفي غياب سلطة سياسية مركزية، أصبح لدى البابوية من القوة أكثر مما كان للكنيسة الشرقية في أي وقت في ميدانها الخاص. وبالطبع فإن الاستيلاء على رافينا لم يكن صفقة قانونية بأي معنى؛ ولذلك فقد عمد بعض القساوسة لكي يضفوا مسحة من الشرعية على هذه العملية إلى تزوير وثيقة أصبحت تعرف باسم «منحة قسطنطين»، يفترض أنها مرسوم من قسطنطين منح بموجبه إلى الحبر الأعظم جميع الأقاليم التي كانت تنتمي إلى روما الغربية. وعلى هذا النحو استقرت السلطة الزمنية للباباوات، وظلت قائمة طوال العصور الوسطى. ولم يتم كشف التزوير إلا في القرن الخامس عشر.
ولقد حاول اللومبارديون مقاومة تدخل الفرنجة، لكن شرلمان، ابن بيبان، تمكن في النهاية من عبور جبال الألب في عام 774م، وأوقع بالجيوش اللومباردية هزيمة حاسمة، فاتخذ لنفسه لقب ملك اللومبارد، وسار نحو روما، حيث أكد المنحة التي قدمها أبوه في عام 754م. وكانت البابوية ميالة إليه، كما أنه من جانبه قد بذل جهدا كبيرا من أجل نشر المسيحية في إقليم سكسونيا، وإن كان أسلوبه في تنصير الوثنيين قد اعتمد على قوة السيف أكثر مما اعتمد على الإقناع.
وعلى الحدود الشرقية غزا شرلمان الجزء الأكبر من ألمانيا، أما في الجنوب فإن محاولاته طرد العرب من أسبانيا كانت أقل نجاحا. وأدت هزيمة قواته في عام 778م إلى ظهور أقاصيص رولان
Roland
المشهورة.
غير أن شرلمان كان يستهدف ما هو أكثر من تأمين حدوده. فقد نظر إلى نفسه على أنه الوريث الحقيقي للإمبراطورية الغربية.
وهكذا فإن بابا روما توجه إمبراطورا في يوم عيد الميلاد من عام 800م، وكان هذا اليوم هو بداية الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية، وكان تتويج إمبراطور غربي جديد يعني اكتمال الانفصال عن بيزنطة، وهو الانفصال الذي كانت منحة بيبان سببا واقعيا له. وكانت الحجة التي تذرع بها شرلمان للقيام بهذه الخطوة واهية؛ فقد كانت الإمبراطورة إيرين
Irenne
هي التي تجلس عندئذ على عرش بيزنطة، فقال شرلمان إن هذا أمر لا يسمح به العرف الإمبراطوري، ومن ثم فقد اعتبر المنصب شاغرا. وبعد أن جعل البابا يتوجه أصبح في إمكانه أن يضطلع بمهمة خليفة القياصرة.
وفي الوقت ذاته أصبحت البابوية بفضل هذا الإجراء وثيقة الارتباط بالسلطة الإمبراطورية، ومن ثم أصبح من الضروري أن يقوم البابا بالتصديق على تعيين الإمبراطور في منصبه عن طريق وضع التاج على رأسه، حتى في الحالات التي كان فيها بعض الأباطرة العنيدين يعينون البابا أو يعزلونه وفق هواهم. وهكذا ارتبطت السلطتان الروحية والزمنية ارتباطا وثيقا في اعتماد متبادل كان له تأثيره المصيري. وكان الخلاف محتدما بالطبع، وهكذا أخذ البابا والإمبراطور يتشابكان في حروب لا تتوقف، تفاوت فيها حظ كل منهما. وقد أثير أحد الأسباب الرئيسية للنزاع بسبب موضوع تعيين كبار رجال الكنيسة، وهو الموضوع الذي سنقول عنه المزيد فيما بعد.
وبحلول القرن الثالث عشر وجدت الأطراف المتنازعة أن التوفيق بينها مستحيل، فنشب على إثر ذلك صراع خرجت منه البابوية منتصرة، غير أنها فقدت هذه الميزة التي كسبتها بشق النفس؛ بسبب تدهور المستوى الأخلاقي للباباوات في أوائل عصر النهضة. وفي الوقت نفسه أطلق ظهور نظم ملكية قومية في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا قوى جديدة قوضت تلك الوحدة التي كانت قد حافظت عليها الزعامة الروحية للكنيسة، واستمرت الإمبراطورية إلى أن غزا نابليون أوروبا، أما البابوية فما زالت باقية إلى يومنا هذا، وإن كان نفوذها المسيطر قد انتهى منذ حركة الإصلاح الديني.
لقد ظل شرلمان طوال حياته يقدم الحماية طواعية للباباوات، الذين حرصوا من جانبهم على ألا يقفوا في وجه أهدافه، ولقد كان شرلمان ذاته أميا لا يعرف التقوى، ولكنه لم يكن ضد تعلم الآخرين أو تقواهم. وقد شجع حركة إحياء أدبي ورعا العلماء، رغم أن أساليبه في الترويح عن نفسه كانت بعيدة عن هذا الطابع الثقافي. أما عن السلوك المسيحي القويم، فقد رآه مفيدا لرعاياه، ولكن لا ينبغي السماح له بأن ينغص حياة البلاط أكثر مما ينبغي.
وفي عهد خلفاء شرلمان تدهورت سلطة الإمبراطورية، ولا سيما حين عمل الأبناء الثلاثة «للويس الورع» على اقتسام أقاليمها فيما بينهم. ومن هذا التقسيم ظهر ذلك الانشقاق الذي جعل الألمان يقفون في وجه الفرنسيين في العصور اللاحقة. وخلال ذلك اكتسبت البابوية من القوة بقدر ما فقدت الإمبراطورية نتيجة لنزاعاتها الدنيوية، وفي الوقت ذاته كان على روما أن تفرض سلطتها على الأساقفة الذين كانوا - كما رأينا من قبل - مستقلين بدرجات متفاوتة في مناطق نفوذهما، وخاصة في الحالات التي كانوا فيها بعيدين عن مقر السلطة المركزية. وفيما يتعلق بموضوع التعيينات كان البابا نيكولاس الأول (858-867م) ناجحا على وجه العموم في المحافظة على سلطة روما. ومع ذلك فقد ظلت هذه المسألة بأسرها مثار نزاع، لا من السلطات الدنيوية فحسب، بل في داخل الكنيسة ذاتها. وكان في استطاعة الأسقف الذكي القوي الإرادة أن يصمد في وجه البابا الذي يفتقر إلى هذه الصفات. ونتيجة لذلك بدأت السلطة البابوية تتدهور مرة أخرى عندما مات نيكولاس.
فقد شهد القرن العاشر البابوية تخضع لتحكم الأرستقراطية المحلية في روما، وكانت المدينة قد غرقت في حالة من الهمجية والفوضى نتيجة للتخريب المستمر الذي أحدثته الصراعات بين الجيوش البيزنطية واللومباردية والفرنجية. وانتشر في جميع أرجاء الغرب أقنان مستقلون يعيثون في الأرض فسادا، ولا يستطيع سادتهما الإقطاعيون كبح جماحهم. كما عجز الإمبراطور وملك فرنسا عن فرض أي نوع من الرقابة الفعلية على باروناتهم المتمردين. وتعدى الغزاة الهنغاريون على الأرض الإيطالية في الشمال، على حين أن المغامرين من الفايكنج أشاعوا الرعب والفوضى في جميع سواحل أوروبا وأراضيها النهرية. وخلال ذلك نال النورمنديون شريطا من الأرض في فرنسا، واعتنقوا المسيحية في المقابل. أما التهديد العربي بالسيطرة من الجنوب، الذي ظل يتصاعد طوال القرن التاسع، فقد أمكن تجنبه عندما هزمت روما الشرقية الغزاة على نهر جاريليانو بالقرب من نابولي في عام 915م، ولكن قوى الإمبراطورية كانت أضعف من أن تحكم الغرب مرة أخرى، كما حاولت في عهد جستينيان. وفي هذه الفوضى الشاملة التي اضطرت فيها البابوية إلى تلبية نزوات أشراف روما ذوي النوايا السيئة، فقدت البابوية ما كان يمكن أن يتبقى لها من النفوذ في إدارة شئون الكنيسة الشرقية، بل إنها وجدت قبضتها تتراخى على رجال الدين في الغرب، في الوقت الذي أكد فيه الأساقفة المحليون مرة أخرى استقلالهم. غير أنهم لم ينجحوا في ذلك، إذ إن ضعف الروابط مع روما قد اقترن بتقوية الصلات مع القوى الدنيوية المحلية، كما أن أخلاق الكثيرين ممن اعتلوا عرش القديس بطرس (أي من الباباوات) في تلك الفترة لم تكن من النوع الذي يضمن الوقوف ضد تيار الانحلال الاجتماعي والأخلاقي.
ومع مجيء القرن الحادي عشر، أخذت تنتهي الحركة الكبرى للشعوب، كما أمكن تجنب الخطر الخارجي الذي كان يهدد أوروبا من الغزو الإسلامي، ومنذ ذلك الحين أخذ الغرب ينتقل إلى موقع الهجوم.
كانت المعرفة الإغريقية قد ظلت باقية في أيرلندا النائية، في الوقت الذي كانت قد نسيت فيه في معظم أرجاء الغرب، وازدهرت ثقافة أيرلندا في نفس الوقت الذي كان فيه الغرب في عمومه يعاني تدهورا. غير أن قدوم الغزاة الدنمركيين هو الذي أدى في النهاية إلى القضاء على هذا الجيب الحضاري.
وعلى ذلك لم يكن من المستغرب أن تكون أعظم الشخصيات بين أهل المعرفة في ذلك العصر هي شخصية رجل أيرلندي، هو يوحنا سكوتس إريجينا
Johannes Scotus Erigena ، فيلسوف القرن التاسع، الذي كان من أتباع الأفلاطونية الجديدة، وكان عالما في اليونانيات، كما كانت نظرته العامة متأثرة ببيلاجوس، بينما كان في اللاهوت يقول بشمول الألوهية. وعلى الرغم من أفكاره غير المألوفة، يبدو أنه استطاع أن يفلت على نحو ما من الاضطهاد.
والواقع أن حيوية الثقافة الأيرلندية في ذلك العصر كانت ترجع إلى مجموعة من الظروف المواتية؛ فعندما بدأت بلال الغال تعاني من موجات متلاحقة من غزو البرابرة، حدث انتقال واسع النطاق لرجال العلم نحو الغرب الأقصى الذي يكفل لهم مزيدا من الحماية.
غير أن من ذهبوا منهم إلى إنجلترا لم يتمكنوا من الاستقرار بين الإنجليز والسكسون والجوت
Jutes ، الذين كانوا وثنيين. أما أيرلندا فكان فيها الأمان، وعلى هذا النحو وجد فيها كثير من رجال العلم ملاذا، بل إن من الواجب أن نحسب بداية العصور المظلمة ونهايتها في إنجلترا بدورها بطريقة مختلفة. فقد حدث انهيار في عصر الغزوات الأنجلوسكسونية، ولكن حدث إحياء في عهد ألفرد الأكبر. وهكذا فإن الفترة المظلمة قد بدأت وانتهت هناك قبل مائتي عام. وأدت الغزوات الدنمركية في القرنين التاسع والعاشر إلى عرقلة تطور إنجلترا، وإلى نكسة دائمة في أيرلندا؛ ففي هذه المرة حدثت هجرة جماعية للعلماء في الاتجاه المعاكس، أما روما فكانت أبعد من أن تستطيع ممارسة الإشراف على شئون الكنيسة الأيرلندية. وهكذا لم تكن سلطة الأساقفة طاغية، ولذلك لم يضيع علماء الأديرة وقتهم في النزاع حول العقائد الجامدة. وهكذا أصبحت النظرة المتحررة لإريجينا ممكنة، على حين أنها لو كانت قد ظهرت في مكان آخر لووجهت بعقاب فوري.
ولسنا نعرف عن حياة يوحنا (إريجينا) إلا القليل، باستثناء الفترة التي كان فيها ملتحقا ببلاط شارل الأصلع
Charles the Bald
ملك فرنسا. ويبدو أنه عاش ما بين عامي 800 و877م، وإن كانت التواريخ غير مؤكدة. وفي عام 843م دعي إلى البلاط الفرنسي ليشرف على مدرسة البلاط. وهناك دخل في نزاع حول مسألة الجبر والاختيار؛ فقد كان يوحنا منحازا إلى جانب الاختيار، وكان يرى أن جهود المرء الخاصة في سبيل الفضيلة تؤتي أكلها. غير أن الأمر الذي أثار حفيظة الكنيسة ضده لم يكن نزعته البيلاجية
هذه برغم خطورتها، بل كان معالجته للمسألة بطريقة فلسفية بحتة؛ فهو يرى أن العقل والنقل مصدران مستقلان للحقيقة، لا يتداخلان ولا يتعارضان. أما إذا بدا في حالة معينة أن ثمة تعارضا فلا بد من الوثوق بالعقل أكثر من النقل. والواقع أن العقيدة الحقة هي بعينها الفلسفة الحقة، والعكس بالعكس. غير أن وجهة النظر هذه لم ترق لأعين قساوسة بلاط الملك الذين كانوا أضيق أفقا، فأدينت الرسالة التي عالج فيها يوحنا هذه الموضوعات، ولم ينقذه من العقاب إلا صداقة الملك الشخصية. وقد مات شارل في عام 877م، وفي العام نفسه مات صديقه العالم الأيرلندي.
كان يوحنا واقعيا في فلسفته بالمعنى المدرسي لكلمة الواقعية ، وهذا استعمال اصطلاحي للفظ ينبغي أن يكون واضحا في أذهاننا.
فالواقعية ترجع في أصلها إلى نظرية المثل كما عرضها سقراط الأفلاطوني؛ ولذلك فهي تذهب إلى أن الكليات أشياء، وأنها تسبق الجزئيات. أما المعسكر المضاد فيرتكز على المذهب التصوري
Conceptualism
عند أرسطو، وتسمى هذه النظرية بالاسمية
Nominalism ، وترى أن الكليات ما هي إلا أسماء، وأن الجزئيات تسبق الكليات. وقد ظلت المعركة بين الواقعيين والاسميين حول مسألة الكليات محتدمة بعنف طوال العصور الوسطى، وما زالت قائمة حتى يومنا هذا في العلم والرياضة. ونظرا إلى ارتباط الواقعية المدرسية بنظرية المثل، فقد أطلق عليها في العصر الحديث اسم المثالية، ولكن من الواجب أن نميز بين هذا كله وبين الاستخدامات التالية غير المدرسية لهذه الألفاظ، وهي الاستخدامات التي سنشرحها في مواضعها المناسبة.
وتظهر واقعية يوحنا بوضوح في كتابه الفلسفي الرئيسي «عن تقسيم الطبيعة». في هذا الكتاب يرى أن للطبيعة تقسيما رباعيا؛ تبعا لكون الأشياء خالقة، أو غير خالقة، ومخلوقة، أو غير مخلوقة. فهناك أولا الخالق غير المخلوق، ومن الواضح أن المقصود هنا هو الله، ثم يأتي الخالق المخلوق، وهي فئة تندرج تحتها المثل بالمعنى الذي قال به أفلاطون وسقراط؛ لأنها تخلق الجزئيات ويخلقها الله الذي تستمد كيانها منه. ولدينا ثالثا الأشياء الموجودة في المكان والزمان، التي هي مخلوقة غير خالقة. وأخيرا يتبقى غير الخالق وغير المخلوق، وهنا نعود بعد دورة كاملة إلى الله بوصفه الهدف النهائي الذي ينبغي أن تسعى إليه الأشياء جميعا. وبهذا المعنى لا يكون الله خالقا؛ لأنه لا يتميز عن غايته الخاصة.
هذا فيما يتعلق بالأشياء التي توجد، غير أنه يدرج في الطبيعة أيضا الأشياء التي لا توجد، وأولها الأشياء المادية العادية، التي تستبعد، بطريقة دالة على اتجاهه الأفلاطوني الجديد، من العالم المعقول. وبالمثل ينظر إلى الخطيئة على أنها نقص أو حرمان، وتباعد عن النموذج الإلهي، ومن ثم فهي تنتمي إلى عالم ما هو غير موجود. وهذا كله يعود بنا إلى النظرية الأفلاطونية التي يكون فيها الخير كما رأينا مساويا للمعرفة.
على أن الرأي القائل إن الله متوحد مع غاياته يؤدي مباشرة إلى لاهوت قائم على فكرة شمول الألوهية
pantheistic ، بعيد كل البعد عن الأصول الدينية؛ فماهية الله ذاته غير معروفة، لا بالنسبة إلى البشر فحسب، بل بالنسبة إلى الله ذاته، ما دام الله ليس موضوعا قابلا لأن يعرف. والسبب المنطقي لذلك وإن لم يكن يوحنا قد صرح به، هو أن الله كل شيء، وفي هذه الحالة لا يمكن أن ينشأ الموقف المعرفي الذي يوجد فيه عارف وموضوع للمعرفة. أما نظريته في الثالوث فلا تختلف عن نظرية أفلوطين؛ فوجود الله يكشف عن ذاته في وجود الأشياء، وحكمته تتكشف في نظامها، وحياته في حركتها، وهذه الجوانب الثلاثة تناظر الأب والابن والروح القدس على التوالي. أما عن عالم الأفكار أو المثل فيشكل الكلمة الإلهية، ويؤدي بتوسط الروح القدس إلى ظهور الجزئيات، التي ليس لها وجود مادي مستقل، والله يخلق الأشياء مما ليس بشيء بالمعنى الذي يكون فيه هذا الذي ليس بشيء هو الله ذاته الذي يعلو على كل معرفة، ومن ثم فهو ليس شيئا. وهكذا يعارض يوحنا الرأي الأرسطي الذي يعزو إلى الجزئيات وجودا ماديا. ومن جهة أخرى فإن الأقسام الثلاثة الأولى التي تحددت وفقا لكون الأشياء خالقة أو مخلوقة، مستمدة من تقسيم أرسطو المماثل للأشياء تبعا لكونها متحركة بذاتها أو بغيرها. أما القسم الرابع فمستمد من مذهب ديونيزيوس الأفلاطوني الجديد. ولقد كان ديونيزيوس، الذي كان تلميذا أثينيا للقديس بولس، هو الكاتب المزعوم لرسالة توفق بين الأفلاطونية الجديدة والمسيحية. وقد ترجم يوحنا هذه الرسالة من اليونانية، ومن الجائز أن يكون قد ضمن لنفسه الحماية على هذا النحو؛ لأن ديونيزيوس المزعوم هذا كان ينظر إليه خطأ على أنه مسيحي متمسك بالعقيدة الأصولية، نتيجة لارتباطه بالقديس بولس.
وفي القرن الحادي عشر بدأت أوروبا أخيرا تدخل فترة من الانتعاش. فقد استطاع النورمنديون إيقاف التهديدات الآتية من الشمال والجنوب، ووضع غزوهما لإنجلترا حدا للغارات الإسكندنافية، على حين أن حملاتهما في صقلية أزالت الحكم العربي نهائيا من هذه الجزيرة. وبدأت تترسخ دعائم إصلاح مؤسسات الأديرة، كما أعيد النظر في مبادئ انتخاب البابا وتنظيم الكنيسة. وأخذت الأمية تتراجع بتقدم التعليم، لا بين رجال الدين فحسب، بل بين أبناء الطبقة الأرستقراطية أيضا.
على أن الصعوبتين الأساسيتين اللتين كانتا تعترضان الكنيسة في ذلك الوقت هما شراء المناصب الكنسية بالمال، ومسألة الامتناع عن الزواج. والأمران يرتبطان بوضع السلك الكهنوتي كما تطور عبر السنين، فنظرا إلى أن القسس كانوا هم المشرفين على المعجزات والسلطات الدينية، فإنهم أخذوا يمارسون بالتدريج تأثيرا كبيرا على الشئون الدنيوية، وهو تأثير لا يمكن أن تدوم فعاليته إلا إذا ظل الناس في عمومتهم يعتقدون أن هذه القدرات أصلية. وقد ظل هذا الاعتقاد سائدا بإخلاص ومنتشرا طوال العصور الوسطى، غير أن تذوق طعم السلطة يثير الشهوات والأطماع، وما لم تكن هناك تقاليد أخلاقية قوية وفعالة توجه من يحتلون مواقع السلطة، فإنهم يتجهون إلى الانتفاع إلى أقصى حد من مراكزهم، وهكذا أصبح منح المنصب الكنسي لقاء المال مصدرا للثروة والقوة عند من يملكون منح مثل هذه التكريمات، وأدت هذه الممارسات في النهاية إلى إفساد المؤسسة، كما كانت تبذل من آن لآخر جهود لمكافحة هذا الداء.
أما مسألة امتناع رجال الدين عن الزواج فلم تكن الآراء فيها قاطعة، ولم يبت في جوانبها الأخلاقية أبدا على نحو نهائي. فلم يحدث في الكنيسة الشرقية، ولا في الكنائس الإصلاحية الغربية فيما بعد، أن نظر إلى الامتناع عن الزواج على أنه ذو قيمة أخلاقية، أما الإسلام فيذهب إلى حد التنديد به. ويمكن القول إنه كانت هناك أسباب معقولة من الوجهة السياسية للتغيرات التي حدثت في هذه الفترة، فلو تزوج رجال الدين لاتجهوا إلى تكوين طائفة وراثية، وخاصة إذا أضيف إلى ذلك الدافع الاقتصادي الخاص بالمحافظة على الثروة. وفضلا عن ذلك فينبغي ألا يكون رجل الدين مماثلا لأي رجل آخر، وخير وسيلة لتأكيد هذا التمييز بينهما هي العزوف عن الزواج.
ولقد كان المركز الذي ظهر فيه إصلاح نظام الأديرة هو دير كلوني
Cluny
الذي أسس عام 910م؛ فقد طبق في هذا الدير مبدأ جديد للتنظيم لأول مرة، بحيث أصبح الدير مسئولا أمام البابا وحده مباشرة، ومن جهة أخرى فإن رئيس الدير يمارس سلطته على المؤسسات التابعة لمنطقة كلوني، وكان الهدف من النظام الجديد هو تجنب الحالتين المتطرفتين؛ الترف والتقشف، واقتفى مصلحون آخرون أثر هذه البادرة، وأسسوا طرقا أخرى منها الكامالدوليز في 1012م، والكارثوزيون في 1084م، والسسترسيون الذين أعقبوا البندكتيين في 1098م، أما بالنسبة إلى البابوية ذاتها، فجاء الإصلاح في الأساس نتيجة للصراع على السيطرة بين الإمبراطور والبابا. وقد اشترى جريجوري السادس منصب البابوية من سلفه بندكت التاسع لكي يصلح نظامها، غير أن الإمبراطور هنري الثالث (1039-1056م) الذي كان هو ذاته مصلحا شابا متحمسا، لم يقبل مثل هذه الصفقة مهما كان نبل الدوافع التي أملتها. وهكذا زحف هنري في عام 1046م، وهو في الثانية والعشرين إلى روما وعزل جريجوري. ومنذ ذلك الحين ظل هنري يعين الباباوات، متوخيا الحكمة في ذلك، كما ظل يعزلهم إذا لم يحققوا ما يتوقع منهم، ولكن البابوية استردت قدرا من استقلالها خلال المدة التي كان فيها هنري الرابع (الذي حكم من 1056 إلى 1106م) تحت الوصاية، وقد صدر في عهد البابا نيكولاس الثاني مرسوم يضع الانتخابات البابوية في أيدي الأساقفة الكردينالات وحدهم تقريبا، بحيث استبعد الإمبراطور استبعادا تاما. كما أحكم نيكولاس قبضته على رؤساء الأساقفة؛ ففي عام 1059م أرسل بيتر ديمان، وهو أحد علماء الطريقة الكلملدوليزية، إلى ميلانو من أجل تأكيد السلطة البابوية وتأييد حركات الإصلاح المحلية. ولدميان هذا أهمية بوصفه صاحب النظرية القائلة إن الله غير مقيد بقانون التناقض، ويستطيع ألا يفعل ما فعل، وهو رأي رفضه توما الأكويني فيما بعد.
وفي رأي دميان أن الفلسفة خادمة للاهوت، كما أنه عارض الجدل.
والواقع أن الدعوة إلى أن يكون الله قادرا على تجاوز مبدأ التناقض تثير ضمنا صعوبة في مسألة القدرة الإلهية الشاملة؛ فمثلا ألن يستطيع الله بفضل قدرته الشاملة أن يخلق حجرا يبلغ من الثقل حدا لا يستطيع معه أن يرفعه؟ ومع ذلك فلا بد أن يكون قادرا على أن يرفعه، ما دامت قدرته شاملة. وعلى ذلك يبدو أنه يستطيع ولا يستطيع أن يرفعه. وهكذا تصبح القدرة الشاملة فكرة مستحيلة، ما لم يتخل المرء عن مبدأ التناقض، على أن الاستغناء عن مبدأ التناقض يجعل الحديث والتفاهم مستحيلا؛ ولهذا السبب كان من الضروري رفض نظرية دميان.
على أن انتخاب خليفة نيكولاس الثاني قد زاد من حدة الخوف بين البابوية والإمبراطور، مع ميل الكفة لصالح الكردينالات، وكان المرشح الجديد الذي انتخب عام 1073م هو هيلدبرانت
Hildebrand
الذي اتخذ لنفسه اسم جريجوري السابع. وفي عهده حدث أقوى صدام مع الإمبراطور حول مسألة الترسيم، التي دام الصراع حولها عدة قرون، فقبل ذلك كان الحاكم الزمني هو الذي يقدم إلى البابا الخاتم والعصا اللذين يخلعان على البابا المعين حديثا بوصفهما رمزا لمنصبه، ولكن جريجوري أخذ هذا الحق لنفسه، كيما يدعم السلطة البابوية. ووصلت الأمور إلى حد التصادم عندما عين الإمبراطور رئيسا جديدا لأساقفة ميلانو في 1075م، فهدد البابا بخلع الإمبراطور وحرمانه من بركة الكنيسة، وهنا أعلن الإمبراطور أنه هو السلطة العليا، وأعلن عزل البابا، فانتقم البابا بطرد الإمبراطور والأساقفة من الكنيسة، وأعلن عزلهم بدوره. وكانت الغلبة في البداية للبابا، واضطر هنري الرابع إلى الحضور للتوبة في كانوسا
Canossa
عام 1077م، غير أن هذه التوبة لم تكن إلا حركة سياسية.
فرغم أن أعداء هنري كانوا قد انتخبوا منافسا له بدلا منه، فإن هنري انتصر مع الوقت على خصومه، وعندما أعلن جريجوري في عام 1080م تأييده للإمبراطور رودلف المنافس، كان الأوان قد فات، فقد انتخب هنري بابا منافسا، ودخل به روما في 1084م لكي يتوج هناك. على أن جريجوري استطاع بمساعدة نورمندية آتية من صقلية، أن يرغم هنري والبابا المنافس على الانسحاب على عجل، ولكنه ظل أسيرا لدى القوات الحامية له، ومات في العام التالي. ومع ذلك فعلى الرغم من عدم نجاح جريجوري فإن سياسته قد قدر لها النجاح فيما بعد.
وسرعان ما اقتدى رجال مثل أنسلم
Anselm ، رئيس أساقفة كنتربري (1093-1109م) بنموذج جريجوري ودخلوا في نزاع مع السلطة الزمنية. ولأنسلم أهمية في الفلسفة بوصفه أول من قال بالدليل الأنطولوجي على وجود الله . فلما كان الله هو أعظم موضوع ممكن للفكر، فإنه لا يمكن أن يكون مفتقرا إلى الوجود، وإلا لما كان هو الأعظم، والواقع أن الخطأ هنا يكمن في الاعتقاد بأن الوجود صفة، غير أن هذا برهان تردد لدى كثير من الفلاسفة منذ ذلك الحين.
على حين أن الغرب قد اجتاحه برابرة اعتنقوا المسيحية فيما بعد، فإن الإمبراطورية الشرقية تهاوت بالتدريج أمام هجمات المسلمين الذين لم يصروا على ضم الشعوب المهزومة إلى دينهم، ولكنهم مع ذلك كانوا يعفون من الجزية كل من يدخل الإسلام، وهي ميزة انتفعت بها الغالبية الساحقة. ويحسب العصر الإسلامي منذ وقت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة عام 622م، وبعد موت النبي
صلى الله عليه وسلم
في عام 632م، أدت الفتوحات العربية إلى تغيير وجه العالم في وقت لا يزيد عن قرن من الزمان؛ فقد فتحوا الشام في 634-636م، ومصر في 642م، والهند في 664م، وقرطاجة في 697م، وأسبانيا 711-713م. غير أن موقعة تور
Tours
في عام 732م حولت التيار، وانسحب العرب إلى أسبانيا، وقد حوصرت القسطنطينية في 669م، ومرة أخرى في 716-717م، ولكن الإمبراطورية البيزنطية ظلت صامدة مع تناقص أراضيها، حتى استولى الأتراك العثمانيون على المدينة في 1453م. ومن العوامل التي أسندت هذا التفجر الرائع للحيوية الإسلامية حالة الإعياء الشامل التي كانت تعاني منها الإمبراطوريات المهزومة، وفضلا عن ذلك فإن الصراعات المحلية ساعدت الفاتحين في مواضع كثيرة. وقد عانت الشام ومصر بوجه خاص لابتعادهما عن طريق الدين القويم.
كانت العقيدة الجديدة التي دعا إليها النبي هي، في بعض نواحيها، عودة إلى الوحدانية المتشددة للعهد القديم، بعد أن تخلصت من الزوائد الصوفية التي أضافها إليها العهد الجديد. وقد نهى الإسلام كاليهودية عن عبادة الأوثان، ولكنه اختلف عنها في تحريمه للخمر، أما الأول فكان يتمشى مع اتجاهات تحطيم الصور والأصنام عند النساطرة. وكان الجهاد فريضة دينية على الرغم من أن أهل الكتاب تركوا دون أن يلحقهم أذى، وكان هذا ينطبق على النصارى واليهود والزرادشتيين،
1
الذين كانت كل فئة منهم تتمسك بتعاليم كتبها المقدسة الخاصة.
ولم يكن العرب في البدء يعتزمون القيام بفتوحات منظمة؛ إذ إنهم كانوا يقومون بغارات على الحدود يحصلون منها على غنائم تعوضهم عن فقر أراضيهم وجدبها، ولكن ضعف المقاومة أحال المغيرين إلى فاتحين. وفي حالات كثيرة ظلت إدارة الأقاليم الجديدة على ما هي عليه في ظل السادة الجدد. وكان يحكم الإمبراطورية العربية خلفاء، والمقصود بهم خلفاء الرسول وورثة سلطته.
وسرعان ما تحولت الخلافة، بعد أن كانت قائمة في البدء على الانتخاب، إلى ملك وراثي في عصر الأمويين، الذين حكموا حتى عام 750م. وقد اتبعت هذه الأسرة الحاكمة تعاليم النبي لأسباب سياسية أكثر منها دينية، وكانت تعارض التعصب. والواقع أن الدوافع الدينية عند العرب على وجه الإجمال لم تكن متطرفة، وظلت الدوافع المادية
2
تلعب دورا هاما في توسعهم. وقد ساعدهم هذا الافتقار إلى التطرف الديني ذاته على أن يحكموا رغم قلة عددهم مناطق شاسعة تسكنها شعوب ذات حضارة أعرق، وعقائد مخالفة، على أن تعاليم النبي حلت في بلاد الفرس في بيئة كانت مهيأة تماما لها بفضل التقاليد الدينية والفكرية الماضية.
وبعد موت علي ابن عم الرسول في عام 661م انقسم المؤمنون إلى سنة وشيعة، وكانت الطائفة الأخيرة أقلية تدين بالولاء لعلي، ولا تقبل بحكم الأمويين. وإلى هذه الأقلية كان ينتمي الفرس الذين كان تأثيرهم هو العامل الأكبر في إزاحة الأسرة الأموية، وحلول الأسرة العباسية محلها، وانتقال العاصمة على أيدي العباسيين من دمشق إلى بغداد. وكانت سياسة هذه الأسرة الجديدة تقدم مزيدا من الحرية للطوائف المتعصبة في الإسلام، غير أن العباسيين فقدوا أسبانيا (الأندلس)، حيث أقيمت في مدينة قرطبة خلافة مستقلة أنشأها الأمير الأموي الوحيد الذي عاش بعد انهيار جماعته، وقد بلغت الإمبراطورية في عهد العباسيين شأوا كبيرا من العظمة، وخاصة في عهد هارون الرشيد معاصر شرلمان، الذي اشتهر بفضل أساطير «ألف ليلة وليلة». وبعد موته في عام 809م بدأت الإمبراطورية تعاني من استخدام المرتزقة الأتراك على نطاق واسع، مثلما سبق أن عانت روما من استخدام الجنود البرابرة. وقد تدهورت الخلافة العباسية وسقطت عندما اجتاح المغول بغداد وخربوها في 1256م.
أما الثقافة الإسلامية فقد بدأ ظهورها في الشام، ثم تركزت في بلاد الفرس والأندلس. ففي الشام ورث العرب التراث الأرسطي الذي كان يتمسك به النساطرة، في الوقت الذي كانت فيه الكاثوليكية التقليدية تدين بالتعاليم الأفلاطونية الجديدة. غير أنه حدث خلط كثير نتيجة لامتزاج النظريات الأرسطية بنوع من التأثير الأفلاطوني الجديد، وفي بلاد الفرس عرف المسلمون الرياضيات الهندية، وأدخلوا الأرقام العربية التي ينبغي في الواقع أن تسمى هندية. وقد أنتجت حضارة الفرس شعراء كالفردوسي، وحافظت على مقاييسها الفنية الرفيعة، على الرغم من الغزو المغولي في القرن الثالث عشر.
كذلك انتشر التراث النسطوري، الذي اتصل العرب عن طريقه لأول مرة بالمعرفة اليونانية في بلاد الفرس في مرحلة مبكرة، بعد أن كان الإمبراطور البيزنطي زينون قد أغلق المدرسة الموجودة في إديسا
Edessa
عام 481م، ومن هذين المصدرين تعلم المسلمون ما عرفوه عن منطق أرسطو وفلسفته، فضلا عن التراث العلمي للقدماء، وكان أعظم الفلاسفة المسلمين في بلاد الفرس هو ابن سينا (980-1537م)، الذي ولد في ولاية بخارى، وأصبح بعد ذلك يعلم الفلسفة والطب في أصفهان، واستقر به المطاف في طهران. وقد كان ابن سينا يعشق الحياة المترفة، وجلب على نفسه عداء رجال الدين بسبب آرائه الخارجة عن المألوف؛ ولذا مارست أعماله تأثيرها الأكبر في الغرب عن طريق ترجماتها اللاتينية. ولقد كان من اهتماماته الرئيسية في الفلسفة، تلك المشكلة القديمة العهد، مشكلة الكليات التي أصبحت فيما بعد مسألة رئيسية في الفلسفة المدرسية الغربية. وكان الحل الذي أتى به ابن سينا محاولة للتوفيق بين أفلاطون وأرسطو؛ فهو يبدأ بالقول إن عمومية الصور تتولد بالفكر، وهو رأي أرسطي ردده ابن رشد، ومن بعده ألبرتوس الأكبر، معلم توما الأكويني، ولكن ابن سينا يضع لهذا الرأي شروطا؛ فالكليات تأتي في الآن نفسه قبل الأشياء وفيها وبعدها. فهي تأتي قبلها في العقل الإلهي عندما يخلق الأشياء وفقا لصورة معينة، وتأتي في الأشياء بقدر ما تنتمي إلى العالم الخارجي، وتأتي بعد الأشياء في الفكر البشري، الذي يدرك الصورة عن طريق التجربة.
كذلك أنجبت الأندلس فيلسوفا مسلما مرموقا، هو ابن رشد (1129-1198م)، الذي ولد في قرطبة لأسرة توارث رجالها مهنة القضاء. وقد درس هو ذاته الشريعة من بين ما درس، وكان قاضيا في إشبيلية، ثم في قرطبة، وفي عام 1184م أصبح طبيب البلاط، ولكنه نفي آخر الأمر إلى المغرب لاعتناقه آراء فلسفية بدلا من أن يكتفي بالإيمان، ولقد كان إسهامه الأكبر في تحرير الدراسات الأرسطية من تحريفات الأفلاطونية الجديدة. وكان يعتقد كما سيعتقد توما الأكويني من بعده أن من الممكن إثبات وجود الله على الأسس العقلية وحدها. أما عن النفس فهو يذهب مع أرسطو إلى أنها ليست خالدة، وإن كان العقل الفعال خالدا. ولما كان هذا العقل المجرد موحدا، فإن بقاءه لا يعني الخلود الشخصي، وقد كان من الطبيعي أن يرفض الفلاسفة المسيحيون هذه الآراء. على أن ابن رشد في ترجماته اللاتينية لم يؤثر في المدرسيين الغربيين فحسب، بل كان يستهوي كافة المفكرين الخارجين عن حرفية العقيدة ممن كانوا يرفضون فكرة الخلود، وهم الذين أصبحوا يعرفون باسم الرشديين.
لقد بدا في وقت موت جريجوري السابع عام 1085م أن سياسته قد انتزعت من الحبر الأعظم سلطته وتأثيره في شئون الإمبراطورية، ولكن تبين فيما بعد أن المعركة بين السلطتين الروحية والزمنية لم تنته على الإطلاق، بل إن البابوية لم تكن قد وصلت بعد إلى ذروة قدرتها السياسية. وخلال ذلك قويت سلطة البابا في المسائل الروحية بفضل تأييد المدن الناشئة في لومبارديا، على حين أن الحروب الصليبية دعمت نفوذه في البداية.
وقد استؤنف الصراع حول الترسيم في عهد البابا إيربان الثاني (1088-99م) الذي عاد إلى استرداد هذه الحقوق لنفسه، وعندما تمرد كونراد، ابن هنري الرابع، على أبيه التمس العون لدى إيربان الذي رحب بتقديم هذا العون. وكانت المدن الشمالية مؤيدة للبابا، بحيث كان من السهل غزو لومبارديا كلها. وكذلك أمكن عقد اتفاق مع فيليب ملك فرنسا، واستطاع إيربان في عام 1094م أن يبدأ مسيرة ظافرة نحو لومبارديا وفرنسا. وهناك في مجمع كليرمون في العام التالي دعا إلى الحرب الصليبية الأولى.
وقد واصل خليفة إيربان وهو باسكال الثاني السياسة البابوية في موضوع الترسيم بنجاح حتى موت هنري الرابع عام 1106م.
وبعد ذلك أصبحت السيادة للإمبراطور الجديد هنري الخامس، وذلك في الأراضي الألمانية على الأقل، وقد اقترح الباب ألا يتدخل الأباطرة في الترسيم مقابل تنازل رجال الدين عن الملكية الدنيوية. غير أن أهل اللاهوت كانوا أكثر حرصا على أمور الدنيا مما يقتضيه هذا الاقتراح الورع. وهكذا فإن رجال الدين الألمان عندما عرفوا بنصوصه هبوا ثائرين، ووجه هنري الذي كان عندئذ في روما، إنذارا إلى البابا كيما يستسلم، وتوج نفسه إمبراطورا، غير أن انتصاره لم يعمر طويلا؛ فبعد أحد عشر عاما، أي في سنة 1122م استعاد البابا كاليكستوس
Calixtus
الثاني سلطته في موضوع الترسيم عن طريق اتفاق ورمز
Worms .
وخلال حكم الإمبراطور فردريك بارباروسا (1152-1195م) دخل الصراع مرحلة جديدة، ففي عام 1154م انتخب هادريان الرابع، وهو إنجليزي في منصب البابا، وفي البداية تحالفت قوات البابا والإمبراطور ضد مدينة روما التي كانت تتحداهما معا، وكان يقود أهل روما في حركتهما الاستقلالية أرنولد من برشيا
Berscia ، وهو رجل قوي شجاع خرج على تعاليم الكنيسة وثار على البذخ الدنيوي الذي كان يعيش فيه رجال الدين، فكان يرى أن رجال الكنيسة الذين يحوزون ممتلكات دنيوية لا يدخلون الجنة، وهو رأي لم يكن يروق لأمراء الكنيسة، ومن هنا فقد هوجم أرنولد بعنف على هرطقته هذه. وكانت هذه الاضطرابات قد بدأت في عهد البابا السابق، ولكنها بلغت أشدها عندما انتخب هادريان، فعاقب أهل روما على عصيانهم المدني بأن فرض عليهم مرسوم تحريم. وفي النهاية ضعفت روحهم الاستقلالية، ووافقوا على إبعاد زعيمهم الخارج على تعاليم الكنيسة، وعاش أرنولد مختبئا، ولكنه وقع في أيدي قوات بارباروسا، فأعدم حرقا. وفي عام 1155م توج الإمبراطور، وسحقت المظاهرات الشعبية التي خرجت في وقت التتويج بقسوة. غير أن البابا اختلف مع الإمبراطور، بعد سنتين وتلا ذلك عقدان من الحرب بين الطرفين؛ فحاربت عصبة اللومبارد في صف البابا، أو على الأصح ضد الإمبراطور. وقد تفاوتت نتائج الحرب؛ إذ اكتسحت ميلانو عام 1162م، ولكن بارباروسا والبابا البديل الذي عينه لحقت بهما كارثة في أخريات ذلك العام نفسه، عندما انتشر الطاعون في جيشهما أثناء سيرهما نحو روما. وأسفرت آخر محاولة بذلها بارباروسا لكسر شوكة البابا عن هزيمته في لينيانو
Legnano
عام 1176م، وعقدت بين الطرفين معاهدة صلح غير مستقر، وقد انضم الإمبراطور إلى الحملة الصليبية الثالثة، ومات في الأناضول عام 1190م.
والواقع أن الصراع بين الكنيسة والإمبراطورية لم ينفع أيا من الطرفين في النهاية، ولكن مدن الدول في شمال إيطاليا هي التي بدأت تظهر بوصفها قوة جديدة، وكانت هذه المدن تساعد البابا بقدر ما كان الإمبراطور يهدد استقلالها. وعندما اختفى هذا التهديد فيما بعد، أصبحت هذه المدن تعمل لحسابها الخاص، وبدأت تتكون فيها ثقافة دنيوية مستقلة عن ثقافة الكنيسة. وعلى الرغم من أنها كانت منتمية اسميا إلى المسيحية، فإن نظرتها العامة كانت متحررة فكريا إلى حد بعيد، وذلك على نحو يماثل ما اتجه إليه المجتمع البروتستانتي بعد القرن السابع عشر، وقد اكتسبت المدن البحرية في شمال إيطاليا أهمية عظمى بوصفها موردة للسفن والمؤن خلال الحروب الصليبية. وإذا كان من الجائز أن الحماس الديني كان إحدى القوى الأصلية التي أسهمت في الحركة الصليبية، فإن الدوافع الاقتصادية القوية كان لها تأثيرها أيضا؛ فقد كان الشرق يبشر بأن يكون مصدرا ضخما للغنائم، والأهم من ذلك أنها غنائم تكتسب في سبيل قضية فاضلة مقدسة، كما أن يهود أوروبا الذين هم في متناول اليد كانوا من جهة أخرى يشكلون هدفا مفيدا للسخط الديني، ولم يكن واضحا لفرسان المسيحية في البداية أنهم إنما كانوا يواجهون في العالم الإسلامي ثقافة أسمى من ثقافتهم بما لا يقاس.
إن الحركة المدرسية تختلف عن الفلسفة الكلاسيكية في أن نتائجها كانت محددة مقدما. فلا بد لها أن تعمل في حدود التعاليم الأصلية للدين. وكان راعيها المقدس بين القدماء هو أرسطو، الذي حل تأثيره بالتدريج محل تأثير أفلاطون. وتتجه هذه الحركة في منهجها إلى اتباع المنهج التصنيفي لأرسطو مستخدمة البرهان الجدلي دون أن تربطه بالواقع إلا في أحوال نادرة. وكان من أهم المسائل النظرية مشكلة الكليات التي قسمت العالم الفلسفي إلى معسكرين متضادين، فقد رأي الواقعيون أن الكليات أشياء، وارتكزوا على آراء أفلاطون ونظرية المثل، أما الاسميون فرأوا أن الكليات مجرد أسماء وارتكزوا على سلطة أرسطو.
ومن الشائع أن تحسب بداية الحركة المدرسية مع روسلان
Roscelin
وهو قس فرنسي كان معلما لأبيلار
Abelard . وقد كان روسلان من الاسميين، وكان يرى - كما قال أنسلم - أن الكليات ما هي إلا نفخة صوت. ومن إنكار حقيقة الكليات انتقل إلى إنكار أن الكل تكون له حقيقته بمعزل عن أجزائه، وهو رأي كان لا بد أن يفضي إلى مذهب صارم في الذرية المنطقية. وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا في موضوع الثالوث إلى نتائج تنطوي على هرطقة، وهي النتائج التي أرغم على التراجع عنها في «ريمز» عام 1092م.
أما أبيلار، الذي ولد عام 1079م فكان مفكرا أهم، وقد درس وعلم في باريس، وبعد أن اشتغل فترة باللاهوت، عاد إلى التعليم في عام 1113م. وإلى هذه الفترة تنتمي علاقته بهيلويز
Heloise ، وهي العلاقة التي أثارت غضبا شديدا لدى عمها، القس فولبير، فأمر بخصي المحب الطائش، ودفع بهما منفصلين إلى سجن تابع للكنيسة، وقد عاش أبيلار، حتى عام 1142م، واكتسب شهرة كبيرة بوصفه معلما. وقد كان بدوره من الاسميين، وقد أوضح، بصورة أدق من روسلان، أننا عندما نستخدم الكلمة محمولا لا نستخدمها بوصفها حدثا، بل لأن لها معنى، فالكليات تنشأ عن التشابه بين الأشياء، غير أن التشابه ذاته ليس شيئا، كما تفترض الواقعية خطأ.
وخلال القرن الثالث عشر بلغت الحركة المدرسية أعلى قممها، كما دخل الصراع بين البابا والإمبراطور أشرس مراحله. وتعد هذه المرحلة قمة العصور الوسطى في أوروبا؛ ففي القرون التالية أخذت تظهر قوى جديدة منذ النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر حتى إحياء العلم والفلسفة في القرن السابع عشر.
كان أعظم البابوات السياسيين هو أنوسنت
Ennocent
الثالث (1198-1216م) الذي بلغت السلطة البابوية في عهده مستوى لم تصل إليه بعد ذلك أبدا. وكان ابن بارباروسا هنري السادس قد فتح صقلية، وتزوج من كونستانس، وهي أميرة تنتمي إلى سلالة ملوك الجزيرة النورمنديين. ومات هنري عام 1197م وخلفه ابنه فردريك ولم يزل في الثانية من عمره، فوضعته أمه تحت وصاية أنوسنت الثالث عندما تولى هذا الأخير منصبه. وفي مقابل اعتراف البابا بحقوق فردريك كسب اعترافا بمكانته العليا، كما حصل على اعتراف مماثل من معظم حكام أوروبا.
وعلى حين أن أهل فينسيا قد أحبطوا خططه خلال اشتراكه في الحملة الصليبية الرابعة، وأرغموه على أن يحتل القسطنطينية لصالحهم، فإن حملته ضد الألبينيين
Albigenses
قد أحرزت نجاحا تاما، فتم تطهير جنوب فرنسا من الهرطقة، وإن كان هذا الإقليم قد لحقه دمار شامل خلال ذلك. وفي ألمانيا خلع الإمبراطور أوتو، وعين فردريك الثاني محله، بعد أن بلغ سن الرشد. وهكذا أصبحت لأنوسنت الثالث اليد العليا على الإمبراطور والملوك، وفي إطار الكنيسة ذاتها، أصبح لأقطابها قدر أعظم من السلطة، ولكن يمكن القول بمعنى معين إن نجاح البابوية في الأمور الزمنية (الدنيوية) كان هو ذاته نذيرا بتدهورها؛ ذلك لأن زيادة إحكام قبضتها على هذا العالم جعل سلطتها في الأمور المتعلقة بالعالم الآخر تنهار، وهو واحد من الأسباب التي أدت فيما بعد إلى حركة الإصلاح الديني.
كان فردريك الثاني قد انتخب بتأييد من البابا مقابل وعود بضمان المكانة العليا للبابا. غير أن الإمبراطور الشاب لم يكن ينتوي أن يحافظ على أي من هذه الوعود أكثر مما ينبغي. والواقع أن هذا الصقلي الشاب، الذي كان أبواه ينتميان إلى أصل ألماني ونورماندي، قد نشأ في مجتمع كانت فيه ثقافة جديدة بسبيل الظهور، فهنا تضافرت المؤثرات الإسلامية والبيزنطية والألمانية والإيطالية لتكوين حضارة جديدة أعطت حركة النهضة الإيطالية قوتها الدافعة الأولى، ونظرا إلى إلمام فردريك الواسع بتراث هذه الثقافات جميعا، فقد استطاع أن يكتسب احترام الشرق والغرب على السواء. كانت نظرته العامة تتجاوز عصره بكثير، كما كانت إصلاحاته السياسية ذات طابع حديث، أما هو ذاته فكان رجلا مستقلا في تفكيره وسلوكه، وقد أكسبته سياسته الحازمة البناءة لقب أعجوبة العالم
stuper mundi .
وقد مات أنوسنت الثالث وعدو فردريك الألماني أوتو في فترة متقاربة لا تزيد عن سنتين. وانتقلت البابوية إلى أونوريوس
Honorius
الثالث ، الذي سرعان ما اختلف مع الإمبراطور الشاب؛ ذلك لأن إلمام الإمبراطور الواسع بحضارة العرب الراقية جعل من الصعب إقناعه بالاشتراك في الحرب الصليبية. ومن ناحية أخرى فقد كانت هناك صعوبات في لومبارديا، حيث كان التأثير الألماني مكروها على وجه العموم. وأدى هذا إلى إثارة مزيد من الاحتكاك مع البابا، الذي كانت تؤيده المدن اللومباردية في عمومتها. وفي عام 1227م مات أونوريوس الثالث، وبادر خليفته جريجوري التاسع إلى إعلان طرد فردريك من الكنيسة لامتناعه عن الاشتراك في الحروب الصليبية. ولكن هذه الخطوة لم تزعج الإمبراطور كثيرا؛ ذلك لأنه كان قد تزوج من ابنة الملك النورمندي لبيت المقدس، ولذا توجه في عام 1228م، وهو لا يزال مطرودا من الكنيسة، إلى فلسطين، وسوى الأمور هناك بالتفاوض مع المسلمين، ولم تكن لبيت المقدس قيمة عسكرية تذكر، غير أن المسيحيين كانت تجمعهم به روابط دينية قوية، وهكذا سلمت المدينة المقدسة بموجب المعاهدة، وتوج فردريك ملكا لبيت المقدس.
ولقد كانت هذه بالنسبة إلى طريقة تفكير البابا، طريقة عقلانية أكثر مما ينبغي لتهدئة الخلافات، ولكن كان عليه بعد نجاح هذه الطريقة أن يعقد صلحا مع الإمبراطور عام 1230م، وأعقبت ذلك فترة من الإصلاح أصبحت فيها لمملكة صقلية إدارة حديثة وتشريع جديد، وشجعت الحكومة التجارة عن طريق إلغاء جميع الحواجز الجمركية في الداخل، كما ارتفع مستوى التعليم بإنشاء جامعة في نابولي، وفي عام 1237م نشبت المعارك من جديد مع لوميارديا، وانشغل فريدريك حتى موته في عام 1250م بحروب دائمة مع الباباوات المتعاقبين، وأضفت الوحشية المتزايدة للصراع ظلا قاتما على هذه الفترة بالقياس إلى السنوات الأولى والأكثر استنارة من حكمه.
وقد توبعت عملية اقتلاع الهرطقة من جذورها بلا هوادة، وإن لم يكن النجاح قد حالفها دائما. صحيح أن الألبينيين وهم طائفة مانوية في جنوب فرنسا، قد استأصلت شأفتهم تماما في الحملة الصليبية التي شنت ضدهم عام 1209م، ولكن كانت هناك حركات هرطقة أخرى استطاعت الصمود. ولم تتمكن محاكم التفتيش، التي أسست عام 1233م من القضاء على اليهود في أسبانيا والبرتغال قضاء تاما، أما الفالديون
Waldenses
وهم أفراد طائفة ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر، وكانت فيها ملامح مبكرة من حركة الإصلاح الديني، فقد تبعوا رائدهم ببيتر فالدو
في منفاه من مدينة ليون إلى سهول الألب يخا بيدمونت غرب تورينو حيث لا زالوا يعيشون إلى اليوم بوصفهم جماعات محلية بروتستانتية تتكلم الفرنسية، ومن حق المرء أن يتوقع في ضوء هذه الأحداث أن تكون الأجيال التالية قد تعلمت أنه ليس من السهل قتل الأفكار بأساليب اصطياد السحرة، غير أن التاريخ يثبت أن هذا درس لم يتم استيعابه.
وهكذا فإن القرن الثالث عشر لم يكن فترة سيادة مطلقة للكنيسة، حتى في المجال الكنسي البحت، على الرغم من القوة الهائلة التي اكتسبتها في ذلك الحين، ولكن إذا كانت الكنيسة الرسمية لها تلتزم كلية بتعاليم مؤسسها، فقد ظهرت في داخلها طريقتان أعادتا التوازن إلى حد ما في البداية، وهما الطريقتان الدومنيكية والفرنسيسكانية، اللتان كانتا في أول عهدهما تتبعان تعاليم مؤسسيهما القديس دومينيك (1170-1221م)، والقديس فرنسيس الأسيزي (1181-1226م)، ولكن على الرغم من أن هاتين الطريقتين كانتا في البداية زاهدتين، فإن الالتزام بالفقر لم يقيدهما طويلا. فقد أصبح الدومنيكان والفرنسسكان معا يشتهران بتولي شئون محاكم التفتيش، وهي مؤسسة لم تصل، لحسن الحظ، لا إلى إنجلترا ولا إلى الدول الإسكندنافية. ومن المحتمل أن التعذيب الذي كانت تمارسه كان يستهدف في وقت ما صالح الضحايا، على أساس أن العذاب الدنيوي في هذا العالم قد يخلص الروح من اللعنة الأبدية.
ولكن لا شك في أن هناك اعتبارات عملية كانت تعمل من آن لآخر على دعمها النوايا الطيبة للقضاة. وهكذا لم يبد الإنجليز اعتراضا وهم يرون جان دارك يتم التخلص منه على هذا النحو.
على أن الطريقتين الدومنيكية والفرنسسكانية أصبحتا تتابعان العلم بشغف، وهو اتجاه يتعارض مع مقاصد مؤسسيهما؛ فقد كان ألبرتوس الأكبر وتلميذه توما الأكويني من الدومنيكان، على حين أن روجر بيكن ودنز سكوتس ووليام الأوكامي ينتمون إلى الطريقة الفرنسسكانية. وقد كان الدور الذي أسهموا به إسهاما ذا قيمة حقيقية في ثقافة عصرهم هو دورهم في ميدان الفلسفة.
إذا كان رجال الكنيسة قد استمدوا الوحي الفلسفي طوال الفترة السابقة من مصادر أفلاطونية جديدة، فإن القرن الثالث عشر قد شهد انتصار أرسطو؛ فقد سعى توما الأكويني (1225-1274م) إلى إقامة المذهب الكاثوليكي على أساس فلسفة أرسطو. وبطبيعة الحال، فإن من المشكوك فيه أن تحرز هذه المهمة نجاحا إذا ما أنجزت بطريقة فلسفية خالصة؛ ذلك لأن الإلهيات عند أرسطو كانت متعارضة تماما مع مفهوم الألوهية المسيحي، ولكن الذي لا شك فيه هو أن نزعة توما الأرسطية، من حيث هي عامل فلسفي مؤثر داخل الكنيسة، قد اكتسبت مكانة أصبحت مكتملة ودائمة، وصارت التوماوية هي المذهب الرسمي للكنيسة الرومانية، وهي تعلم بهذا الوصف في جميع معاهدها ومدارسها . ولا توجد اليوم فلسفة أخرى تتمتع بمثل هذه المكانة البارزة وهذا التأييد القوي، فيما عدا المادية الديالكتيكية التي هي المذهب الرسمي للشيوعية، وبالطبع فإن فلسفة توما لم تصل في عصره إلى هذه المكانة المميزة على الفور، غير أن رسوخ سلطته على نحو أخذ يزداد جمودا فيما بعد، أدى إلى سير التيار الفلسفي الرئيسي مرة أخرى في القنوات العلمانية، بحيث عاد إلى روح الاستقلال التي كانت تسوده فلسفة القدماء.
كان توما ينتمي إلى أسرة يحمل كبارها لقب كونت أكوينو، وكان موطنها قرية تحمل هذا الاسم قريبة من مونتي كاسينو، حيث بدأ دراسته. وبعد أن قضى ست سنوات في جامعة نابولي، انضم إلى سلك الدومينيكان عام 1244م، وواصل العمل في كولونيا متتلمذا على ألبرتوس الكبير، وهو أشهر معلم وباحث أرسطي في عصره.
وبعد أن قضى توما بعض الوقت في كولونيا وباريس، عاد إلى إيطاليا عام 1259م، وكرس السنوات الخمس التالية لكتابة «الخلاصة للرد على الخارجين»
Summa Contra Gentiles
وهو أهم ما كتب. وفي عام 1266م بدأ تأليف كتابه الرئيسي الآخر «الخلاصة اللاهوتية» كما كتب في هذه السنوات شروحا على كثير من مؤلفات أرسطو التي زوده بها صديقه وليم موربكة
William of Moerbeke
مع ترجمات من اليونانية مباشرة. وفي عام 1269م رحل مرة أخرى إلى باريس، حيث أقام ثلاث سنوات. وكانت جامعة باريس في ذلك الحين معادية للاتجاه الأرسطي عند الدومينيكان ؛ لأنه كان يوحي ببعض الروابط مع الرشديين الموجودين هناك. ولقد رأينا أن نظرة ابن رشد إلى الخلود كانت أقرب إلى أرسطو منها إلى النظرة المسيحية. وكان هذا نذير سوء لأرسطو، ومن ثم فقد بذل توما جهدا هائلا لإزاحة الآراء الرشدية من معاقلها. وقد أحرزت جهوده في هذا الاتجاه نجاحا تاما، وهو انتصار كان معناه المحافظة على أرسطو في خدمة اللاهوت المسيحي، حتى لو كان ثمن ذلك التخلي عن بعض النصوص الأصلية، وفي عام 1272م عاد توما إلى إيطاليا، حيث مات بعد سنتين وهو في طريقه إلى مجلس ليون.
وسرعان ما اكتسب مذهبه الفلسفي اعترافا واسعا؛ ففي عام 1309م أعلن أنه هو المذهب الرسمي للطريقة الدومينيكانية، وبعد وقت قصير أي في عام 1323م رسم توما قديسا، وربما لم تكن لمذهب توما من الوجهة الفلسفية تلك الأهمية التي يوحي بها تأثيره التاريخي؛ فمن عيوبه أن نتائجه مفروضة مقدما بطريقة حتمية في إطار العقيدة المسيحية، أي إننا لا نجد هنا ذلك التجرد النزيه الذي نجده عند سقراط وأفلاطون، حيث يسمح للحجة بأن تقودنا إلى أي اتجاه نشاء. غير أن المذاهب الكبرى التي عرضت في كتاب «الخلاصة» هي من جهة أخرى صروح ضخمة من الجهد العقلي تعرض فيها الآراء المتعارضة دائما بوضوح وإنصاف، أما في شروح توما على أرسطو، فإنه يظهر تلميذا ذكيا دقيقا لأرسطو، وهو أمر يتجاوز ما يمكن أن يقال عن أي واحد من السابقين عليه، وضمنهما معلمه (ألبرتوس)، ولقد كان معاصروه يسمونه «العالم الملائكي»، وبالفعل كان توما الأكويني بالنسبة إلى كنيسة روما رسولا ومعلما.
كانت ثنائية العقل والنقل عند اللاهوتيين السابقين من أتباع الأفلاطونية الجديدة، خارجة عن ذلك المذهب، أما التوماوية فأحدثت انقلابا فكريا ضد النظرية الأفلاطونية الجديدة. ولقد كانت الأفلاطونية الجديدة تقول بثنائية في مجال الوجود بين الكليات والجزئيات، أو لنقل بعبارة أدق إن هناك تسلسلا متدرجا للوجود، يبدأ بالواحد ويهبط من خلال المثل إلى الجزئيات، التي هي الأدنى من حيث الوجود، ويتم عبور الهوة بين الكليات والجزئيات على نحو ما، عن طريق الكلمة (اللوجوس) وهو رأي يبدو معقولا تماما لو عبرنا عنه بلغة أقرب إلى واقع الناس؛ ذلك لأن للألفاظ معنى عاما، ولكن من الممكن استخدامها للإشارة إلى أشياء جزئية. وإلى جانب هذه النظرية الثنائية في الوجود، نجد نظرية موحدة في المعرفة؛ فهناك عقل لديه طريقة في المعرفة هي جدلية في الأساس، أما عند توما فإن الأمر على عكس ذلك تماما؛ إذ يرى - على طريقة أرسطو - أن الوجود إنما يكمن في الجزئيات وحدها، ومن هذا يستدل على وجود الله بطريقة ما. وبقدر ما تقبل الجزئيات على أنها مادة خام يكون هذا الرأي تجريبيا في مقابل محاولة العقليين استنباط الجزئيات بالعقل. غير أن موقف توما مع أخذه بنظرة موحدة إلى الوجود يؤدي إلى ثنائية في ميدان المعرفة؛ إذ يفترض مصدرين للمعرفة؛ أولهما: العقل الذي يستمد مادة فكره من تجربة الحواس، وهناك صيغة مدرسية مشهورة تقول إنه لا يوجد في العقل شيء لم يكن من قبل في التجربة الحسية. ولكن هناك بالإضافة إلى العقل الوحي بوصفه مصدرا مستقلا للمعرفة. وعلى حين أن العقل يولد معرفة عقلية، فإن الوحي يزود الناس بالإيمان. فهناك أمور تبعد تماما عن متناول العقل، ولا سبيل إلى إدراكها إلا بتوجيه من الوحي، وإلى هذه الفئة تنتمي مسائل معينة في العقيدة الدينية، مثل أركان الإيمان التي تتجاوز الفهم، ومن قبيل ذلك الطبيعة الثلاثية للإله، والبعث، والمعاد المسيحي، غير أن وجود الله، وإن كان قد يتكشف للوهلة الأولى من خلال الوحي، يمكن أيضا أن يبرهن عليه جدليا عن طريق أدلة عقلية، ومن هنا تأتي المحاولات المتعددة لإثبات هذه القضية. وعلى ذلك فبقدر ما تكون مبادئ العقيدة قابلة للمعالجة العقلية، يمكن إجراء حوار عقلي مع غير المؤمنين، أما فيما عدا ذلك فإن الوحي هو الوسيلة الوحيدة التي تؤدي بنا إلى رؤية النور. على أن التوماوية لا تضع مصدري المعرفة هذين في نهاية الأمر على قدم المساواة؛ إذ ترى أن الإيمان لازم قبل السير في طريق المعرفة العقلية. فلا بد أن يؤمن الناس قبل أن يستطيعوا الاستدلال بالعقل؛ ذلك لأنه على الرغم من أن حقائق العقل مستقلة، فإن مسألة السعي إليها هي في ذاتها مسألة وحي أو نقل.
على أن هذه الطريقة في الكلام لا تخلو من مخاطر؛ ذلك لأن حقائق النقل اعتباطية، وعلى الرغم من أنه لا يوجد تعارض في نظر الأكويني بين العقل والنقل، ومن ثم لا تضاد بين الفلسفة واللاهوت؛ فإن كلا منهما يؤدي في الواقع إلى هدم الآخر، فحيثما يكون في استطاعة العقل التعامل مع الواقع يكون النقل زائدا عن الحاجة والعكس بالعكس.
أما فيما يتعلق باللاهوت، فينبغي أن نتذكر أنه ينقسم في الواقع قسمين ؛ فهناك أولا ما يسمى باللاهوت الطبيعي، الذي يبحث في الله في إطار موضوعات كالعلل الأولى، والمحركات الأولى، وما شابهها. وهذا ما يسميه أرسطو بالإلهيات، ويمكن أن يدرج ضمن الميتافيزيقا غير أن الأكويني بوصفه مسيحيا قد وضع أيضا ما يمكن تسميته باللاهوت العقائدي، الذي لا يعالج إلا الأمور التي نصل إليها بالوحي أو النقل. وهو هنا يرتد ثانية إلى موقف كتاب المسيحية الأوائل، وخاصة أوغسطين الذي يبدو أن توما يؤيد على وجه العموم آراءه في اللطف الإلهي والخلاص. وهذه بالفعل أمور تتجاوز نطاق العقل. وبطبيعة الحال فإن اللاهوت العقائدي غريب تماما عن روح الفلسفة القديمة، ولا نجد شيئا مشابها له عند أرسطو.
ولقد كان هذا العنصر اللاهوتي هو الذي أدى بتوما الأكويني إلى أن يتجاوز أرسطو في مذهبه الميتافيزيقي في مسألة هامة؛ فنحن نذكر أن إله أرسطو كان أشبه بمعماري متجرد. أما الأشياء الجزئية فلسنا مضطرين إلى أن ننسب إليها الوجود؛ لأنها هناك فحسب، وكذلك المادة الخام التي شكلت منها. أما عند الأكويني فإن الله منبع كل وجود، والشيء المتناهي لا يتصف بالوجود إلا عرضا، فهو في وجوده يعتمد، إما بطريق مباشر أو غير مباشر، على حقيقة توجد بالضرورة، وهي الله. وتعبر اللغة المدرسية عن ذلك من خلال مفهومي الماهية والوجود؛ فماهية الشيء هي على وجه الإجمال صفة، وهي ما يكونه الشيء. أما الوجود فهو لفظ يشير إلى حقيقة أن الشيء كائن، أي إنه ما به يكون الشيء. وبالطبع فإن هذين اللفظين معا تجريدان، بمعنى أنه لا الماهية ولا الوجود يمكن أن يكون مستقلا بذاته. وفي كل الأحوال يكون للشيء الملموس ماهية ووجود معا، غير أن هناك حقائق لغوية توحي بتمييز بينهما.
وهذه بعينها هي النقطة التي يلمح إليها فريجة
Frege
3
عندما يميز بين المعنى والإشارة. فمعنى أية كلمة يثير سؤالا واحدا، أما مسألة ما إذا كان هناك بالفعل موضوع تنطبق عليه تلك الكلمة فهي مسألة مختلفة كل الاختلاف. وهكذا يقال إن للأشياء المتناهية وجودا وماهية بوصفهما سمتين متميزتين، وإن لم تكونا بالطبع منفصلتين. والله وحده هو الذي لا يوجد فيه اختلاف موضوعي بين الماهية والوجود.
ولنلاحظ أن النظرية الميتافيزيقية القائلة بأن الموجود المتناهي يتوقف وجوده على غيره، هي التي تؤدي إلى البرهان الثالث من براهين وجود الله في «الخلاصة اللاهوتية»، وهو البرهان الذي نبدأ فيه من واقعة تجريبية عادية هي أن الأشياء تظهر وتختفي، مما يعني أن وجودها ليس واجبا، بالمعنى التخصصي لهذه الكلمة. ويستمر البرهان قائلا إن هذا النوع من الأشياء يأتي عليه وقت لا يعود فيه موجودا، ولكن إذا كان الأمر كذلك فلا بد أنه كان هناك وقت لها يكن يوجد فيه شيء، والنتيجة التي تترتب على ذلك هي ألا يكون هناك شيء موجودا الآن، ما دام أي شيء متناه عاجزا عن أن يضفي الوجود على نفسه. فلا بد إذن أن يكون ثمة موجود واجب الوجود هو الله.
ومن المفيد أن نقدم بضعة تعليقات على هذه الحجة؛ أولها بالطبع هو أنها تسلم بأن وجود أي شيء هناك يحتاج على إطلاقه إلى تعليل أو تبرير. وتلك نقطة رئيسية في الميتافيزيقا التوماوية، ولو لم نقل بهذا الرأي - الذي لم يقل به أرسطو بالفعل - لما أمكن قول أي آراء بعد ذلك، ولكن إذا سلمنا جدلا بهذه المقدمة وجدنا ضعفا باطنا في الحجة يجعلها متهافتة؛ إذ إن القول بأن أي شيء متناه لا يكون موجودا في وقت ما لا يلزم عنه القول بأنه كان هناك وقت لم يكن يوجد فيه أي شيء.
ويدعم توما الأكويني مصطلح الماهية والوجود بنظرية القوة (أو الإمكان) والفعل (أو التحقق) الأرسطية، فالماهية إمكان محض، والوجود تحقق محض، والوجود تحقق محض، وهكذا يوجد في الأشياء المتناهية مزيج من هذين دائما؛ فوجود الشيء هو ممارسة فاعلية ما، وهذه الفاعلية ينبغي بالنسبة إلى أي موضوع متناه أن تكون مستمدة من شيء آخر.
أما الدليلان الأول والثاني على وجود الله فلهما في الواقع طابع أرسطي؛ ففيهما يستدل الأكويني على وجود محرك غير متحرك، وعلة غير معلولة، مفترضا في كل حالة استحالة تسلل العلل أو المحركات إلى ما لا نهاية. غير أن هذا يؤدي ببساطة إلى هدم المقدمة التي ترتكز عليها الحجة. فلنأخذ مثلا الحجة الثانية؛ فإذا كان لكل علة علة أخرى، كان من غير الممكن أن نقول في الآن نفسه إن هناك علة ليست لها علة أخرى؛ إذ إن هذا ببساطة تناقض، ولكن ينبغي أن نذكر أن الأكويني لا يبحث في سلاسل العلل في الزمان، فالمسألة عنده تعاقب للعلل بحيث تعتمد إحداها على الأخرى في هذه اللحظة على نحو يشبه حلقات سلسلة معلقة من خطاف في السقف، فهنا يكون السقف هو العلة الأولى أو العلة غير المعلولة؛ لأنه ليس حلقة معلقة من أي شيء آخر، ولكن ليس ثمة سبب معقول يدعو إلى رفض التسلسل إلى ما لا نهاية، وذلك بشرط واحد هو ألا يفضي إلى تناقض؛ فسلسلة الأعداد الجذرية التي تزيد عن الصفر وتصل إلى الواحد بما فيها الواحد نفسه لا متناهية، ومع ذلك فليس لها عضو أول. أما في حالة الحركة فإن مسألة التسلسل لا يتعين حتى طرحها؛ ذلك لأن أي جسمين متجاذبين يدوران حول بعضهما، وكأنهما شمس وكوكب، يظلان على هذا النحو إلى ما لا نهاية.
أما الدليل الرابع على وجود الله، فيبدأ من الاعتراف بوجود درجات مختلفة للكمال في الأشياء المتناهية، ثم يقول إن هذا يفترض وجود كائن تام الكمال. وأخيرا فإن الدليل الخامس يشير إلى أن الأشياء غير الحية في الطبيعة تبدو موجهة نحو غاية ما؛ لأن العالم يسوده نوع من النظام، وهذا دليل على وجود عقل خارج عن العالم تلبى غايات على هذا النحو، ما دام من المستحيل أن تكون للأشياء الجامدة غايات في ذاتها. هذه الحجة التي تسمى بالحجة الغائية أو برهان التنظيم والتصميم، تفترض ضرورة إيجاد تعليل للنظام. ومن المؤكد أن هذا الافتراض لا يوجد له سبب منطقي؛ إذ قد يكون من حقنا بنفس المقدار أن نطالب بتفسير لعدم النظام، وعندئذ تسير الحجة في الطريق المضاد. أما الدليل الأنطولوجي الذي قال به القديس أنسلم، والذي تحدثنا عنه من قبل، فقد رفضه الأكويني، وإن كان من الغريب أنه رفضه لأسباب عملية لا لأسباب منطقية، فلما كان من المستحيل على أي عقل مخلوق، وبالتالي متناه، أن يحيط بالماهية الإلهية، فمن المحال أن يستنبط على هذا النحو وجوده الذي تطوى عليه ماهيته.
وعلى حين أن إله الأفلاطونية الجديدة كان مندمجا في وجوده بالعالم على نحو ما، فإن إله الأكويني أشبه بكاهن أعظم غير متجسد، يترفع على عالم المخلوقات. وبهذا الوصف فإنه يتمتع بكافة الأوصاف الإيجابية بدرجة لا متناهية، وهو أمر يعد لازما عن مجرد وجوده، وإن كنا لا نستطيع أن نقول عن هذا الموضوع إلا أوصافا سلبية؛ لأن العقل المتناهي عاجز عن الوصول إلى تعريف إيجابي.
وهكذا سيطر أرسطو على الميدان الفلسفي حتى عصر النهضة، ولكن في الصيغة التي وضعها توما الأكويني. وعندما جاء عصر النهضة لم يكن ما رفضه ذلك العصر هو تعاليم أرسطو أو حتى الأكويني، بقدر ما كان مجموعة من العادات السيئة في استخدام النظر والتأمل الميتافيزيقي.
أما روجر بيكن فقد أكد أهمية الدراسة التجريبية في مقابل التأمل الميتافيزيقي، وكان روجر بيكن هذا واحدا من سلسلة الباحثين الفرنسسكان الذين أدى تأثيرهم إلى بدء انهيار أساليب التفكير السائد في العصور الوسطى. وقد كان معاصرا لتوما الأكويني، ولم يكن معارضا للاهوت بأي حال؛ فهو حين وضع الأسس التي تطور بناء عليها المزيد من الاتجاهات الحديثة فيما بعد، لم يكن يهدف إلى هدم سلطة الكنيسة في الأمور الروحية. وهذا يصدق بوجه عام على المفكرين الفرنسسكان في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر. ومع ذلك فإن الطريقة التي عالجوا بها مشكلة العقل والإيمان قد عجلت بانهيار العصور الوسطى.
كان المذهب التوماوي يرى كما ذكرنا منذ قليل أن العقل والوحي يمكن أن يتداخلا ويتلاقيا، ولكن العلماء الفرنسسكان أعادوا النظر في هذا الموضوع، وأخذوا يبحثون عن فوارق أوضح بين الاثنين. وكان هدفهم من الفصل القاطع بين ميدان العقل وميدان الإيمان هو تحرير اللاهوت بمعناه الصحيح من اعتماده على الفلسفة الكلاسيكية. ولكن هذا أدى في الوقت ذاته إلى تحرير الفلسفة من الخضوع للغايات اللاهوتية، ولا بد أن يصاحب السعي الحر إلى النظر الفلسفي عكوف على البحث العلمي. وقد أكد الفرنسسكان بوجه خاص تأثير الأفلاطونية الجديدة مرة أخرى.
وكان معنى ذلك تشجيع دراسة الرياضيات. ومنذ ذلك الحين أصبح الفصل القاطع للبحث العقلي عن ميدان الإيمان يقتضي أن يكف العلم والفلسفة عن الدخول في صراع مع عقائد الإيمان، ولكن كان ينبغي على الإيمان بدوره ألا يدعي أنه يعلن عقائد لا تناقش في الميادين التي يستطيع فيها العلم والفلسفة أن يستقلا بذاتهما. على أن هذا الوضع يهيئ ظروفا لصراعات أشد حدة مما كان يحدث حتى ذلك الحين؛ ذلك لأنه إذا كان الحريصون على الإيمان يصدرون أحكامهم، في مسائل يتضح أنها لا تدخل في نطاق الإيمان، فإن هذا أمر يلزم عنه ضرورة انسحابهم، أو خوضهم معركة في أرض ليست من حقهم. وهكذا فإن الوحي لا يستطيع الاحتفاظ باستقلاله إلا بالامتناع عن خوض المسائل الجدلية. وبهذه الطريقة يستطيع الناس أن يكرسوا حياتهم للبحث العلمي، ويكون لدى كل منهم في الوقت ذاته معتقده الإلهي الخاص. والواقع أن التوماويين قد أضعفوا مركزهم اللاهوتي عندما حاولوا إثبات وجود الله، بغض النظر عن مسألة عدم نجاح البراهين ذاتها. وهذا يعني من ناحية الإيمان الديني أن معايير العقل لا تنطبق فحسب، وأن للروح بمعنى ما الحرية في أن تدين بالولاء لما تشاء.
لقد عاش روجر بيكن على ما يبدو من 1214م حتى 1294م، وإن كان التاريخان غير مؤكدين، وقد درس في أكسفورد وباريس، واكتسب معرفة موسوعية بكل فروع العلم على طريقة الفلاسفة العرب السابقين. وقد كان صريحا في معارضته للتوماوية؛ فقد بدا من الغريب في نظره أن يكتب توما الأكويني عن أرسطو، وكأنه حجة في موضوعه، مع أنه لا يستطيع قراءته؛ ذلك لأن الترجمات لا يمكن الوثوق بها أو الاعتماد عليها. وفضلا عن ذلك فمع أهمية أرسطو هناك أشياء أخرى لا تقل عنه أهمية؛ أولها الرياضيات التي كان يجهلها التوماويون . أما إذا شئنا اكتساب معرفة جديدة، فعلينا أن نلجأ إلى التجربة بدلا من أن نرتد إلى ما قاله مشاهير القدماء. ومن الملاحظ أن بيكن لم يهاجم المنهج الاستنباطي المتبع في الجدل المدرسي لذاته، بل أكد أن استخلاص النتائج ليس كافيا، ولا بد لكي تكون هذه النتائج مقنعة من أن تصمد لاختبار التجربة.
ولقد كان من الطبيعي أن تجلب هذه الآراء الجديدة على صاحبها سخط المتمسكين بحرفية العقيدة. وهكذا أبعد بيكن من أكسفورد عام 1257م، ورحل منفيا إلى باريس. وفي عام 1265م تولى القاصد الرسولي (مندوب البابا) السابق في إنجلترا، وهو «جي دي فولك
Guy de Foulques » منصب البابوية باسم كليمنت الرابع. ونظرا إلى اهتمامه بآراء رجل العلم الإنجليزي هذا، فقد طلب منه ملخصا لفلسفته، وقدم بيكن بالفعل هذا الملخص عام 1268م، على الرغم من وجود حظر فرنسسكاني. وقد تلقى البابا آراء بيكن بالترحاب، وسمح له بالعودة إلى أكسفورد، غير أن البابا مات في العام نفسه، واستمر بيكن يتصرف بطريقة أقل حذرا مما ينبغي. وفي عام 1277م أدين إدانة عظمى، ودعي مع كثيرين غيره لشرح آرائه.
وليس من المعروف بالضبط ما هي المسألة التي وجدوه فيها مذنبا، ولكنه قضى خمسة عشر عاما في السجن، ولم يطلق سراحه إلا عام 1292م، ثم مات بعد سنتين.
أما شخصية دنز سكوتس
Duns Scotus (حوالي 1270-1308م) فلها أهمية فلسفية أكبر. وقد كان أسكتلنديا كما يوحي اسمه، وعضوا في الطريقة الفرنسسكانية. وقد درس في أكسفورد حيث أصبح معلما وهو في الثالثة والعشرين من عمره. وفيما بعد قام بالتدريس في باريس وكولونيا، ومات في هذه الأخيرة. وعلى يد دنز سكوتس أصبح الانشقاق بين العقل والإيمان أشد وضوحا. وعلى حين أن هذا ينطوي من جهة على تضييق لمجال العقل، فإنه يضمن الحرية والاستقلال الإلهيين كاملين. إذ لا يعود اللاهوت الذي يختص بما يمكن أن يقال عن الله علما عقليا، بل يغدو مجموعة من المعتقدات المفيدة المستلهمة من الوحي. وبهذه الروح رفض سكوتس أدلة توما على وجود الله، على أساس أنها ترتكز على التجربة الحسية. وبالمثل رفض أدلة أوغسطين؛ لأنها تعتمد إلى حد ما على النور الإلهي، ولما كان البرهان والحجة ينتميان إلى الفلسفة، وكان كل من اللاهوت والفلسفة يستبعد الآخر، فإنه لا يستطيع أن يقبل أدلة أوغسطين. ومن جهة أخرى فإنه لم يكن يرفض الدليل العقلي المبني على فكرة الموجود الذي لا علة له، على طريقة ابن سينا. والواقع أن هذا كان في حقيقته تحويرا لبرهان أنسلم الأنطولوجي، غير أن معرفة الله لا تكون ممكنة عن طريق الأشياء المخلوقة التي لا يكون لها إلا وجود عارض، والتي تعتمد على الإرادة الإلهية، فالحقيقة هي أن وجود الأشياء هو ذاته ماهيتها. ولعلنا نذكر أن هذا التوحيد بين الوجود والماهية تستخدم عند الأكويني في تعريف الله. فالمعرفة إنما تكون بالماهيات، ومن ثم فإن هذه الماهيات تختلف عن الأفكار الموجودة في العقل الإلهي، ما دمنا لا نستطيع أن نعرف الله. ولما كانت الماهية والوجود متوحدين، فإن ما يجعل كل فرد على ما هو عليه، لا يمكن أن يكون هو المادة، بل ينبغي أن يكون هو الصورة، وذلك على عكس ما قال الأكويني. وعلى الرغم من أن الصور عند دنز سكوتس جوهرية، فإنه لا يقول بواقعية أفلاطونية كاملة، فمن الممكن أن تكون هناك صورة متنوعة في الفرد الواحد، غير أن هذه لا تتميز إلا بطريقة صورية، بحيث يستحيل القول بوجودها على نحو مستقل.
وكما أن القدرة العليا إنما تكمن في الإرادة الإلهية، فكذلك يرى دنز أن الإرادة في الإنسان هي التي تحكم العقل. وتضمن قوة الإرادة للبشر حريتهم، على حين أن العقل يتقيد بالموضوع الذي يبحثه، ويترتب على ذلك أن الإرادة لا تستطيع أن تحيط إلا بما هو متناه، ما دام وجود كائن لا متناه أمرا ضروريا، ومن ثم فهو يلغي الحرية. والواقع أن فكرة الحرية في مقابل الضرورة إنما تتمشى مع تراث أوغسطين. وقد أصبحت في أيدي الباحثين الفرنسسكان أداة قوية للشك؛ ذلك لأنه إذا كان الله غير مقيد بالقوانين الأزلية للعالم، فعندئذ قد يكون من الممكن الشك فيما نعتقده بشأنه أيضا.
وفي أعمال وليام الأوكامي
William of Occam
وهو أعظم علماء الفرنسسكان، نجد مذهبا تجريبيا أشد تطرفا حتى من هذا. وقد ولد في بلدة أوكام من مقاطعة سري
Swrrey
في وقت ما بين عامي 1280م و1300م، ودرس وعلم في أكسفورد، ثم في باريس. ولما كانت آراؤه قد خرجت إلى حد ما عن حرفية العقيدة، فقد صدر إليه الأمر في عام 1324م بالمثول أمام البابا في أفينيون. وبعد أربع سنوات نشب خلاف آخر بينه وبين البابا يوحنا الثاني والعشرين.
ولقد كان البابا يصب جام غضبه على «الروحانيين
Spirituals »، وهم طائفة متطرفة متفرعة عن طريقة الفرنسسكان، كانت تأخذ العهد الذي قطعته على نفسها بالزهد والفقر مأخذ الجد. وكان قد نفذ منذ بعض الوقت اتفاق يتضمن حلا وسطا، يحتفظ البابا بموجبه بالملكية الصورية لممتلكات طائفة الفرنسسكان، غير أن هذا الاتفاق قد انتهك في الوقت الذي نتحدث عنه، وتحدى بعض الأعضاء السلطة البابوية. وكان أوكام ومارسيليو
Marsiglio
من بادوا، وميخائيل من شيسينا
Cesena ، وهو قائد الطريقة الفرنسسكانية، كان هؤلاء الثلاثة في صف المتمردين، فطردوا من الكنيسة عام 1328م. ومن حسن حظهما أنهم تمكنوا من الفرار من أفينيون، ووجدوا الحماية في بلاط الإمبراطور لويس في ميونيخ.
وخلال الصراع بين القوتين، ساند البابا إمبراطورا منافسا للويس، وطرد هذا الأخير من الكنيسة، فرد هذا بأن وجه إلى البابا تهمة الهرطقة عن طريق مجلس كنسي عام. ووجد الإمبراطور في شخص أوكام كاتبا قوي الحجة، على أهبة الاستعداد للدفاع عن وجهة نظر حليفه، وذلك في مقابل الحماية التي كان هذا الأخير يكفلها له. وقد صاغ العالم الإنجليزي بعض الكتابات التي هاجم فيها البابا وانغماسه في الأمور الدنيوية. ومات لويس عام 1347م، ولكن أوكان ظل في ميونيخ إلى أن توفي في عام 1349م.
ولقد كان مارسيليو من بادوا (1270-1342م)، وهو صديق أوكام ورفيقه في المنفى، معارضا للبابا بنفس القوة، وقد عرض بعض الآراء الحديثة عن تنظيم السلطتين الروحية والزمنية واختصاصاتهما. ففي كلتا الحالتين ينبغي أن تكون السيادة الحقيقية للأغلبية الشعبية. وينبغي تشكيل المجالس العامة بانتخابات شعبية، ومثل هذا المجلس وحده هو الذي يكون من حقه إصدار الأوامر بالطرد من الكنيسة، وحتى في هذه الحالة لا بد أن يكون هناك جزاء دنيوي. وهذه المجالس هي وحدها التي يحق لها أن تضع معايير التدين القويم، أما الكنيسة فلا ينبغي لها أن تتدخل في شئون الدولة. ولقد تأثر تفكير أوكام السياسي بمارسيليو إلى حد بعيد، وقلما يصل إلى هذا الحد من التطرف.
ولقد سارت فلسفة أوكام في طريق المذهب التجريبي أبعد مما سار أي مفكر آخر من الفرنسسكان؛ ذلك لأن دنز سكوت مع أنه فصل بين الله وبين ميدان التفكير العقلي، قد ظل مع ذلك محتفظا بقدر يزيد أو ينقص من الميتافيزيقا التقليدية. أما أوكام فكان معاديا للميتافيزيقا على طولي الخط؛ ففي رأيه أن الأنطولوجيا العامة من ذلك النوع الذي تجده لدى أفلاطون وأرسطو وأتباعهما مستحيلة تماما. فالأشياء الفردية الجزئية هي وحدها الحقيقية، وهي وحدها التي يمكن أن تكون موضوعا لتجربة تزودنا بمعرفة يقينية مباشرة. ومعنى ذلك أننا إذا أردنا تفسيرا للوجود، فلن يفيدنا ذلك الجهاز الضخم الذي تؤلفه الميتافيزيقا الأرسطية في شيء. وبهذا المعنى ينبغي أن نفسر قول أوكام: «من العبث أن نستخدم الكثير فيما يمكن أن نستخدم فيه القليل»، وهذا هو أساس كلمته الأخرى الأوسع شهرة التي تقول: «لا ينبغي الإكثار من الكيانات إلى حد يتجاوز ما تدعو إليه الحاجة». وعلى الرغم من أن هذه الكلمة لا ترد في كتاباته، فقد أصبحت تعرف باسم «سكين أوكام». وبالطبع فإن الكيانات التي يقصدها هي الصور والجواهر وما شابهها، مما كانت تهتم به الميتافيزيقا التقليدية. ومع ذلك فإن مفكري العصور اللاحقة الذين كانوا يهتمون أساسا بمشكلات المنهج العلمي، قد فسروا هذه الصيغة على نحو أضفى عليها طابعا مختلفا إلى حد ما. فقد أصبح سكين أوكام وفقا لهذا التفسير مظهرا عاما للاقتصاد في عملية حفظ المظاهر (بمعنى تفسير الظواهر). فإذا كان هناك تفسير بسيط كاف، فمن العبث أن نبحث عن تفسير معقد.
ومع تأكيد أوكام أن الوجود إنما ينتمي إلى ما هو فردي، اعترف بأنه يوجد في مجال المنطق، الذي يبحث في الألفاظ نوع من المعرفة العامة بالمعاني. هذه المعرفة ليست مسألة إدراك مباشر، كما هي الحال في الأفراد، وإنما هي تجريد. وفضلا عن ذلك فليس هناك ما يضمن أن ما وصلنا إليه على هذا النحو له وجود بوصفه شيئا. وهكذا كان أوكام اسميا على طول الخط. فلا بد أن يعد المنطق بالمعنى الأرسطي الدقيق أداة لفظية، وهو يختص بمعنى الألفاظ. وهنا نجد أوكام يتوسع في آراء الاسميين السابقين المنتمين إلى القرن الحادي عشر، بل إن بويتيوس كان قد أكد من قبل أن مقولات أرسطو تنصب على الألفاظ.
إن المفاهيم أو الألفاظ المستخدمة في التخاطب نتاج بحت للذهن. وبقدر ما لا تكون قد صيغت في ألفاظ، فإنها تسمى كليات أو علامات طبيعية في مقابل الألفاظ ذاتها التي هي علامات اصطلاحية، ولكي نتجنب الوصول إلى نتائج ممتنعة، هي أن نحرص على عدم الخلط بين العبارات المتعلقة بأشياء والعبارات المتعلقة بكلمات، فعندما نعلم عن الأشياء كما في حالة العلم، تسمى الألفاظ المستخدمة ألفاظا ذات مقصد أول. أما حين نتكلم عن الكلمات كما فالأشياء الحال في المنطق، فإن الألفاظ تكون ذات مقصد ثان. ومن المهم في أي جدال أو حجة أن نتأكد من أن جميع الألفاظ لها نفس المقصد، وباستخدام هذه التعريفات نستطيع أن نعبر عن الموقف الاسمي فنقول: إن اللفظ «كلي» ذو مقصد ثان. أما الواقعيون فيعتقدون أن له مقصدا أول، وهم في ذلك على خطأ. وهنا تتفق التوماوية مع أوكام في رفض فكرة الكليات بوصفها أشياء، كما يتفق الاثنان في الاعتراف بوجود الكليات قبل الأشياء بوصفها أفكارا في العقل الإلهي، وهي صيغة ترجع أصلا إلى ابن سينا، كما رأينا من قبل، ولكن على حين أن توما الأكويني رأى أن هذه حقيقة ميتافيزيقية يمكن تأييدها بالعقل، فإن أوكام رآها قضية لاهوتية بالمعنى الخاص به، وبذلك أبعدها عن الميدان العقلي. أما اللاهوت فكان في نظر أوكام مسألة إيمان فحسب، فوجود الله لا يمكن إثباته بالبرهان العقلي. وهو هنا يسير أبعد من دنز سكوتس، ويرفض أنسلم كما يرفض الأكويني. كذلك لا يمكن أن نعرف ألذ بالتجربة الحسية، ولا يمكن إثبات شيء بشأنه عن طريق جهازنا العقلي، بل إن الاعتقاد بالله وصفاته يعتمد على الإيمان، وكذلك الحال في تلك المجموعة الكاملة من المعتقدات الدينية المتعلقة بالثالوث وخلود النفس والخلق وما شابهها.
وإذن فمن الممكن أن يوصف أوكام بأنه كان شكاكا بهذا المعنى. غير أن من الخطأ الاعتقاد بأنه لم يكن مؤمنا. صحيح أنه بتحديده مجال العقل وتحريره للمنطق من الشوائب الميتافيزيقية واللاهوتية قد عمل الكثير من أجل تشجيع الجهود المتجددة في البحث العلمي، غير أنه في الوقت ذاته ترك ميدان الإيمان مفتوحا على مصراعيه لكل نوع من الخيال المفرط. لذلك لم يكن من المستغرب أن تتطور بناء على أفكاره حركة صوفية ترتد في نواح كثيرة إلى التراث الأفلاطوني الجديد. وكان أشهر ممثليها هو مايستر إكهارت
Meister Eckhart (1260-1327م)، وهو راهب دومنيكي كانت نظرياته تتجاهل تماما حرفية العقيدة. ونظرا إلى أن خطر المتصوف ليس أقل في نظر الكنيسة الرسمية من خطر المفكر المتحرر، إن لم يكن أشد منه، فإن تعاليم إكهارت قد أعلنت تجديفا في عام 1329م.
وربما كان أعظم مركب للفكر الوسيط هو ذلك الذي نجده في أعمال دانتي (1265-1321م)؛ ففي الوقت الذي كتب فيه الكوميديا الإلهية، كانت العصور الوسطى قد بدأت في الزوال. فنحن نجد لديه نظرة شاملة إلى عالم تجاوز نقطة ذروته، ترتد إلى ذلك الإحياء الأرسطي العظيم عند الأكويني، وإلى صراع جماعتي الجويلف
Guelfs
والجبليني
Ghibellines ، الذي استمر في دول المدن الإنجليزية. ومن الواضح أن دانتي قد قرأ أعمال توما الأكويني، كما كان على إلمام واسع بمظاهر النشاط الثقافي العام في عصره، وبالثقافة الكلاسيكية لليونان والرومان، بقدر ما كانت معرفة هذه الثقافات متاحة في عصره، وتبدو لنا الكوميديا الإلهية رحلة عبر الجحيم والمطهر والجنة، ولكنا نجد خلال هذه الرحلة عرضا شاملا للفكر الوسيط، على صورة استطرادات وإشارات. وقد نفي دانتي من بلدته فلورنسه عام 1302م، عندما استولى الجويلف السود على الحكم خلال الصراع المدني الذي لا ينتهي بين الأطراف المتنافسة. وقد ورد ذكر الكثير من هذه المراعاة السياسية في الكوميديا الإلهية، ومعه عرض لوقائع التاريخ القريب العهد، التي أدت إلى هذه الأحداث، ونظرا إلى أن دانتي كان في تصميمه من أنصار الجبلينيين، فقد كان شديد الإعجاب بالإمبراطور فردريك الثاني، الذي كان بأفقه الرحب وثقافته الواسعة نموذجا مثاليا للإمبراطور كما يريده الشاعر. والواقع أن دانتي واحد من الأسماء الكبرى القليلة في الأدب الغربي. غير أن هذا لم يكن السبب الوحيد الذي جعله جديرا بالشهرة. الأهم من ذلك أنه صاغ اللغة الشعبية، بحيث جعل منها أداة أدبية عالمية كان في استطاعتها لأول مرة أن تضع معايير تتجاوز اختلافات اللهجة المحلية. وبينما كانت اللاتينية، حتى ذلك الحين، هي وحدها التي تؤدي هذه المهمة، أتدرك الإنجليزية الآن الوسيلة للتعبير بالنسبة إلى العمل الأدبي. ويمكن القول إن الإنجليزية، من حيث هي لغة لم تتغير إلا قليلا جدا منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا. وترجع البدايات الأولى للشعر في اللغة الإيطالية إلى الشاعر بيترو دلا فنا
وزير الإمبراطور فردريك الثاني. أما دانتي فقد انتقى اللهجة التي بدت له أفضل من بين عدد من اللهجات، وهي لهجته المحلية التوسكانية، وشيد حولها اللغة الأدبية لإيطاليا الحديثة. وفي الوقت ذاته تقريبا تطور اللسان العامي أو الشعبي في فرنسا وألمانيا وإنجلترا. وقد عاش تشوسر بعد دانتي بوقت قصير، غير أن لغة العلم ظلت لاتينية لوقت ليس بالقصير. وكان أول فيلسوف يكتب بلغته المحلية هو ديكارت، وحتى في هذه الحالة لم يكن يكتب بها إلا في مناسبات متفرقة. وأخذت اللاتينية تتدهور بالتدريج حتى اختفت في أوائل القرن التاسع عشر بوصفها وسيطا للتعبير بين المثقفين. ومنذ القرن السابع عشر حتى القرن العشرين، أصبحت اللغة الفرنسية تضطلع بمهمة التواصل العالمي في ميدان الثقافة، بينما أخذت الإنجليزية في عصرنا تحل محلها.
كان دانتي في فكره السياسي نصيرا للسلطة الإمبراطورية القوية في وقت كانت فيه الإمبراطورية قد فقدت قدرا كبيرا من نفوذها الواسع. وكانت الدول القومية من أمثال فرنسا وإنجلترا في صعود، على حين أخذت فكرة الإمبراطورية العالمية تتوارى. ونظرا إلى أن نظرة دانتي كانت في عمومتها أقرب إلى العصر الوسيط، فإن هذا التغيير في مركز الثقل السياسي لم يكن في نظره هاما. ولو كان قد أدرك أهميته لكان من الجائز أن تتطور إيطاليا إلى دولة حديثة في وقت أقرب بكثير. وليس معنى ذلك أن التراث القديم لدولة إمبراطورية تضم كل شيء لم تكن له مزايا، وكل ما في الأمر أن العصر لم يعد يلائمه. وكانت نتيجة ذلك أن ظلت نظريات دانتي السياسية منعدمة الأهمية في ميدان السياسة العملية.
وتتضمن الكوميديا الإلهية بعض المشكلات العارضة المتعلقة بوضع القدماء، وهي مشكلات تبدو لنا غير ذات أهمية؛ فهو يرى أن كبار فلاسفة العصور الكلاسيكية القديمة لا ينبغي أن يعدوا مجرد وثنيين يستحقون العذاب الأبدي. ويستحق أرسطو «سيد العارفين» ثناء خاصا. ومع ذلك فمن المؤكد أن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا مسيحيين؛ لأنهم لم يغمدوا. وهكذا يبحث دانتي عن حل وسط؛ فالفلاسفة الأقدمون من حيث هم وثنيون يستحقون الجحيم، وهذا بالفعل هو المكان الذي نجدهم فيه. غير أن هناك ركنا خاصا لهم هو أشبه بكهف مبارك وسط مكان كئيب. وهكذا فإن قيود العقيدة الجامدة كانت في ذلك الحين من القوة، بحيث كان الكاتب يشعر بأن تحديد المكان الذي يستحقه كبار الفلاسفة غير المسيحيين في الماضي هو مشكلة حقيقية.
لقد كانت حياة العصور الوسطى برغم مخاوفها وخرافاتها منظمة في جوهرها؛ فالمرء يولد في إطار مركز معين، ويدين بالولاء للسيد الإقطاعي الذي ينتمي إليه. والكيان السياسي مقسم ومرتب بطريقة منسقة إلى مراتب لا يمكن أن يغيرها شيء. وقد عمل مارسيليو وأوكام على هدم هذه التقاليد في ميدان النظرية السياسية. أما عن السلطة الروحية وهي المصدر الأول لتلك المخاوف التي قيدت حرية الناس، فإن تأثيرها بدأ يضمحل بمجرد أن ساد الاعتقاد بإمكان الاستغناء عن العقائد الجامدة. ولا يمكن أن يكون هذا ما قصده أوكام، ولكن من المؤكد أن هذا هو التأثير الذي مارسته تعاليمه فيما بعد على المصلحين، فلقد كان لوثر يكن لأوكام تقديرا يفوق تقديره لأي واحد غيره من المدرسيين، ولكن لا يظهر لدى دانتي أي أثر لهذه التحولات العنيفة. فلم تكن معارضته للبابا مبنية على أي خروج عن الخط الرسمي للكنيسة، وإنما كانت ترجع إلى تدخل الكنيسة في مسائل كانت تدخل في اختصاص الإمبراطور.
ولكن على الرغم من أن سلطة البابا كانت قد تقلصت كثيرا في أيام داشي، فإنه لم يعد في وسع أي إمبراطور ألماني أن يحتفظ بسلطته في إيطاليا، وبعد عام 1359م عندما نقل مقر البابا إلى أفينيون أصبح البابا يكاد يكون أداة في يد ملك فرنسا، وأصبح الخلاف بين البابا والإمبراطور صراعا بين فرنسا وألمانيا، أما إنجلترا فقد انحازت إلى صف الإمبراطورية الألمانية، وعندما أصبح هنري السابع أمير لوكسمبرج إمبراطورا في عام 1308م، بدا وكأن الإمبراطورية قد تستعيد قواها مرة أخرى، وتغنى به دانتي بوصفه منقذا، غير أن نجاح هنري كان ناقصا ووقتيا؛ فبرغم زحفه إلى إيطاليا وتتويجه في روما عام 1312م، عجز عن تأكيد سلطته إزاء نابولي وفلورنسه، ومات في العام التالي، أما دانتي فمات منفيا في رافينا عام 1321م.
ومع نهوض اللغات الشعبية، فقدت الكنيسة قدرا من سيطرتها على الأنشطة العقلية في الفلسفة والعلم، وفي الوقت ذاته حدث تفجر هائل للأدب الدنيوي، بدأ في إيطاليا وانتقل تدريجيا إلى الشمال. وأدى اتساع مجال البحث مصحوبا بقدر من روح الشك، ناتج عن الفجوة بين الإيمان والعقل إلى إبعاد أذهان الناس عن الأمور التي لا تنتمي إلى هذا العالم، وعلمهم أن يحاولوا تحسين أوضاعهم أو تغييرها على الأقل، كل هذه الاتجاهات كانت قد بدأت تتكشف في النصف الأول من القرن الرابع عشر، ولكن دانتي لم يتنبأ بها، وإنما كانت عيونه تنظر أساسا إلى الوراء؛ إلى عصر فردريك الثاني، وبينما كان عالم العصور الوسطى يتسم من حيث المبدأ بالمركزية، فإن القوى الجديدة في عصر النهضة اتجهت إلى كسر طوق البناء الموحد للمجتمع الوسيط ، ولكن يبدو أن فكرة الحكم العالمي قد تعود إلى الظهور مرة أخرى في عصرنا هذا، وإن كان ذلك راجعا إلى أسباب مختلفة.
لقد عانت سلطة البابا في القرن الرابع عشر من تدهور سريع؛ فعلى الرغم من أن الحبر الأعظم أثبت أنه هو الأقوى في الصراع مع الإمبراطورية، فإنه لم يعد من السهل على الكنيسة أن تتحكم في رعاياها عن طريق إبقاء سيف التهديد بالطرد من الكنيسة مسلطا على رءوسهم دائما. وبدأ الناس يتجاسرون على التفكير في الأمور الإلهية بأنفسهم، وكانت البابوية قد فقدت سيطرتها المعنوية والروحية على المفكرين والباحثين، على حين أن الملوك وجماهير الناس كانوا معا غير مرتاحين من جراء الأموال الضخمة التي كان يفرضها عليهم مبعوثو البابا. كل هذه الاتجاهات كانت قد بدأت تتبلور، بالرغم من أنها لم تكن قد بدأت تأخذ شكل صراع علني عند بداية القرن، بل إن البابا بونيفاتشي
Bonigace
الثامن، أكد في مرسومه الذي يحمل عنوان «الواحد المقدس» السلطة البابوية إلى حد يتجاوز مطالب أنوسنت الثالث ذاته، فقد أعلن عام 1300م سنة «يوبيل»، يسمح فيه لأي واحد من رعاياه يقصد روما للحج بأن يمتع نفسه متعة كاملة. وعلى حين أن هذا قد أدى إلى تأكيد السلطة الروحية للبابا، فقد ساعد أيضا على إضافة كميات ضخمة من المال إلى خزينته، فضلا عن إثراء سكان روما، الذين كانت حياتهم اليومية ترتبط برعاية الحاجات الدنيوية للحجاج. وبلغ نجاح اليوبيل حدا تقرر معه أن يتكرر بعد خمسين عاما، ثم بعد خمسة وعشرين بعد أن كان يأتي مرة كل مائة عام.
وبالرغم من مظهر السيطرة الخارجي هذا، فإن سلطة يونيفاتشي الثامن كانت مبنية على أساس هش؛ فمن حيث هو إنسان، كان يحب الذهب إلى حد لا يليق بقطب الكنيسة، أما في أمور الإيمان فلم يكن نموذجا للتمسك بالعقيدة. ولقد ظل طوال ولايته في صراع إما مع الأساقفة الفرنسيين، وإما مع ملكهم فيليب الرابع، وهو صراع خرج منه ملك فرنسا ظافرا، وكان كليمنت الخامس هو البابا التالي، الذي انتخب عام 1305م ، وهو فرنسي اتخذ لنفسه في عام 1309م مقرا في أفينيون، وخلال وريته استطاع فيليب الرابع أن يقمع فرسان المعبد
Templars
بتواطؤ من البابا، وهو إجراء وحشي اتخذ بناء على حجج باطلة اتهموا فيها بالهرطقة، ومنذ ذلك الحين أصبحت معارك البابا تؤدي إلى تقويض سلطته. فقد أدى الخلاف بين يوحنا الثاني والعشرين وبين الفرنسسكان إلى دخول أوكام في حلبة الصراع. وفي روما أدى غياب البابا في أفينيون إلى حركة انفصال جزئي بقيادة كولا دي رينزي
Cola di Rienzi ، وهو مواطن لروما بدأ بمحاربة النبلاء الفاسدين في روما، وفي النهاية تحدى البابا والإمبراطور معا، معلنا أن مقر الحكم في روما كما كان فيما مضى.
وفي عام 1352م نجح البابا كليمنت السادس في إيقاع رينزي في الأسر، ولم يطلق سراحه إلا بعد عامين من موت البابا. وقد عاد رينزي إلى الحكم في روما، غير أن الجماهير فتكت به بعد بضعة أشهر.
ولقد فقدت البابوية قدرا كبيرا من نفوذها عندما نفيت إلى فرنسا. وحاول جريجوري الحادي عشر إصلاح هذا الوضع بالعودة إلى روما في عام 1337م، ولكنه مات في العام التالي، ونشبت صراعات بين خليفته الإيطالي إيريان السادس، وكاردينالات فرنسا الذين انتخبوا روبير من جنيف
Robert of Geneva
بابا لهم، وقد عاد هذا البابا الفرنسي إلى أفينيون، واستمر الانشقاق الكبير الذي ترتب على ذلك حتى انعقد مجلس كونستانس، فقد أيد الفرنسيون البابا المنتمي إليهم في أفينيون، على حين أن الإمبراطور اعترف بالبابا المقيم في روما، ولما كان كل بابا يعين كاردينالاته الذين يقومون بدورهم بانتخاب خليفته، فإن الصدع لم يكن من الممكن رأبه، وقد بذلت محاولة للخروج من هذا المأزق عن طريق عقد مجلس في بيزا عام 1409م، وأعلن عزل البابوين الموجودين، وانتخب بابا آخر يوفق بينهما، غير أن المعزولين لم يستسلما، بحيث أصبح هناك ثلاثة باباوات بدلا من اثنين، وأخيرا استطاع مجلس كونستانس الذي عقد عام 1414م أن يستعيد بعض النظام، فخلع البابا الذي عينه المجلس السابق، وأمكن الضغط على البابا الموجود في روما لكي يستقيل، ودب الانحلال في جماعة أفينيون لعدم وجود دعم لهم نظرا لتصاعد النفوذ الإنجليزي في فرنسا، وفي عام 1417م عين المجلس مارتين الخامس، وبذلك وضع حدا للانشقاق الكبير، غير أن الكنيسة لم تنجح في إصلاح نفسها من الداخل، كما أن معارضة البابا لحركة المجالس أدت إلى إضعاف أية هيبة كان البابا لا يزال يتمتع بها.
وفي إنجلترا مضى جون ويكليف
John Wycliffe (حوالي 1320-1384م) شوطا أبعد في معارضته روما. وكان ويكليف مواطنا ليوركشير، وباحثا ومعلما في أكسفورد. ومن الجدير بالملاحظة أن إنجلترا قد ظلت منذ وقت طويل أقل خضوعا لروما من بقية بلاد القارة، وكان وليام الفاتح قد اشترط منذ البداية ألا يعين أي أسقف في مملكته إلا بموافقة الملك.
وكان ويكليف قسا دنيويا، وتعد أعماله الفلسفية الخالصة أقل أهمية من أعمال الفرنسسكان. وقد تخلى عن نزعة أوكام الاسمية، وكان ميالا إلى نوع من الواقعية الأفلاطونية، وعلى حين أن أوكام قد نسب إلى الله حرية وقدرة مطلقة، فإن ويكليف كان يميل إلى أن يرى الأمر الإلهي ضروريا وملزما له، ولا يمكن أن يكون العالم على خلاف ما هو عليه، وهو رأي كان مستوحى كما هو واضح من المذهب الأفلاطوني الجديد، وقد عاد إلى الظهور في القرن السابع عشر في فلسفة اسبينوزا، وفي أخريات حياة ويكليف أصبح يعارض الكنيسة، وذلك أولا بسبب طريقة الحياة الدنيوية التي كان ينغمس فيها البابوات والأساقفة، في الوقت الذي كانت فيه جماهير المؤمنين تعاني من فقر مدقع، وفي عام 1376م أعرب عن رأي جديد في الحكم المدني خلال مجموعة محاضرات ألقاها في أكسفورد.
فالأتقياء وحدهم هم الذين يحق لهم أن يطالبوا بالملكية والسلطة. أما رجال الدين فبقدر ما يخفقون في هذا الاختبار، يكونون في الواقع مغتصبين لممتلكاتهم، وهو أمر ينبغي أن تحسمه الدولة. وعلى أية حال فإن الملكية شر، وإذا كان المسيح وحواريوه لم يتملكوا شيئا فلا ينبغي أن يكون لرجال الدين شيء من ذلك الآن، على أن هذه الآراء لم تكن تروق لرجال الدين من أصحاب الممتلكات، وإنما وجدت قبولا لدى الحكومة الإنجليزية التي كان عزمها قد استقر على عدم دفع الجزية الباباوية. وحين أدرك البابا جريجوري الحادي عشر أن آراء ويكليف المارقة تتفق وآراء مارسيليو من بادوا، أمر بإجراء محاكمة، ولكن مواطني لندن أوقفوا سيرها بالقوة. وفضلا عن ذلك فإن الجامعة أكدت حريتها الأكاديمية في إطاعة الملك، وأنكرت على البابا سلطة تقديم أساتذتها إلى المحاكمة. وبعد الانشقاق الكبير ذهب ويكليف إلى حد إعلان البابا عدوا للمسيح، ونشر بمساعدة بعض أصدقائه صيغة إنجليزية للإنجيل الشعبي. وأسس طريقة دنيوية ينضم إليها فقراء القسس، الذين يشتغلون وعاظا جوالين متفانين في خدمة الفقراء. وفي النهاية ندد بعقيدة تحول جسد المسيح، كما فعل زعماء الإصلاح الديني فيما بعد. وخلال ثورة الفلاحين عام 1381م، ظل ويكليف محايدا، وإن كان ماضيه قد زكاه ليكون متعاطفا مع الثوار، ومات في لترورث عام 1384م، وإذا كان قد أفلح خلال حياته في الإفلات من الاضطهاد، فإن مجلس كونستانس قد انتقم من رفاته، كما استأصل أتباعه الإنجليز الذين يطلق عليهم اسم «اللولارد
Lollards » بلا رحمة، وفي بوهيميا ألهمت تعاليمه الحركة الهوسية
Hussite
التي ظلت باقية حتى عصر الإصلاح الديني.
لو تساءلنا عن الفارق الأساسي بين النظرة اليونانية ونظرة العصور الوسطى إلى العالم لأمكننا القول إن الأولى لم تكن تنطوي على شعور بالخطيئة. فالإنسان عند اليونانيين لا يبدو في صورة من يحمل عبئا شخصيا موروثا من الإحساس بالإثم. صحيح أنهم ربما لاحظوا أن الحياة في هذه الدنيا شيء محفوف بالخطر، يمكن أن يسحق بفعل نزوة من نزوات الآلهة. غير أن هذا لم يكن يتصور أبدا على أنه قصاص حق وعدل على شرور ارتكبت في الماضي ، وترتب على ذلك أن العقل اليوناني لم يعرف مشكلة الخلاص أو النجاة، ومن هنا كان التفكير الأخلاقي لليونانيين في عمومه بعيد الصلة عن الميتافيزيقا، أما في العصور الهلينستية، وخاصة عند الرواقيين، فقد تسللت إلى الأخلاق نغمة استسلام قانع انتقلت فيما بعد إلى الفرق المسيحية الأولى، ولكن مجمل القول إن الفلسفة اليونانية لم تواجه بمشكلات لاهوتية، ومن ثم ظلت دنيوية تماما .
أما عندما سيطرت العقيدة المسيحية على الغرب، فقد طرأ على الموقف الأخلاقي تغير جذري؛ ذلك لأن المسيحي نظر إلى الحياة الأرضية على أنها مرحلة إعداد لحياة آتية أعظم شأنا، ونظر إلى تعاسة الحياة البشرية على أنها امتحان فرض عليه؛ لكي يطهره من وزر الخطيئة الذي ورثه منذ مولده. غير أن هذه في الحقيقة مهمة تفوق طاقة البشر، فلكي يجتاز الإنسان الامتحان بنجاح، يحتاج إلى المعونة الإلهية التي قد تستجيب أو لا تستجيب، وبينما كانت الفضيلة عند اليونانيين هي في ذاتها مكافأة وجزاء لنفسها، فإن المسيحي يتعين عليه أن يكون فاضلا لأن الله يأمره بذلك، وبالرغم من أن اتباع طريق الفضيلة الضيق قد لا يضمن في ذاته الخلاص، فإنه على أية حال شرط ضروري له. وبالطبع فإن بعض هذه التعاليم ينبغي أن يؤخذ على أساس الثقة والإيمان، وهذه هي الحالات التي تتدخل فيها المعونة الإلهية قبل غيرها؛ ذلك لأن الفضل الإلهي هو الذي يكسب الإنسان الإيمان، ومن ثم يجعله يلتزم بأحكامه. أما أولئك الذين يعجزون عن أن يخطوا هذه الخطوة الأولى ذاتها، فإن اللعنة تلحقهم إلى الأبد.
في هذا السياق أصبحت للفلسفة وظيفة دينية؛ فعلى الرغم من أن الإيمان يعلو على العقل، فإن من واجب المؤمن أن يعمل بقدر ما يستطيع على تحصين نفسه ضد الشك بأن يدع العقل يلقي على الإيمان ما يمكنه إلقاؤه من النور. وهكذا أصبحت الفلسفة في العصور الوسطى خادمة اللاهوت، وكان من الضروري أن يكون الفلاسفة المسيحيون من رجال الكنيسة، ما دامت هذه النظرة سائدة، وكان رجال الدين هم الذين يصونون التعليم الدنيوي بقدر ما ظل موجودا كما كان يشرف على المدارس، ومن بعدها الجامعات، أشخاص ينتمون إلى طريقة من الطرق الدينية الكبرى، وكان الإطار الفلسفي الذي استعان به هؤلاء المفكرون يرجع إلى أفلاطون وأرسطو. وقد أصبح للتيار الأرسطي بالذات الغلبة في القرن الثالث عشر، وإنه لمن السهل أن ندرك السبب الذي جعل أرسطو أصلح للتكيف مع اللاهوت المسيحي من أفلاطون؛ ففي استطاعتنا أن نعبر عن ذلك بلغة مدرسية، فنقول إن النظرية الواقعية لا تترك مجالا كبيرا لقوة إلهية لها وظيفة أساسية في تدبير الأمور، أما الاسمية فتترك مجالا أوسع بكثير في هذا الصدد، وعلى الرغم من أن إله المسيحية واليهودية يختلف بالطبع عن إله أرسطو اختلافا بينا، فمن الصحيح مع ذلك أن المذهب الأرسطي يلائم الإطار المسيحي للعالم على نحو أفضل بكثير من الأفلاطونية؛
4
فالنظرية الأفلاطونية تلهم مذاهب شمول الألوهية، كما هي الحال عند اسبينوزا، وإن كانت صيغته الخاصة لهذا المذهب منطقية خالصة، كما سنرى فيما بعد، ومن الممكن أن يدوم هذا التوحيد بين الفلسفة واللاهوت طالما سمح للعقل بأن يدعم الإيمان إلى حد ما.
ولكن عندما أنكر المفكرون الفرنسسكان هذا الاحتمال، ورأوا أن العقل والإيمان لا صلة لأحدهما بالآخر، أصبح المسرح مهيئا لاضمحلال تدريجي لوجهة نظر العصور الوسطى. ولم تعد للفلسفة وظيفة تمارسها في الميدان اللاهوتي، وهكذا فإن أوكام بتحريره للإيمان من كل ارتباط ممكن بالبحث العقلي وضع الفلسفة على الطريق المؤدي ثانية إلى العلمانية. ومنذ القرن السادس عشر لم تعد الكنيسة هي المسيطرة في هذا الميدان.
وفي الوقت ذاته أتاحت هذه الازدواجية للناس أن يحتفظوا بالانفصال القاطع بين أوجه نشاطهم في كل من الميدان العقلي والميدان الديني، وإنه لمن الخطأ البين أن نرى في هذا نفاقا؛ فقد كانت هناك وما تزال أعداد كبيرة من البشر لا يسمحون لمعتقداتهم العملية بالتدخل في معتقداتهم الدينية، بل إن من المؤكد، على عكس ذلك، أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تخلص العقيدة من هجمات الشك؛ ذلك لأنه عندما يدخل اللاهوت في ساحة الجدل يكون لزاما عليه أن يساير قواعد المناقشة المنطقية.
ومن جهة أخرى، فإن المرء يصل إلى طريق مسدود تماما كلما حاول أن يقبل بالإيمان قضية لا تتمشى مع نتائج البحث التجريبي.
فلنتأمل مثلا عمر الكوكب الذي نعيش فيه؛ إن العهد القديم يحسبه بحوالي خمسة آلاف وثلاثة أرباع الألف، ومن يتمسك بحرفية العقيدة، فعليه أن يؤمن بذلك، ولكن الجيولوجيين يقدمون إلينا أدلة تقنعنا بأن عمر الأرض يزيد عن أربعة آلاف مليون سنة، وهكذا ينبغي تعديل أحد هذين الاعتقادين ما لم يكن الباحث المتدين على استعداد لأن يؤمن بأحد الرأيين يوم الأحد وبالرأي الآخر بقية الأسبوع. والمسألة الهامة هنا هي أنه حينما تتعارض المبادئ الدينية مع نتائج البحث العلمي، يكون الدين دائما في موقف دفاعي، ويتعين عليه أن يعدل موقفه؛ ذلك لأن الأمر الطبيعي هو أن الإيمان ينبغي ألا يتعارض مع العقل. ولما كان التعارض يقع هنا في ميدان الجدل العقلي، فإن الدين هو الذي ينبغي عليه أن ينسحب دائما، ولكن باستثناء هذا التحفظ، فإن الموقف الديني بعد الانسحاب يظل متميزا ومنفصلا.
لقد أظهر الفلاسفة المدرسون، في محاولاتهم تقديم تفسير عقلي للعقائد الدينية بقدر ما يكون ذلك ممكنا، قدرا كبيرا من الذكاء وحدة الذهن في أحيان كثيرة، وكان تأثير هذه التدريبات العقلية على المدى الطويل هو شحذ الأدوات اللغوية التي ورثها مفكرو عصر النهضة فيما بعد. وربما كان هذا أعظم إنجاز حققته الحركة المدرسية. أما الشيء الذي يعيبها فهو أنها لم تعط الأهمية الكافية للبحث التجريبي، وهو نقص كان على العلماء الفرنسسكان أن يلفتوا الأنظار إليه. ولقد كان من الطبيعي أن يتم التقليل من قدر النتائج التي تتوصل إليها التجربة في عصر كان يهتم بالإلهيات والعالم الآخر أكثر من اهتمامه بمشكلات هذا العالم. أما مفكرو عصر النهضة، فقد أعادوا الإنسان مرة أخرى إلى مكان الصدارة. وفي مثل هذا الجو يقدر النشاط الإنساني لذاته، وبالتالي يخطو البحث العلمي بدوره، خطوات جديدة جبارة.
لقد كان الشيء الذي ميز الغرب عن بقية العالم خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية هو في نهاية المطاف أخلاق الفعالية والنشاط، وكما أن التكنولوجيا الغربية قد غزت العالم، فكذلك اكتسبت الأخلاق المتمشية معها قدرا لا يستهان به من النفوذ المتجدد.
مقدمة المترجم
1 - نشأة الفلسفة الحديثة
2 - التجريبية الإنجليزية
3 - عصر التنوير والرومانتيكية
4 - مذهب المنفعة والفلسفات المعاصرة
5 - الفترة المعاصرة
خاتمة
مقدمة المترجم
1 - نشأة الفلسفة الحديثة
2 - التجريبية الإنجليزية
3 - عصر التنوير والرومانتيكية
4 - مذهب المنفعة والفلسفات المعاصرة
5 - الفترة المعاصرة
خاتمة
حكمة الغرب (الجزء الثاني)
حكمة الغرب (الجزء الثاني)
الفلسفة الحديثة والمعاصرة
تأليف
برتراند رسل
ترجمة
فؤاد زكريا
مقدمة المترجم
في تصديرنا للجزء الأول من هذا الكتاب، حرصنا على أن نشير إلى موقف برتراند رسل من مشكلة ارتباط الفلسفة بالحضارة الغربية، وهو الارتباط الذي يؤكده عنوان الكتاب ذاته. وسوف يرى القارئ، في خاتمة هذا الكتاب أن المؤلف يعود إلى تأكيد هذا المعنى ذاته ويبرزه في الصفحات الأخيرة من كتابه. فهو يقدم سببين رئيسيين لاقتصاره في الكتاب على معالجة حكمة الغرب، وعدم إفساحه مجالا «لما يطلق عليه عادة اسم حكمة الشرق»: الأول هو أن العالمين، الغربي والشرقي، قد سارا في طريقين منفصلين بحيث تطور كل منهما بمعزل عن الأخر. والثاني هو أن تطور الفلسفة في الغرب قد اتسم بسمة فريدة، هي أنه سار في طريقه منذ أيام اليونانيين، مرتبطا بالعلم، وكان هذا الارتباط هو الذي أضفى على الحضارة الغربية ذلك الطابع الذي يميزها عن «تأملات العقل الشرقي».
هذان التعليلان يثيران اعتراضات لا أول لها ولا آخر، ولو أطلق المرء لفكره العنان لاحتاجت مناقشته لهذا الموضوع إلى دراسة كاملة. ولكن، حسبنا أن نورد بعض الملاحظات على آراء رسل هذه؛ كيما نحفز ذهن القارئ إلى مزيد من التفكير في هذا الموضوع الهام.
إن القول بأن الحضارتين الشرقية والغربية قد نمت كل منهما في اتجاه مستقل من اتجاهات التطور، لا يمكن قبوله إلا بكثير من التحفظات. فمن الجائز أن هذا الحكم يصدق على حضارات الشرق الأقصى، كالهندية والصينية، ولكنه لا يسري بالقطع على حضارة الشرق الأوسط. فقد كان التداخل بين هذه الحضارة والحضارة الغربية وثيقا على مر التاريخ، حتى ليمكن القول أن مسار التطور في هذه الحالة إنما كان سلسلة طويلة من حالات التأثير والتأثر، ومن التفاعل الذي يجعل من المستحيل رسم خطوط قاطعة تفصل بين اتجاهات النمو في كلتا الحالتين. ويكفينا في هذا الصدد أن نشير إلى تلك الحقائق التي أصبحت معروفة عن تأثر اليونانيين القدامى بالحضارات الشرقية القديمة، ثم تأثير الحضارة اليونانية ذاتها، علما وفلسفة، في عالم الإسلام، وأخيرا، ذلك الدور الفعال الذي مارسته الثقافة العربية في إرساء القواعد الأولى للنهضة وهدم عالم العصور الوسطى في أوروبا.
وهكذا يستحيل القول بوجود مسارين منفصلين كل الانفصال حين نتحدث عن نمو الحضارة الأوروبية في علاقته بنمو حضارات الشرق الأوسط. وإذا تذكرنا أن المسيحية التي تمثل إحدى الدعامات الرئيسية لحضارة الغرب، إن لم تكن هي محورها الأساسي، هي ذاتها عقيدة نشأت ونمت واكتسبت سماتها المميزة في تربة شرقية، وارتبطت تاريخيا بعقائد الشرق القديمة أوثق الارتباط - عندئذ يتضح لنا أن الحكم الذي أصدره رسل لا يمكن أن يقبل على علاته. ولا سبيل إلى فهم موقف رسل في هذا الموضوع إلا على أساس أنه أسقط حضارات الشرق الأوسط من حسابه، ولم يكن في ذهنه إلا حضارات الشرق الأقصى، أو أنه كان يعتقد أن التفاعل بين الغرب وبين الحضارات الشرقية كان تأثيره من الضآلة بحيث لا يجوز الاعتداد به - وفي كلتا الحالتين لا نعتقد أنه كان على صواب.
أما التعليل الثاني فربما كان يثير مزيدا من الإشكالات. فمن الصحيح بالطبع، أن جذور الفلسفة والعلم كانت في العصر اليوناني واحدة، وأن البدايات الأولى لتاريخ الفلسفة، في ذلك العصر، كانت هي ذاتها البدايات الأولى لتاريخ العلم. ولكن هذا الارتباط لم يدم طويلا. فقد سكت صوت العلم طوال الجزء الأكبر من العصور الوسطى الأوروبية، وتحول اهتمام الفلسفة إلى المسائل اللاهوتية. وحين استعاد الفكر الأوروبي حيويته في مطلع العصر الحديث، افترق طريقا الفلسفة والعلم. وكل من درس مقررا مبسطا في تاريخ الفلسفة والعلم يعلم أن العلوم، بعد أن كانت مندمجة في الفلسفة في العصور القديمة، أخذت تستقل عنها، الواحد منها تلو الآخر، منذ بداية العصر الحديث؛ بحيث لم يعد القول بأن «الفلسفة أم العلوم» يعني أن الفلسفة أم تقدم الرعاية المستمرة للعلوم، بقدر ما أصبح يعني أنها أم بالمعنى التاريخي، أي «أصل»، وأن أبناء الفلسفة قد استقلوا عنها، وأصبحت لهم حياتهم المستقلة، وتجاوزوها بمراحل، تماما كما يحدث بين الأبناء وأمهاتهم في الحياة الواقعية.
ولكن ، هل تعني ملاحظتنا هذه أن الفلسفة الغربية قطعت صلتها بالعلوم نهائيا منذ مطلع العصر الحديث؟ لا شك أن الأمر يختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فمعظم الفلسفات الحديثة الكبرى في الغرب لا تفهم إلا في ضوء موقف معين اتخذته من العلم، تستوي في ذلك فلسفة بيكن وديكارت واسبينوزا وليبنتس وكانت، وحتى هيجل وهوسرل. ولكن من الواجب أن نفرق بين هذا النوع من الارتباط بالعلم، وبين شكل الارتباط الذي كان قائما في العصر اليوناني. ففي المرحلة اليونانية كانت بدايات العلم وبدايات الفلسفة واحدة، وكان الإنتاج الفلسفي هو ذاته إسهام في إنتاج العلم. أما في العصر الحديث، حين أصبحت للعلوم مناهجها وموضوعاتها الخاصة، فقد أصبح دور الفلسفة إما ممهدا للعلم وإما لاحقا له، ولكنه لا يسير معه على طريق واحد، ولا يستهدف معه غاية واحدة. قد تحاول الفلسفة «تأسيس» العلم، وقد تحاول جمع نتائجه في نظرة شاملة إلى الكون، ولكنها لا تدعي في أية حالة أنها «تصنع» العلم. إنها قد تتولى مهمة التمهيد له، أو التعليق عليه، ولكنها لا تزعم أبدا أنها تشاركه في سعيه التدريجي الدءوب من أجل كشف قوانين الطبيعية.
وهكذا فإن الحكم العام الذي أصدره رسل عن ارتباط الفلسفة الغربية بالذات، منذ نشأتها، بالعلم، ينبغي أن يفهم في ضوء أبعاد أعقد بكثير من الصيغة المبسطة التي استخدمها المؤلف.
ولكن لنفرض جدلا أن قضية رسل هذه صحيحة على إطلاقها، وأن الفلسفة الغربية تميزت عن غيرها من الفلسفات بارتباطها الوثيق بالعلم منذ نشأتها الأولى (على حين أن الحكمة الشرقية - كما يفهم ضمنا - كانت تفكيرا في مسائل أخلاقية أو دينية فحسب)، فما الذي يدل عليه هذا الحكم. إن أقصى ما يستنتج منه هو أن الفلسفة في الغرب قد اختارت لنفسها طريقا معينا، مرتبطا بالعلم، ولكن هذا لا يمنع على الإطلاق من تصور فلسفات أخرى تسير في طرق مغايرة، ترتبط فيها بالأخلاق أو الدين أو السياسة أو المجتمع. إننا نستطيع أن نسلم، مع رسل، بأن الفلسفة الغربية انفردت، دون غيرها، بارتباطها بالعلم منذ البداية ، ولكن النتيجة التي يخلص إليها من ذلك، وهي أن هذه هي الفلسفة الوحيدة الجديرة بالاهتمام، لا تلزم عن هذه المقدمة على الإطلاق. فالفلسفة الغربية قد «اختارت» طريق الارتباط بالعلم، وهو طريق لا ينبغي أن يكون ملزما لكافة الفلسفات الأخرى. وحين يتخذ رسل من هذا الاختيار مقياسا عاما يحكم به على بقية الفلسفات، فهو في الواقع يحاسب الفلسفات الأخرى على أسس لا شأن لها بها، ويبدأ باتخاذ وجهة نظر الفلسفة الغربية ثم يعيب على الآخرين عدم تحقيقهم لوجهة النظر هذه! وليس من الصعب أن يلمح المرء ها هنا مظهرا من مظاهر تمركز الفكر الأوروبي حول ذاته، وعجزه عن إدراك العالم من منظور غير منظوره الخاص.
إن الهدف من هذا الحديث كله ليس توجيه النقد بقدر ما هو إيضاح حدود الموضوعية في الفكر الفلسفي. فقد تبين منذ وقت طويل أن المؤرخ لا يستطيع أن يكون موضوعيا، أو يقف إزاء الأحداث التي يعرضها موقفا محايدا لا شأن لأفكاره وتوجهاته وميوله الخاصة به. ولكن الفيلسوف كان يرى نفسه على الدوام مختلفا عن المؤرخ؛ إذ إن الحقيقة المنزهة، الخالصة، التي تسمو على كافة العوامل الذاتية، هي هدفه المعلن دائما. ومع ذلك فإن الفيلسوف إنسان، ومن ثم فهو لا يستطيع أن ينسلخ كلية عن حضارته، وعن بيئته، وعن بلده، وعن تربيته.
وإذا كنا قد رأينا في كتاب رسل هذا ما يدل على أنه يحمل قدرا، على الأقل، من تحيزات الحضارة الغربية كلها، ففي استطاعتنا أن نجد في كتابه أمثلة لتحيزات أخرى أضيق نطاقا. فهو يضفي على الاتجاهات الفلسفية في بلاده - إنجلترا - أهمية ربما بدت مبالغا فيها بالنسبة إلى من تكونت لديه نظرة متوازنة إلى تاريخ الفلسفة. ويكفي دليلا على ذلك أن نرجع إلى العرض المفصل الذي قدمه مذهب المنفعة، والمقدمات التي مهدت له، والممثلين الرئيسيين له - وهو عرض شغل حجما لا تبرره مكانة هذا المذهب في التاريخ العام للفلسفة. ومع ذلك ينبغي أن نقول، إحقاقا للحق، إن هذه سمة يشترك فيها معظم مؤرخي الفلسفة من الأوروبيين : فالمؤرخ الفرنسي يعالج بالتفصيل شخصيات فرنسية ثانوية الأهمية، على حساب شخصيات أهم منها بكثير في الفلسفات الأخرى. وقل مثل هذا عن الألماني والإيطالي، والإسباني ... إلخ. وهكذا يبدو التحيز أمرا لا مفر منه في نفس الميدان الذي ظهر أصلا ليعلم الناس كيف يتحررون من التحيز!
ومن جهة أخرى فإن أحكام رسل على الفلاسفة قد تأثرت في بعض الأحيان باهتماماته الرياضية - وهي ملاحظة سبق أن أبديناها في تقديمنا للجزء الأول من هذا الكتاب، حيث أشرنا إلى تقليله من شأن أرسطو لأنه لم يبد اهتماما كافيا بالرياضيات. وفي هذا الجزء من كتابه نراه يتتبع، بتوسع زائد، تطور الاتجاهات الرياضية في الفلسفة، ولكن الأهم من ذلك أنه ينتقص من قدر بعض الفلاسفة لا لشيء إلا لأنهم لم يكونوا في الوقت ذاته يدركون الأهمية الخاصة للرياضيات. وأبرز مثل على ذلك حكمه على الفيلسوف الكبير فرانسس بيكن؛ إذ لا يكاد رسل يجد في منهج بيكن الاستقرائي، الذي كان في عصره جديدا، أي عنصر إيجابي، ويشعر المرء بأن رسل ينتقد بيكن من خلال قراءة لاحقة لأفكاره، لا على أساس فهم وتقدير للحظة التاريخية التي كان يمثلها بيكن. وهكذا فإن رسل لم يلتفت على الإطلاق إلى الصراع المرير الذي كان بيكن يخوضه ضد أنصار الفكر التأملي الاستنباطي، ممن يستدلون على قوانين الطبيعة من كتب الأقدمين، ولا يبذلون أدنى جهد لمتابعة خصائصها وملاحظتها بأنفسهم - أي إنه لم يلتفت إلى أهمية الإنجاز الذي حققه بيكن في عصر كانت فيه الروح المدرسية التقليدية لا تزال مسيطرة على الأوساط العلمية؛ أعني الدعوة إلى منهج جديد للعلم، مستمد من الاتصال المباشر بالطبيعة لا بالكتب، وإلى غاية جديدة للعلم، هي تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة وإخضاعها لأهدافه، بدلا من الاكتفاء بالوقوف موقف المتفرج المتأمل إزاءها. ولا شك أن الكثيرين من دارسي الفلسفة سيترددون كثيرا قبل أن يوافقوا رسل على انحيازه الواضح إلى فلسفة هبز، التي رآها أكثر أهمية بكثير من فلسفة بيكن، لمجرد أن الأول قد أبدى اهتماما أكبر بالرياضيات.
على أننا، بعد أن نبهنا إلى بعض جوانب التحيز في العرض الذي قدمه رسل للفلسفة الحديثة والمعاصرة، ينبغي أن نذكر له جوانب أخرى كان فيها أكثر موضوعية وأوسع أفقا مما قد يتوقعه المرء من فيلسوف إنجليزي عاش في عصره.
ذلك لأن الحربين العالميتين اللتين خاضتهما إنجلترا ضد ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين، وما ترتب عليهما من تضحيات بشرية وخسائر مادية هائلة، قد تركت في نفوس عدد كبير من الإنجليز، حتى لو كانوا من أهل الفلسفة، نفورا شديدا من الفكر الألماني، ولا سيما تجاه أولئك الذين قيل عنهم إنهم شجعوا الروح العسكرية الألمانية وتغنوا بأمجاد الدولة والعنصر الجرماني. وهكذا كان هناك جيل كامل من المشتغلين بالفلسفة في إنجلترا، بل في الثقافة الأنجلوسكسونية بوجه عام، يتحامل على هيجل على أساس أن تمجيده للدولة البروسية كان أصلا من أصول النزعة العدوانية الألمانية، ويهاجم نيتشه بعنف بناء على تفسير خاص (غير موضوعي في الغالب) لمفاهيم الحرب والصراع وإرادة القوة لديه؛ ذلك لأن المرارة التي أحس بها الإنسان البريطاني العادي إزاء أعدائه الألمان، قد انعكست على كتابات المشتغلين بالفلسفة في الفترة التي نتحدث عنها بوضوح كامل.
أما برتراند رسل، فعلى الرغم من أنه قد عاصر الحربين العالميتين واتخذ منهما موقفا واضحا يدل على وعي سياسي ناضج، فينبغي أن نسجل له أنه في هذا الكتاب على الأقل، قد تجاوز إلى حد غير قليل تلك المرارة المنبعثة عن العداء بين الشعبين. ففي معالجته لفلسفة هيجل قدر غير قليل من التوازن والاعتدال، صحيح أنه هاجم فلسفته السياسية وسخر من تمجيده للدولة البروسية، ولكنه كان بوجه عام منصفا لفكر هيجل ومنهجه الجدلي.
وإذا كان قد ندد تنديدا قويا بفلسفة هيجل الطبيعية، التي تستنبط الحقائق العلمية عقليا، فقد كان في ذلك يسير في اتجاه يشاركه إياه عدد كبير من الباحثين، حتى من الألمان. وبالمثل فقد تجاوز رسل نظرة كثير من معاصريه الإنجليز إلى نيتشه على أنه واحد من المبشرين بالنازية وحكم القوة والطغيان، وعالج فلسفته معالجة فيها قدر معقول من الفهم والتعاطف . وينطبق ذلك أيضا على موقفه من الماركسية، حيث تجنب الهجوم المتشنج وتحدث، بروح المفكر الموضوعي، عن جوانب القوة والضعف فيها.
وفي مقابل ذلك أبدى رسل في هذا الكتاب نضوجا فكريا واضحا في موقفه إزاء الفلسفات التجريبية المنطقية المعاصرة التي كان هو ذاته واحدا من أهم الممهدين لها. فهو يفرد في كتابه صفحات طويلة للدفاع عن فكرة «الفرض» في المنهج العلمي، مخالفا بذلك التراث التجريبي الذي يميل إلى الالتزام بالشهادة المباشرة للوقائع ويرى في الفرض ضربا من الخيال غير المأمون. ويظهر نضوجه بوضوح في امتناعه عن مسايرة الوضعية المنطقية في هجومها الحاد على الميتافيزيقا. فهو ليس من أنصار موقف «تفنيد الميتافيزيقا» على الإطلاق وهو يرفض استبعاد القضايا الميتافيزيقية بحجة أنها قضايا بلا معنى. ويرى أن الاكتفاء بالقضايا القابلة للتحقيق التجريبي على أنها (إلى جانب قضايا المنطق والرياضة) هي التي تنطوي على معنى هذا الاكتفاء يؤدي إلى وجهة نظر شديدة الضيق والقصور؛ ومن هنا هاجم الوضعية المنطقية على هذا الأساس، كما هاجم مدارس التحليل اللغوي بوصفها تعبيرا عن نظرة محدودة إلى مهمة الفلسفة. وعلى العكس من ذلك أكد رسل أن الميتافيزيقا قد تكون في بعض الأحيان واحدا من الطرق الموصلة إلى العلم، وأن النظرية العلمية في سعيها إلى تفسير كلي للظواهر تقرب من الميتافيزيقا وهو موقف يدل على أن فكره قد قطع شوطا بعيدا في طريق الفهم الواسع الأفق للفلسفة، بعد أن كان في مراحله الأولى أقرب إلى التعاطف مع تلك الاتجاهات الضيقة التي يهاجمها الآن.
ولعل أبلغ تعبير عن ذلك هو إشارته العميقة في الصفحات الأخيرة من كتابه إلى حقيقة الانقسام الفلسفي الحاد الذي يسود الفكر الأوروبي، بين فكر يسيطر على معظم أرجاء القارة من الداخل، وتسوده فلسفات ترتبط، بشكل أو بآخر، بالتراث المثالي أو الوجودي أو غيرهما من الاتجاهات المستمرة في تاريخ الفلسفة، وفكر يسود في البلاد الأنجلوسكسونية، ويرتكز أساسا على التحليل اللغوي، ويمتنع عن إصدار الأحكام الفلسفية العامة ما دامت لا تصمد أمام هذا التحليل. ولقد كان رسل على حق حين علق على هذا الانفصال بقوله إنه وصل إلى حد أن «كل طرف لم يعد يعتقد بأن ما يقوم به الطرف الآخر يستحق اسم الفلسفة» (ص301 من الأصل الإنجليزي).
هذا بالفعل وضع جديد لم تعرفه الفلسفة، طوال تاريخها، إلا في القرن العشرين. فلم تعد المسألة خلافا بين مدارس فلسفية فحسب؛ إذ إن هذا الاختلاف كان «رحمة» على الفكر طوال تاريخه. بل إن الظاهرة الجديدة هي عدم الاعتراف المتبادل بين الطرفين. ففي أشد أيام الخلاف بين العقليين والتجريبيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان كل فريق يهاجم الآخر ويسعى إلى تفنيده، ولكنه كان يعترف به. وكان من أبرز الأدلة الواقعية والرمزية أيضا على هذا التعايش، أن يعترف فيلسوف ألماني كبير مثل كانت، كان من رواد المثالية الألمانية، بأن فيلسوفا تجريبيا كبيرا، مثل ديفيد هيوم، هو الذي أيقظه من سباته الفكري القطعي وغير النقدي. كان هناك إذن خلاف حاد، ولكنه كان يدور على أرض الفلسفة، وبين طرفين يسلم كل منهما بأن للآخر موقعا داخل هذه الأرض. أما اليوم فإن فيلسوف القارة الأوروبية يصف الفلسفة التحليلية بأنها - على حد تعبير «جان فال» - «ثرثرة تهدف إلى التخلص من الثرثرة.» على حين أن الفيلسوف الإنجليزي أو الأمريكي لا يرى في الميتافيزيقا أو فلسفة الوجود الأوروبية إلا مجموعة من القضايا الشديدة العمومية، الشديدة التساهل، التي تنهار أمام أي تحليل لغوي أو منطقي دقيق؛ أي أنها باختصار ليست «فلسفة».
هكذا تنعدم جسور التفاهم بين الطرفين، ويسير كل منهما في طريقه غير معترف بالآخر. والملفت للنظر أن هذا الانقسام الحاد لا يعبر عن الانقسام الأيديولوجي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، لأنه يدور كله (باستثناءات قليلة) في قلب بلدان المعسكر الرأسمالي ذاته. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المعسكر الاشتراكي يقدم فلسفته المادية الجدلية بطريقة مستقلة إلى حد بعيد عن هذين التيارين (إذا استثنينا اعترافه بالتأثير التاريخي لمثالية هيجل)، تجمعت لدينا صورة واضحة عن وضع جديد لم يعرفه تاريخ الفلسفة من قبل.
فهل جاء هذا الانقسام الفلسفي تعبيرا عن تمزق الإنسان المعاصر؟ وهل يجوز لنا أن ندين الفلسفة لأنها عجزت عن تحقيق التفاهم بين العقول، برغم ادعائها الدائم بأنها هي وحدها التي تخاطب عقل الإنسان - أي إنسان - بموضوعية وتنزه؟ هل هذا أقوى مظاهر الإخفاق في الفلسفة، أم هو أعظم مظاهر نجاحها، حين تجد نفسها قادرة على التعبير بوضوح عن ذلك «الانقطاع» و«اللاتفاهم» الذي يميز حياتنا المعاصرة؟
تلك أسئلة أترك للقارئ مهمة التفكير فيها والبحث عن إجابة عنها، ولا شك عندي أن قراءة هذا الكتاب ستكون خير معين له على أن يهتدي إلى الإجابة بنفسه، أو على الأقل، ستحفزه على أن يفكر بمزيد من الوعي، فيحقق بذلك ما كانت الفلسفة، طوال تاريخها، تطمح إليه.
فؤاد زكريا
أغسطس 1983م
الفصل الأول
نشأة الفلسفة الحديثة
حين بدأت نظرة العصور الوسطى إلى العالم في الاختفاء خلال القرن الرابع عشر، أخذت تظهر بالتدريج قوى جديدة عملت على تشكيل العالم الحديث كما نعرفه اليوم. فمن الوجهة الاجتماعية، أصبح البناء الإقطاعي للمجتمع الوسيط غير مستقر نتيجة لظهور طبقة قوية من التجار الذين تحالفوا مع الحكام ضد ملاك الأرض الخارجين عن كل سلطة. ومن الوجهة السياسية، فقد النبلاء قدرا من حصانتهم عندما ظهرت أسلحة هجومية أفضل، جعلت من المستحيل عليهم الصمود في قلاعهم التقليدية. فإذا كانت عصي الفلاحين وفئوسهم عاجزة عن اقتحام أسوار القلعة، فإن البارود قادر على ذلك.
وهناك أربع حركات كبرى تحدد معالم فترة الانتقال التي امتدت من وقت بدء تراجع العصور الوسطى حتى القفزة الكبرى إلى الأمام في القرن السابع عشر.
أولى هذه الحركات هي النهضة الإيطالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. فعلى الرغم من أن دانتي كان لا يزال متأثرا بعمق بطرق التفكير السائدة في العصور الوسطى، فإنه قدم باللغة الشعبية تلك الأداة التي جعلت الكلمة المكتوبة متاحة للإنسان العادي غير الملم باللغة اللاتينية. وبظهور كتاب مثل بوكاشيو
Boccaccio
وبترارك
حدثت عودة إلى المثل العليا الدنيوية. وقد عاد الاهتمام بثقافة القدماء الدنيوية. وظهر ذلك جليا في جميع الفنون والعلوم، وكان يمثل خروجا على التراث الكنسي السائد في العصور الوسطى، فبينما كانت الاهتمامات اللاهوتية تسود الجو العام في العصور الوسطى، أصبح مفكرو عصر النهضة أكثر اهتماما بالإنسان. ومن هذه الحقيقة استمدت الحركة الثقافية الجديدة اسمها، وهو «النزعة الإنسانية»
Humanism ،
1
التي كانت ثاني العوامل الكبرى الجديدة المؤثرة في هذه الفترة. وبينما أثرت النهضة ككل تأثيرا مباشرا في النظرة العامة إلى الحياة، فإن الحركة الإنسانية اقتصر مجال تأثيرها على المفكرين والباحثين. ولم تقترن بالنهضة الإيطالية حركة بعث دائمة للوحدة الوطنية، بل كانت البلاد مقسمة إلى أقاليم صغيرة يشمل كل منها دولة-مدينة، وكانت الفوضى هي السائدة. وسيطرت على إيطاليا أسرة هابسبرج التي كان ينتمي إليها ملوك النمسا وإسبانيا، ولم تصبح بلدا ذا سيادة إلا في أواسط القرن التاسع عشر. غير أن حركة النهضة كان لها تأثيرها القوي، وانتقلت تدريجيا نحو الشمال إلى ألمانيا وفرنسا والأراضي الواطئة، فظهر في هذه البلاد باحثون إنسانيون عظام، بعد مرور حوالي قرن على ظهور أسلافهم الإيطاليين.
وفي ألمانيا كانت الحركة الإنسانية معاصرة للإصلاح الديني الذي أتى به لوثر، وهو العامل الثالث من بين العوامل الكبرى التي أزالت عالم العصور الوسطى، والواقع أن الكنيسة كانت في داخلها تعترف منذ وقت ما بضرورة حدوث شكل من أشكال الإصلاح. كما انتقد المفكرون الإنسانيون الممارسات السيئة التي كانت تتفشى في حكومة الكنيسة، غير أن قبضة البابوات الطموحين والمتعطشين إلى الذهب كانت أقوى من هؤلاء جميعا. وعندما ظهرت حركة الإصلاح الديني بالفعل عارضتها روما وأدانتها بقسوة. وهكذا فإن حركة الإصلاح، التي كان يمكن أن تستوعب بوصفها حركة جديدة داخل نطاق الكنيسة العالمية، اضطرت إلى الانعزال، وتطورت بحيث أصبحت تتألف من عدد من الكنائس البروتستانتية القومية. وحين بدأت الكنيسة الكاثوليكية تصلح نفسها أخيرا، كان أوان رأب الصدع الديني قد فات. ومنذ ذلك الحين ظلت المسيحية الغربية منقسمة على نفسها. وتدين المذاهب الإصلاحية للحركة الإنسانية بفكرة «كهانة الجميع»
Universal Priesthood ، أي أن كل إنسان على اتصال مباشر بالله، وليس المسيح في حاجة إلى قسس وسطاء.
أما التطور الهام الرابع فقد نشأ مباشرة عن إحياء الدراسات التجريبية وهو الإحياء الذي استهلته حركة النقد عند أوكام
Occam . وخلال القرنين التاليين حدث تقدم هائل في ميادين علمية متعددة، من أهمها إعادة اكتشاف
2
نظام مركزية الشمس على يد كبرنيكوس، وقد طبع الكتاب الذي عرض فيه هذا الكشف عام 1543م. ومنذ القرن السابع عشر، أحرزت العلوم الفيزيائية والرياضية تقدما سريعا، واستطاعت عن طريق تطويرها الهائل للتكنولوجيا أن تضمن السيادة للغرب. والواقع أن التراث العلمي، إلى جانب ما يضفيه من مكاسب مادية، هو ذاته من أكبر العوامل المشجعة على الفكر المستقل. وفي كل مكان امتدت إليه الحضارة الغربية، كانت مثلها العليا السياسية تأتي في أعقاب توسعها المادي.
3
ولقد كانت النظرة العامة التي تولدت عن نمو البحث العلمي هي في أساسها نظرة اليونانيين وقد بعثت من جديد؛ فممارسة العلم هي إنقاذ للمظاهر (أي تفسير للظواهر). ولقد كانت السلطة التي يكتسبها التراث العلمي مختلفة كل الاختلاف عن تلك الأحكام القطعية التي كانت الكنيسة في العصور الوسطى تحاول عن طريقها أن تفرض سيطرتها على الناس. صحيح أن الجماعة ذات التكوين المتدرج، التي تعيش وفقا لمجموعة جامدة من المعتقدات، يمكنها إلى حد بعيد أن تتكلم بصوت واحد في جميع المسائل التي تختلف فيها آراء الباحثين العلميين. ويتصور البعض أن هذا الإجماع الموحد الاتجاه علامة على التفوق، وإن لم يكن أحد من أصحاب هذا الرأي قد أوضح السبب الذي يوجب ذلك. وليس من شك في أن هذا الإجماع قد يضفي على أنصاره شعورا بالقوة، غير أن هذا لا يؤدي على الإطلاق إلى جعل موقفهم أصح، مثلما أن القضية لا تصبح أصدق لمجرد كونها تعلن بصوت أعلى. فالشيء الوحيد الذي يتعين على البحث العلمي احترامه هو قوانين اللغة العقلية الشاملة أو بتعبير سقراط، الجدل (الديالكتيك).
على أن النجاح الباهر للعلم في تطبيقاته التكنولوجية قد جلب خطرا من نوع آخر؛ إذ أصبح الكثيرون يعتقدون أنه لا يكاد يوجد شيء يعجز الإنسان عن تحقيقه لو وجهت إليه جهوده ومورست بالطريقة المناسبة. والواقع أن الكشوف الكبرى في التكنولوجيا الحديثة تعتمد على تضافر عقول وأيد كثيرة، ولا بد أن يبدو لأولئك الذين يأخذون على عاتقهم البدء في مشاريع جديدة، أن قدراتهم لا حدود لها، غير أنهم يغفلون هنا حقيقة هامة، هي أن هذه المشاريع كلها تقتضي جهدا إنسانيا، وينبغي أن تخدم أهدافا إنسانية. وفي هذه الناحية بالذات نجد عالمنا المعاصر يحمل في طياته تهديدا يتجاوز كافة حدود الاعتدال.
أما في الميدان الفلسفي، فإن التركيز على الإنسان يضفي ميلا داخليا إلى النظر التأملي، وهذا يولد وجهة نظر تتعارض كلية مع تلك التي تستلهمها فلسفات القوة؛ إذ يصبح الإنسان في هذه الحالة ناقدا لقدراته وملكاته الخاصة، ويتعرض كل شيء للتساؤل والتحدي، فيما عدا بعض التجارب الشخصية المباشرة. وتؤدي هذه النظرة الذاتية إلى شكل متطرف من أشكال الشك هو في ذاته شيء لا يقل مبالغة وتكلفا عن الميل إلى تجاهل الفرد كلية. وهكذا تظهر بوضوح ضرورة البحث عن حل وسط.
وينبغي أن نلاحظ أن فترة الانتقال التي نتحدث عنها تتميز بتطورين لهما أهمية خاصة. أولهما اختراع المطبعة التي تستخدم حروفا منفصلة يمكن تحريكها، ويرجع هذا الاختراع إلى القرن الخامس عشر، بقدر ما يتعلق الأمر بالغرب على أية حال؛ ذلك لأن الصينيين كانوا قد استخدموا هذه الطريقة قبل خمسة قرون، ولكنها لم تكن معروفة في أوروبا. وبظهور الطباعة اتسع نطاق تداول الأفكار الجديدة إلى حد هائل، وهذا هو الذي ساعد في النهاية على هدم السلطات القديمة. ذلك لأن توافر الكتاب المقدس مطبوعا بين أيدي الناس، ومترجما إلى لغات محلية، قد أفسد على الكنيسة ادعاءها الوصاية على أمور العقيدة. أما عن المعرفة بوجه عام، فإن هذه الأسباب ذاتها قد عجلت بالعودة إلى العلمانية. ولم يقتصر تأثير الطباعة على نشر نظريات سياسية جديدة كانت ناقدة للنظام القديم، بل إنه أتاح لعلماء الحركة الإنسانية أيضا أن ينشروا طبعات لمؤلفات القدماء. وهذا بدوره شجع على التعمق في دراسة المصادر الكلاسيكية، وأدى إلى رفع مستوى التعليم بوجه عام.
ولعل من المفيد أن نشير إلى أن اختراع الطباعة لن يكون نعمة مؤكدة ما لم تصحبه ضمانات لحرية المناقشة؛ ذلك لأن الزيف يمكن طبعه بنفس السهولة التي تطبع بها الحقيقة، ويمكن أن ينتشر بنفس القدر من اليسر. ولن يفيد الإنسان كثيرا من القدرة على القراءة لو كان من المحتم عليه أن يقبل المادة المطروحة أمامه بلا مناقشة. فالتداول الواسع للكلمة المطبوعة لا يساعد على تقدم البحث العلمي إلا حيث تتوافر حرية الكلام والنقد. وبغير هذه الحرية يكون الأفضل لنا أن نظل أميين. ولقد أصبحت هذه المشكلة أشد حدة في أيامنا هذه لأن الطباعة لم تعد هي الوسيط القوي الوحيد للاتصال والإعلام الجماهيري. فمنذ اختراع اللاسلكي والتليفزيون ازدادت أهمية ممارسة هذه اليقظة الدائمة التي بدونها تبدأ الحرية بأعم معانيها في الاختفاء.
وبانتشار المعلومات على نطاق أوسع، بدأ الناس يكونون فكرة أصح عن الأرض التي يعيشون عليها، وقد تحقق ذلك عن طريق سلسلة من رحلات الاستكشاف فتحت مجالات جديدة لاندفاع الغرب وجهوده التوسعية. وكان ما أتاح تحقيق هذه الكشوف المعاصرة، التحسينات الفنية في صناعة السفن والملاحة، وكذلك العودة إلى علم الفلك القديم. فحتى القرن الخامس عشر لم تكن السفن تغامر بالابتعاد عن الخطوط الساحلية للمحيط الأطلسي، وذلك لأسباب منها أنه لم يكن هناك جدوى من ذلك، ولكن السبب الأهم هو أنه لم يكن من المأمون المغامرة بدخول مناطق لم تكن فيها أية معالم توجه الملاح. ومن هنا فإن استخدام البوصلة فتح آفاق البحار البعيدة، ومنذ ذلك الحين أصبح في استطاعة المستكشفين عبور المحيطات بحثا عن أراض وطرق بحرية جديدة.
لقد كان العالم بالنسبة لإنسان العصور الوسطى حيزا ساكنا، متناهيا، محكم التنظيم؛ فلكل شيء فيه وظيفته المقدرة؛ بدءا من النجوم التي ينبغي أن تسير في فلكها، حتى الإنسان الذي يتعين عليه أن يعيش ملتزما المركز الاجتماعي الذي ولد فيه. غير أن عصر النهضة قد زعزع بجرأة أركان هذه الصورة الهادئة المسالمة.
وظهر اتجاهان متعارضان كانت نتيجتهما تكوين نظرة جديدة إلى العالم. فمن جهة، أصبحت هناك ثقة أكبر بقدرة الإنسان وسعة حيلته ، بحيث أصبح الإنسان يحتل الآن المكانة الرئيسية على المسرح. ولكن في الوقت ذاته أصبح مركز الإنسان في الكون أقل سيطرة، لأن المكان اللانهائي بدأ يمارس تأثيره في خيال الفلاسفة، وتظهر بوادر هذه الآراء في كتابات الكردينال الألماني نيكولاس كوزانوس
Nicolas Cusanus (1401-1464م)، وفي القرن التالي أدمجت هذه الآراء في النظام الكبرنيكي.
وبالمثل حدثت عودة إلى الرأي القديم لفيثاغورس وأفلاطون، وهو الرأي القائل إن العالم مبني على أساس نموذج رياضي. كل هذه التأملات قلبت النظام القائم للأشياء رأسا على عقب، وهدمت السلطات القديمة الراسخة في الميدانين الكنسي والعلماني. وقد حاولت الكنيسة تطويق انتشار البدع الجديدة، ولكن دون نجاح كبير. ومع ذلك يحسن بنا أن نذكر أن محاكم التفتيش استطاعت حتى عام 1600م، أن تدين جوردانو برونو
Giordano Bruno
وتحكم عليه بالموت حرقا. وهكذا عاد كهنة النظام القائم إلى ارتكاب ما كانوا يقترفونه في أحيان كثيرة من قبل؛ إذ دفعهم خوفهم من الفتنة إلى إصدار حكم وحشي على من يجرؤ على أن يكون مختلفا. غير أن هذا الحكم ذاته كشف عن مدى ضعف الموقف الذي كان يفترض أنه يدعمه. أما في الميدان السياسي فقد بدأت مفاهيم جديدة للسلطة تتطور تدريجيا، وأخذ يضيق بالتدريج نطاق سلطة الحكام الوراثيين.
على أن الانقسام الذي أحدثته حركة الإصلاح الديني لم يكن تطورا مفيدا في كافة جوانبه. فربما اعتقد المرء أن ظهور مذاهب دينية متعددة قد يقنع الناس أخيرا بأن الإله الواحد يمكن أن يعبد بطرق عديدة متباينة، وهذا بالفعل هو الرأي الذي كان قد دعا إليه كوزانوس
Cusanus
قبل ظهور حركة الإصلاح الديني، ولكن الذي حدث بالفعل هو أن أذهان الناس المتدينين عندئذ لم تستخلص هذه النتيجة الواضحة.
وبطبيعة الحال فإن النهضة الأوروبية لم تبدأ بوصفها يقظة مفاجئة من ماض كانت فيه معرفة القدماء راقدة في سبات عميق؛ بل لقد رأينا أن بعض آثار التراث القديم ظلت باقية طوال العصور الوسطى. فالتاريخ، ببساطة، لا يتجزأ بخطوط تقسيم حادة من هذا النوع. ومع ذلك فإن مثل هذه التميزات تكون مفيدة إذا عولجت بعناية. وعلى ذلك، فإذا كان من المشروع التحدث عن عصر نهضة إيطالي، فإن هذا يعني وجود بعض الاختلافات الواضحة بين الماضي السائد في العصور الوسطى وبين العصر الحديث؛ فهناك مثلا تضاد واضح بين مؤلفات المدرسيين الكنسية والمؤلفات العلمانية المكتوبة باللغات القومية، التي بدأت تظهر في القرن الرابع عشر. والواقع أن هذا الإحياء الأدبي قد سبق الحركة الإنسانية التي بعثت فيها معرفة المصادر الكلاسيكية من جديد. ولقد كانت المؤلفات الجديدة تستخدم لغات الشعوب أداة للتوصيل، وبذلك أصبح الإقبال عليها أوسع بكثير من الإقبال على كتابات أهل العلم، الذين احتفظوا باللاتينية بوصفها وسيلتهم للتعبير.
وهكذا ففي الفترة التي نتحدث عنها أخذ الناس يتحررون من قيود نظرة العصور الوسطى في كافة الميادين. وكانت المصادر التي استلهمت أولا، هي الاهتمامات الدنيوية التي تزايدت في ذلك العصر، وبعد ذلك أصبحت تكمن في نظرة إلى الماضي القديم أضفت عليه صبغة مثالية. وبطبيعة الحال فإن تصور العصور القديمة الذي تكون في ذلك الوقت قد شوهته إلى حد ما حماسة جيل أعاد اكتشاف الاستمرارية في تاريخه. وظلت هذه الرؤية الأقرب إلى الرومانتيكية سائدة حتى القرن التاسع عشر. ولا جدال في أن ما لدينا الآن من معرفة بهذه الأمور أفضل بكثير مما كان لدى فناني عصر النهضة وكتابه.
ولقد أصبحت لحركة النهضة في إيطاليا - وهي البلد الذي كانت فيه آثار الحضارة القديمة تقدم رموزا ملموسة للعصور الماضية - ركيزة أقوى مما أصبح لها فيما بعد في البلاد الواقعة شمال الألب. كانت إيطاليا عندئذ منقسمة من الوجهة السياسية، على نحو يشبه إلى حد بعيد ما كان موجودا في اليونان القديمة؛ ففي شمال إيطاليا كانت توجد عدة مدن يؤلف كل منها دولة، وفي الوسط كانت منطقة حكم البابا، وفي الجنوب مملكة نابولي وصقلية، وكانت أقوى مدن الشمال هي ميلانو والبندقية وفلورنسة، وكانت هناك نزاعات دائمة بين دويلات، فضلا عن صراعات بين الفئات المتنافسة داخل كل مدينة. وعلى الرغم من أن المؤامرات الفردية وتبادل الأخذ بالثأر كانت تتم ببراعة وقسوة هائلة، فإن البلد ككل لم يلحق به ضرر كبير؛ إذ كان النبلاء وحكام المدن يحارب بعضهم بعضا بمساعدة مرتزقة محترفين كان هدفهم هو المحافظة على حياتهم. على أن حالة الاسترخاء هذه قد طرأ عليها تغير حاسم عندما أصبحت إيطاليا ميدانا للمعارك بين ملك فرنسا والإمبراطور. ومع ذلك فإن إيطاليا كانت منقسمة على نفسها إلى الحد الذي حال بينها وبين ضم صفوفها من أجل مواجهة الغزو الخارجي، وهكذا ظلت البلاد منقسمة، خاضعة إلى حد بعيد للسيطرة الأجنبية. ولقد كان النصر حليف آل هابسبورج في الصراعات المتكررة بين فرنسا والإمبراطورية. وظلت نابولي وصقلية إسبانية، على حين أن الأراضي الواقعة تحت سيطرة البابا ظلت تتمتع باستقلال يحرمه الآخرون. وأصبحت ميلانو - وهي معقل حصين لجماعة الجويلف
Guelf - تابعة لأسرة هابسبورج الإسبانية عام 1535م. وكان لأهل البندقية مركز خاص إلى حد ما؛ وذلك لأسباب منها أنهم لم يعانوا أية هزيمة على أيدي البرابرة، ومنها ارتباطاتهم البيزنطية. وكانوا قد اكتسبوا قوة وثراء عن طريق الحروب الصليبية، وبعد أن هزموا منافسيهم في جنوا، سيطروا على التجارة في كافة أرجاء البحر المتوسط، وعندما استولى الأتراك العثمانيون على القسطنطينية عام 1453م، بدأت البندقية تتدهور، وكان مما عجل بذلك كشف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند واكتشاف العالم الجديد.
ولقد كانت مدينة فلورنسة هي أهم مدينة حملت لواء حركة النهضة. فلم يسبق لأية مدينة، باستثناء أثينا، أن أنجبت مثل هذه الكوكبة اللامعة من الفنانين والمفكرين؛ إذ كان دانتي وميكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم كثيرون من أهل فلورنسة، وكذلك كان جاليليو فيما بعد. وبعد فترة أدت مشاكل فلورنسة الداخلية، التي كانت سببا في نفي دانتي، إلى استيلاء آل مديتشي
Medici
على الحكم، وظلت أسرة التجار النبلاء هذه تحكم المدينة طوال ما يربو على ثلاثة قرون منذ عام 1400م، باستثناء فترات متقطعة قصيرة.
أما بالنسبة إلى البابوية فكان لعصر النهضة تأثير مزدوج. فمن جهة أبدى البابوات اهتماما مستنيرا بالجهود العلمية لباحثي الحركة الإنسانية وأصبحوا من كبار رعاة الفنون. وعلى الرغم من أن ادعاءات البابوية المتعلقة بالسلطة الزمنية كانت مستمدة من منحة قسطنطين المزيفة، فهان البابا نيكولاس الخامس (1447-1455م) كان شديد الإعجاب بلرونتسو فالا
Lorenzo Valla ، الذي كشف التزوير وكان يعتنق آراء أخرى غير مألوفة. وهكذا عين هذا الأديب المدقق أمينا لمكتب البابا على الرغم من آرائه الخارجة عن إطار الكنيسة. على أن هذا التخفيف من معايير الإيمان أدى إلى ظهور اهتمامات دنيوية أفقدت البابوية قدرا كبيرا من تأثيرها الروحي. وكانت الحياة الشخصية لرجال مثل البابا إسكندر السادس (1492-1503م) بعيدة عن تلك التقوى المتوقعة من ممثل الرب على الأرض. وفضلا عن ذلك فإن الأطماع الدنيوية لبابوات القرن السادس عشر قد استنزفت مبالغ كبيرة جلبت من الخارج. كل هذا أدى إلى سخط واستياء بلغ ذروته في حركة الإصلاح الديني.
وفي الفلسفة، يمكن القول بأن حركة النهضة الإيطالية لم تأت، عموما، بأعمال كبرى، فقد كانت تلك فترة إعادة كشف للمنابع، لا تأمل فلسفي واسع النطاق، وأدت إعادة دراسة أفلاطون، بوجه خاص، إلى تحدي النزعة الأرسطية السائدة في المدارس. وشهدت فلورنسة في عهد كوزيمودي مديتشي افتتاح أكاديمية فلورنسة في أوائل القرن الخامس عشر، وكان هذا المعهد منحازا لأفلاطون على خلاف الجامعات القائمة. ويمكن القول بوجه عام إن جهود الباحثين الإنسانيين قد مهدت الطريق للتطورات الفلسفية الكبرى التي حدثت في القرن السابع عشر.
وعلى الرغم من أن حركة النهضة قد حررت الناس من جمود الكنيسة وتصلب معتقداتها، فإنها لم تنقذهم من مختلف ضروب الخرافة القديمة. فقد اكتسب التنجيم، الذي كانت الكنيسة تحاربه دائما، شعبية واسعة وانتقلت عدواه من الجهلة إلى المتعلمين أيضا، أما السحر فكان الاعتقاد به واسعا بدوره، وأحرق مئات من الأبرياء ذوي الأطوار الغريبة وهم أحياء بتهمة ممارسة السحر. وبطبيعة الحال فإن اصطياد السحرة.
4
ليس أمرا مجهولا حتى في أيامنا هذه، وإن لم يعد الأسلوب المتبع هو حرق الضحية. وقد اقترن ربط التعصب والجمود الفكري الموروث عن العصور الوسطى بضياع هيبة معايير السلوك وقواعده السائدة. وكان هذا، بالإضافة إلى أسباب أخرى، هو الذي حال دون اكتساب إيطاليا شكلا من أشكال التكامل القومي في وجه الأخطار الأجنبية الآتية من الشمال. فقد كان العصر حافلا بالمؤتمرات النادرة والغش المتبادل، ووصل ارتقاء ذلك الفن الرفيع، فن التخلص من المنافسين والأعداء، إلى مستوى لا نظير له من اكتمال الصنعة. وفي مثل هذا الجو من الخداع وانعدام الثقة يستحيل أن يتولد أي شكل قابل للاستمرار من أشكال التعاون السياسي.
وفي ميدان الفلسفة السياسية، أنجبت النهضة الإيطالية شخصية بارزة، هي شخصية نيكولو ماكيافيلي
Niccolo Machiavelli (1469-1527م)، الذي كان ابنا لمحام من فلورنسة. وقد بدأ اشتغاله بالسياسة عام 1494م، عندما طردت أسرة مديتشي من فلورنسة. في هذا الوقت خضعت المدينة لتأثير سافونارولا
Savonarola
المصلح الدومنيكاني الذي تصدى للرذيلة والفساد المنتشرين في عصره. وقد دفعه حماسه الشديد إلى التصادم مع إسكندر السادس، البابا الذي ينتمي إلى أسرة بورجيا، فأعدم حرقا في عام 1498م. وكان من الضروري أن تثير هذه الأحداث أفكارا عن طبيعة السلطة والنجاح السياسي. وقد كتب ماكيافيلي فيما بعد يقول إن الأنبياء غير المسلحين يخفقون دائما، وضرب مثلا بساقونارولا. وخلال الوقت الذي ظلت فيه أسرة بورجيا منفية، كانت فلورنسة جمهورية، وظل ماكيافيلي يحتل منصبا عاما حتى عودة الأسرة إلى الحكم في عام 1512م. ولما كان قد عارض هذه الأسرة طوال الفترة السابقة، فقد أصبح بعد عودتها غير مرغوب فيه. فأرغم على اعتزال الحياة العامة، وكرس حياته منذ ذلك الحين للكتابة في الفلسفة السياسية وما يتصل بها من موضوعات. ولم تنجح المحاولة التي بذلها لاستمالة آل مديتشي مرة أخرى عن طريق إهداء كتابه المشهور «الأمير» إلى لورنتسو الثاني في عام 1513م. وقد توفي ماكيافيلي سنة 1527م، وهي السنة التي قام فيها مرتزقة الإمبراطور شارل الخامس باجتياح روما ونهبها.
ولقد كان الكتابان الكبيران اللذان ألفهما ماكيافيلي في السياسة هما «الأمير» و«الخطابات
Discourses ». ويأخذ الأول منهما على عاتقه مهمة دراسة الوسائل التي تكتسب بها القوة الاستبدادية ويتم بها المحافظة عليها، على حين أن الثاني يقدم دراسة عامة للسلطة وممارستها في ظل مختلف أنواع الحكم. ولا تنطوي التعاليم التي يقدمها كتاب «الأمير» على أية محاولة لتقديم نصيحة خالصة إلى الحاكم تبين له كيف يكون حاكما فاضلا. بل إن الكتاب يعترف بأن هناك ممارسات شريرة تؤدي إلى اكتساب السلطة السياسية. وكان هذا هو السبب في اكتساب لفظ «الماكيافيلي»، معناه الشرير المذموم، ولكن ينبغي القول، إنصافا لمكيافيلي، أنه لم يكن يدعو إلى الشر من حيث هو مبدأ. فقد كان ميدان بحثه يقع خارج نطاق الخير والشر، شأنه في ذلك شأن أبحاث عالم الفيزياء النووية، وكانت الحجة التي يعرضها هي إنك إذا أردت اكتساب السلطة فعليك أن تكون قاسيا بلا رحمة. أما مسألة ما إذا كان هذا خيرا أم شرا، فهي مسألة أخرى تماما، لا شأن لماكيافيلي بها. وفي استطاعة المرء أن يعيب عليه عدم إبدائه اهتماما كافيا بهذه المسألة، لكن لا معنى لإدانته بسبب دراسته لسياسة القوة كما كانت موجودة فعلا؛ ذلك لأن ما يقدمه كتاب «الأمير» لا يعدو أن يكون تلخيصا للممارسات التي كانت شائعة في إيطاليا خلال عصر النهضة.
ولقد أوفد ماكيافيلي، خلال اشتغاله بالوظائف العامة في خدمة جمهورية فلورنسة، في عدد من المهام الدبلوماسية المتنوعة التي أتاحت له فرصة كبيرة لكي يدرس عن كثب خفايا التآمر السياسي. وقد تعرف خلال عمله الدبلوماسي عن قرب إلى تشيزاري بورجيا
Cesar Borgia ، ابن إسكندر السادس، الذي لم يكن يقل نذالة عن أبيه. وقد خطط تشيزاري بورجيا ببراعة وجرأة هائلة لتأمين مركزه عندما يأتي اليوم الذي يموت فيه أبوه. فتم التخلص من أخيه، الذي كان يعترض سبيل هذه الطموحات، ومن الناحية العسكرية ساعد تشيزاري أباه على توسيع الممتلكات البابوية، وصمم فيما بعد على الاحتفاظ بهذه الأقاليم لنفسه. أما بالنسبة إلى الخلافة على منصب البابا، فكان لا بد من عمل كل شيء حتى يشغل هذا المنصب واحد من أصدقائه. وقد كشف تشيزاري بورجيا عن براعة منقطعة النظير، وعن دهاء ديبلوماسي فائق، في السعي إلى تحقيق هذه الأهداف، فكان تارة يتظاهر بالصداقة، وتارة يسدد ضربة الموت. وبطبيعة الحال فمن المستحيل سؤال ضحايا هذه الممارسات السياسية عن مشاعرهم، ولكن أغلب الظن أنهم لو نظروا إلى الأمر بتجرد لأبدوا إعجابهم ببراعة بورجيا المؤكدة، فهكذا كان مزاج العصر. وفي النهاية أخفقت خططه لأنه كان هو ذاته مريضا عندما مات أبوه في عام 1503م. وكان خليفة أبيه على عرش البابوية هو يوليوس الثاني، الذي كان عدوا لدودا لآل بورجيا. ولو سلمنا بالأهداف التي توخاها تشيزاري بورجيا لكان من واجبنا أن نعرف بأنه سعى إليها باقتدار، ومن أجل هذا كال له ماكيافيلي المديح. فهو في «الأمير» يثني عليه بوصفه نموذجا لغيره ممن يطمحون إلى السلطة. ولا شك أن المعايير العامة السائدة في ذلك العصر هي التي جعلته ينظر إلى ممارسات كهذه على أنها شيء يمكن الدفاع عنه. أما في الفترة الواقعة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر فلم يكن من الممكن، على وجه العموم، التغاضي عن مثل هذه الأساليب الممعنة في القسوة، أو لم تكن تمتدح علنا على الأقل، ولكن القرن العشرين أنجب مرة أخرى عددا من القادة السياسيين المنتمين إلى التراث المعروف لدى ماكيافيلي.
ومنذ عام 1513م حتى عام 1521م اعتلى العرش البابوي «ليو العاشر» الذي كان ينتمي إلى أسرة مديتشي. ولما كان ماكيافيلي يحاول عندئذ استمالة هذه الأسرة، فقد تجنب في كتاب «الأمير» أن يخوض في موضوع السلطة البابوية، مكتفيا ببعض العبارات السطحية ذات المسحة الدينية. ولكنه يتخذ في كتاب «الخطابات» موقفا نقديا أقوى تجاه البابوية، ويصطبغ موقفه كله هنا بصبغة أخلاقية أوضح. فهو يبحث في أنماط أصحاب السلطة حسب ترتيب قيمتهم، بادئا بمؤسسي العقائد الدينية ومنتهيا بالطغاة. وقد نظر إلى وظيفة الدين في الدولة نظرة برجماتية (عملية). فليس مهما على الإطلاق أن تكون العقيدة صحيحة أو باطلة، ما دامت تساعد على إضفاء قدر من التماسك الاجتماعي على الدولة. وبالطبع فإن اضطهاد المارقين أو أصحاب البدع يصبح له ما يبرره تماما في ظل رأي كهذا. أما الكنيسة فإنه يهاجمها لسببين: الأول هو أن أسلوب الحياة غير الفاضل الذي يحياه كثير من قساوستها قد زعزع الثقة الشعبية في الدين، والثاني هو أن الاهتمامات الدنيوية والسياسية للبابوية كانت عقبة في وجه الوحدة الوطنية الإيطالية. ولنلاحظ في هذا الصدد أن هذا يتمشى تماما مع اعترافه بأن البابوات السياسيين قد تصرفوا، في سعيهم إلى تحقيق أهدافهم الخاصة، ببراعة فائقة. وعلى حين أن كتاب «الأمير» لم يكن له شأن بالغايات، فإن كتاب «الخطابات» كان أحيانا يوليها اهتمامه.
وفيما يتعلق بالمعايير الأخلاقية التقليدية، يبين كتاب «الأمير» صراحة أن الحكام ليسوا مقيدين بها. فما لم تتطلب المصلحة إطاعة القوانين الأخلاقية، فإن في استطاعة الحاكم أن يخرج عنها كلها. بل إن من واجبه أن يفعل ذلك في كثير من الأحيان إذا ما شاء أن يظل في السلطة. وعليه في الوقت ذاته أن يبدو في نظر الآخرين فاضلا. وبفضل هذه الازدواجية وحدها يستطيع الحاكم أن يحتفظ بموقعه.
ويعرض ماكيافيلي في المناقشة العامة لكتاب «الخطابات» نظرية الضوابط والتوازنات. فلا بد أن تكون لكافة فئات المجتمع سلطة دستورية ما حتى تستطيع هذه الفئات أن تمارس فيما بينها قدرا من الرقابة المتبادلة. وترجع هذه النظرية إلى محاورة «السياسي» عند أفلاطون، وقد أصبحت لها مكانة بارزة بفضل جون لوك في القرن السابع عشر، وبفضل مونتسكيو في القرن الثامن عشر. وهكذا فإن ماكيافيلي كان له تأثيره في نظريات الفلاسفة السياسيين الليبراليين في العصر الحديث، مثلما كان له تأثيره في ممارسات الحكام المستبدين المعاصرين. فالكثيرون يمارسون نظرية الازدواجية إلى المدى الذي توصلهم إليه، وإن كانت لها حدودها التي لا تتعداها، والتي لا يبحثها ماكيافيلي.
لقد استغرقت حركة النهضة، التي اكتسحت إيطاليا خلال القرن الخامس عشر، بعض الوقت لكي تمارس تأثيرها شمال جبال الألب، وقد طرأت على قوى الأحياء بعض التغيرات الهامة عندما انتشرت شمالا، من هذه التغييرات أن النظرة الجديدة ظلت في الشمال أمرا يهم أهل العلم والمعرفة وحدهم إلى حد بعيد، بل إننا لو شئنا الدقة لما كان من حقنا أن نتحدث عن نهضة بمعنى البعث أو الإحياء، إذ لم يكن يوجد في الشمال شيء كان موجودا من قبل وأصبح من الممكن الآن أن يولد من جديد، وعلى حين أن تراث الماضي كان له معنى غامض ما في نظر الناس عامة في الجنوب، فإن تأثير روما في الشمال كان مؤقتا أو غير موجود. وهكذا قاد الحركة الجديدة أهل العلم في المحل الأول، ومن ثم كان الإقبال عليها محدودا بقدر ما. ولما كانت هذه الحركة الإنسانية الشمالية لا تستطيع التعبير عن ذاتها بنفس القوة في الميدان الفني، فقد اتخذت في بعض جوانبها طابعا أكثر جدية. وفي النهاية كان انفصالها عن سلطة العصور الوسطى أشد حدة وأكثر وضوحا مما حدث في إيطاليا. وعلى الرغم من أن كثيرا من باحثي الحركة الإنسانية لم يكونوا راضين عن الانشقاق الديني الذي أحدثته حركة الإصلاح، فقد كان من المتوقع على نحو ما، أن يحدث ذلك إن حدث في أعقاب حركة النهضة في الشمال.
ومنذ عصر النهضة أصبحت وظيفة الدين في حياة الناس مختلفة كل الاختلاف على جانبي جبال الألب. ففي إيطاليا كانت البابوية تمثل بمعنى ما الارتباط المباشر بماضي الإمبراطورية الرومانية. أما عن ممارسة العقيدة ذاتها، فقد أصبحت أقرب إلى طابع النظام الرتيب المتكرر، وجزءا من الحياة العادية يتم أداؤه بنفس الطريقة غير المكترثة التي يتم بها الأكل أو الشرب، وحتى اليوم تجد الممارسة الدينية في إيطاليا مشوبة بهذا الطابع غير المتحمس، إذا ما قورنت بنظائرها في البلاد الأخرى. وهكذا كان هناك سببان جعلا من المستحيل حدوث انشقاق تام عن التراث الديني الموجود؛ أولهما هو أن الكنيسة كانت بمعنى ما جزءا من المؤسسة، حتى لو كانت البابوية، كما أشار مكيافيلي، عقبة في طريق الوحدة الوطنية الإيطالية، وثانيهما هو أن المعتقدات لم تكن تعتنق بنفس الاقتناع العميق الذي كان يمكن أن يؤدي إلى تغيرات جذرية إذا اقتضى الأمر. أما رجال الحركة الإنسانية في الشمال فكان لديهم اهتمام أصيل بالدين وبالإساءات التي أصبح يعاني منها. وهكذا كانوا في كتاباتهم الجدلية معادين بشدة للممارسات الهابطة التي كانت تقوم بها المستويات العليا في الكنيسة. ولنضف إلى ما تقدم ذلك الشعور بالعزة الوطنية الذي لم يكن كبار رجال الدين الإيطاليين يعملون حسابه دائما. فلم تكن المسألة مجرد حرص على تلك الأموال التي كانت تدفع من أجل إعاشة روما وتجميلها، بل كانت أيضا مسألة سخط مباشر على الطريقة المترفعة التي كان الإيطاليون المرحون ينظرون بها إلى النيوتونيين أكثر جدية في الشمال.
كان أعظم شخصيات الحركة الإنسانية الشمالية هو إرازموس
Erasmus
من مدينة روتردام (1466-1536م). وكان والدا إرازموس قد توفيا قبل أن يبلغ العشرين، فحال ذلك على ما يبدو بينه وبين الالتحاق مباشرة بالجامعة. وبدلا من ذلك أرسله الأوصياء عليه إلى مدرسة للرهبان، والتحق عندما حان الوقت بدير أوغسطين في شتاين
Steyn . وقد ولدت هذه التجارب المبكرة لديه كراهية دائمة للنزعة المدرسية الصارمة الجامدة التي وقع في حبائلها. وفي عام 1494م عينه أسقف كامبراي
Cambrai
سكرتيرا له، وبذلك ساعده على التخلص من عزلة الرهبنة في شتاين. وتلت ذلك عدة زيارات لباريس، ولكن الجو الفلسفي في السربون لم يكن مشجعا على اكتساب معرفة جديدة. ذلك لأن الفرق المتنازعة التي تدين بالولاء لتوما الأكويني ولوليام الأوكامي قد تناست أحقادها في مواجهة حركة الإحياء، وأصبحت تقف صفا واحدا في مواجهة رجال النزعة الإنسانية.
وفي نهاية عام 1499م قام بزيارة قصيرة لإنجلترا، حيث قابل كولت
Colet
والأهم من ذلك توماس مور
Thomas More . وعند عودته إلى القارة واصل دراسة اللغة اليونانية حتى بلغ فيها مستوى رفيعا. وعندما زار إيطاليا في عام 1506م حصل على درجة الدكتوراه في تورينو، ولكنه لم يجد هناك من يتفوق عليه في اليونانية. وفي عام 1561م أخرج أول نشرة للعهد الجديد باليونانية تظهر في المطبعة. أما عن كتبه فإن أكثرها ذيوعا هو «امتداح الحماقة
The Praise of Folly » وهو وكتاب ساخر ألفه في بيت مور في لندن عام 1509م، وكان العنوان اليوناني يتضمن تورية ساخرة على اسم مور. في هذا الكتاب نجد إلى جانب قدر كبير من السخرية على حماقات البشر، هجمات مريرة على وضاعة المؤسسات الكنسية وكهنتها. ولكن على الرغم من انتقاداته الصريحة، فإنه لم يعلن تأييده الصريح لحركة الإصلاح الديني عندما حان الوقت. فقد كان يؤمن بالرأي البروتستانتي المحض القائل إن الإنسان يتصل بالله اتصالا مباشرا، وأن اللاهوت لا داعي له، ولكنه في الوقت ذاته رفض أن يستدرج إلى المنازعات الدينية التي نشأت في أعقاب حركة الإصلاح الديني. وكان أكثر اهتماما بأعماله العلمية ونشر كتبه، وأحس على أية حال بأن الانشقاق الذي حدث أمر مؤسف. ومع الاعتراف بأن أمثال هذه الخلافات هي بقدر ما، أمور سقيمة، فقد كانت مشاكل يستحيل تجاهلها. وفي النهاية أعلن إرازموس تأييده للكاثوليكية، ولكن أهميته عندئذ كانت قد بدأت تتضاءل، واحتل المسرح رجل أقوى منه معدنا.
ولقد كان أبقى تأثير خلفه إرازموس هو تأثيره في ميدان التعليم. والواقع أن الدراسة الإنسانية، التي كانت حتى عهد قريب تشكل لب التعليم الثانوي حيثما سادت وجهات النظر الأوروبية الغربية، تدين بالكثير لجهوده الأدبية والتعليمية، أما في عمله من حيث هو ناشر فلم يكن يهتم دائما بالفحص النقدي الشامل للنصوص؛ إذ كان يستهدف جمهورا من القراء أوسع من المتخصصين الأكاديميين، وفي الوقت نفسه لم يكتب باللغات المحلية، بل كان على العكس حريصا على دعم مكانة اللغة اللاتينية.
أما في إنجلترا فكان أبرز رجال الحركة الإنسانية هيما السير توماس مور (1478-1535م)، الذي انتقل وهو في الرابعة عشرة إلى أكسفورد حيث بدأ دراسة اللغة اليونانية، وكان ذلك يعد عندئذ نوعا من الانحراف عن الخط السوي. ولا شك أن أباه قد نظر إليه بعين الشك؛ إذ كان يريده أن يسير في طريقه نفسه، ومن ثم فقد جعله يدرس القانون. وفي عام 1497م قابل إرازموس عندما زار هذا الأخير إنجلترا لأول مرة. وأدى هذا الاتصال المتجدد بالمعرفة الجديدة إلى تقوية اهتمام مور بدراساته اليونانية. وبعد وقت قصير مر بمرحلة من الزهد، ومارس تقشف الطريقة الكارثوزية
Carthusian .
5
ولكنه تخلى في النهاية عن أفكار الرهبنة، وذلك لأسباب قد يكون من بينها نصائح صديقه إرازموس بالابتعاد عنها. وفي عام 1554م أصبح عضوا في البرلمان، حيث برز بسبب وقوفه بصورة صريحة ومباشرة في وجه المطالب المالية لهنري السابع. وعندما مات الملك في عام 1509م عاد مور إلى التفرغ لمهنته . ولكن سرعان ما استدعاه هنري الثامن لكي يمارس الوظائف العامة مرة أخرى. وبمضي الوقت ارتقى إلى أرفع المناصب، فأصبح كبير المستشارين بدلا من ولزي
Wolsey
بعد سقوط الأخير في عام 1529م. ولكن بقاء مور في السلطة لم يدم طويلا؛ فقد كان معارضا لطلاق الملك من كاترين من أراجون
Catherin of Aragon
واستقال من منصبه عام 1532م. وقد أثار غضب الملك عليه عندما رفض قبول دعوة لحضور تتويج آن بولين
Anne Boleyn . وعندما صدر قانون السيادة في عام 1534م وجعل من الملك رئيسا للكنيسة الجديدة، رفض مور أن يقسم اليمين، فأرسل إلى برج لندن، وحوكم في عام 1535م حيث أدين بتهمة الخيانة بسبب قوله إن البرلمان لا يملك أن يجعل من الملك رئيسا للكنيسة، وحكم عليه بالإعدام بسبب هذا الرأي. وهكذا لم يكن التسامح في الأمور السياسية سمة من سمات العصر.
كان مور كاتبا غزير الإنتاج، ولكن معظم كتاباته لا تكاد تقرأ اليوم. وترتكز شهرته كلها على عمل خيالي سياسي يشتهر باسم «اليوتوبيا»، وهو كتاب يعرض نظرية اجتماعية وسياسية تأملية، تستلهم، كما هو واضح، جمهورية أفلاطون، ويتخذ هذا العمل شكل رواية لبحار أغرقت سفينته، فعاش خمس سنوات في مجتمع الجزيرة هذا. وهو يحرص، مثل أفلاطون، على مشاعية التملك، ويقدم لذلك نفس الأسباب، فحيثما تكون هناك ملكية خاصة، لا يمكن أن يقوم احترام للصالح المشترك. وفضلا عن ذلك فإن الناس إذا امتلكوا الأشياء انقسموا على أنفسهم بقدر ما تختلف ثرواتهم. وتسلم «اليوتويبا» مقدما بحقيقة أساسية، هي أن الناس ينبغي أن يكونوا جميعا متساوين. ويترتب على ذلك أن الملكية الخاصة مفسدة، ومن ثم لا ينبغي السماح بها. وعندما يأتي إلى أهل اليوتوبيا زائر يحدثهم عن المسيحية، يكون السبب الأساسي لرضائهم عنها هو ذلك الطابع المشاعي لتعاليمها الخاصة بالملكية.
ويصف مور تنظيم هذه الدولة المثلى بتفصيل كبير. فهناك عاصمة وثلاث وخمسون مدينة أخرى ، مبنية كلها على نفس النمط، وبها مساكن متماثلة يستطيع أي واحد أن يدخل أيا منها؛ ذلك لأن عدم وجود ملكية خاصة يجعل السرقة أمرا لا معنى له . وتنتشر في الريف مزارع تدار كلها على نحو مماثل. أما عن الملبس، فإن كل شخص يلبس نفس الملابس، باستثناء تمييز مفيد، وإن كان ثانويا، بين ملابس النساء المتزوجات وغير المتزوجات، وتتسم الملايس بأنها غير ملفتة للنظر، وهي تظل دائما على ما هي عليه، أما تقلبات الموضة فلا يعرفها أحد. وتسير حياة العمل عند جميع المواطنين على نفس الوتيرة. فهم جميعا يشتغلون ست ساعات في اليوم، ويعودون في الثامنة مساء ويستيقظون مرة أخرى في الرابعة صباحا. ويركز أولئك الذين يملكون الاستعداد للمعرفة على جهودهم العقلية «ولا يقومون بأي عمل آخر.» ومن هذه الفئة تختار الهيئة الحاكمة. أما نظام الحكم فهو نوع من الديمقراطية النيابية عن طريق اقتراع غير مباشر وينتخب رئيس الدولة مدى الحياة، شريطة أن يحسن التصرف، فإن لم يفعل كان من الممكن عزله، كذلك تخضع الحياة الاجتماعية لقواعد صارمة. أما عن العلاقات مع البلاد الأجنبية، فإنها تقتصر على الحد الأدنى الأساسي. ولا وجود للحديد في الدولة الفاضلة؛ ومن ثم ينبغي استيراده. ويفرض التدريب العسكري على الرجال والنساء، وإن كانت الحرب لا تشن أبدا إلا دفاعا عن النفس، أو مساعدة الحلفاء أو أمم مضطهدة، ويتم القتال عن طريق مرتزقة كلما أمكن ذلك. ويتم إنشاء صندوق من المعادن النفيسة عن طريق التبادل التجاري من أجل دفع أجور القوات المرتزقة في زمن الحرب. أما بالنسبة إلى أهل البلاد أنفسهم فإنهم لا يحتاجون إلى المال، وحياتهم متحررة من التعصب والتقشف. غير أن ثمة قيدا واحدا بسيطا. فالملحدون، وإن كان يسمح لهم باعتناق آرائهم دون تدخل، لا يتمتعون بمركز المواطنين، ولا يمكن أن يدخلوا الحكومة، وهناك عمال يشتغلون بالسخرة في الأعمال الوضيعة، يجلبون من بين صفوف المحكوم عليهم في جرائم خطيرة، أو من الأجانب الذين هربوا لكي يتجنبوا العقاب في بلاهم ذاتها.
ولا جدال في أن الحياة في مثل هذه الدولة ذات النظام المحكم ستكون مملة إلى حد لا يطاق، وتلك في الواقع سمة تشترك فيها كافة الدول المثلى. غير أن الشيء الذي يهمنا أكثر من غيره في معالجة مور لهذا الموضوع، هو تلك النظرة التحررية الجديدة إلى مسألة التسامح الديني، ذلك لأن حركة الإصلاح الديني كانت قد هزت المجتمع المسيحي في أوروبا وزعزعت موقفه المستسلم إزاء السلطة. وقد تحدثنا من قبل عن وجود شخصيات سبقت هذه الأحداث ودعت من قبلها إلى التسامح في الأمور الدينية، وحين أدت حركة الإصلاح إلى انقسام ديني دائم في أوروبا، كان من الضروري أن تسود فكرة التسامح بمضي الوقت؛ ذلك لأن البديل الآخر، وهو الإبادة والقمع بالجملة، كان قد جرب وتبين في النهاية أنه غير مجد. غير أن الفكرة القائلة إن من الواجب احترام المعتقدات الدينية للجميع كانت في القرن السادس عشر لا تزال غريبة إلى الحد الذي يكفي لجعلها مثيرة للانتباه.
ولقد كان من نتائج حركة الإصلاح الديني أن أصبح الدين في أوروبا مرتبطا بالسياسة بصورة أوضح، وكثيرا ما كان يقوم على أساس قومي، كما هي الحال في إنجلترا. ومن الواضح أن هذا ما كان يمكن أن يحدث لو ظل هناك مذهب ديني شامل هو وحده السائد. ولقد كان هذا الطابع السياسي الجديد للولاء الديني هو الذي انتقده مفكرون مثل مور عندما امتنعوا عن تأييد حركة الإصلاح. ولقد رأينا من قبل في حالة إرازموس كيف أنهم كانوا متفقين في الأساس على ضرورة إيجاد نوع من الإصلاح، غير أنهم كانوا ينتقدون العنف والنزاع الحاد الذي اقترن بظهور عقيدة منفصلة كل الانفصال. ولا جدال في أنهم كانوا في ذلك على حق تماما. ولقد ظهر الطابع القومي للانقسام الديني في إنجلترا بوضوح تام؛ إذ كانت الكنيسة التي أقيمت حديثا تصلح تماما لكي تكون جزءا من الإطار السياسي للجهاز الحكومي، وفي الوقت ذاته لم يكن الانفصال في بعض جوانبه بنفس العنف الذي كان عليه في البلاد الأخرى؛ إذ كان هناك تراث قديم العهد من الاستقلال النسبي عن روما. ومنذ أيام وليام الفاتح أمر هذا الحاكم على أن يكون له صوته في تعيين أصحاب المناصب الكنسية. وما زال الاتجاه المضاد لروما في الكنيسة الجديدة باقيا في بريطانيا حتى اليوم، متمثلا في المحافظة على وراثة العرش بين البروتستانت، كما أنه ظل قائما في الولايات المتحدة حتى عام 1960م في ذلك القانون غير المكتوب الذي لم يكن يسمح لأي شخص تابع للكنيسة الكاثوليكية الرومانية بأن يكون رئيسا للجمهورية.
6
لقد رأينا أنه كان هناك، قبل أن تهب عاصفة حركة النهضة ببضعة قرون، تغير تدريجي في المناخ الثقافي هدم الآراء القديمة عن سيطرة الكنيسة. أما الأسباب التي أدت إلى هذا التغيير الثوري فهي متنوعة ومتشابكة. فعلى السطح الخارجي يبدو الأمر كما لو كان تمردا على سلطة رجال الدين في التدخل بين الله والإنسان. غير أن هذا المبدأ السليم (مبدأ عدم التدخل) ما كان ليشق طريقه وحده لو لم تكن الكنيسة ذاتها قد لفتت أنظار الناس، بمفاسدها، إلى التباين الشديد بين ما تعظهم به ومسلكها الفعلي، ففي كثير من الأحيان كان رجال الكنيسة يملكون أراضي واسعة. وما كان هذا ليعد في ذاته أمرا مذموما لو لم يكن من الصعب التوفيق بين تعاليم المسيح وبين السلوك الدنيوي لكهنته. أما عن مسائل المعتقدات الدينية فإن أوكام كان قد قال من قبل إن المسيحية يمكن أن تسير في طريقها بغير السيطرة الجامحة لأسقف روما. وهكذا فإن جميع عناصر الإصلاح الشامل للحياة الدينية للعالم المسيحي كانت موجودة بالفعل في إطار الكنيسة، ولم يتطور السعي إلى الإصلاح بحيث يصبح انقساما حاسما، في النهاية، إلا نتيجة لعوامل سياسية.
كان المستوى الثقافي لرجال الإصلاح ذاتهم أقل من علماء الحركة الإنسانية الذين مهدوا لهم الطريق. غير أنهم كانوا يملكون تلك الحماسة الثورية التي يجد المفكرون الناقدون في كثير من الأحيان صعوبة في إبدائها. ولقد كان مارتن لوثر (1483-1546م) راهبا أوغسطينيا ومعلما للاهوت وأثارت فيه تلك الممارسة الهابطة، أعني بيع صكوك الغفران، استياء أخلاقيا عارما، كما حدث للكثيرين غيره. وفي عام 1517م خرج نشاطه إلى العلن، ونادي بالقضايا الخمس والتسعين المشهورة، التي سجلها في وثيقة علقها على باب كنيسة قلعة فتنبرج
Wittenberg . ولم يكن في ذهنه، حين تحدى السلطة الكنسية العليا في هذه النقطة، أن يقيم مذهبا دينيا جديدا. غير أن هذه المسألة الشائكة كانت تثير مشكلة سياسية كاملة، هي الحصص المالية الضخمة التي كانت تدفع لدولة أجنبية. وعندما حرق لوثر علنا المرسوم البابوي بطرده من الكنيسة في عام 1520م، لم تعد المسألة تقتصر على الإصلاح الديني؛ إذ بدأ الأمراء والحكام الألمان يتخذون موقفا، وأصبحت حركة الإصلاح ثورة سياسية للألمان ضد سلطة البابا الأشد خفاء.
وبعد مجلس فرمز
Worms
7
في عام 1521م، ظل لوثر مختفيا لمدة عشرة أشهر، وأعاد كتابة العهد الجديد باللغة الشعبية. ويمكن القول إن هذا العمل، من حيث هو وثيقة أدبية، كان له بالنسبة إلى الألمان نفس التأثير الذي كان للكوميديا الإلهية بالنسبة إلى الإيطاليين. وقد ساعد على أية حال على انتشار كلمات الإنجيل على أوسع نطاق بين الناس، وأصبح في استطاعة أي شخص قادر على القراءة أن يدرك الآن وجود تباين شاسع بين تعاليم المسيح والنظام الاجتماعي القائم. وكان هذا العامل بالذات، مضافا إليه النظرة البروتستانتية الجديدة إلى الإنجيل على أنه السلطة الوحيدة، هو إلى حد بعيد الأساس المعنوي الذي قامت عليه ثورة الفلاحين في عام 1524م. غير أن لوثر لم يكن مصلحا ديمقراطيا، وأعلن بصراحة وقوفه ضد أولئك الذين تحدوا أسيادهم السياسيين؛ ذلك لأنه ظل في تفكيره السياسي يتأمل الأمور بمنظور العصور الوسطى. وقد اقترنت الثورة بقدر كبير من العنف والقسوة من جميع الإطارات، وسحقت في النهاية بوحشية. وأدت هذه المحاولة الفاشلة للثورة الاجتماعية إلى إضعاف قوة الدفع الأصلية للعقيدة الإصلاحية إلى حد ما. ولقد جاء لفظ «البروتستانت» ذاته من نداء أصدره مؤيدو الإصلاح الديني واحتجوا فيه (
) على محاولة الإمبراطور أن يعيد العمل في عام 1529م بأحكام «مجلس فرمز»، الذي كان قد أعلن أن المصلح وأتباعه خارجون عن القانون. غير أن هذا الإجراء ظل موقوفا حتى عام 1526م. أما الآن فقد أصبح لوثر مرة أخرى مطاردا في الإمبراطورية، ومن ثم لم يحضر مجلس آوجسبرج
Augsburg
في عام 1530م. غير أن الحركة البروتستانتية كانت قد أصبحت في ذلك الحين أقوى من أن تسحق، وفي عام 1532م اضطر الإمبراطور كارها، بموجب اتفاقية الصلح الديني في نورمبرج، إلى إعطاء ضمانات لأولئك الذين يريدون ممارسة عقيدتهم الجديدة بحرية.
وقد انتشرت الحركة الإصلاحية الجديدة بسرعة في الأراضي الواطئة وفي فرنسا وسويسرا. وكان أقوى الإصلاحيين تأثيرا بعد لوثر هو جان كالفان
Jean Calvin (1509-1564م)، وهو فرنسي استقر به المقام في جنيف، وتحول إلى الحركة الإصلاحية وهو في أوائل العشرينيات من عمره، ثم أصبح منذ ذلك الحين الرائد الروحي للبروتستانتية في فرنسا والأراضي الواطئة. والكلفينية مذهب ذو نزعة أوغسطينية، ومن ثم فهي أشد صرامة وتصلبا من اللوثرية التبشيرية. وتتغلغل فيها بقوة المثل العليا التطهيرية (البيوريتانية)، كما تذهب إلى أن الخلاص مسألة مقدرة مقدما. ولقد كانت تلك إحدى السمات الأقل جاذبية للاهوت المسيحي، وقد أحسنت الكنيسة الرومانية صنعا بتبرؤها من هذه الفكرة. غير أن الفكرة لا تؤدي عمليا إلى تلك الأضرار التي ربما بدت لها لأول وهلة، ما دام لدى كل شخص الحرية في أن يعتبر نفسه واحدا من المصطفين المختارين.
ولقد شهدت فرنسا في النصف الثاني من القرن السادس عشر حروبا دينية مزقتها بين الهوجنوت
Huguenots
الإصلاحيين وبين الكاثوليك. وكما كانت الحال في ألمانيا، فإن أسباب هذه القلاقل لم تكن دينية خالصة، بل كانت اقتصادية جزئيا. ونستطيع أن نقول بعبارة أدق إن العوامل الدينية والاقتصادية كانت سويا من أعراض التغييرات العامة التي تميزت بها مرحلة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. ذلك لأن العقيدة الإصلاحية وسماتها التطهيرية (البيوريتانية) تسير جنبا إلى جنب مع ظهور التجارة الحديثة. ولقد هدأت النزاعات الدينية في فرنسا لبعض الوقت نتيجة لمرسوم التسامح الذي أعلن في نانت
Nantes
عام 1598م، ولكن عندما ألغي المرسوم في عام 1685م، هاجرت أعداد كبيرة من الهوجنوت من موطنها الأصلي واستقرت في إنجلترا وألمانيا.
ونظرا إلى أن البروتستانتية لم تكن عقيدة عالمية، فقد كانت تحتاج إلى حماية السياسيين من رؤساء الدول ، الذين كانوا يميلون إلى أن يصبحوا رؤساء لكنائسهم القومية أيضا. وكانت تلك نعمة في ثوب نقمة؛ إذ إن رجال الكنيسة البروتستانت، الذين كانوا يفتقرون إلى سلطة نظرائهم الرومان الكاثوليك، وإن لم يكونوا في كثير من الأحيان يقلون عنها تعصبا وتزمتا، لم تكن لديهم القدرة المطلقة على إلحاق قدر كبير من الأذى. وفي النهاية أدرك الناس أن المنازعات الدينية عقيمة وغير حاسمة، ما دام كل من الطرفين كان عاجزا عن القضاء على الآخر. ومن هذا الإدراك السلبي ظهر التسامح الديني الفعلي بمضي الوقت.
أما في داخل الكنيسة الرومانية ذاتها، فقد ظهرت حركة إصلاحية جديدة في أواسط القرن السادس عشر، تركزت على جماعة الجزويت، التي أسسها إجناثيوس من لويولا
Ignatius of Loyola (1491-1556م)، واعترف بها رسميا في عام 1540م، وقد نظمت هذه الجمعية الجزويتية على أسس عسكرية، تأثر فيها لويولا بعمله السابق كجندي. أما من حيث العقيدة فكان الجزويت يعارضون التعاليم الأوغسطينية التي أخذ بها البروتستانت، ويؤكدون حرية الإرادة قبل كل شيء. وكانت أنشطتهم العملية منصبة على العمل التبشيري، والتعليم، واستئصال شأفة البدع والهرطقات.
وعلى حين أن الحركة الإنسانية في الشمال قد أدت إلى قصور جديد للمسيحية، فإن المفكرين الإنسانيين الإيطاليين لم يكونوا يهتمون كثيرا بالدين. فقد كانت الكاثوليكية في إيطاليا عندئذ، كما هي الآن، جزءا من الحياة اليومية لا يتغلغل بعمق في ضمير الإنسان، وكان الدين، بمعنى ما، يقوم بدور أقل في حياتهم، وكان قطعا أقل قدرة على إثارة مشاعرهم. وفضلا عن ذلك فنظرا إلى أن روما كانت محور الهرم الديني، فإن الكاثوليكية الرومانية لم يكن من الممكن أن تجرح الكبرياء الوطني للإيطاليين. ويمكن القول إن الكاثوليكية كانت، بصورة حقيقية جدا، أثرا باقيا من آثار مبدأ عبادة الدولة كما كان موجودا في أيام الإمبراطورية القديمة. وما زالت سيطرة النفوذ الإيطالي في حكومة كنيسة روما قائمة إلى الآن.
وهناك عامل كانت له أهمية أعظم بكثير في تفكير رجال الحركة الإنسانية الإيطاليين، هو تجدد الاهتمام بالتراث الرياضي، للفيثاغوريين وأفلاطون؛ إذ بدأ التأكيد ينصب مرة أخرى على التركيب العددي للعالم، وبذلك حل محل التراث الأرسطي الذي كان قد بني عليه. وكان ذلك واحدا من التطورات الرئيسية التي أدت إلى ذلك الإحياء الرائع للبحث العلمي في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولم يظهر ذلك بوضوح في أي مكان بقدر ما ظهر في عمارة عصر النهضة الإيطالية نظريا وتطبيقيا؛ إذ كانت هذه العمارة ترتبط مباشرة بالتراث الكلاسيكي القديم، وخاصة كما حددت معالمه أعمال فتروفيوس
Vitruvius ، المعماري الروماني المنتمي إلى القرن الأول بعد الميلاد. وهكذا أصبح المعماريون يولون أهمية كبرى للنسب بين مختلف أجزاء المبنى، وترافق ذلك مع نظرية رياضية في الجمال. ذلك لأن الجمال، كما قال فتروفيوس، مرتكزا على مصادر يونانية، إنما هو انسجام النسب الصحيحة، وهذا الرأي يرتد مباشرة إلى مصادر فيثاغورية. وهو بهذه المناسبة يكشف عن طريقة أخرى يمكن بواسطتها أن تثبت دعائم نظرية المثل؛ إذ إن من الواضح أن العين المجردة لا تستطيع أن تحكم بدقة على العلاقات العددية بين مختلف أجزاء مبنى ما، ومع ذلك فعندما يتم تطبيق نسب دقيقة معنية، يترتب على ذلك نوع من المتعة الجمالية، ومن ثم فإن وجود مثل هذه النسب، بوصفها مثلا أعلى، يضمن الكمال.
ولقد كان ألبرتي
Alberti (1404-1472م) واحدا من أهم مفكري الحركة الإنسانية الإيطاليين، وكان هذا المفكر الذي ينتمي إلى مدينة البندقية يجيد أداء عدة حرف في ميادين متعددة، كما جرت العادة في عصره، وربما كان أكثر التأثيرات التي مارسها دواما هو تأثيره في ميدان العمارة، غير أنه كان في الوقت ذاته فيلسوفا وشاعرا ورساما وموسيقيا. وكما أن الإلمام بمعرفة أولية عن التوافق (الهارموني) كان أساسا لفهم التأثير الفيثاغوري في الفلسفة اليونانية، فكذلك كانت هذه المعرفة نفسها، في حالة العمارة في عصر النهضة، لازمة لإدراك النسب المطلوبة في تصميم المبنى. ويمكن التعبير عن جوهر هذه النظرية بالقول إن التوافق السمعي القائم بين المسافات الفيثاغورية هو معيار التوافق البصري في التصميم المعماري. والواقع أن «جوته» عندما وصف العمارة فيما بعد بأنها موسيقى مجمدة، كان بعبارته هذه يقول شيئا يمكن أن ينطبق حرفيا على العمل الذي كان يقوم به معماريو عصر النهضة. وهكذا فإن نظرية التوافق المبنية على الأوتار المنغمة كانت تقدم معيارا عاما للفن الرفيع. وعلى هذا النحو كان يفسرها فنانون مثل جورجوني
Giorgione
وليوناردو. كذلك وجد هؤلاء أن مبدأ التناسب موجود في تركيب الجسم البشري، وفي الممارسة الصحية لحياة الإنسان الأخلاقية، وهذا كله لا يعدو أن يكون فيثاغورية مباشرة ومقصودة. غير أن الرياضة هنا يصبح لها دور آخر كان له تأثيره الهائل في حركة الإحياء العلمي خلال القرون التالية. ذلك لأن أي فن، بقدر ما يمكنه أن يستخدم العدد، يرتفع تلقائيا إلى مستوى أسمى، ويظهر ذلك أوضح ما يكون في حالة الموسيقى، وإن كان ينطبق أيضا على الفنون الأخرى. وهذا يفسر أيضا، إلى حد ما، تنوع اهتمامات المفكرين الإنسانيين في ذلك العصر، ويفسر بوجه خاص جمع الكثيرين منهم بين الاشتغال بالفن والعمارة. ذلك لأن رياضيات النسب كانت تقدم مفتاحا شاملا للتصميم الذي يقوم عليه الكون. أما مسالة إمكان جعل هذه النظرية أساسا سليما وشاملا لعلم الجمال، فهو أمر يظل بالطبع موضوعا للخلاف. غير أن ميزتها الكبرى، على أية حال، هي أنها وضعت للجمال معايير موضوعية لا شك فيها، لا تتقيد بالمشاعر أو المقاصد.
وهكذا فإن إدراك البناء العددي في الأشياء قد أتعب الإنسان قدرات جديدة يسيطر بها على بيئته، وجعل الإنسان، بمعنى معين، أقرب إلى الله. ولنتذكر في هذا الصدد أن الفيثاغوريين كانوا يتصورون إلههم على أنه الرياضي الأعظم. وكلما كان الإنسان على نحو ما قادرا على ممارسة مواهبه الرياضية وتحسينها، كان بذلك أقرب إلى الألوهية. وليس معنى ذلك أن الحركة الإنسانية كانت تفتقر إلى الإيمان، أو حتى أنها كانت معارضة للعقيدة السائدة. بل إنه يبين لنا أن الممارسات الدينية الشائعة كانت تقبل على سبيل الأخذ بما هو مألوف، على حين أن ما كان يلهب خيال المفكرين بحق هو الأفكار القديمة السابقة لعصر سقراط. وهكذا برز مرة أخرى في ميدان الفلسفة تيار أفلاطوني جديد، وأصبح الاهتمام الزائد الذي يبديه المفكرون بقدرات الإنسان يذكرنا بالنزعة التفاؤلية لأثينا وهي في أوج مجدها.
كان هذا هو المناخ العقلي الذي بدأ فيه نمو العلم الحديث. وإذا كان البعض يعتقد أن العلم قد بزغ فجأة إلى الحياة في مطلع القرن السابع عشر، بكامل عتاده، كما قفزت الإلهة أثينا من رأس زيوس، فإن هذا الاعتقاد في الواقع بعيد كل البعد عن الصواب. ذلك لأن إحياء العلم مبني مباشرة، وعن وعي، على التراث الفيثاغوري لعصر النهضة. وبالمثل ينبغي أن نؤكد أنه لم يكن يوجد في ذلك التراث تعارض بين عمل الفنان وعمل الباحث العلمي، فكل منهما يبحث، بطريقته الخاصة، عن الحقيقة، التي لا يدرك جوهرها إلا عن طريق الأعداد. وما على المرء إلا أن ينظر حوله لكي يرى هذه النماذج العددية في كل مكان. ولقد كانت هذه النظرة الجديدة إلى العالم ومشكلاته مختلفة جذريا عن الاتجاه الأرسطي عند المدرسيين. فقد كانت مضادة للجمود والتزمت العقلي، من حيث إنها لم تكن تعتمد على النصوص، بل على سلطة علم الأعداد وحده. ومن الجائز أنها كانت تذهب أحيانا، في هذه الناحية، أبعد مما ينبغي؛ إذ يجب أن نضع في حسباننا دائما خطر تجاوز الحدود، كما يحدث في كافة الميادين الأخرى. ولقد كان التطرف، في الحالة التي نتحدث عنها، يتمثل في ظهور نزعة صوفية رياضية تعتمد على الأعداد وكأنها رموز سحرية. وهذا أحد العوامل التي أدت إلى إساءة سمعة نظرية النسب في القرون التالية. وفضلا عن ذلك فقد ساد الإحساس بأن المسافات الفيثاغورية تفرض قيودا غير طبيعية وخانقة على العبقرية الإبداعية لواضع التصميم. ومن الجائز أن رد الفعل الرومانسي هذا ضد القواعد والمعايير قد استنفد أغراضه في عصرنا الحالي، وأصبح من الممكن أن تحدث في المستقبل القريب عودة إلى بعض المبادئ التي كانت تشيع في عصر النهضة.
أما في ميدان الفلسفة بمعناها الدقيق فإن القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم يكونا، على وجه الإجمال، متميزين بصورة خاصة. ومن جهة أخرى بأن امتداد المعارف الجديدة، وانتشار الكتب، وقبل هذا وذاك، ذلك الإحياء القوي لتراث فيثاغورس وأفلاطون القديم، كل ذلك مهد الطريق للمذاهب الفلسفية الكبرى في القرن السابع عشر.
وفي أعقاب هذا الإحياء لأساليب التفكير القديمة ظهرت الثورة العلمية الكبرى، التي بدأت بوصفها نزعة تتمسك بالفيثاغورية بدرجات متفاوتة وأخذت تتخلى بالتدريج عن الأفكار الأرسطية السائدة في ميداني الفيزياء والفلك، وانتهى بها الأمر إلى تجاوز المظاهر واكتشاف فرض مثمر شديد العمومية. وفي هذا كله كان العلماء الذين يقومون بتلك الأبحاث يعلمون أنهم ينتمون مباشرة إلى التراث الأفلاطوني.
كان أول من عمل على إحياء نظرية أرسطارخوس في مركزية الشمس هو كبرنيكوس
Copernicus (1473-1543م)، وكان رجل الدين البولندي هذا قد سافر في شبابه جنوبا إلى إيطاليا، حيث قام بتدريس الرياضيات في روما عام 1550م، وهنالك عرف النزعة الفيثاغورية عند علماء الحركة الإنسانية الإيطاليين. وبعد بضع سنوات من الدراسة في عدة جامعات إيطالية، عاد إلى بولندا في عام 1505م، وبعد عام 1512م استأنف عمله رئيسا للكنيسة في فراونبرج
Frauenburg ، وكان عمله إداريا في الأساس، وإن كان قد زاول مهنة الطب، التي كان قد درسها في إيطاليا، من آن لآخر. وكان في أوقات فراغه يتابع أبحاثه الفلكية، بعد أن كان قد تنبه إلى الفرض القائل بمركزية الشمس خلال إقامته في إيطاليا. وأخذ في الفكرة التي نتحدث عنها يحاول اختبار آرائه مستعينا بما كان يمكنه الحصول عليه عندئذ من أدوات.
وقد عرض كبرنيكوس هذه الأفكار كلها عرضا وافيا في كتاب بعنوان «في دورات الأجرام السماوية»، لم ينشر إلا في العام الذي توفي فيه. ولم تكن النظرية كما عرضها في ذلك الكتاب تخلو من صعوبات، وكانت تمليها في بعض جوانبها أفكار مسبقة ترجع إلى أيام فيثاغورس؛ فقد كان كبرنيكوس يرى أن من الضروري أن تتحرك الكواكب باطراد في دوائر، ويرى هذا قضية مسلما بها، لأن الدائرة رمز الكمال، والحركة المطردة هي نوع الحركة الوحيد الذي يليق بالجرم السماوي. غير أن فكرة مركزية الشمس بمدارات دائرية كانت، في إطار الملاحظات المتوافرة عندئذ، أرقى كثيرا من الأفلاك الدوارة على محيط الشمس، التي قال بها بطليموس؛ إذ إننا هنا نجد أنفسنا أخيرا إزاء فرض بسيط يستطيع وحده أن يفسر كل الظواهر. ولقد استقبلت النظرية الكبرنيكية بعداء شديد من جانب اللوثريين فضلا عن الكاثوليك. ذلك لأنهم شعروا، عن حق، بأن هذه بداية حركة جديدة مضادة للجمود العقائدي، من شأنها، إن لم تهدم عقيدتهم ذاتها، أن تهدم على الأقل تلك المبادئ السلطوية التي كانت تعتمد عليها مؤسساتهم الدينية. وإذا كنا نجد أن التطور الهائل للحركة العلمية قد حدث أساسا في النهاية، في البلاد البروتستانتية، فإن ذلك يرجع إلى العجز النسبي للكنائس القومية عن فرض سيطرتها على أفكار أعضائها.
وقد واصل تيكوبراهي
Tycho Brahe (1546-1601م) الأبحاث الفلكية، وتمثل إسهامه أكبر في تقديم سجلات هائلة ودقيقة عن حركات الكواكب، كذلك ألقي ظلالا من الشك على النظريات الفلكية الأرسطية حين أوضح أن المنطقة الواقعة فيما وراء القمر لا تخلو من التغير؛ إذ تبين أن نجما جديدا ظهر في عام 1572م لم يكن يغير شكله يوميا، ومن ثم فلا بد أن يكون على مسافة أبعد من القمر بكثير كما أمكن إثبات أن المذنبات تتحرك فيما وراء فلك القمر.
أما كبلر
Kepler (1571-1630م) فقد خطا خطوة هائلة. وكان كبلر يعمل في شبابه مساعدا لتيكوبراهي. وعندما درس سجلات الأرصاد الفلكية (التي تركها أستاذه) بدقة، تبين له أن المدارات الدائرية التي كان يقول بها كبرنيكوس لم تكن تفسر الظواهر تفسيرا صحيحا، وأدرك أن المدارات بيضاوية تحتل الشمس أحد مركزيها. وفضلا عن ذلك تبين أن المساحة التي يعبرها في لحظة معينة نصف قطر يربط الشمس بكوكب ما، تظل ثابتة بالنسبة إلى هذا الكوكب. وأخيرا فقد اتضح أن نسبة مربع مدة دوران الكوكب إلى مكعب متوسط المسافة بينه وبين الشمس تظل واحدة في حالة جميع الكواكب.
تلك هي قوانين كبلر الثلاثة، التي كانت تشكل خروجا جذريا عن التراث الفيثاغوري الحرفي الذي كان يتبعه كبرنيكوس، وأصبح واضحا أن من الضروري التخلي عن تلك العناصر الخارجة عن نطاق العلم، من أمثال الإصرار على الحركة الدائرية. ولقد جرت العادة منذ أيام بطليموس، في الحالات التي كان يتضح فيها عدم كفاية مدار دائري بسيط، أن تضاف مدارات أكثر تعقيدا عن طريق حركات تدور حول محيط فلك معين، وهي طريقة تعلل على وجه التقريب حركات القمر بالنسبة إلى الشمس. غير أن الملاحظات الأكثر دقة أثبتت أنه مهما كانت تلك الإضافات المدارية حول المحيط، فإنها لا تستطيع أن تقدم وصفا شاملا للمدارات المرصودة. وقد أدى قانون كبلر إلى استئصال هذه الصعوبة من جذورها دفعة واحدة. وفي الوقت ذاته أثبت قانونه الثاني أن حركة الكواكب في مداراتها ليست مطردة. فحين تكون الكواكب أقرب إلى الشمس تتحرك بسرعة أكبر من حركتها حين تكون في الأجزاء الأبعد من مدارها. كل ذلك دفع الناس إلى الاعتراف بخطورة الاعتماد على آراء مرتكزة على مبادئ جمالية أو صوفية دون الرجوع إلى الوقائع ذاتها. ومن جهة أخرى فإن قوانين كبلر الثلاثة كانت تشكل دعما قويا للمبادئ الرياضية الرئيسية للفيثاغورية، وبدا أن البناء العددي للظواهر هو الذي يقدم مفتاحا لفهمها في الواقع. وبالمثل أصبح واضحا أن الإتيان بتفسير للظواهر يقتضي البحث عن علاقات لا تظهر عادة بوضوح، فالمقاييس التي يسير الكون وفقا لها مختبئة، كما عبر عن ذلك هرقليطس، ومهمة الباحث العلمي إنما هي إماطة اللثام عنها. وفي الوقت ذاته فإن مما له أهمية قصوى ألا يخالف الباحث الظواهر لمجرد أن يحتفظ بمبدأ معين خارج عن نطاق بحثه.
ولكن إذا كان تجاهل الظواهر هو، من جهة، أمر محفوف بالخطر، فإن الاكتفاء بتسجيلها آليا لا يقل إضرارا بالعلم، من جهة أخرى، عن أشد التأملات الفكرية الخالصة شططا. وأوضح مثل لذلك هو أرسطو؛ ذلك لأنه كان على صواب في قوله إنك إن لم تظل تدفع جسما من الأجسام فإنه سيتوقف، وهذا هو بالقطع ما نلاحظه في حالة تلك الأجسام التي نستطيع دفعها، ولكنه كان على خطأ حين استنتج من ذلك أن هذا يصدق على النجوم، التي لا نستطيع نحن أن ندفعها بأنفسنا حول السماء، ومن ثم ظهر الاعتقاد بأنها لا بد متحركة على نحو آخر. كل هذا التفكير النظري غير السليم في ميدان حركة الأجسام يرتكز على مجموعة من الظواهر التي بولغ في الاكتفاء بمظهرها الخارجي. وهنا أيضا نجد أن التحليل الصحيح كامن ومختبئ، فما يسبب تباطؤ الأجسام حين لا يستمر دفعها هو تأثير العوائق، ولو أزلت هذه العوائق لظل الجسم يتحرك بذاته. وبطبيعة الحال فإننا لا نستطيع عمليا إزاحة جميع العوائق. ولكننا نستطيع الإقلال منها وملاحظة أن الحركات تستمر لمدة أطول بقدر ما يمكن تطهير مسارها. أما في الحالة الحدية التي لا يعود فيها شيء يعوق الجسم، فإنه يستمر في حركته الحرة. هذا الفرض الجديد في الديناميكا وضعه جاليليو (1564-1642م)، وهو من أعظم مؤسسي العلم الحديث. ولقد كانت هذه النظرة الجديدة إلى الديناميكا تمثل خروجا جذريا عن المذهب الأرسطي في ناحيتين: فهي أولا تفترض أن السكون ليس حالة مميزة للأجسام، بل إن الحركة طبيعية شأنها شأن السكون تماما. وثانيا فقد أثبتت أن الحركة الطبيعية، بالمعنى الخاص الذي كانت تستخدم به هذه الكلمة، ليست هي الحركة الدائرية، وإنما هي الحركة في خط مستقيم. فإذا لم يحدث تدخل من أي نوع في طريق جسم ما، فإنه يظل يتحرك بسرعة متجانسة في خط مستقيم.
ولقد كانت نفس النظرة المفتقرة إلى الروح النقدية تحول دون فهم القوانين التي تحكم سقوط الأجسام فهما سليما. فمن الأمور الواقعة فعلا أن الجسم الأكثر كثافة يسقط في الغلاف الجوي أسرع من الجسم الأخف ذي الكتلة المتساوية، ولكن في هذه الحالة بدورها ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار إعاقة الوسط الذي تسقط فيه الأجسام؛ فكلما أصبح هذا الوسط أكثر تخلخلا، اتجهت الأجسام إلى السقوط. بنفس السرعة، وفي المكان المفرغ تصبح هذه السرعة متساوية بدقة. وقد أثبتت الملاحظات المتعلقة بالأجسام الساقطة أن سرعة السقوط تزيد بمعدل اثنين وثلاثين قدما في كل ثانية؛ وعلى ذلك فما دامت السرعة غير متجانسة، وإنما تتسارع باطراد، فلا بد أن يكون هناك شيء يتدخل في الحركة الطبيعية للأجسام. هذا الشيء هو قوة الجاذبية التي تحدثها الأرض.
ولقد كانت لهذه الكشوف أهميتها في أبحاث جاليليو عن مسار المقذوفات، وهي مسألة كانت لها أهمية عسكرية بالنسبة إلى دوق تسكانيا، الذي كان يرعى جاليليو. فهنا طبق مبدأ هام للديناميكا على حالة ملفتة للنظر، فلو درسنا مسار قذيفة أمكننا أن ننظر إلى الحركة على أنها مركبة من حركتين جزئيتين منفصلتين ومستقلتين، إحداهما أفقية متجانسة، والأخرى رأسية، ومن ثم تحكمها قوانين سقوط الأجسام. أما الحركة التي تنتج بالجمع بين الاثنين فيتبين أنها تتبع مسارا على شكل قطع مكافئ. وهذه حالة بسيطة لتركيب مقادير كمية موجهة تخضع لقانون الجمع بين المتوازيات، وهنالك مقادير كمية أخرى يمكن معالجتها على هذا النحو ذاته، وهي السرعات العادية، والسرعات المعجلة، والقوى.
أما في ميدان علم الفلك فإن جاليليو أخذ بنظرية مركزية الشمس، وأضاف إليها بعض الكشوف الهامة. فقد عمل على تحسين منظار مقرب (تلسكوب) كان قد اخترع قبل ذلك بقليل في هولندا، ولاحظ به عددا من الظواهر التي قضت نهائيا على التصورات الأرسطية الباطلة للعالم السماوي؛ فقد تبين أن مجرة درب التبانة تتألف من عدد هائل من النجوم. وكان كبرنيكوس قد ذكر أن كوكب الزهرة لا بد أن تكون له أوجه، وفقا لنظريته، وقد أيد منظار جاليليو ذلك. وبالمثل كشف هذا المنظار عن أقمار المشترى، وتبين أنها تدور حول كوكبها الأصلي وفقا لقوانين كبلر. كل هذه الكشوف قلبت الأخطاء الراسخة منذ القدم رأسا على عقب، وأدت بالمدرسيين المتمسكين بحرفية العقيدة إلى إدانة المنظار المقرب الذي عكر صفو سباتهم الغارق في الأوهام. ونستطيع أن نستبق الأحداث فنقول إن مما يلفت النظر أن شيئا قريبا من هذا كل القرب قد حدث بعد ثلاثة قرون، ذلك لأن أوجست كونت قد أدان المجهر (الميكروسكوب) لأنه هدم الصورة البسيطة لقوانين الغازات. وبهذا المعنى نجد أنه كانت هنالك نقاط مشتركة كثيرة بين الوضعيين وأرسطو في تلك السطحية الهائلة التي اتسمت بها ملاحظاته في الفيزياء.
ولقد كان من المحتم أن يقع، عاجلا أو آجلا، صدام بين جاليليو ورجال الدين المحافظين، وبالفعل أدين في عام 1616م، في جلسة ملفتة لمحاكم التفتيش، غير أن سلوكه بدا بعد ذلك بعيدا عن الخضوع والامتثال بحيث سيق مرة أخرى إلى المحكمة في عام 1633م، ولكن المحكمة كانت في هذه المرة علنية. ولكي يهدئ الحملة عليه، تراجع، ووعد بأن يتخلى من الآن فصاعدا عن كل الأفكار المتعلقة بحركة الأرض. وتقول الروايات المتداولة على الألسن إنه فعل ما أمر به، ولكنه تمتم لنفسه قائلا، «ومع ذلك فإنها تتحرك.» أما تراجعه فكان بالطبع مظهرا خارجيا، غير أن محكمة التفتيش نجحت في استئصال البحث العلمي في إيطاليا لعدة قرون.
وكانت الخطوة الأخيرة في طريق وضع نظرية عامة في الديناميكا هي تلك التي خطاها إسحق نيوتن (1642-1727م). وكانت معظم المفاهيم التي تتضمنها تلك النظرية العامة قد استخدمت من قبل أو أشير إليها تلميحا بطريقة منفصلة. ولكن نيوتن كان أول من أدرك المغزى الكامل للإشارات التي توصل إليها السابقون له. وفي كتابه المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية، الذي صدر عام 1687م، عرض ثلاثة قوانين للحركة، ثم طور، على طريقة اليونانيين، تفسيرا استنباطيا للديناميكا. كان أول قانون تعبيرا تعميميا عن مبدأ جاليليو، فقال إن جميع الأجسام، إذا لم يعقها شيء تتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم؛ أي إذا شئنا الدقة، بسرعة متجانسة. أما القانون الثاني فيعرف القوة بأنها سبب الحركة غير المتجانسة، وتكون القوة متناسبة مع حاصل ضرب الكتلة في عجلة السرعة. وأما القانون الثالث فهو المبدأ القائل إن لكل فعل رد فعل مساويا له ومضادا له في الاتجاه. وفي ميدان الفلك قدم التفسير النهائي الذي كان كبرنيكوس وكبلر قد اتخذا الخطوات الأولى في سبيله، وهو القانون العام للجاذبية، الذي ينص على أن هنالك، بين أي جزأين من المادة، قوة جذب تتناسب طرديا مع حاصل ضرب كتلتهما وتتناسب عكسيا مع مربع المسافة بينهما. وعلى هذا النحو أصبح من الممكن تفسير حركة الكواكب وأقمارها ومذنباتها حتى أدق تفاصيلها المعروفة. بل إنه لما كان كل جزء من المادة يؤثر في كل جزء آخر، فإذن هذه النظرية جعلت من الممكن حساب انحرافات المدارات التي تسببها الأجسام الأخرى بدقة تامة، وهو ما لم تتمكن أية نظرية أخرى من تحقيقه من قبل. أما عن قوانين كبلر فقد أصبحت الآن مجرد نتائج لنظرية نيوتن. وهكذا بدا أن المفتاح الرياضي للكون قد اكتشف أخيرا، والصورة النهائية التي تعبر بها الآن عن هذه الحقائق هي المعادلات التفاضلية للحركة، التي خلت من أية تفاصيل دخيلة عارضة متعلقة بالواقع المحسوس الذي تنطبق عليه. وهذا الشيء نفسه يصدق على تفسير آينشتين، الذي كان أعم حتى من هذا، ومع ذلك فإن نظرية النسبية ما زالت موضوعا للجدل حتى يومنا هذا، وتكتنفها صعوبات داخلية، ولكن، لنعد إلى نيوتن، فنقول إن الأداة الرياضية للتعبير عن الديناميكا هي حساب التفاضل، الذي اكتشفه ليبنتس
Leibniz
أيضا بطريقة مستقلة. ومنذ ذلك الحين أخذت الرياضة والفيزياء تتقدمان بقفزات هائلة.
وقد شهد القرن السابع عشر كشوفا أخرى هائلة. فقد نشر بحث جلبرت
Gilbert
عن المغناطيسية عام 1650م. وفي أواسط القرن عرض هوجنز
Huygens
النظرية التموجية في الضوء. وظهرت كشوف هارفي
Harvey
عن الدورة الدموية مطبوعة في عام 1628م. ووضع روبرت بويل
R. Boyle
في كتابه «الكيميائي المدقق
The Sceptical Chemist » (1661م) حدا لإغراق الكيميائيين القدامى
Alchemist
في الأسرار والخرافات، وعاد إلى النظرية الذرية عند ديمقريطس. وتحقق تقدم كبير في صناعة الأدوات، مما أدى بدوره إلى إتاحة ملاحظات أدق، أفضت هي الأخرى إلى تطورات أفضل في النظريات. وأعقب هذا التفجر الرائع للنشاط العلمي تطور تكنولوجي مناظر، حقق السيطرة لأوروبا الغربية طوال ثلاثة قرون. وهكذا فإن الروح اليونانية قد انتعشت مرة أخرى بفضل الثورة العلمية، وكان لهذا كله انعكاساته على الفلسفة بدورها.
لقد كان الجهد الأكبر للفلاسفة، في عملية تفسير الظواهر، ينصب من قبل على جانب التفسير، أما الظواهر ذاتها فلم يكد أحد يقول عنها شيئا؛ ولهذا بالطبع أسباب وجيهة. ولكن ظهر في العصر الذي نتحدث عنه رد فعل على التركيز المفرط على الجانب المنطقي البحت للاستنباط، وأصبح الجو مهيأ للكلام عن مادة الملاحظة، التي يظل البحث التجريبي بدونها عقيما، فلم تعد الأداة القديمة (أو الأورجانون)
8
التي وضعها أرسطو، وهي القياس، صالحة لتحقيق التقدم في العلم، وبدا من الضروري قيام أداة جديدة، أو أورجانون جديد .
كان أول من عالج هذه الموضوعات صراحة هو فرانسس بيكن
Francis Bacon (1561-1626م) وقد كان بيكن ابنا لحامل الأختام الملكية، وتلقى تعليما قانونيا، ونشأ في بيئة كان من الطبيعي أن تؤدي به إلى العمل في السلك الحكومي، وقد دخل البرلمان وهو في الثالثة والعشرين، ثم أصبح مستشارا للإيرل إسكس
Essex . وعندما أدين إسكس بتهمة الخيانة، انحاز بيكن إلى صف الملكة إليزابيث، على الرغم من أنه لم يفلح أبدا في اكتساب ثقتها الكاملة. ولكن عندما خلفها جيمس الأول على العرش في عام 1603م، بدت له الأمور مبشرة بمزيد من الأمل. وبالفعل ارتفعت مكانة بيكن حتى شغل في عام 1617م منصب أبيه، وأصبح في العام التالي مستشار الملك، ومنح لقب بارون فيرولام
Verulam . ولكن أعداءه تآمروا في عام 1620م للقضاء على مستقبله السياسي، فاتهموه بأنه تلقى رشاوى في قضايا المحكمة الملكية. ولم يعترض بيكن على الاتهام، بل اعترف به، ولكنه دافع عن نفسه بالقول إن الأحكام التي أصدرها لم تتأثر أبدا بالهدايا. وكان الحكم الذي أصدره ضده اللوردات هو تغريمه مبلغ 45 ألف جنيه، وسجنه في برج لندن طوال الوقت الذي يشاؤه الملك، وحرمانه في المستقبل من منصبه السياسي ومقعده في البرلمان. وقد تم تنفيذ الجزء الأول من هذا الحكم القاسي، أما الجزء الثاني فقد اقتصر على احتجازه لمدة أربعة أيام. وأما إبعاده عن العمل السياسي فقد نفذ بالفعل. ومنذ ذلك الحين عاش معتكفا ومتفرغا للكتابة.
كان بيكن، شأنه شأن أقطاب عصر النهضة، متعدد الاهتمامات، فكتب في القانون والتاريخ، واشتهر بمقالاته
Essays ، وهي شكل أدبي كان مونتني
Montaigne (1533-1592م) قد ابتكره في فرنسا منذ وقت قريب. وأشهر كتب بيكن الفلسفية هو «تقدم المعرفة»
The Advancement of Learning ، الذي نشر في عام 1605م، وكتب بالإنجليزية، وهو كتاب يمهد فيه بيكن الأرض لأبحاثه التالية، وهدف الكتاب، كما يوحي عنوانه، هو توسيع نطاق المعرفة وزيادة سيطرة الإنسان على ظروفه وبيئته. أما في المسائل الدينية فقد اتخذ موقفا شبيها بموقف أوكام، فدعا إلى أن يهتم الإيمان والعقل كل بميدانه الخاص دون أن يتعدى أحدهما على حدود الآخر ، والوظيفة الوحيدة التي يعزوها إلى العقل، في الميدان الديني هي استخلاص النتائج من المبادئ المقبولة بالإيمان.
أما بالنسبة إلى السعي من أجل المعرفة العلمية، بمعناها الصحيح، فإن ما أكده بيكن هو الحاجة إلى منهج جديد أو أداة جديدة للكشف، يحل محل نظرية القياس التي أصبح إفلاسها واضحا للعيان، وقد وجد بيكن هذا المنهج في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء. والواقع أن فكرة الاستقراء لم تكن في ذاتها جديدة فقد استخدمها أرسطو من قبل، ولكن طريقة استخدام الاستقراء حتى ذلك الحين كانت هي التعداد البسيط للأمثلة، أما بيكن فرأى أنه اهتدى إلى طريقة أكثر فعالية، تتمثل في وضع قوائم للظواهر التي تشترك في صفة معينة هي موضوع البحث، وكذلك قوائم بالظواهر التي تفتقر إلى هذه الصفة، وقوائم بالظواهر التي تملك هذه الصفة بدرجات متفاوتة. وعلى هذا النحو كان يأمل في الكشف عن السمة المميزة لصفة ما. فإذا أمكن الوصول بطريقة القوائم هذه إلى الكمال والشمول، فعندئذ نكون قد وصلنا حتما إلى نهاية بحثنا. أما من الناحية العملية فعلينا أن نكتفي بقائمة جزئية ثم نغامر بتخمين ما على أساسها.
هذا، باختصار شديد، هو لب العرض الذي قدمه بيكن للمنهج العلمي، الذي كان يرى فيه أداة جديدة للكشف. ويعبر عنوان الدراسة التي عرض فيها هذه النظرية عن هذا الرأي؛ إذ كان القصد من «الأورجانون الجديد»، الذي نشر عام 1620م، أن يحل محل أورجانون أرسطو. غير أن هذا المنهج من حيث هو طريقة عملية، لم يلق قبولا لدى العلماء، أما من حيث هو نظرية في المنهج، فقد كان مخطئا، وإن كان تأكيده لأهمية الملاحظة قد جعل منه دواء مفيدا يشفي من النزعة العقلية التقليدية المتطرفة. والواقع أن الأداة الجديدة لا تفلح بالفعل في تجاوز أرسطو على الإطلاق؛ فهي تعتمد على التصنيف وحده، وعلى الفكرة القائلة إن مراعاة التدقيق اللازم كفيلة بإيجاد الفئة أو المكان المناسب لكل شيء. وتبعا لهذا الرأي، فإننا ما إن نهتدي إلى المكان الصحيح، ومعه الاسم الملائم، لأية كيفية أو صفة محددة، حتى نكون قد سيطرنا عليها. على أن هذا الوصف يصلح للانطباق على البحث الإحصائي. أما فيما يتعلق بصياغة الفروض فقد كان بيكن على خطأ في اعتقاده أنها مبنية على الاستقراء، الذي تكون مهمته الحقيقية في الواقع، هي اختبار الفروض. بل إن مجرد القيام بسلسلة من الملاحظات يقتضي أن يكون لدى المرء من قبل فرض أولى. أما اكتشاف الفروض فلا يمكن أن توضع بشأنه مجموعة من القواعد العامة. والواقع أن بيكن كان مخطئا كل الخطأ عندما اعتقد بإمكان وجود أداة للكشف، يستطيع المرء عن طريق تطبيقها آليا أن يميط اللثام عن أسرار جديدة مذهلة للطبيعة. ذلك لأن وضع الفروض لا يتم بهذه الطريقة على الإطلاق.
9
وفضلا عن ذلك فإن رفض بيكن للقياس قد أدى به إلى الإقلال من أهمية وظيفة الاستنباط في البحث العلمي. ومن الجدير بالملاحظة، بوجه خاص، أنه لم يبد تقديرا كبيرا للمناهج الرياضية التي كانت قد بدأت تتطور في عصره. ذلك لأن دور الاستقراء في اختبار الفروض ما هو إلا جانب بسيط من جوانب المنهج، وبغير الاستنباط الرياضي الذي يقودنا من الفروض إلى موقف عيني قابل للاختبار، لا تتوافر لدينا معرفة بما يتعين علينا اختباره.
أما العرض الذي قدمه بيكن لمختلف ضروب الخطة التي يتعرض لها الإنسان فهو من أكثر أجزاء فلسفته تشويقا. فنحن، في رأيه، معرضون للوقوع في أربعة أنواع من الخطأ العقلي، أطلق عليها اسم «الأصنام أو الأوهام»
Idols . فهناك أولا أوهام القبيلة (أو النوع البشري) التي نقع فيها لمجرد كوننا بشرا، ومن أمثلتها تحكم أمانينا في اتجاه تفكيرنا، وبوجه خاص توقعنا أن نجد في الظواهر الطبيعية نظاما يزيد على ما هو موجود فعلا. وهناك أوهام الكهف، وهي نقاط الضعف الفردية في كل شخص، وهذه لا حصر لها ولا عدد. أما «أوهام السوق»، وهي الأخطاء الناجمة عن ميل الذهن إلى الانبهار بالألفاظ، وهو خطأ يتفشى في الفلسفة بوجه خاص. وأخيرا فإن «أوهام المسرح» هي تلك الأخطاء التي تنشأ عن المذاهب والمدارس الفكرية، والمثل المفضل لدي بيكن في هذا الصدد هو المذهب الأرسطي.
إن بيكن، على الرغم من كل ما أبداه من اهتمام بالبحث العلمي، قد فاتته جميع التطورات الأكثر أهمية في عصره تقريبا. فهو لم يعرف أعمال كبلر، وعلى الرغم من أنه كان يتلقى العلاج على يد هارفي، فإنه لم يعرف بأبحاث طبيبه عن الدورة الدموية.
والأهم من بيكن، بالنسبة إلى المذهب التجريبي، وكذلك بالنسبة إلى الفلسفة عامة، هو توماس هبز
Thomas Hobbes (1588-1679م) فعلى حين أن هبز ينتمي في جوانب معينة إلى التراث التجريبي، فقد كان في الوقت ذاته يقدر المنهج الرياضي، وهو ما كان يربط بينه وبين جاليليو وديكارت. وهكذا فإن وعيه بوظيفة الاستنباط في البحث العلمي جعل تصوره للمنهج العلمي أنضج بكثير من أي تصور توصل إليه بيكن.
لم تكن حياة هبز الأولى مع أسرته تبشر بخير كثير، فقد كان أبوه قسا شرسا متعنتا اختفى في لندن في وقت كان فيه هبز ما يزال طفلا.
ومن حسن حظه أن عمه كان إنسانا لديه شعور بالمسئولية، فأخذ على عاتقه تربية ابن أخيه الصغير، وخاصة لأنه لم يكن قد أنجب أطفالا، وفي سن الرابعة عشرة توجه هبز إلى أكسفورد حيث درس الآداب والفلسفات الكلاسيكية، وكان المنطق المدرسي وميتافيزيقا أرسطو جزءا من برنامج الدراسة، وقد شعر هبز بكراهية شديدة لهذين الموضوعين، ظلت ملازمة له طوال حياته. وفي عام 1608م أصبح معلما خاصا لوليم كافندش
W. Cavendish
ابن إيرل ديفونشير
Devonshire ، وبعد سنتين رافق تلميذه في الرحلة الكبرى عبر القارة الأوروبية، التي كانت شيئا تقليديا في ذلك الحين. وعندما ورث تلميذه اللقب، أصبح راعيا لهبز، وعن طريقه تعرف هبز إلى كثير من الشخصيات البارزة في عصره. وعندما مات راعيه في عام 1628م، توجه هبز إلى باريس لبعض الوقت، ثم عاد ليصبح معلما خاصا لابن تلميذه السابق. ومرة أخرى رحل مع الإيرل الشاب في عام 1634م لزيارة فرنسا وإيطاليا، وفي باريس قابل مرسين
Mersenne
وحلقة أصدقائه، وفي عام 1636م زار جاليليو في فلورنسة. وعاد إلى بلاده في عام 1637 وبدأ يكتب صياغة أولى لنظريته السياسية . غير أن آراءه عن السيادة لم تعجب أيا من الطرفين في الصراع الذي كان قد بدأ ينشب بين الملكيين والجمهوريين. ولما كان ميالا بطبيعته إلى الحذر فقد رحل إلى فرنسا حيث عاش من 1645م إلى 1651م.
وخلال سنواته هذه في باريس ارتبط مرة أخرى بحلقة مرسين وقابل ديكارت. ولما كان قد ارتبط بعلاقة ودية في البداية مع اللاجئين الملكيين الهاربين من إنجلترا، وضمنهم الأمير الذي سيصبح فيما بعد الملك تشارلز الثاني، فإنه أغضب الجميع عندما نشر كتاب «التنين
Leviathan » عام 1651م. ذلك لأن أصدقاءه الملكيين لم تعجبهم طريقته العلمية اللاشخصية في معالجة مشكلة الولاء، على حين أن رجال الكنيسة الفرنسية أخذوا عليه خصومته للكاثوليكية. لذلك استقر رأيه على الفرار مرة أخرى، ولكنه سار هذه المرة في الاتجاه المضاد وعاد إلى إنجلترا، حيث استسلم لكرومويل وانسحب من الحياة السياسية. وفي هذه المرحلة من حياة هبز دخل في معركة فكرية عنيفة كان خصمه فيها هو «ووليس
Wallis » من أكسفورد. ولما كان إعجاب هبز بالرياضيات يفوق قدراته في هذا العلم، فإن خصمه الذي كان أستاذا، انتصر بسهولة في الجدل الناشب بينهما. وقد استمرت خلافات هبز مع علماء الرياضة حتى نهاية حياته.
وبعد عودة الملكية استعاد هبز الحظوة لدى الملك، بل إنه حصل على معاش مقداره مائة جنيه في السنة، وهي هبة كانت كريمة وإن كان دفعها له قد ظل أمرا غير مضمون. ولكن عندما تفشت الخرافات بين الشعب على إثر وباء الطاعون الذي فتك بالناس وحريق لندن الكبير، أجرى البرلمان تحقيقا حول موضوع الإلحاد، فأصبح كتاب التنين، لهبز هدفا خاصا للنقد الجارح. ومنذ ذلك الحين لم يستطع هبز أن ينشر شيئا عن أية مسألة اجتماعية أو سياسية شائكة إلا في الخارج، حيث كان يحظى في أخريات سني حياته الطويلة بسمعة تفوق سمعته في بلاده.
ولقد وضع هبز في الفلسفة أساس عناصر كثيرة أصبحت تتميز بها المدرسة التجريبية الإنجليزية فيما بعد. وكان أهم أعماله هو «التنين»، وفيه طبق آراءه الفلسفية العامة من أجل وضع نظرية في الحكم والسيادة. لكن الكتاب، قبل أن ينتقل إلى بحث النظرية الاجتماعية، يتضمن على سبيل التقديم موجزا وافيا لموقفه الفلسفي العام. ففي الجزء الأول نجد تفسيرا للإنسان ولعلم النفس البشري على أسس ميكانيكية دقيقة، مصحوبا ببعض التأملات الفلسفية عن اللغة ونظرية المعرفة. وهو يرى، مثل جاليليو وديكارت، أن أي شيء يدخل في نطاق تجربتنا ينتج عن حركة ميكانيكية في الأجسام الخارجية، على حين أن المرئيات والأصوات والروائح وما شابهها لا توجد في الأشياء، بل هي ذاتية فينا. وهو يذكر عرضا، في سياق هذا الموضوع، أن الجامعات ما زالت تدرس نظرية فجة في الانبعاثات
emanations
مبنية على آراء أرسطو، ثم يضيف بخبث أنه لا يرفض الجامعات بوجه عام، ولكنه لما كان سيتحدث فيما بعد عن موقعها في الدولة، فلا بد له أن يدلنا على أهم عيوبها التي يتعين إصلاحها والتي من بينها الإكثار من الكلام الفارغ. ويقوم رأيه في علم النفس على فكرة التداعي أو الترابط، كما يتخذ في موضوع اللغة موقفا اسميا تام الاتساق. وهو يرى أن الهندسة هي العلم الوحيد، ووظيفة العقل لها نفس طابع البرهان في الهندسة فعلينا أن نبدأ بالتعريفات، ونحرص في صياغتنا لها على ألا نستخدم مفاهيم مناقضة لذاتها. وبهذا المعنى يكون العقل شيئا يكتسب بالمران، أي أنه ليس فطريا كما اعتقد ديكارت. ويلي ذلك عرض للانفعالات على أساس فكرة الحركة.
ومن جهة أخرى يرى هبز أن الناس يكونون في حالتهم الطبيعية متساوين، ويسعى كل منهم إلى المحافظة على ذاته على حساب الآخرين، بحيث تقوم بينهم حالة حرب للكل ضد الكل. ولكي يتخلص الناس من هذا الكابوس المزعج، يتجمعون سويا ويفوضون قدراتهم الخاصة لسلطة مركزية. وهذا هو موضوع الجزء الثاني من الكتاب. فلما كان الناس عقلاء وميالين إلى التنافس، فإنهم يصلون إلى اتفاق أو ميثاق من صنعهم، يتفقون فيه على الخضوع لسلطة معينة من اختيارهم. وبمجرد قيام مثل هذا النظام، لا يكون لأحد الحق في التمرد، ما دام المحكومون، لا الحاكمون، هم الملزمون بالاتفاق. ولا يحق للناس أن يفسخوا الاتفاق إلا إذا عجز الحكم عن توفير الحماية التي اختير أصلا من أجلها. ويسمى المجتمع الذي يرتكز على عقد من هذا النوع باسم الدولة القائمة على مصلحة مشتركة
Commonwealth ، وهي أشبه برجل عملاق مركب من رجال عاديين، أي «بالتنين». ولما كانت هذه الدولة أضخم وأقوى من الإنسان، فإنها أشبه بالإله، وإن كانت تشترك مع الناس العاديين في أنها فانية، وتوصف السلطة المركزية بأنها ذات سيادة
Sovereign ، وهذه السيادة تعني سلطة مطلقة في كافة جوانب الحياة. أما الجزء الثالث من الكتاب فيقدم إيضاحا للسبب الذي يتعين معه عدم وجود كنيسة عالمية. ولقد كان هبز «إراستيا».
10
بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، ومن ثم رأى من الضروري أن تكون الكنيسة مؤسسة قومية خاضعة للسلطات المدنية. وفي الجزء الرابع يوجه انتقاده إلى كنيسة روما لعدم توافر شرط الخضوع هذا فيها. لقد تأثرت نظرية هبز بالقلاقل السياسية التي انتشرت في عصره. وكان أكثر ما يخشاه وينفر منه هو الانشقاق الداخلي؛ ولذا كانت آراؤه تنشد السلام بأي ثمن. أما فكرة القيود والضوابط، كما عرضها لوك فيما بعد، فكانت غريبة عن أسلوبه في التفكير. على أن طريقة معالجته للمسائل السياسية، رغم تحررها من الخرافة والنزعة الصوفية، كانت تميل إلى الإفراط في تبسيط المشكلات. ولم يكن تصوره للدولة كافيا لمواجهة الموقف السياسي الذي عاش فيه.
لقد رأينا أن عصر النهضة قد شجع الباحثين على الاهتمام المتزايد بالرياضيات، وهناك مسألة رئيسية أخرى كانت تشغل مفكري ما بعد عصر النهضة، هي أهمية المنهج، وهي مسألة لاحظناها من قبل في حالة بيكن وهبز. ولقد امتزج هذان العاملان عند رينيه ديكارت
Rene Descartes (1596-1650م) ليؤلفا مذهبا فلسفيا جديدا على طريقة القدماء في تكوين مذاهب شاملة. ومن هنا كان يعد، عن حق، مؤسس الفلسفة الحديثة.
كانت أسرة ديكارت تنتمي إلى الشريحة الدنيا من طبقة النبلاء؛ إذ كان أبوه مستشارا لبرلمان مقاطعة بريتاني. وقد تتلمذ منذ عام 1604م حتى 1612م في مدرسة لا فليش
La Fleche
اليسوعية، التي قدمت إليه تعليما كلاسيكيا جيدا، فضلا عن أنها زودته بأساس متين لمعرفة العلوم الرياضية كما كانت تعلم في ذلك الحين. وبعد أن أنهى دراسته فيها، توجه إلى باريس، وفي العام التالي بدأ دراسة القانون في بواتييه
، حيث تخرج عام 1616م. غير أن اهتماماته كانت مركزة على ميدان آخر. ففي عام 1618م سافر إلى هولندا للالتحاق بالجيش، مما أتاح له وقتا طويلا لدراسة الرياضيات. وفي عام 1619م بدأت حرب الثلاثين عاما بداية جادة، ونظرا إلى حرص ديكارت على أن يشاهد العالم فقد انضم إلى جيش بافاريا. وفي شتاء ذلك العام اهتدى إلى الأفكار الرئيسية التي استلهمتها فلسفته، وذلك من خلال تجربة وصفها لنا في كتاب «المقال في المنهج». ففي يوم أبرد من المعتاد، لجأ ديكارت إلى كوخ، وجلس بقرب المدفأة الحجرية، وعندما سرى الدفء في أوصاله، بدأ يفكر، وما إن حلت نهاية ذلك اليوم حتى كانت الخطوط العامة لفلسفته كلها قد تكشفت له بوضوح. وقد ظل ديكارت ملتحقا بالجيش حتى عام 1622م، ثم عاد إلى باريس، وفي العام التالي زار إيطاليا، حيث بقي بها طوال عامين. وحين عاد إلى فرنسا وجد أن الحياة في موطنه تلهيه عن أمور كثيرة. ولما كان بطبيعته انعزاليا إلى حد ما، ونظرا إلى حرصه على العمل في جو لا يعكر صفوه شيء، فقد رحل إلى هولندا في عام 1628م، وهناك تمكن، بعد أن باع ممتلكاته التي لم تكن واسعة، من أن يعيش حياة مستقلة متمتعا بقسط معقول من الراحة. وطوال الأعوام الإحدى والعشرين التالية بقي في هولندا باستثناء ثلاث زيارات قصيرة لباريس. وبالتدريج بدأ يضع تفاصيل فلسفته، على الأسس التي كان قد اهتدى إليها في وقت اكتشافه لمنهجه. ولكنه امتنع عن نشر كتاب هام في الفيزياء، كان قد أخذ فيه بالنظام الفلكي الكبرنيكي، عندما ترامت إليه أنباء محكمة جاليليو في عام 1633م. ولقد كان أشد ما يحرص عليه هو ألا يتورط في خلافات ومجادلات؛ إذ بدا له أن في ذلك مضيعة للوقت الثمين. وفضلا عن ذلك فإن كل الظواهر تدل على أنه كان كاثوليكيا مخلصا، وإن كنا لن نعلم أبدا مدى نقاء معتقداته في هذا الصدد. ولذلك اكتفى ديكارت بنشر مجموعة من ثلاثة أجزاء عن البصريات، والأرصاد الجوية، والهندسة. أما «المقال في المنهج»، الذي ظهر عام 1637م، فكان القصد منه هو أن يكون مقدمة لهذه الدراسات الثلاث. ولقد كان أشهر هذه الدراسات هي دراسته في الهندسة حيث عرض مبادئ التحليل الهندسي وطبقها. وفي عام 1641م نشر كتاب «التأملات»، وأعقبه في عام 1644م بكتاب «مبادئ الفلسفة»، الذي أهداه للأميرة اليزابيث، ابنة أمير بافاريا. وفي عام 1649م كتب دراسة عن انفعالات النفس أهديت إلى الأميرة نفسها. وفي هذا العام نفسه أبدت الملكة كريستينا، ملكة السويد، اهتماما بأعمال ديكارت، وتمكنت في النهاية من إقناعه بالرحيل إلى ستوكهلم. ولقد كانت هذه الملكة الاسكندنافية شخصية تتجسد فيها روح عصر النهضة بحق، فقد دفعتها قوة إرادتها وعنادها إلى الإصرار على أن يعلمها ديكارت الفلسفة في الساعة الخامسة صباحا من كل يوم. وهكذا وجد ديكارت نفسه ملزما بواجب غير فلسفي هو أن يستيقظ في ظلمة ليل الشتاء السويدي، وكان ذلك أكثر مما تحتمله صحته، فداهمه المرض ومات في فبراير 1650م.
لقد كان منهج ديكارت هو، في نهاية المطاف، حصيلة اهتمامه بالرياضيات، وكان ديكارت قد أثبت من قبل، في ميدان الفلسفة، مدي اتساع نطاق النتائج التي يمكن أن يوصل إليها هذا المنهج؛ إذ كان من الممكن، باستخدام المنهج التحليلي، تقديم وصف لخصائص فئات كاملة من المنحنيات عن طريق معادلات بسيطة. وكان ديكارت يؤمن بأن المنهج، الذي أحرز كل هذا النجاح في ميدان الرياضيات، يمكن أن يمتد إلى ميادين أخرى، وبذلك يتيح للباحث أن يصل إلى نوع اليقين نفسه الذي يتوصل إليه في الرياضيات. وكان الهدف من «المقال في المنهج» هو بيان القواعد والإرشادات التي ينبغي أن نتبعها كيما نستخدم ملكاتنا العقلية على وجه أشمل. أما بالنسبة إلى العقل ذاته، فقد كان ديكارت يرى أن الناس جميعا متساوون فيه، وكل ما بيننا من اختلافات هو أن البعض منا يستعملونه أفضل من البعض الآخر. غير أن المنهج شيء نكتسبه بالممارسة، وهي نقطة يعترف بها ديكارت بصورة ضمنية، لأنه لا يريد أن يفرض علينا منهجا، بل يهدف إلى أن يبين لنا كيف استخدم هو ذاته عقله بنجاح. ويتخذ العرض الذي يقدمه ديكارت في هذا الكتاب طابع السيرة الذاتية؛ إذ يروي لنا كيف أن المؤلف لم يقتنع في شبابه بذلك الكلام الغامض المفتقر إلى اليقين، الذي يجده المرء في كل المجالات. أما في ميدان الفلسفة فما من رأي ممجوج إلا واعتنقه شخص ما. ولقد أعجبته الرياضيات بسبب ما تتسم به استنتاجاتها من يقين، غير أنه لم يكن قد أدرك بعد كيف تستخدم على النحو الصحيح. وهكذا تخلى عن التعلم من الكتب وبدأ أسفاره، ولكن تبين له أن عادات الناس تختلف فيما بينها بقدر ما تختلف آراء الفلاسفة. وفي النهاية، استقر عزمه على أن ينظر في داخله عله يهتدي إلى الحقيقة، ومن هنا حدثت واقعة تفكيره بقرب المدفأة، التي تحدثنا عنها من قبل.
وإذ لاحظ ديكارت أن العمل الذي ينجزه كله شخص واحد هو وحده الذي يمكن أن يكون مرضيا على أي نحو، فإنه قرر أن يرفض كل شيء سبق له أن تعلمه وأرغم على أن يسلم به تسليما. وهكذا فإن المنطق والهندسة والجبر هي وحدها المعارف التي تظل صامدة وسط هذا الرفض الشامل، ومن هذه المعارف اهتدى إلى أربع قواعد؛ الأولى هي ألا نقبل أي شيء سوى الأفكار الواضحة والمتميزة. والثانية هي أن نقسم كل مشكلة إلى أي عدد من الأجزاء يلزم لحلها. والثالثة هي أن نسير في تفكيرنا من البسيط إلى المركب، مفترضين وجود ترتيب حيث لا يكون هناك ترتيب بالفعل. أما القاعدة الرابعة فتدعونا إلى أن نقوم دائما بمراجعات دقيقة كيما نتأكد من أننا لم نغفل شيئا. هذا هو المنهج الذي استخدمه ديكارت في تطبيق الجبر على المشكلات الهندسية، مما أتاح له أن يخترع ما نطلق عليه اسم الهندسة التحليلية. أما تطبيق هذا المنهج على الفلسفة فقد رأى ديكارت أن من الواجب إرجاءه حتى يتقدم به العمر قليلا . وفيما يتعلق بالأخلاق فإننا نواجه مأزقا؛ ذلك لأنها هي الأخيرة في ترتيب العلوم، ومع ذلك يتعين علينا في حياتنا أن نتخذ قرارات عاجلة، لذلك وضع ديكارت لنفسه قانونا مؤقتا للسلوك يوفر له، بالمعيار العملي (البرجماتي)، أفضل ظروف ممكنة للحياة. ومن هنا قرر أن يمتثل لقوانين بلاده وعاداتها، وأن يظل مؤمنا بعقيدته، وأن يسلك بتصميم وإصرار بمجرد أن يستقر ذهنه على أن يسير في اتجاه معين، وأن يحاول أخيرا أن يتحكم في نفسه بدلا من أن يغير قدره، ويكيف رغباته وفقا لنظام الأشياء لا العكس. ومنذ ذلك الحين قرر ديكارت أن ينذر نفسه للفلسفة.
ويؤدي منهج ديكارت، حين يطبق على الميتافيزيقا، إلى الشك المنهجي. شهادة الحواس غير مؤكدة ولا بد من الشك فيها. بل إن الرياضيات ذاتها، رغم كونها أقل تعرضا للشك، ينبغي الارتياب فيها، لأن من الجائز أن قوة ذات قدرة هائلة تقودنا عمدا في طريق الضلال. وبعد هذا كله يظل الشيء الوحيد الذي يتحتم على المتشكك أن يعترف به هو تشككه ذاته. وهذا هو أساس صيغة ديكارت الأساسية: أنا أفكر إذن فأنا موجود. ففي هذه القضية وجد ديكارت نقطة البداية الواضحة والمتميزة للميتافيزيقا. وهكذا استنتج أنه كائن مفكر، مستقل تماما عن العناصر الطبيعية، ومن ثم مستقل عن الجسم أيضا، ثم انتقل ديكارت إلى وجود الله، الذي قدم له برهانا ينطوي في جوهره على تكرار للدليل الأنطولوجي. ولما كان الله صادقا بالضرورة فلا يمكن أن يخدعنا بشأن أفكارنا الواضحة والمتميزة. فنظرا إلى أن لدينا فكرة من هذا النوع عن الأجسام، أو عن الامتداد، حسب تعبيره، فلا بد أن تكون الأجسام موجودة. ويلي ذلك عرض عام للمسائل الفيزيائية بالترتيب الذي كان مفروضا أن تعالج به هذه المسائل في دراسته غير المنشورة. فهو يفسر كل شيء من خلال الامتداد والحركة. وهو يطبق ذلك حتى على علم الأحياء. ويقدم ديكارت تفسيرا للدورة الدموية على أساس أنها ترجع إلى قيام القلب بوظيفة جهاز التسخين، بحيث يجعل الدم الذي يدخله يتمدد، وهو تفسير يختلف بالطبع عن ملاحظات هارفي، مما أثار جدلا شيقا بين الرجلين. ولكن لنعد إلى «المقال في المنهج»، فنلاحظ أن هذه النظرية الميكانيكية تؤدي إلى الرأي القائل إن الحيوانات كائنات آلية، لا روح فيها، وهي نتيجة يفترض أننا نستدل عليها أيضا من كون الحيوانات لا تتكلم ومن ثم فلا بد أنها تفتقر إلى العقل. ويؤدي ذلك إلى دعم الرأي القائل إن نفس الإنسان مستقلة عن جسده، ويقودنا إلى استنتاج خلودها، ما دامت لا توجد قوى أخرى تهدمها. وأخيرا يشير المقال، تلميحا إلى محكمة جاليليو، ويناقش مسألة النشر أو عدم النشر، وفي النهاية يكون الحل الوسط هو نشر المقال في المنهج، والدراسات الثلاث التي يكون المقال مدخلا إليها. هذه باختصار شديد، هي رسالة «المقال»، الذي يقدم صورة موجزة لمبادئ الفلسفة الديكارتية.
وأهم ما في هذا المذهب هو طريقة الشك المنهجي. فهذه الطريقة، من حيث هي أسلوب إجرائي، تؤدي إلى الشك الشامل، كما حدث فيما بعد في حالة هيوم. ولكن ما ينقذ ديكارت من النتائج الشكاكة هو أفكاره الواضحة والمتميزة، التي يجدها في نشاطه الذهني الخاص. فلما كانت الأفكار العامة، من أمثال الامتداد والحركة، مستقلة عن الحواس، فإنها في نظر ديكارت فطرية، ومثل هذه الصفات الأولية هي التي تولد معرفة بالمعنى الأصيل، أما الإدراك الحسي فينصب على الصفات الثانوية، كاللون والطعم والملمس وما شابه ذلك. غير أن هذه الصفات لا توجد حقيقة في الأشياء. وفي كتاب التأملات يقدم ديكارت المثل المشهور لقطعة الشمع ومظاهرها المتغيرة، لكي يضرب مثلا يوضح هذه النقطة. أما الشيء الذي يظل على ما هو عليه طوال الوقت فهو الامتداد، وهو فكرة فطرية يعرفها العقل.
وهكذا فإن الفلسفة الديكارتية تؤكد الأفكار بوصفها نقاط البداية التي لا يتطرق إليها شك. وقد كان لذلك تأثيره على الفلسفة الأوروبية منذ ذلك الحين، سواء في اتجاهها العقلي أم في اتجاهها التجريبي. ويظل هذا الرأي صحيحا حتى على الرغم من أن الصيغة «أنا أفكر إذن فأنا موجود.» التي ارتكز عليها هذا التطور، ليست في ذاتها صحيحة كل الصحة. ذلك لأن هذه العبارة لا تكون سليمة إلا إذا اعترفنا بمسلمة مضمرة، هي أن الفكر عملية واعية بذاتها، ولو لم نفعل ذلك، لتساوى مع هذه القضية أن نقول: «أنا أمشي، إذن فأنا موجود.» لأنني إذا كنت أمشي فمن الصحيح بالفعل أنني لا بد أن أكون موجودا، وقد أثار هذا الاعتراض هبز وجاسندي
Gassendi ، ولكن ينبغي أن نلاحظ بالطبع أنني قد أعتقد أنني أمشي عندما لا أكون في الواقع ماشيا، على حين أنني لا يمكن أن أعتقد أنني أفكر حين لا أكون مفكرا بالفعل. أي أن هذه الإحالة إلى الذات، التي يفرض حدوثها في عملية التفكير، هي التي تضفي على صيغة ديكارت طابعها الذي يبدو بمنأى عن الشك، فإذا أزلت عنها طابع الوعي الذاتي، كما فعل هيوم فيما بعد، انهار المبدأ من أساسه. ومع ذلك يظل من الصحيح أن تجارب المرء الذهنية الخاصة تنطوي على يقين خاص لا تشاركها فيه الأحداث الأخرى.
ولقد أدى تأكيد الفلسفة الديكارتية لتلك الثنائية القديمة العهد، ثنائية العقل والمادة، إلى إبراز مشكلة العلاقة بين الذهن والجسم، وهي المشكلة التي يتعين على أية فلسفة كهذه أن تواجهها. ذلك لأنه يبدو أن العالمين المادي والذهني يسير كل منهما في مجراه الخاص، المكتفي بذاته، الذي تحكمه مبادئه الخاصة، ووفقا لهذا الرأي يكون من المستحيل بوجه خاص القول بأن عمليات ذهنية أو نفسية كالإرادة يمكن أن تؤثر على العالم المادي على أي نحو. وقد وضع ديكارت ذاته استثناء لهذه القاعدة، حين اعترف بقدرة النفس البشرية على تغيير حركة الأرواح الحيوية من حيث الاتجاه، ولكن ليس من حيث الكم. غير أن هذا المهرب المصطنع لم يكن يتمشى مع مذهبه، فضلا عن أنه لا يتفق وقوانين الحركة؛ ومن هنا فقد استغني عنه أتباع ديكارت ورأوا أن الذهن لا يستطيع تحريك الجسم. ولكي نفسر العلاقة بينهما ينبغي أن نفترض أن العالم قد رتب مقدما بحيث إنه كلما حدثت حركة جسمية معينة، يطرأ في الميدان الذهني، وفي الوقت المناسب، ما نعتبره الحدث الذهني الصحيح المصاحب لهذه الحركة، دون أن يكون هناك أي ارتباط مباشر. وقد قال بهذا الرأي خلفاء ديكارت، وخاصة جولينكس
Geulinex (1624-1669م) ومالبرانش
Malebranche (1638-1715م). ويطلق على هذه النظرية اسم «مذهب المناسبة
Occasionalism »، لأنه يرى أن الله يرتب الكون بحيث تسير سلاسل الأحداث المادية والذهنية في مساراتها المتوازية على نحو يجعل الحادث في إحدى السلسلتين يقع دائما في المناسبة الصحيحة لوقوع حدث في السلسلة الأخرى. وقد ابتدع جولينكس تشبيه الساعتين لكي يضرب به مثلا يوضح هذه النظرية. فإذا كانت لدينا ساعتان تدل كل منهما على الوقت بدقة كاملة، ففي وسعنا أن ننظر إلى إحداهما عندما يشير العقرب إلى اكتمال الساعة، بينما نسمع دقات الساعة الأخرى. وقد يؤدي بنا هذا إلى الاعتقاد بأن الساعة الأولى هي التي جعلت الثانية تدق. والواقع أن الذهن والجسم أشبه بهاتين الساعتين اللتين ضبطهما الله بحيث تسيران كل في مجراها المستقل والموازي لمجرى الأخرى. وبالطبع فإن مذهب المناسبة، يثير بعض الصعوبات المحرجة. فكما إننا نستطيع، من أجل معرفة الوقت المضبوط، أن نستغني عن إحدى الساعتين، فكذلك يبدو من الممكن أن نستدل على الأحداث الذهنية بالإشارة إلى الأحداث المادية الموازية لها فحسب.
والواقع أن مبدأ المناسبة، ذاته هو الذي يضمن إمكان نجاح مثل هذه المهمة. وهكذا يمكننا أن نقدم نظرية كاملة عن الأحوال الذهنية من خلال الأحداث المادية وحدها. وهي محاولة قام بها بالفعل الفلاسفة الماديون في القرن الثامن عشر، وتوسع فيها علم النفس السلوكي في القرن العشرين. وهكذا فإن مذهب المناسبة، بدلا من أن يعمل على ضمان استقلال النفس عن الجسم، يؤدي في نهاية الأمر إلى جعل النفس كيانا زائدا يمكن الاستغناء عنه، أو قد يؤدي، بعكس ذلك، إلى جعل الجسم كيانا غير ضروري في كل الأحوال. وأيا كان الرأي الذي يفضله المرء، فإن هذا لا يتفق والمبادئ المسيحية، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تجد مؤلفات ديكارت مكانا مضمونا على قائمة الممنوعات لدى الكنيسة. ومن أسباب ذلك أن المذهب الديكارتي لا يمكنه تفسير الإرادة الحرة بطريقة متسقة. والواقع أن النزعة الحتمية الصارمة التي يتسم بها التفسير الديكارتي للعالم المادي، الفيزيائي والبيولوجي، قد أسهمت بدور كبير في تشجيع المذهب المادي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وخاصة عندما ننظر إلى هذه النزعة في ارتباطها بفيزياء نيوتن.
إن الثنائية الديكارتية هي في نهاية المطاف حصيلة نظرة تقليدية تماما إلى مشكلة الجوهر، بالمعنى الفني الذي استخدم به الفلاسفة المدرسيون هذا اللفظ. فالجوهر هو حامل الصفات، غير أنه هو ذاته مستقل ودائم. وقد اعترف ديكارت بجوهرين متباينين، أعني المادة والعقل، لا يمكنهما أن يتفاعلا على أي نحو، لأن كلا منهما مكتف بذاته، وقد ظهرت فكرة «المناسبة» من أجل عبور الهوة بينهما، ولكن من الواضح أننا لو قبلنا بمثل هذا المبدأ فلن يحول شيء بيننا وبين الاعتماد عليه إلى أي حد نشاء، فمن الممكن مثلا النظر إلى كل عقل على أنه جوهر في ذاته، وقد سار ليبنتس
Leibniz
في هذا الاتجاه، فوضع نظرية «الذرات الروحية
monads » التي تنطوي على القول بعدد لا نهاية له من الجواهر، كلها مستقلة، ولكن بينها تنسيقا، وفي مقابل ذلك يستطيع المرء أن يعود إلى وجهة نظر بارمنيدس فيقول بأنه لا يوجد إلا جوهر واحد، وهذا الاتجاه الأخير هو الذي سار فيه اسبينوزا، الذي ربما كانت نظريته أشد المذاهب الواحدية التي عرفها التاريخ اتساقا وصرامة.
كان اسبينوزا (1632-1677م) الذي ولد في أمستردام، ابنا لأسرة يهودية رحل أجدادها - قبل وقت كانت ذاكرة الأسرة لا تزال تعيه - عن ديارهم في البرتغال لكي يجدوا مكانا يمكنهم فيه أن يعبدوا الله على طريقتهم الخاصة. ذلك لأن خروج المسلمين من إسبانيا والبرتغال قد أتاح الفرصة لمحاكم التفتيش لكي تنشر حكما يسوده التعصب الديني، مما جعل الحياة بالنسبة إلى غير المسيحيين غير مريحة، هذا إذا استخدمنا أخف تعبير ممكن. أما هولندا فقد كانت أثناء عصر الإصلاح الديني في حرب ضد حكم الطغيان في إسبانيا؛ ومن ثم قدمت ملجأ لضحايا الاضطهاد، وأصبحت أمستردام موطنا لطائفة يهودية كبيرة. وفي هذا الإطار تلقى اسبينوزا تعليمه وتربيته الأولى.
على أن هذه الدراسات التقليدية لم تكن تكفي لإرضاء ذهنه المتوقد. وقد أتاحت له معرفته باللاتينية أن يطلع على كتابات أولئك المفكرين الذين أحدثوا حركة إحياء العلم الكبرى، وعملوا على تشجيع العلم والفلسفة الجديدين. وسرعان ما وجد أن من المستحيل عليه البقاء في إطار العقيدة الحرفية لليهود، مما سبب حرجا شديدا للطائفة اليهودية. والواقع أن لاهوتيي حركة الإصلاح الديني كانوا متزمتين على طريقتهم الخاصة، وشعروا بأن أي رفض للدين بطريقة نقدية عنيفة قد يعكر صفو جو التسامح العام الذي كان يسود هولندا في ذلك الحين. وهكذا طرد اسبينوزا في النهاية من الكنيس اليهودي وصبت على رأسه كل لعنات الكتاب المقدس.
ومنذ ذلك الحين التزم اسبينوزا العزلة التامة، وخاصة لأنه كان بطبيعته منطويا على نفسه، وعاش في هدوء وسط حلقة صغيرة من الأصدقاء، وكان يكتسب رزقه من صقل العدسات، ويكرس حياته للتأمل الفلسفي. ولكن على الرغم من حياة الاعتزال التي كان يعيشها، ذاعت شهرته بسرعة وأخذ يتبادل الرسائل فيما بعد مع عدد من المعجبين ذوي النفوذ، كان أهمهم ليبنتس. ومن المعروف أنهما قد تقابلا في لاهاي، غير أن اسبينوزا لم يوافق أبدا على أن يخرجه أحد من عزلته. ففي عام 1673م عرض عليه أمير بافاريا كرسي الفلسفة في جامعة هيدلبرج، ولكنه رفض العرض رفضا مهذبا، وكانت أسباب رفضه لهذا الشرف تنم عن الكثير؛ إذ يقول أولا: «أعتقد أنني لو تفرغت لتعليم الشباب فسوف أكف عن ممارسة الفلسفة. وفضلا عن ذلك فإني لا أدري ما هي الحدود التي ينبغي لي أن أحصر فيها حرية التفلسف حتى لا أبدو راغبا في الخروج على العقيدة السائدة ... وهكذا ترى أنني لا أعلل نفسي بالأمل في حظ أفضل، بل إنني سأمتنع عن إلقاء الدروس لسبب واحد هو إيثاري السكينة التي أعتقد أنني أستطيع اكتسابها على أفضل وجه بهذه الطريقة.»
أما كتابات اسبينوزا فلم تكن ضخمة في حجمها غير أنها تكشف عن قدرة على التركيز والدقة المنطقية يندر، وربما يستحيل، الوصول إليها. غير أن آراءه في الألوهية والدين كانت سابقة لعصره إلى حد أنه، برغم كل جهوده الجادة في التفكير النظري الأخلاقي، قد صبت عليه اللعنات، في عصره وطوال مائة عام بعد ذلك، بوصفه شيطانا آثما، كما أن كتابه الأعظم «الأخلاق» كان في نظر معاصريه من الخطورة بحيث لم يمكن نشره إلا بعد وفاته.
وتنطوي نظريته السياسية على عناصر مشتركة كثيرة مع نظرية «هبز»، غير أن الأساس الذي كانت ترتكز عليه نظرية اسبينوزا مختلف كل الاختلاف على الرغم من وجود قدر لا بأس به من الاتفاق بينهما على كثير من السمات التي اعتقدا أنها ضرورية لقيام مجتمع صالح، فعلى حين أن هبز يقيم آراءه على أساس تجريبي، فإن اسبينوزا يستنبط نتائجه من نظريته الميتافيزيقية العامة. بل إن المرء لا يستطيع أن يدرك مدى قوة استدلاله إلا إذا نظر إلى أعماله الفلسفية كلها على أنها دراسة كبرى واحدة. والواقع أن هذا واحد من الأسباب التي جعلت التأثير المباشر لكتابات اسبينوزا أضعف من تأثير الكتابات السياسية للفلاسفة التجريبيين. ولكن ينبغي أن نذكر أن المسائل التي ناقشها كانت مشكلات حية وحقيقية إلى أبعد حد في عصره. غير أن الدور الأساسي الذي تقوم به الحرية في أداء الجهاز السياسي لعمله لم يكن معترفا به عندئذ على النطاق الواسع الذي أصبح سائدا في القرن التاسع عشر.
كان اسبينوزا من أنصار حرية التفكير على خلاف هبز، بل إن ميتافيزيقاه ونظريته الأخلاقية تستتبع القول بأن الدولة لا تستطيع أداء عملها على الوجه الصحيح إلا في إطار هذه الحرية. وهو يناقش هذه المسألة بحماسة كبيرة في كتاب «دراسة لاهوتية سياسية
Tractatus Theologico-Politicu ». ويتخذ هذا الكتاب طابعا غير مألوف إلى حد ما، من حيث إن هذه الموضوعات تعالج فيه على نحو غير مباشر من خلال نقد الإنجيل. وهنا نجد أن اسبينوزا قد بدأ، بالنسبة إلى العهد القديم بوجه خاص، ما أصبح يطلق عليه بعد قرنين من الزمان اسم «النقد الأعلى». وهو يدرس أمثلة تاريخية من هذا المصدر (أي العهد القديم)، ويخلص منها إلى إثبات أن حرية التفكير تنتمي إلى صميم الوجود الاجتماعي وفي هذه المسألة يصل على سبيل الاستنتاج الختامي، إلى فكرة رائعة يقول فيها: «ومع ذلك ينبغي أن أعترف بأن مثل هذه الحرية تترتب عليها أضرار في بعض الأحيان. ولكن من ذا الذي استطاع أن ينشئ أي شيء بقدر من الحكمة يستحيل معه أن تترتب عليه نتائج ضارة؟ إن من يرمي إلى أن يحكم كل شيء بالقوانين لا بد أن يزيد من النقائص بدلا من أن يقللها. ولكن ما يمكن منعه ينبغي أن يسمح به، حتى لو أدى ذلك أحيانا إلى «الضرر».» كذلك يختلف اسبينوزا عن هبز في أنه لم ينظر إلى الديمقراطية على أنها أكثر تنظيمات المجتمع عقلانية، فأكثر الحكومات تعقلا تصدر مراسيم سليمة في الأمور الواقعة في نطاق سلطتها، وتكف أيديها في المسائل المتعلقة بالعقيدة والتعليم. ومثل هذه الحكومة تنشأ حين تكون هناك طبقة لديها وعي بمسئوليتها ومتميزة من حيث الملكية الاقتصادية. في ظل دولة كهذه تتاح للناس أفضل فرص تحقيق إمكاناتهم العقلية، بالمعنى الذي كان يقصده اسبينوزا، وهذه الإمكانات العقلية هي، وفقا لمذهبه الميتافيزيقي، ما يهدف إليه البشر بطبيعتهم. أما عن مسألة أفضل الحكومات، فقد يكون من الصحيح بالفعل أن المجتمع التجاري الذي يتوقف النشاط فيه على قدر من الحرية والأمان، هو الذي تتاح فيه أكبر فرصة لإقامة حكم ليبرالي. ولا شك أن هولندا، بلد اسبينوزا، كانت مثلا واضحا على صحة هذا الرأي.
وحين ننتقل بعد ذلك إلى «الأخلاق»، نكون قد سرنا وفقا للترتيب التاريخي الذي نشرت به كتابات اسبينوزا، وإن كان الترتيب المنطقي يقتضي البدء بها. ويمكن القول إن عنوان هذا الكتاب مضلل إلى حد ما بالقياس إلى محتواه. ذلك لأننا نجد هنا أولا ميتافيزيقا اسبينوزا، التي تنطوي ضمنا على إيضاح لذلك التخطيط الذي يضعه الفيلسوف العقلاني من أجل بحث الطبيعة علميا. ولقد أصبحت هذه المسالة من أهم المسائل العقلية في القرن السابع عشر. ويلي ذلك عرض يدور حول موضوع الذهن، وسيكولوجية الإرادة والانفعالات، ثم نظرية أخلاقية مبنية على ما سبق.
والكتاب كله معروض على طريقة هندسة إقليدس، إذ يبدأ بتعريفات ومجموعة من المسلمات، ومنها يستمد المجموعة الكاملة للقضايا اللازمة عنها، مع كل ما تقتضيه من براهين ونتائج وتفسيرات. وهذه الطريقة في التفلسف لم تعد اليوم شائعة أو مرغوبة، ولا بد أن يبدو مذهب اسبينوزا تدريبا غريبا بحق في نظر أولئك الذين لا يعجبهم شيء سوى آخر أنباء الصحافة. ولكن هذا المذهب لا يبدو، في تركيبه، على هذا القدر من الغرابة، بل إنه يظل، في ذاته، عملا من أروع أعمال التفكير المنضبط الدقيق.
يبحث الباب الأول من الكتاب مشكلة الله. وهو يعرض ستة تعريفات تشمل تعريفا للجوهر وتعريفا لله وفقا للاستعمال التقليدي للفلسفة المدرسية، وتضع المسلمات سبعة فروض أساسية لا يقدم لها تبرير آخر. ومنذ ذلك الحين يكون كل ما علينا هو أن نتابع استخلاص النتائج، كما هي الحال عند إقليدس؛ إذ يبدو من الطريقة التي تم بها تعريف الجوهر أنه ينبغي أن يكون شيئا يفسر نفسه بنفسه كلية، ويدلل اسبينوزا على أنه يجب أن يكون لا متناهيا، إذ إنه لو كان محدودا لكان لتلك الحدود بعض التأثير عليه. كما يدلل على أنه لا يمكن أن يوجد إلا جوهر واحد، ويتبين لنا أن هذا الجوهر هو العالم ككل، وهو بالمثل الله ذاته. ومن هنا فإن الله والكون، أي مجموع الأشياء كلها، هما واحد ونفس الشيء، وهذه هي نظرية «شمول الألوهية»، المشهورة عند اسبينوزا، وينبغي أن نؤكد أن العرض الذي يقدمه اسبينوزا لا يتضمن في ذاته أي قدر من التصوف، بل إن المسألة كلها تمرين في المنطق الاستنباطي، مبني على مجموعة من التعريفات والمسلمات المعروضة ببراعة عبقرية، وربما كان ذلك أعظم أمثلة البناء المذهبي في تاريخ الفلسفة.
لقد كان التوحيد بين الله والطبيعة أمرا مكروها إلى أبعد حد في نظر المتمسكين بحرفية العقيدة في كافة المعسكرات. ومع ذلك فقد كان مجرد نتيجة لبرهان استنباطي بسيط، وحين نتأمل هذا البرهان في ذاته، نجده سليما، وإذا كان يؤدي إلى إيذاء شعور البعض فما هذا إلا دليل على أن المنطق ليس ملتزما باحترام مشاعر الناس. وما دام الله والجوهر يعرفان بالطريقة التقليدية فلا غبار على هذه الحجة، بل إن النتيجة التي ينتهي إليها اسبينوزا تفرض نفسها. وقد يؤدي هذا بالبعض إلى الاعتراف بأن في هذين اللفظين سمة معينة غير مألوفة.
وتمشيا مع هذه النظرية، ينظر اسبينوزا إلى عقولنا البشرية الكثيرة على أنها جزء من العقل الإلهي. وهو يشارك ديكارت تأكيده للوضوح والتميز؛ إذ يقول: «إن قوام الخطأ أو البطلان هو افتقار إلى الإدراك، تنطوي عليه الأفكار غير الكافية، أي المضطربة المختلطة.» وما إن تتكون لدينا أفكار كافية، أو مطابقة، حتى نصل على نحو مؤكد إلى معرفة نظام الأشياء وترابطها، الذي هو ذاته نظام الأفكار وترابطها. ومن طبيعة العقل أن يتأمل الأشياء لا من حيث هي عرضية، بل من حيث هي ضرورية. وكلما ازددنا قدرة على ذلك، ازددنا اقترابا من التوحد بالله، أو التوحد بالعالم وهو ما يعني نفس الشيء، وفي هذا السياق وضع اسبينوزا عبارته المشهورة التي يقول فيها: «إن من طبيعة العقل أن يدرك الأشياء من وجهة نظر لا زمانية معينة.» وتلك في الواقع نتيجة تترتب على القول إن العقل يرى الأشياء من حيث هي ضرورية.
وفي الباب الثالث من كتاب الأخلاق، يبين اسبينوزا كيف يمنع الذهن من الوصول إلى رؤية عقلية كاملة للكون، بسبب تأثير الانفعالات الذي يحول دون ذلك. فالقوة الدافعة لنا، من وراء كل أفعالنا، هي حفظ الذات. وربما اعتقد البعض أن هذا المبدأ الأناني الصرف يدمغنا جميعا بأننا منافقون لا نفكر إلا في مصالحنا، غير أن هذا الفهم يغفل كلية عن المقصود. ذلك لأن الإنسان في بحثه عن مصلحته الخاصة، يجد لزاما عليه، عاجلا أو آجلا، أن يسعى إلى الوحدة مع الله. وهو يحقق مسعاه هذا كلما تمكن من رؤية الأشياء «من منظور الأزل»، أي من وجهة نظر لا زمانية، كما ذكرنا من قبل.
وفي البابين الأخيرين نجد فلسفة اسبينوزا الأخلاقية بمعناها الصحيح. فالإنسان يكون في حالة عبودية ما دام خاضعا للمؤثرات والأسباب الخارجية. وهذا يسري في الواقع، على كل شيء متناه. ولكن بقدر ما يستطيع الإنسان تحقيق الوحدة مع الله، لا يعود خاضعا لهذه المؤثرات، لأن الكون في مجموعه لا يخضع لتحكم شيء. وهكذا فإن المرء، بتوافقه أكثر فأكثر مع الكل، يكتسب قدرا مناظرا من الحرية. ذلك لأن الحرية هي بعينها الاستقلال، أو التحكم الذاتي
Self-Determination ، وهو لا يصدق إلا على الله، وعلى هذا النحو نستطيع أن نحرر أنفسنا من الخوف. ولقد رأي اسبينوزا، مثل سقراط وأفلاطون، أن الجهل هو العلة الأولى لكل شر، بينما المعرفة، بمعنى الفهم الأفضل للكون، هي الشرط الأساسي الذي يوصلنا إلى الحكمة والسلوك القويم، ولكنه، على خلاف سقراط، لم يكن يفكر في الموت. «إن أقل ما يفكر فيه الإنسان الحر هو الموت، وحكمته إنما هي تأمل في الحياة لا في الموت.» ولما كان الشر سلبا أو عدما، فمن المحال أن يكون الله أو الطبيعة متصفين بالشر، لأنهما لا يفتقران إلى شيء، وكل شيء إنما هو على أفضل وجه في هذا العالم الوحيد الممكن. ولما كان الإنسان متناهيا فإن عليه أن يسلك في الشئون العملية، على نحو يؤدي به إلى حفظ ذاته، كيما يحتفظ بأقوى ما يستطيع الاحتفاظ به من الصلات مع الكون.
هذه، باختصار شديد، هي الخطوط العامة لمذهب اسبينوزا. وتكمن أهميته بالنسبة إلى الحركة العلمية في القرن السابع عشر فيما يوحي به ضمنا من تفسير حتمي على مستوى واحد لكل ما يحدث في الكون. والواقع أن هذا المذهب هو المشروع الأولى الذي سيتم التوسع فيه مستقبلا لنسق موحد للعلم، على أن مثل هذه المحاولة لا يمكن أن تقبل في أيامنا هذه إلا بعد إبداء بعض التحفظات الهامة. وبالمثل لا يمكن من الناحية الأخلاقية، الاعتراف بأن الشر شيء سلبي فحسب، فكل عمل من أعمال القسوة المتعمدة، مثلا، هو وصمة إيجابية ودائمة على جبين العالم ككل. ومن الجائز أن هذا هو ما تشير إليه المسيحية من طرف خفي في نظرية الخطيئة الأولى، ولو وجه اعتراض كهذا إلى اسبينوزا، لكان رده هو أن أية قسوة لا يمكن أن تكون متعمدة إذا تأملناها «من منظور الأزل»، غير أن هذا شيء لا يسهل إثباته. ومع ذلك فإن مذهب اسبينوزا يظل واحدا من الإنجازات الكبرى للفلسفة الغربية، وعلى الرغم من أن صرامة لهجته تحمل شيئا من طابع العهد القديم، فإنه يمثل إحدى المحاولات الكبرى، على طريقة اليونانيين العظام، لإظهار العالم بوصفه كلا شاملا قابلا للفهم.
لقد أدت مشكلة الجوهر، كما رأينا من قبل، إلى حلول شديدة الاختلاف فيما بينها. وإذا كان اسبينوزا قد تمسك بمذهب واحدي متطرف فإن الإجابة التي أتى بها ليبنتس تذهب إلى الطرف المضاد، وتفترض عددا لا نهائيا من الجواهر، ومع ذلك فإن بين النظريتين صلات من بعض النواحي، مشابهة للصلات التي تربط بارمنيدس بالمذهب الذري، وإن كان من الواجب ألا نذهب في تشبيه الحالة الأولى بالثانية أبعد مما ينبغي. فنظرية ليبنتس ترتكز في النهاية على الفكرة القائلة إن الجوهر، إذا كان واحدا، لا يمكن أن يكون له امتداد، لأن الامتداد يوحي بالتعدد، ولا يمكن أن توصف به إلا مجموعة من الجواهر. ومن ذلك استدل على أن هناك جواهر كثيرة إلى حد لا متناه، كل منها غير ممتد، ومن ثم فهو لا مادي. وهو يطلق على هذه الجواهر اسم الذرات الروحية، التي تتسم بسمة أساسية هي كونها نفوسا بمعنى عام لهذه الكلمة.
وقد ولد ليبنتس (1646-1716م) في ليبتسج، حيث كان أبوه أستاذا جامعيا، وقد كشف منذ سن مبكرة عن مواهب عقلية نقدية متدفقة. وفي سن الخامسة عشرة التحق بالجامعة، حيث درس الفلسفة، وتخرج بعد عامين، ثم انتقل إلى «يينا
Jena » لدراسة القانون. وفي سن العشرين تقدم للحصول على الدكتوراه في القانون من جامعة ليبتسج، ولكن طلبه رفض بسبب صغر سنه. أما جامعة آلتدورف
Altdorf
فكانت أكثر تسامحا، ولم تكتف بمنحه الدرجة بل عرضت عليه كرسيا جامعيا. غير أن ليبنتس، الذي كانت في ذهنه أشياء مختلفة كل الاختلاف، لم يستجب لهذا العرض. وفي عام 1667م التحق بالسلك الدبلوماسي مع كبير أساقفة مينتس
Mainz ، وهو أحد الأمراء الكبار ، وكان سياسيا نشطا أخذ على عاتقه إنقاذ البقايا الممزقة للإمبراطورية من جحيم حروب الثلاثين. كما كان من أهدافه الحيلولة دون قيام ملك فرنسا، لويس الرابع عشر، بغزو بلاده.
وهكذا توجه ليبنتس إلى باريس لهذا الغرض عام 1672م، وظل هناك مدة تقرب من أربع سنوات. وكانت خطته هي أن يقنع الملك الشمس،
11
بتوجيه طاقاته الحربية ضد غير المسيحيين، وبأن يغزو مصر. ولكن مهمته أخفقت،
12
وإن كان ليبنتس قد قابل خلالها كثيرا من فلاسفة عصره وعلمائه الكبار، فقد كان مالبرانش هو الموجة الجديدة في باريس وكذلك الحال بالنسبة إلى أرنو
Arnauld
أكبر ممثلي المذهب الجانسيني
Jansenism
منذ باسكال. كذلك تعرف ليبنتس إلى عالم الفيزياء الهولندي هيجنز
Huygens . وفي عام 1673م توجه إلى لندن حيث قابل الكيميائي بويل
R. Bolyle ، وأولدنبرج
Oldenburg ، أمين الجمعية الملكية التي كانت قد أنشئت حديثا والتي انضم ليبنتس إلى عضويتها. وبعد موت كبير الأساقفة الذي كان ليبنتس يعمل لديه، في العام نفسه، عرض عليه دوق برنسفيك
Brunswick
منصب أمين مكتبة هانوفر، ولكن ليبنتس لم يقبل هذا العرض على الفور، بل ظل في الخارج. وفي عام 1675م بدأ يشتغل، أثناء وجوده في باريس، في حساب التفاضل والتكامل، واكتشف هذا الفرع على نحو مستقل عن نيوتن الذي كان قد اكتشفه قبله بوقت قصير، وبعد فترة نشر ليبنتس صيغة حساب التفاضل والتكامل كما اكتشفها، وكان ذلك في مجلة أعمال الباحثين العلميين
Acta Eroditorum
عام 1684م، وهذه الصيغة أقرب إلى الصورة الحديثة لهذا العلم من صيغة نظرية التفاضل عند نيوتن. وبعد ثلاث سنوات ظهر كتاب «مبادئ الفلسفة الطبيعية» لنيوتن. وقد أدى ذلك إلى ظهور خلاف طويل وعقيم، وبدلا من أن يعالج المشتركون في هذا الخلاف المسائل العلمية أخذ كل فريق منهم ينحاز إلى ابن وطنه، مما ترتب عليه تأخر الرياضيات الإنجليزية لمدة قرن، لأن طريقة التدوين التي وضعها ليبنتس، والتي أخذ بها الفرنسيون، كانت أداة أكثر مرونة للتحليل. وفي عام 1676م قام ليبنتس بزيارة اسبينوزا في لاهاي، ثم شغل منصب أمين مكتبة هانوفر، وظل في هذا المنصب حتى وفاته، وقد أمضى وقتا طويلا في جمع مادة كتاب في تاريخ برنسفيك، كما تابع دراساته العلمية والفلسفية. وفضلا عن ذلك فقد واصل عمله في وضع خطط لإعادة الحيوية إلى المسرح السياسي الأوروبي، وحاول أن يقدم علاجا للانقسام الديني الكبير، غير أن مشروعاته لم تلق إلا آذانا صماء . وعندما أصبح الأمير جورج، من هانوفر، ملكا على بريطانيا في عام 1714م، لم توجه الدعوة إلى ليبنتس ليكون ضمن الحاشية المرافقة له إلى لندن، وكان السبب الرئيسي لذلك هو أصداء ذلك الخلاف المؤسف حول حساب التفاضل والتكامل. وهكذا ظل وراء الأضواء، شاعرا بالمرارة وبأن الناس قد تجاهلوه، ومات بعد ذلك بعامين.
أما فلسفة ليبنتس فليس من السهل مناقشتها، وذلك لأسباب منها أن أعماله غير مكتملة، وكثيرا ما كانت تفتقر إلى الصقل الذي كان يمكن أن يتحقق لو عني بمراجعتها واكتشف جوانب عدم الاتساق فيها قبل فوات الأوان. على أن السبب الرئيسي لذلك هو الظروف الخارجية لحياة ليبنتس؛ فقد كان يكتب الفلسفة في لحظات الفراغ النادرة، وكانت كتاباته تتعرض للتأخير والانقطاع. غير أن هناك سببا آخر أهم، هو الذي يجعل قراءة ليبنتس عسيرة في بعض الأحيان. هذا السبب ناشئ عن الطبيعة المزدوجة لفلسفته، إذ نجد لديه من جهة ميتافيزيقا الجوهر، وهي التي أفضت إلى نظرية الذرات الروحية، ونجد من وجهة أخرى نظرية منطقية تسير، من نواح كثيرة، في خط مواز لتأملاته الميتافزيقية. وربما كان المنطق هو أهم الجانبين في نظرنا، غير أن ليبنتس ذاته كان يبدي، كما هو واضح، قدرا متساويا من الاهتمام بجانبي فلسفته. بل لقد بدا له مؤكدا أن المرء يستطيع الانتقال من أحد المجالين إلى الآخر بلا صعوبة. على أن هذا الرأي لم يعد يلقى قبولا اليوم، وذلك على الأقل بين الفلاسفة الإنجليز، على الرغم من أن الفكرة القائلة إن اللغة والمنطق مكتفيان بذاتهما هي نفسها رأي ميتافيزيقي له عيوبه الخاصة. أما عن ميتافيزيقا ليبنتس، فمن المهم أن نلاحظ أنها تدين للتطورات العلمية في ذلك العصر ببعض سماتها الهامة. وقد نشرت كتاباته الميتافيزيقية أثناء حياته، وهي تشمل نظرية الذرات الروحية التي ظلت شهرة ليبنتس، بوصفه فيلسوفا، ترتكز عليها قرابة قرنين. أما المؤلفات المنطقية فظلت غير منشورة، ولم تلق التقدير الذي تستحقه إلا في أوائل هذا القرن.
وكما ذكرنا من قبل، فإن نظريات ليبنتس المنطقية كانت تقدم إجابة لمشكلة الجوهر من خلال فكرة الذرات الروحية. وهو يشترك مع اسبينوزا في الرأي القائل إن الجواهر لا تتفاعل فيما بينها. ويؤدي هذا على التو إلى استنتاج استحالة وجود رابطة سببية بين أي ذرتين روحيتين، وهو ما يعبر عنه بقوله إن المونادات (الذرات الروحية) بلا نوافذ. ولكن كيف نوفق بين هذا وبين تلك الحقيقة التي يعترف بها كافة الأطراف، وهي أن مختلف أجزاء الكون تبدو مرتبطة بعلاقات سببية؟ هنا يأتي الرد سريعا من خلال نظرية «جولينكس» عن الساعتين. وكل ما علينا هو أن نجعل عدد هذه الساعات لا متناهيا، فنصل إلى نظرية الانسجام المقدر
، التي تقول إن كل مونادة تعكس الكون بأكمله، بمعنى أن الله قد دبر الأمر بحيث إن كل المونادات تسير على نحو مستقل في مساراتها الخاصة، في نظام هائل من المسارات المتوازية التي صممت ببراعة.
ولما كانت كل مونادة جوهرا، فإنها كلها تختلف فيما بينها كيفيا، فضلا عن أنها تحتل وجهات نظر مختلفة. ولو شئنا الدقة لما أفادنا القول إن لها موانع مختلفة، ما دامت ليست بالكيانات التي تشغل مكانا وتقع في زمان. فالمكان والزمان ظاهرتان حسيتان، وهما ليسا حقيقيين. أما الحقيقة الكامنة من ورائهما فهي تنظيم المونادات بحيث تكون لكل منها وجهة نظرها المختلفة. فكل مونادة تعكس الكون على نحو مختلف قليلا، بحيث لا يكون أي اثنين من هذه الانعكاسات متشابهين من جميع الأوجه. ولو وجدت مونادتان متماثلتان في كل شيء لكانتا في الحقيقة واحدة، وهذا هو معنى مبدأ هوية اللامتميزات
identity of the indescernibles
13
عند ليبنتس.
وهكذا فلا معنى لقولنا، بغير تدقيق، إن من الممكن أن تختلف مونادتان في الموقع وحده.
ولما كانت جميع المونادات مختلفة، فإن في استطاعتنا ترتيبها وفقا لدرجة الوضوح التي تعكس بها العالم . فكل شيء يتألف من حشد هائل من المونادات، والأجسام البشرية بدورها منظمة على هذا النحو، غير أننا نجدها هنا مونادة مسيطرة تتميز عن الباقين بوضوح رؤيتها. هذه المونادة المميزة هي ما نطلق عليه، تخصيصا، اسم النفس الإنسانية، وإن كانت جميع المونادات، بمعنى معين، نفوسا، وكلها لا مادية، غير فانية، ومن ثم كانت خالدة، ولا تتميز المونادة المسيطرة أو النفس بالوضوح الزائد في إدراكها فحسب، وإنما تتميز أيضا بأنها تضم في داخلها الغايات التي تستهدفها المونادات التابعة لها بطريقتها التي يسودها الانسجام المقدر سلفا، فكل شيء في الكون يحدث من أجل سبب كاف، غير أن للإرادة الحرة مجالها، من حيث إن الأسباب التي يسلك من أجلها الكائن البشري لا تتسم بذلك الإلزام الصارم الذي تتسم به الضرورة المنطقية. كذلك فإن الله يملك هذا النوع من الحرية، وإن كانت هذه الحرية لا تخرق قوانين المنطق. والواقع أن نظرية حرية الإرادة هذه، التي جعلت ليبنتس مقبولا لدى الأوساط التي لم تكن راضية عن اسبينوزا، كانت خارجة إلى حد ما عن ذلك التفسير المذهبي الذي قدمه ليبنتس من خلال فكرة المونادة، بل هي تتعارض معه في الواقع كما سنرى فيما بعد.
أما عن مسألة وجود الله، التي تثار على الدوام في الفلسفة فإن ليبنتس يقدم عرضا كاملا لأهم البراهين الميتافزيقية التي رأيناها من قبل. وأول برهان من براهينه الأربعة هو البرهان الأنطولوجي عند القديس أنسلم، والثاني شكل من أشكال برهان العلة الأولى كما نجده عند أرسطو. ثم يأتي برهان قائم على فكرة الحقيقة الضرورية، التي يقول ليبنتس إنها تتطلب عقلا إلهيا توجد فيه. وأخيرا، نجد برهانا قائما على فكرة الانسجام المقدر سلفا، وهو في الواقع شكل من أشكال برهان النظام والغائية في الكون. وقد تناولنا هذه البراهين جميعا من قبل في مواضع أخرى، وأوضحنا المآخذ التي يمكن أن تؤخذ عليها. وسرعان ما أنكر «كانت» إمكان تقديم براهين ميتافيزيقية من هذا النوع بوجه عام. أما بالنسبة إلى اللاهوت، فينبغي أن نذكر أن التصور الميتافيزيقي لله إنما هو اللمسة النهائية في نظرية عن طبيعة الأشياء. وفي هذا التصور لا تكون للألوهية علاقة بمشاعرنا وعواطفنا، ومن ثم فهي مختلفة عن الألوهية كما نجدها في الكتب المقدسة، وهكذا فإن رجال اللاهوت، في عمومهم، باستثناء التوماويين الجدد، لم يعودوا يعولون على تلك الألوهية النظرية التي قدمتها إلينا الفلسفة التقليدية.
ولقد كان من العناصر التي استلهمتها ميتافيزيقا ليبنتس، تلك الكشوف الجديدة التي كانت تتراكم بمساعدة المجهر (الميكروسكوب). فقد اكتشف ليفنهوك
Leeuwenhoek (1632-1723م) الكائنات المجهرية الدقيقة، وتبين أن قطرة الماء مليئة بكائنات عضوية صغيرة. وكان ذلك أشبه بعالم كامل على نطاق أصغر من عالمنا اليومي. وقد أدت عوامل كهذه إلى فكرة الذرة الروحية (الموناد) بوصفها آخر ما نصل إليه من نقاط نفسية ميتافيزيقية غير ممتدة. وبدا أن حساب اللامتناهيات الجديد يشير إلى هذا الاتجاه العام نفسه. والواقع أن ما يهم ليبنتس هنا هو الطبيعة العضوية لهذه المكونات النهائية. فهو في هذا يفرق عن تلك النظرة الآلية التي أكدها جاليليو والديكارتيون. وعلى الرغم من أن هذا قد خلق صعوبات في وجه ليبنتس، فإنه أدى به إلى كشف مبدأ بقاء الطاقة في واحد من أشكاله المبكرة، وكذلك إلى كشف مبدأ الفعل الأدنى (least action) . غير أن تطور الفيزياء في عمومه قد سار وفقا للمبادئ التي وضعها جاليليو وديكارت.
وأيا كان الأمر، يظل من الصحيح أن ليبنتس قد قدم في مذهبه المنطقي عددا كبيرا من التلميحات التي تجعل ميتافيزيقاه أسهل فهما على الأقل حتى لو لم تكن مقبولة. ولنبدأ بالقول إن ليبنتس تقبل منطق الموضوع والمحمول عند أرسطو، وهو يتخذ لنفسه بديهيتين أساسيتين من مبدأين منطقيين عامين: أولهما مبدأ التناقض، الذي ينص على أنه إذا تناقضت قضيتان وجب أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، وثانيهما مبدأ السبب الكافي الذي تحدثنا عنه من قبل، والذي ينص على أن أية واقعة حاضرة تلزم عن أسباب سابقة كافية، فلنطبق هذين المبدأين على حالة القضايا التحليلية بالمعنى الذي حددها به ليبنتس، أعني القضايا التي يكون فيها الموضوع متضمنا للمحمول، كالقضية «كل العملات المعدنية مصنوعة من المعدن.» عندئذ يتضح من مبدأ التناقض أن كل هذه القضايا صادقة، على حين أن مبدأ السبب الكافي يؤدي إلى القول بأن جميع القضايا الصادقة نظرا إلى أنها تقوم على أسس كافية، هي من النوع التحليلي، وإن كان الله وحده هو الذي يراها على هذا النحو، أما بالنسبة إلى العقل البشري فإن هذه الحقائق تبدو طارئة. وهنا، كما هي الحال عند اسبينوزا، نجد محاولة لمعالجة البرنامج المثالي للعلم. ذلك لأن ما يفعله العالم عند وضعه للنظريات إنما هو محاولة التوصل إلى العرض ثم تقديمه على نحو يبدو فيه نتيجة لشيء آخر، ومن ثم يبدو ضروريا بهذا المعنى. ولما كان الله وحده هو الذي يملك العلم الكامل، فإنه يرى كل شيء في ضوء الضرورة.
أما عدم تفاعل الجواهر فهو نتيجة لأن تاريخ حياة كل موضوع منطقي متضمن بالفعل في مفهومه. وهذا القول يلزم عن كون تاريخه هو ما يصدق عليه، وهو الطابع التحليلي لجميع القضايا الصادقة، وهكذا تضطر إلى التسليم بالانسجام المقدر سلفا. غير أن هذا التفسير، إذا شئنا الدقة، لا يقل حتمية على طريقته الخاصة، عن تفسير اسبينوزا، وليس لحرية الإرادة بالمعنى الذي أوضحناه من قبل مكان فيه. أما عن الله وخلقه للعالم، فإن خيريته تؤدي به إلى خلق أحسن عالم ممكن. غير أن لدى ليبنتس نظرية أخرى في هذا الموضوع، لا يظهر فيها الله والخلق على الإطلاق. هذه النظرية تبدو مستوحاة من نظرية أرسطو في الكمال
entelechy ، أو السعي إلى الانتقال من الإمكان إلى الواقع. ففي نهاية المطاف سوف يكون العالم الذي يوجد هو ذلك الذي يتبدى فيه، خلال أي زمن معين، أعظم قدر من التحقق، مع العلم بأن من المستحيل أن تتحقق كل الإمكانات في آن واحد.
ولولا تمسك ليبنتس الشديد بمنطق الموضوع والمحمول، لنشر بعضا من محاولاته في ميدان المنطق الرياضي، ولو كان ذلك قد حدث لبدأ البحث في هذا الميدان مبكرا بقرن من الزمان. فقد رأى ليبنتس أن من الممكن اختراع لغة رمزية شاملة تتسم بالكمال، وتجعل التفكير مجرد عملية حساب. وربما كان ذلك رأيا متسرعا إلى حد ما، برغم العقول الإلكترونية، غير أنه تنبأ بالكثير مما أصبح معروفا بعد ذلك في ميدان المنطق. أما عن اللغة الكاملة، فإنما هي تعبير آخر عن الأمل في أن يقترب البشر من العلم الإلهي الكامل. لقد كان السعي وراء الأفكار الواضحة المتميزة، وما يترتب عليه من بحث عن لغة عالمية كاملة، هما الهدفان العقليان الرئيسيان للفلسفة في التراث الديكارتي، وقد لاحظنا من قبل أن هذا يطابق، بقدر ما، أهداف العلم. وفي الوقت ذاته فإن ما نحن إزاءه ها هنا هو طريق نسير فيه أكثر مما هو غاية نهائية نصل إليها. ولقد أدرك ليبنتس هذا بالفعل، وذلك بصورة ضمنية على الأقل، عندما ذهب إلى أن الله وحده هو الذي يمتلك العلم الكامل، على أننا نجد نقدا أشد حدة بكثير للاتجاه الفكري العقلاني في أعمال الفيلسوف الإيطالي العظيم جامباتستا فيكو
Giambattista Vico (1668-1744م)، فقد أدت عبارة ليبنتس، التي يمكن أن يقبلها أي مسيحي يخاف الله، بما في ذلك فيكو، أدت بهذا الفيلسوف الإيطالي إلى وضع مبدأ جديد للمعرفة. فنظرا إلى أن الإنسان مخلوق، فإنه يعرف العالم بطريقة ناقصة. ذلك لأن شرط معرفة الشيء، عند فيكو، هو أن يكون المرء قد خلقه؛ ولذا فإن الصيغة الأساسية للمبدأ هي أننا لا نستطيع أن نعرف إلا ما نصنع أو نعمل. ويمكننا أن نعبر عن ذلك بقولنا إن الحقيقة مماثلة للواقع، بشرط أن يفهم اللفظ الأخير بمعناه الأصلي.
ظل فيكو غير معروف في زمانه وبعد خمسين عاما من مماته. وقد ولد في نابولي، وكان أبوه بائعا صغيرا للكتب، وأصبح في الحادية والثلاثين من عمره أستاذا للبلاغة في جامعة نابولي. وظل يشغل هذا المنصب المتواضع إلى حد ما حتى اعتزاله في عام 1741م. ولقد كان فقيرا طوال معظم أيام حياته، وكان لزاما عليه، كيما ينفق على نفسه وعلى أسرته، أن يدعم مرتبه الهزيل بإعطاء دروس خصوصية والقيام بأعمال أدبية غير عادية لحساب النبلاء، ولم يستطع معاصروه فهمه لأسباب من أهمها غموض رسالته، ولم يخدمه الحظ أبدا بمقابلة أي مفكر من مستواه أو بالتراسل معه.
إن النظرية القائلة إن الحقيقة هي الفعل أو الصنع، تؤدي إلى عدد من النتائج عظيمة الأهمية. فهي أولا تعلل لنا لماذا كانت الحقائق الرياضية تعرف معرفة يقينية. ذلك لأن الإنسان ذاته هو الذي صنع العلم الرياضي عن طريق وضع قواعد بطريقة تجريدية اختارها هو ذاته، فالسبب الذي يجعلنا قادرين على فهم الرياضيات هو أننا صنعناها بالمعنى الصحيح. وفي الوقت ذاته يعتقد فيكو أن الرياضيات لا تتيح لنا أن نكون معرفة بالطبيعة بقدر ما اعتقد العقلانيون. ذلك لأنه يعتقد أن الرياضة مجردة، لا بمعنى أنها قد انتزعت بالتجريد من التجربة، بل من حيث هي منفصلة عن الطبيعة، ومن حيث هي بناء اعتباطي شيده الذهن البشري. أما الطبيعة ذاتها فقد صنعها الله، ومن ثم كان الله وحده هو الذي يستطيع أن يفهمها. ولو شاء الإنسان أن يعرف شيئا عن الطبيعة، فعليه أن يتخذ لنفسه موقفا تجريبيا يستخدم فيه التجربة والملاحظة، لا أن يكتفي باتباع الأساليب الرياضية، وهكذا كان فيكو أقرب بكثير إلى التعاطف مع بيكن، لا مع ديكارت. ولكن ينبغي أن نعترف بأن فيكو، في تحذيره لنا ضد استخدام الرياضيات، لم يدرك الدور الذي تلعبه في البحث العلمي، ومع ذلك ينبغي أن نعترف في الوقت ذاته بأننا نجد هنا تحذيرا من التأمل الرياضي الجامح، الذي يدعي لنفسه في بعض الأحيان مكانة البحث التجريبي، وقد لاحظنا من قبل أن الموقف الصحيح يقع في مكان ما بين هذين الطرفين.
ولقد أدت النظرية القائلة إن الرياضيات تستمد يقينها من كونها مصنوعة بواسطة البشر إلى التأثير في عدد كبير من الكتاب اللاحقين، وإن كان هؤلاء قد يختلفون مع فكرة فيكو القائلة إن الرياضة اعتباطية بالمعنى الذي حدده. ويمكننا في هذا السياق أن نشير إلى آراء الكاتب الماركسي سوريل
Sorel ، وكذلك إلى التفسيرات التي قدمها جوبلو
Goblot
ومايرسون
Meyerson . ويصدق ذلك أيضا على التفسيرين المنفعي
Utilitarian
والبرجماتي لطبيعة الرياضيات. ومن جهة أخرى فإن مفهوم الاعتباطية قد استهوى عقول الشكليين، الذين ينظرون إلى الرياضيات على أنها لعبة شديدة الاتساع. وبالطبع فإن من الصعب أن نذكر في جميع الحالات ما مقدار التأثير المباشر الذي مارسه فيكو. غير أننا نعرف عن ماركس وسوريل أنهما درسا أعمال فيكو، ومع ذلك فإن للأفكار في كثير من الأحيان طرقا خفية لإشعار الناس بها بنيران يصبح تأثيرها محسوسا بوعي. وهكذا فإن أعمال فيكو على الرغم من أنها لم تكن معروفة على نطاق واسع، تحوي بذورا لكثير من التطورات التي طرأت على الفلسفة في القرن التاسع عشر.
أما النتيجة الرئيسية الثانية لمبدأ فيكو فهي نظرية التاريخ. فقد كان يرى أن الرياضيات يمكن أن تعرف معرفة كاملة لأنها من صنع الإنسان، ولا تشير إلى الواقع الفعلي. أما الطبيعة فلا يمكن معرفتها على نحو كامل لأنها من صنع الله، وإن كانت تشير إلى الواقع. وهذه مفارقة لا تزال حية إلى يومنا هذا عند كل من يرى في الرياضيات تركيبا ذهنيا خالصا، على أن فيكو حاول أن يهتدي إلى علم جديد، يكون قابلا للمعرفة الكاملة من جهة، وينصب على العالم الواقعي من جهة أخرى. وهذا ما وجده في التاريخ، حيث يتضافر الإنسان والله، وهو رأي يقلب الرأي التقليدي رأسا على عقب، لأن أتباع المدرسة الديكارتية كانوا يستبعدون التاريخ على أساس أنه غير علمي. وقد أعيد إحياء الرأي القائل إن المجتمع قابل في ذاته لأن يعرف خيرا من المادة الجامدة في القرن الماضي، على يد الفيلسوف الألماني دلتاي
Dilthey ، وعالمي الاجتماع مكس فيبر
Max Weber
وزومبارت
Sombart .
ويقدم فيكو فرضه الجديد على أكمل وجه في كتاب أسماه «العلم الجديد»، وهو كتاب وضع له فيكو صيغا متعددة. على أن هذا الكتاب يمثل مشكلة بالنسبة إلى القارئ الحديث، لأنه مزيج من عناصر متعددة لا يمكن في كل الأحوال التمييز بينها كما يجب. فالمؤلف يبحث، إلى جانب المسائل الفلسفية، في مشكلات تجريبية، وفي مسائل تاريخية مباشرة، ومن الصعب الفصل بين اتجاهات البحث المتعددة هذه. بل إنه ليبدو أحيانا أن فيكو ذاته لم يكن واعيا بأنه ينزلق من نوع من المسائل إلى نوع آخر. ولكن، على الرغم من هذه العيوب والغوامض كلها، فإن الكتاب يعرض نظرية عظيمة الأهمية.
فما المقصود إذن بالقول إن الحقيقة هي ذاتها الشيء الذي يتم فعله، أو الواقعة؟ لو اختبرنا هذا المبدأ غير التقليدي عن كثب، لاستخلصنا منه بعض النتائج الصحيحة كل الصحة على المستوى الإبستمولوجي (المعرفي). ذلك لأن من الصحيح أن الفعل يمكن أن يساعدنا في تحسين معرفتنا، ولا جدال في أن أداء فعل ما بطريقة ذكية يزيد من فهم المرء له. وواضح أن هذا يحدث على أوضح نحو ممكن في ميدان الفعل أو الجهد البشري. ومن الأمثلة الجيدة التي توضح ذلك، فهمنا للموسيقى؛ إذ لا يكفي لكي نجيد فهم قطعة موسيقية، أن نستمع إليها، بل ينبغي إعادة بنائها إن جاز التعبير عن طريق قراءة المدونة أو عزفها، حتى لو تم ذلك بطريقة تفتقر نسبيا إلى المهارة والخبرة. ذلك لأن هذه هي بعينها الطريقة التي تكتسب بها المهارة والخبرة بالتدريج، غير أن مثل هذا الرأي يصدق على البحث العلمي بدوره، فالمعرفة الفعالة بما يمكن عمله بالمادة موضوع البحث تكسب المرء سيطرة على الواقع تفوق تلك التي يكتسبها من مجرد المعرفة الخارجية المجردة. وهذه فكرة ترتكز عليها فلسفة بيرس
البرجماتية، كما سنرى فيما بعد. ولكن هذا، على أية حال، لا ينطوي على كشف علمي ملفت للنظر، لأن الإنسان يدرك ذلك بفهمه العادي حين يقول إن التدريب يصنع الكمال. وهكذا فإنه لا يكفي في الرياضيات أن نتعلم النظريات، بل ينبغي أن يكون المرء قادرا على تطبيق معلوماته النظرية على مجموعة متنوعة من المشكلات المحددة، ولا يعني ذلك دعوة إلى التخلي عن البحث المنزه لصالح المنفعة، بل إن الأمر على عكس ذلك؛ إذ إن رؤية المفاهيم وهي مطبقة بطريقة عملية هي التي تكسبنا فهما صحيحا لها، وقد تبدو وجهة النظر هذه، ظاهريا، قريبة الشبه بالنظرية البرجماتية عند بروتاجورس. غير أن فيكو لا يجعل من الإنسان مقياسا للأشياء جميعا بالمعنى السفسطائي، بل إن ما يؤكده هو العنصر الفعال، الذي يعيد تركيب الوقائع، في عملية المعرفة وهو شيء مختلف كل الاختلاف عن اتخاذ ما يبدو لكل شخص معيارا نهائيا.
ومن جهة أخرى فإن تأكيد الفاعلية يتعارض بشدة مع الأفكار الواضحة المتميزة عند العقليين. فعلى حين أن المذهب العقلي يتباعد عن الخيال على أساس أن هذا الأخير مصدر للاضطراب والخلط، فإن فيكو على عكس ذلك، يؤكد دوره في عملية الكشف. وهو يرى أننا قبل أن نصل إلى تصورات أو مفاهيم، نفكر في إطار مواقف أقرب إلى الغموض وانعدام التجدد. على أن هذا الرأي ليس صائبا كل الصواب، لأنه مهما كان من غموض عملية فكرية معينة، فمن الصعب أن نتخيلها وقد خلت تماما من مضمون من التصورات، وربما كان الأفضل أن نقول إن الفكر البدائي يستخدم صورا ومجازات، على حين أن الفكر التصوري
Conceptual
هو آخر مرحلة في الارتقاء والتعقيد. ومن الممكن أن نستنتج من هذا كله حقيقة هامة هي أن العرض الذي يقدمه المذهب العقلي يتعامل مع العلم بعد الانتهاء من إنتاجه، ويقدمه بترتيب يصلح للعرض. أما العرض المتضمن في كتابات فيكو فيكشف عن العلم خلال نموه، ويسير حسب ترتيب الاختراع. ولكن أعمال فيكو لا تعبر بوضوح عن قدر كبير من هذه الأفكار.
أما بالنسبة إلى التاريخ الذي هو من صنع الإنسان، فإن فيكو يرى أننا نستطيع أن نحقق فيه أعظم قدر من اليقين، وكان من رأيه أن المؤرخ يستطيع كشف القوانين العملية لمسار التاريخ ويفسر من خلالها سبب وقوع الأحداث على نحو ما وقعت، وسبب استمرار حدوثها في المستقبل بطريقة قابلة للتنبؤ. على أن فيكو لا يقول إن كل تفصيل يمكن التنبؤ به آليا، وإنما يقول إن الخطوط العريضة يمكن معرفتها على نحو عام. فهناك، في رأيه، مد وجزر في أمور البشر. وحظوظ الناس تسير في دورات، شأنها شأن المد والجزر، وكما رأينا من قبل فإن المصدر الأول لنظرية الدورات هو الفترة السابقة لسقراط. غير أن فيكو يضفي لونا جديدا على هذه الأفكار القديمة ، وذلك حين بحث عن صورة المراحل المتكررة للتاريخ في عقل الإنسان، بوصفه مؤلف المسرحية وممثلها.
وهكذا فإن نظرية فيكو تتطلع قدما إلى نظرية التاريخ عند هيجل، بدلا من أن تعود إلى الوراء. وفي الوقت ذاته فإن هذه النظرة إلى المشكلة التاريخية أكثر تلاؤما مع الدراسة التجريبية للتاريخ من نظريات النظام والترتيب
Order
التي قال بها العقليون. وهكذا فإن نظرية العقد الاجتماعي، كما عبر عنها هبز، ومن بعده روسو، تعبر عن نوع التشويه المميز للعقليين. فهي نظرية اجتماعية منظور إليها بطريقة ميكانيكية، بل بطريقة تكاد تكون رياضية. أما نظرية فيكو فتسمح له بالنظر إلى التنظيم الاجتماعي على أنه نمو طبيعي متدرج، ينخرط فيه بشر يطورون ببطء أشكالا للحياة المشتركة، عن طريق التراكم التدريجي لتراثهم، على حين أن العقد الاجتماعي يفترض بشرا يجدون أنفسهم وقد أصبحوا بصورة مفاجئة كائنات عاقلة قادرة على التدبر والحساب، تبعث الحياة في مجتمع جديد بفعل إرادي ينطوي على قرار عقلي.
وما يصدق على المجتمع بوجه عام يصدق أيضا على اللغة بوجه خاص، فاللغة تبدأ عندما يتعين على الناس، خلال أوجه نشاطهم المشتركة، أن ينقلوا المعلومات بعضهم إلى بعض. وتتألف اللغة، في صورتها البدائية، من إيماءات وأفعال رمزية، وعندما تصبح اللغة منطوقة تمر العلامات بتطور متدرج من الارتباط المباشر والطبيعي بالأشياء البسيطة، إلى أنماط مصطلح عليها، بل إن بداية اللغة لا بد أن تكون شاعرية، وهي لا تصبح علمية إلا بالتدريج، ولقد كان النحويون الذين قننوا مبادئ التركيب اللغوي على خطأ عندما أخذوا برأي العقليين هنا أيضا، ونظروا إلى اللغة على أنها بناء واع مقصود. وقد رأينا من قبل، عند دراستنا للفلسفة القديمة أن اللغة العلمية والفلسفية نتاج متأخر للحضارة، وتبين لنا كيف بذل الناس جهدا خارقا مع اللغة السائدة في عصرهم كيما يقولوا أشياء جديدة. والواقع أن هذا ما زال مبدأ هاما ينساه الناس في بعض الأحيان. ذلك لأن مهمة العلم والفلسفة اللذين يبدآن باللغة العادية، هي بالضبط صياغة أدوات لغوية أدق بهدف معالجة الأبحاث الجديدة، وتلك هي الرسالة القيمة المتضمنة في الدعوة الديكارتية إلى الأفكار الواضحة المتميزة. على أنه لا يبدو أن فيكو ذاته قد نظر إلى المسألة على هذا النحو، ومن هنا فاتته أهمية الفلسفة العقلية بالنسبة إلى العلم.
إن في استطاعتنا أن ننظر إلى اللغة بإحدى طريقتين متعارضتين؛ فإما أن نأخذ بالنظرة العقلية المتطرفة إلى اللغة، كما فعل ليبنتس، فنعدها حسابا تسوده الأفكار الواضحة المتميزة في كل خطواته، وتعرض فيه قواعد الحساب بوضوح وصراحة، وإما أن ننظر، كما فعل فيكو، إلى اللغات الطبيعية تبعا للطريقة التي نمت بها، بوصفها وسائل للتواصل، مع رفض أية محاولة لوضع صيغة صورية لها على أساس أنها تشويه لها. وتبعا لهذا الرأي تكون مهمة المنطق في الواقع زائدة عن الحاجة، ويكون المعيار الوحيد الذي يمكنه توصيل المعنى إلينا هو الاستخدام الفعلي للغة ذاتها. على أن كلتا وجهتي النظر المتطرفتين هاتين على خطأ. فالعقلاني ينظر خطأ إلى اتجاه التطور على أنه هدف نهائي يمكن بلوغه، على حين أن الرفض القاطع لأية صياغة صورية يحول دون أية إمكانية لتجاوز المنظور الضيق الذي نجد أنفسنا فيه في أي وقت. وفضلا عن ذلك فإن وجهة النظر الأخيرة ترتبط عادة بالرأي القائل إن الحديث العادي يتسم بكل ما يلزم من صفات الوضوح والتميز، وهو رأي شديد التسرع والتفاؤل، لا يأخذ في حسبانه الأخطار والتحيزات الفلسفية السابقة التي لا تزال ماثلة في الحديث المعتاد.
وعلى الرغم من التنظيرات المتمردة التي قام بها فيكو في ميدان علم الاجتماع، فقد ظل كاثوليكيا مخلصا، أو حاول على الأقل، أن يجد للعقيدة النقلية مكانا في مذهبه. أما مسألة إن كان هذا ممكنا دون فقدان للاتساق، فتلك بالطبع مسألة أخرى ... غير أن الاتساق ليس من مزايا فيكو، بل إن أهمية فيكو تكمن، بالأحرى، في استباقه العجيب للقرن التاسع عشر وتطوراته الفلسفية. ففي علم الاجتماع يبتعد عن تصور العقليين للدولة المثلى، ويأخذ على عاتقه مهمة تجريبية هي دراسة كيفية نمو المجتمعات وتطورها، وفي هذا كانت أصالته كبيرة، ولأول مرة نجد لديه نظرية حقيقية عن الحضارة البشرية. كل ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بالفكرة الرئيسية التي دار حولها تفكيره كله: وهي الفكرة القائلة إن الحقيقة هي الفعل، أي
Verum Factum ، حسب التعبير اللاتيني.
الفصل الثاني
التجريبية الإنجليزية
بدأ يظهر، في أعقاب عصر الإصلاح الديني، موقف جديد إزاء السياسة والفلسفة في شمال أوروبا. وقد ظهر هذا الموقف بوصفه رد فعل على فترة الحروب الدينية والخضوع لروما مركزا في إنجلترا وهولندا. فقد ظلت إنجلترا، إلى حد بعيد، بمنأى عن الفظائع التي ترتبت على الانقسام الديني في القارة الأوروبية. صحيح أن البروتستانت والكاثوليك ظلوا لفترة ما يضطهد بعضهم بعضا بطريقة تفتقر إلى الحماس الشديد، وأن المذهب التطهري (البيوريتاني) في عهد كرومويل كان في نزاع دائم مع الكنيسة. ومع ذلك لم ترتكب فظائع على نطاق واسع. والأهم من ذلك أنه لم يحدث تدخل أجنبي عسكري. أما الهولنديون فقد تحملوا عواقب الحروب الدينية كاملة، وبعد صراع طويل ومرير ضد إسبانيا الكاثوليكية، حققوا آخر الأمر اعترافا باستقلالهم المؤقت في عام 1609م، ثم أصبح هذا الاستقلال نهائيا بعد معاهدة وستفاليا عام 1648م.
ويطلق على هذا الموقف الجديد تجاه مشكلات الميدان الاجتماعي والثقافي اسم الليبرالية، وهي تسمية أقرب إلى الغموض، يستطيع المرء أن يدرك في ثناياها عددا من السمات المتميزة. فقد كانت الليبرالية أولا، بروتستانتية في المحل الأول، ولكن ليس على الطريقة الكالفينية الضيقة. والواقع أنها كانت أقرب بكثير إلى أن تكون تطويرا للفكرة البروتستانتية القائلة إن على كل فرد أن يسوي أموره مع الله بطريقته الخاصة - هذا فضلا عن أن التعصب والتزمت يضر بالأعمال الاقتصادية. ولما كانت الليبرالية نتاجا للطبقات الوسطى الصاعدة التي كان التقدم التجاري والصناعي يتحقق على يديها، فقد كانت معارضة للتقاليد القائمة على التمييز، والتي ترسخت لدى الطبقة الأرستقراطية، ولدي الملكية على حد سواء. ومن ثم كان محور الموقف الليبرالي هو التسامح. وهكذا ففي القرن السابع عشر، الذي كان فيه الصراع الديني يمزق معظم البلاد الأوروبية الأخرى، وكان التعصب الأعمى يسومها العذاب، كانت الجمهورية الهولندية ملاذا لكافة أنواع الرافضين والمفكرين الأحرار. ذلك لأن الكنائس البروتستانتية لم تكتسب أبدا تلك السلطة السياسية التي كانت الكاثوليكية قد تمتعت بها خلال العصور الوسطى؛ ومن هنا أخذت سلطة الدولة تزداد أهمية بصورة ملحوظة.
كان تجار الطبقة الوسطى، الذين اكتسبوا ثروتهم وممتلكاتهم بجهودهم الخاصة، ينظرون بسخط إلى السلطة المطلقة للملوك. لذلك كانت الحركة تتجه نحو الديمقراطية المبنية على حقوق التملك وعلى الحد من سلطة الملوك. وإلى جانب إنكار الحق الإلهي للملوك، ظهر شعور بأن في استطاعة الناس أن يتجاوزوا أوضاعهم بجهودهم الخاصة، ومن ثم بدأ الناس اهتماما متزايدا بالتعليم.
ويمكن القول بوجه عام إن الناس كانوا ينظرون بارتياب إلى الحكومة أيا كانت، على أساس أنها لا تلبي احتياجات التوسع في التجارة، وتقف عقبة في وجه نموها الحر. وفي الوقت ذاته كان هناك اعتراف بالأهمية القصوى للحاجة إلى القانون والنظام، مما أدى إلى التخفيف إلى حد ما من المعارضة التي توجه إلى الحكومة. ومن هذه الفترة ورث الإنجليز ميلهم المشهور إلى الحلول الوسطى، وهو الميل الذي يعني في الميدان الاجتماعي إيثار الإصلاح على الثورة.
وهكذا فإن ليبرالية القرن السابع عشر كانت، كما يوحي اسمها، قوة للتحرر (liberation) . فقد حررت من كانوا يمارسونها من كافة ضروب الطغيان؛ السياسي والديني والاقتصادي والعقلي، ذلك الطغيان الذي كان تراث العصور الوسطى المتداعي لا يزال متشبثا به. وبالمثل كانت الليبرالية مضادة لذلك الحماس الأعمى الذي اتصفت به الفرق البروتستانتية المتطرفة، ورفضت السلطة التي كانت تدعيها الكنيسة للتشريع في أمور العلم والفلسفة. وهكذا ظلت الليبرالية المبكرة، المتقدة حماسا بفضل نظرتها المتفائلة، والمندفعة بطاقة لا حدود لها، تخطو خطوات هائلة دون أن تعاني نكسات كبرى، إلى أن جاء مؤتمر فيينا فأغرق أوروبا في مستنقع إقطاعي من نوع جديد، هو «الحلف المقدس».
ولقد كان نمو الليبرالية في إنجلترا وهولندا مرتبطا بالأوضاع العامة للعصر إلى حد لم تؤد معه إلى إثارة ضجة كبيرة، غير أنها مارست في بلاد أخرى، وخاصة فرنسا وأمريكا الشمالية، تأثيرا ثوريا في تشكيل الأحداث التالية.
ولقد كان من السمات الرئيسية للاتجاه الليبرالي احترامه للفردية. وكان اللاهوت البروتستانتي قد أكد أنه ليس من حق السلطة وضع القوانين في الأمور المتعلقة بالضمير، وتغلغلت هذه النزعة الفردية ذاتها في الميدانين الاقتصادي والفلسفي؛ ففي الاقتصاد تمثلت في مبدأ دعه يعمل
Laissez-Faire
الذي قام «مذهب المنفعة» في القرن التاسع عشر من أجل تبريره عقليا. وفي الفلسفة أدى إلى تأكيد الاهتمام بنظرية المعرفة، التي انشغل بها الفلاسفة كثيرا منذ ذلك الحين. وكانت عبارة ديكارت الشهيرة «أنا أفكر إذن فأنا موجود.» معبرة بوضوح عن هذه النزعة الفردية، لأنها ترد كل فرد إلى وجوده الشخصي بوصفه أساسا للمعرفة.
ولقد كانت هذه النزعة الفردية في أساسها نظرية عقلانية، وكان العقل يعد ذا أهمية قصوى، بينما كان ينظر إلى تحكم الانفعالات والأهواء في المرء على أنه علامة على انعدام التحضر. أما في القرن التاسع عشر فقد توسع المفكرون في النزعة الفردية بحيث أصبحت تشمل الانفعالات ذاتها، وأدت، خلال ذروة الحركة الرومانتيكية، إلى ظهور عدد من فلسفات القوة التي كانت تعلي من قدر الإرادة الذاتية للأقوى؛ مما أدى بطبيعة الحال إلى شيء مضاد تماما لليبرالية. بل إن مثل هذه النظريات تهدم نفسها بنفسها، ما دام الشخص الذي ينجح لا بد له أن يحطم السلم الذي قاده إلى النجاح، خوفا من منافسة أشخاص آخرين يعادلونه طموحا.
ولقد كان للنزعة الليبرالية تأثيرها في المناخ العقلي لدى الرأي العام، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن نجد بعضا من المفكرين يتخذون موقفا ليبراليا في نظرياتهم السياسية، مع أنهم يعتنقون في الميادين الأخرى آراء فلسفية مختلفة عنها اختلافا جذريا، فقد كان اسبينوزا ليبراليا بقدر ما كان التجريبيون الإنجليز.
وبظهور المجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر، أصبحت الليبرالية مصدرا قويا للإصلاح الاجتماعي لأوضاع الطبقات العاملة المستغلة استغلالا قاسيا. وفيما بعد تولت هذه المهمة قوى كثر نضالية، هي قوى الحركة الاشتراكية الصاعدة، وظلت الليبرالية على وجه العموم حركة بلا عقيدة جامدة. ومن المؤسف أنها، من حيث هي قوة سياسية، أصبحت الآن مستهلكة تماما. فمن سمات عصرنا الحالي التي تدعو إلى الأسى، والتي ربما كانت حصيلة الكوارث العالمية المتلاحقة في هذا القرن، أن معظم الناس لم يعودوا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليعيشوا بدون عقيدة سياسية جامدة صارمة.
لقد أدت أعمال ديكارت الفلسفية إلى تيارين رئيسيين للتطور: أحدهما هو إحياء التراث العقلي، الذي كان أكبر دعاته في القرن السابع عشر اسبينوزا وليبنتس . والثاني ما يطلق عليه بوجه عام اسم التجريبية الإنجليزية. ولكن من المهم ألا نستخدم هذين الوصفين (العقلية والتجريبية) بطريقة مفرطة في التحجر. ذلك لأن من أكبر العقبات التي تعترض طريق الفهم في الفلسفة، بل في أي ميدان آخر، تصنيف المفكرين بطريقة عمياء مفرطة في الجمود، وفقا لأوصاف ثابتة نطلقها عليهم. ومع ذلك فإن التقسيم المألوف ليس جزافيا، وإنما يشير إلى بعض السمات البارزة في كلا التراثين. ويظل هذا الحكم صحيحا حتى على الرغم من أن التجريبيين الإنجليز قد كشفوا، في نظريتهم السياسية، عن نزعة عقلية واضحة في تفكيرهم.
كان الممثلون الثلاثة العظام لهذه الحركة، وهم لوك
Locke ، وباركلي
Berckeley
وهيوم
Hume ، يغطون على وجه التقريب الفترة الممتدة من الحرب الأهلية في إنجلترا حتى الثورة الفرنسية. ولقد نشأ جون لوك (1632-1754م) نشأة تطهرية (بيوريتانية) بالمعنى الدقيق، وكان أبوه قد حارب في صف قوات البرلمان خلال الحرب الأهلية، على حين أن لوك نفسه قد انفصل بمضي الوقت عن طرفي النزاع معا، نظرا إلى أن التسامح كان من أهم دعائم نظرته العامة. وقد التحق لوك بمدرسة وستمنستر عام 1646م، حيث اكتسب الأساس التقليدي في الآداب الكلاسيكية، ثم انتقل بعد ست سنوات إلى أكسفورد حيث قضى السنوات الخمس عشرة التالية، أولا بوصفه طالبا، وبعد ذلك بوصفه معلما للغة اليونانية والفلسفة. ولم يجد لوك ما يروقه في النزعة المدرسية التي كانت لا تزال سائدة عندئذ في أكسفورد، على حين أنه، أبدى اهتماما أكبر بالتجارب العلمية وبفلسفة ديكارت. ولم تكن الكنيسة القائمة تبشر بالخير في نظر رجل يتسم بمثل هذه النظرة المتسامحة؛ لذلك قرر آخر الأمر أن يدرس الطب. وفي هذه الفترة تعرف إلى بويل
Boyle
الذي كان مرتبطا بالجمعية الملكية التي أسست عام 1668م. وقبل ذلك كان قد رافق بعثة دبلوماسية إلى أمير براندنبرج في عام 1665م، ثم قابل في العام التالي اللورد أشلي
Ashley ، الذي أصبح فيما بعد أول من يحمل لقب إيرل شافتسبري، فأصبح صديقا لشافتسبري ومساعدا له حتى عام 1682م.
وأشهر مؤلفات لوك الفلسفية هو كتاب «دراسة في الفهم البشري
Essay Concerning Human Understanding »، الذي بدأه عام 1671م نتيجة لسلسلة من المناقشات مع أصدقائه، اتضح له فيها أن من المفيد القيام بتقدير أولي لنطاق المعرفة البشرية وحدودها. وعندما عزل شافتسبري عام 1675م، رحل لوك وقضى السنوات الثلاث التالية في فرنسا، حيث قابل كثيرا من مفكري عصره البارزين. وفي عام 1675م عاد شافتسبري إلى الظهور في المسرح السياسي، وأصبح رئيسا للمجلس الملكي الخاص، فاستأنف لوك عمله مساعدا للإيرل في السنة التالية. وكان شافتسبري يسعى إلى الحيلولة دون اعتلاء جيمس الثاني العرش، مؤيدا مونموت
Monmouth ، الذي قاد فيما بعد تمردا فاشلا وفي النهاية مات منفيا في أمستردام عام 1683م. وقد حامت الشبهات حول لوك على أساس أنه تواطأ في الأمر، فهرب إلى هولندا في العام نفسه، وظل يعيش فترة ما باسم مستعار ليتجنب تسليمه إلى بلده الأصلي. وفي هذا الوقت أنهى كتابة «الدراسة». وخلال هذه الفترة كتب «رسالة في التسامح» و«دراستين عن الحكم». وفي عام 1688م اعتلى «وليام أوف أورانج» عرش إنجلترا، وعاد لوك إلى وطنه بعد وقت قصير، ونشرت الدراسة عام 1690م، وقضى لوك الجزء الأكبر من سنواته الأخيرة في إعداد الطبعات التالية لها، وفي خوض المناقشات التي أثارها كتابه.
في كتاب «الدراسة»، نجد لأول مرة محاولة مباشرة لبيان حدود الذهن، ولتحديد نوع الأبحاث التي يمكننا القيام بها. وعلى حين كان العقليون قد افترضوا ضمنا أن المعرفة الكاملة يمكن بلوغها في نهاية المطاف، فإن نظرة لوك الجديدة كانت أقل تفاؤلا في هذا الصدد. والواقع أن المذهب العقلي هو على وجه العموم مذهب تفاؤلي، ومن ثم فهو - من هذه الزاوية - غير نقدي. أما البحث المعرفي (الإبستمولوجي) الذي قام به لوك فهو أساس لفلسفة نقدية تعد تجريبية بمعنيين: أولهما أنها لا تصدر مقدما حكما يحدد نطاق المعرفة البشرية، كما فعل العقليون، وثانيهما أنها تؤكد عنصر التجربة الحسية؛ لذلك كانت هذه النظرة بداية للتراث التجريبي الذي حمل لواءه باركلي وهيوم وجون استورت مل، بل إنها كانت أيضا نقطة بداية الفلسفة النقدية عند كانت. وهكذا فإن ما يأخذه لوك على عاتقه في هذا الكتاب ليس تقديم مذهب جديد بقدر ما هو إزالة الأوهام والتحيزات القديمة. وفي هذا نراه يضع لنفسه هدفا رآه أكثر تواضعا من أعمال كبار البنائين لصرح المعرفة، مثل «السيد نيوتن الذي لا يبارى.» فهو من جانبه يرى أنه «حسبي من الطموح أن أشتغل عاملا تابعا يطهر الأرض قليلا، ويزيح بعض المهملات التي تعترض طريق المعرفة.»
والخطوة الأولى في هذا البرنامج الجديد في بناء المعرفة على التجربة وحدها، مما يعني ضرورة رفض الأفكار الفطرية التي قال بها ديكارت وليبنتس. والواقع أن جميع الأطراف يسلمون بأن لدينا منذ مولدنا نوعا من الاستعداد المغروز فينا، قابل للنمو، ويتيح لنا تعلم عدد من الأشياء. ولكن لا جدوى من افتراض أن الذهن الذي لم يتعلم يملك مضمونا في حالة كمون، ولو كان الأمر كذلك لاستحال علينا التمييز بين هذه المعرفة والمعرفة الأخرى التي تأتي حقيقة من التجربة، ويكون في إمكاننا عندئذ أن نقول بنفس القوة إن كل معرفة فطرية، وهذا بعينه هو ما تقول به نظرية التذكر التي عرضت في محاورة «مينون».
وعلى ذلك ينبغي أن يبدأ الذهن كصفحة بيضاء، تزودها التجربة بمضمونها الفعلي. ويطلق لوك على هذا المضمون اسم الأفكار، وهو لفظ يستخدم بمعنى شديد الاتساع. وتنقسم الأفكار بوجه عام إلى نوعين، حسب موضوعاتها: فهناك أولا أفكار الإحساس، التي تأتي من ملاحظة العالم الخارجي عن طريق حواسنا، أما النوع الآخر، فهو أفكار الانعكاس التي تنشأ عندما يلاحظ الذهن ذاته. وإلى هذا الحد لا يقدم لوك شيئا يلفت نظرنا بجدته. ذلك لأن الرأي القائل إن الذهن لا يوجد فيه شيء ما لم يكن قد أتى عن طريق الحواس ، كان تعبيرا مدرسيا قديما، وقد أضاف ليينتس تحفظا يستثني الذهن ذاته من هذه الصيغة. أما الجديد، والمميز للتجريبية، فهو الرأي القائل إن هذه هي المصادر الوحيدة للمعرفة، وهكذا فإننا لا نستطيع أبدا، خلال تفكيرنا وتأملنا أن نتجاوز حدود ما اكتسبناه عن طريق الإحساس والانعكاس.
وينتقل لوك إلى تقسيم الأفكار إلى بسيطة ومركبة، وهو لا يقدم معيارا مرضيا للبساطة؛ لأنه يصف الأفكار بأنها بسيطة حين لا يمكن تقسيمها إلى أجزاء، وهذا شيء لا يفيدنا كثيرا من حيث هو تفسير، فضلا عن أن لوك لم يكن متسقا مع نفسه في استخدامه لهذه العبارة. غير أن ما يحاول أن يقوله واضح، فإذا كانت الأفكار الوحيدة الموجودة هي أفكار الإحساس والانعكاس، فلا بد أن يكون من الممكن إيضاح الطريقة التي تتألف بها محتويات الذهن من نوعي الأفكار هذين، أو بعبارة أخرى كيف تنشأ الأفكار المركبة من تجمع أفكار بسيطة، وتنقسم الأفكار المركبة إلى جواهر
Substances
وأحوال
Modes
وعلاقات
Relations . فالجواهر أفكار مركبة عن الأشياء التي يمكنها أن توجد بذاتها، على حين أن الأحوال تعتمد على الجواهر. وأما العلاقات فليست في الواقع أفكارا مركبة بالمعنى الذي حدده لوك على الإطلاق، كما أدرك لوك ذاته فيما بعد؛ فهي فئة قائمة بذاتها تنشأ عن عملية المقارنة الذهنية. فلو تأملنا مثلا حالة السببية لوجدنا فكرة العلاقة هذه تطرأ على ذهننا عند ملاحظة التغير. أما فكرة الارتباط الضروري فكانت مبنية في رأي لوك، على افتراض مسبق وليست قائمة على التجربة. وقد أكد هيوم فيما بعد النقطة الثانية من النقطتين السابقتين، على حين أكد «كانت» النقطة الأولى.
إن القول بأن المرء يعرف شيئا ما ينطوي في نظر لوك، على القول بأن المرء لديه يقين ما. وفي هذه المسألة لم يفعل لوك شيئا سوى مسايرة تراث العقليين، واستخدام لفظ «يعرف» بمعنى يرجع إلى أفلاطون وسقراط. على أن ما نعرفه، في رأي لوك إنما هو أفكار، وهذه الأفكار بدورها توصف بأنها تصور العالم أو تمثله. وبطبيعة الحال فإن نظرية المعرفة القائمة على فكرة تمثيل العالم تجعل لوك يتجاوز التجريبية التي دافع عنها بكل هذا الحماس. ذلك لأنه إذا كان كل ما نعرفه هو الأفكار، فلن يكون في وسعنا أبدا أن نعرف إن كانت هذه الأفكار مطابقة لعالم الأشياء. وعلى أية حال فإن هذا الرأي عن المعرفة يؤدي بفيلسوفنا إلى الرأي القائل إن الألفاظ تدل على الأفكار بطريقة تشبه إلى حد بعيد دلالة الأفكار على الأشياء. غير أن بين الحالتين فرقا، هو أن الألفاظ علامات اصطلاحية أو متعارف عليها، وهي صفة لا يمكن أن تقال عن الأفكار. ولما كانت التجربة لا تزودنا إلا بأفكار جزئية، فإن نشاط الذهن ذاته هو الذي ينتج الأفكار المجردة، العامة. أما عن رأي لوك في أصل اللغة، الذي يعبر عنه بطريقة عرضية في الدراسة، فإنه يشارك فيكو اعترافه بأهمية المجاز.
إن من الصعوبات الرئيسية في نظرية المعرفة عند لوك، محاولة تفسير الخطأ. والواقع أن الطابع الذي تتخذه المشكلة عنده هو بالضبط طابعها الذي رأيناه من قبل في محاورة «تيتاتوس» لأفلاطون، وذلك إذا ما أحللنا الصفحة البيضاء عند لوك محل قنص الطيور عند أفلاطون، ووضعنا الأفكار موضع الطيور. عندئذ يبدو أن من المستحيل وفقا لهذه النظرية أن يقع المرء في الخطأ، غير أن هذا النوع من المشكلات لا يقلق بال لوك عادة. فهو ليس منهجيا في معالجته لموضوعاته، وكثيرا ما يترك الموضوع حين تنشأ صعوبات. وقد أدى به تكوينه الذهني العملي إلى معالجة المشكلات الفلسفية بطريقة تجزيئية دون أن يواجه مشكلة الوصول إلى موقف متسق مع ذاته. لقد كان بالفعل، كما قال، عاملا تابعا.
أما في مسائل اللاهوت، فقد أخذ لوك بالتقسيم التقليدي للحقيقة إلى عقلية ونقلية، وظل على الدوام مؤمنا مخلصا بالمسيحية، وإن كان إيمانه قد اتخذ طابعا مستقلا. ولقد كان أشد ما ينفر منه هو الحماس الديني الذي يصل إلى حد الهوس، أي حالة أولئك الذين يعتقدون أن هناك إلهاما إلهيا متسلطا عليهم، مثل كثير من الزعماء الدينيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقد كان يرى أن تعصبهم يهدم العقل والوحي معا، وهو رأي أكدته فظائع الحروب الدينية بطريقة مأساوية. ولكن حقيقة الأمر، على أية حال، هي أن لوك قد جعل الأولوية للعقل، متابعا في ذلك الاتجاه الفلسفي العام لعصره.
وفي نظريات لوك السياسية نجد نفس المزيج الذي يجمع بين العقل والتجريبية التجزيئية. وقد عبر عن هذه الآراء في رسالتيه عن «الحكومة» اللتين كتبتا في 1689-1690م، وكانت أولى هاتين الرسالتين ردا على كتيب ألفه السير روبرت فيلمر
Filmer
بعنوان «الملك الأب
»، وتحوي صياغة متطرفة لفكرة الحق الإلهي للملك، وتقوم هذه النظرية على المبدأ الوراثي الذي لا يجد لوك صعوبة في هدمه، وإن كان يمكننا أن نلاحظ أن المبدأ في ذاته لا يتعارض مع العقل البشري بل إنه في الواقع مقبول على نطاق واسع في الميدان الاقتصادي.
1
وفي الدراسة الثانية يعرض لوك نظريته الخاصة. فهو، مثل هبز، يعتقد أنه قبل أن تقوم الحكومة المدنية، كان الناس يعيشون في حالة طبيعية يحكمها القانون الطبيعي، وكل هذه الآراء تنتمي إلى المدرسة التقليدية. أما رأي لوك في نشوء الحكومة فيبنى، مثل رأي هبز، على نظرية العقد الاجتماعي، وهي نظرية يقول عنها المذهب العقلي. وقد كانت هذه النظرية تمثل تقدما بالنسبة إلى من يؤمنون بحق الملوك الإلهي، وإن كانت أدنى مستوى من نظرية فيكو. والدافع الأساسي الذي يحفز إلى العقد الاجتماعي هو في رأي لوك، حماية الملكية. فحين يلتزم الناس بهذه الاتفاقات، يتنازلون عن حقهم في العمل بوصفهم المدافعين الوحيدين عن شئونهم، ويعهدون به إلى الحكومة. ونظرا إلى أن الملك ذاته، في النظام الملكي، قد يدخل في منازعات، فإن المبدأ القائل بعدم جواز حكم أي إنسان في قضيته الخاصة يحتم استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. وقد تناول مونتسكيو فيما بعد مسألة فصل السلطات بمزيد من التفصيل. أما عند لوك فإننا نجد أول عرض متكامل لهذه المسائل، وكان معنيا بوجه خاص بالسلطة التنفيذية للملك في مواجهة الوظيفة التشريعية للبرلمان. فالسلطة التشريعية هي التي ينبغي أن تكون لها الكلمة العليا، لأنها مسئولة فقط أمام المجتمع ككل ، ذلك المجتمع الذي تعد هي ممثلة له. فما الذي ينبغي عمله حين تتصادم السلطتان التنفيذية والتشريعية؟ من الواضح أن السلطة التنفيذية هي التي ينبغي أن تجبر في هذه الحالات على الاستسلام، وهذا بالفعل ما حدث للملك تشارلز الأول، الذي أدت أساليبه القمعية إلى إثارة الحرب الأهلية.
وتبقى بعد ذلك مسألة الطريقة التي يمكن بها أن نقرر متى يكون من الواجب استخدام القوة ضد حاكم مشاكس. هذه الأمور تقرر عادة، في الواقع العملي، على أساس نجاح القضية موضوع النزاع أو إخفاقها. وعلى الرغم من أن لوك يبدو واعيا بهذه الحقيقة، ولكن بصورة فيها شيء من الغموض، فإن رأيه يتمشى مع اتجاه التفكير السياسي لعصره، الذي كان في عمومه عقلانيا. فقد كان يفترض أن أي إنسان عاقل يعرف ما هو الصواب، وهنا نجد مرة أخرى أن نظرية القانون الطبيعي تكمن في خلفية هذا التفكير؛ ذلك لأن صواب أي فعل لا يمكن تقديره إلا على أساس مبدأ من هذا النوع. وهنا تلعب السلطة الثالثة، القضائية، دورا خاصا. والواقع أن لوك ذاته لا يتحدث عن السلطة القضائية بوصفها سلطة مستقلة، غير أن هذه السلطة اكتسبت بمضي الوقت، حيثما كان مبدأ فصل السلطات مقبولا، مركزا مستقلا تمام الاستقلال، مما أتاح لها أن تقوم بدور التحكيم بين أية سلطات أخرى، وعلى هذا النحو تكون السلطات الثلاث نسقا من الضوابط المتبادلة التي تحول دون ظهور قوة طاغية، وهذا مبدأ جوهري بالنسبة إلى الليبرالية السياسية.
أما في إنجلترا الآن، فإن جمود البناء الحزبي، والسلطات التي يملكها مجلس الوزراء تقلل إلى حد ما من الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولكن أوضح مثال للفصل بين السلطات على النحو الذي تصوره لوك يوجد في حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يعمل الرئيس ومجلسا الكونجرس على نحو مستقل. أما عن الدولة بوجه عام فإن سلطاتها زادت، منذ أيام لوك، حتى اتخذت أبعادا هائلة، على حساب الفرد.
وعلى الرغم من أن لوك لم يكن من أعمق المفكرين أو من أكثرهم أصالة، فإن أعماله قد مارست تأثيرا قويا وباقيا في الفلسفة والسياسة معا، فهو في الفلسفة واحد ممن بدءوا المذهب التجريبي الحديث، وهو اتجاه فكري طوره بعد ذلك باركلي وهيوم، ثم بنتام وجون استورت مل. وفضلا عن ذلك فقد كانت حركة «الموسوعيين» الفرنسية في القرن الثامن عشر متأثرة بلوك إلى حد بعيد، باستثناء روسو وأتباعه. كذلك فإن الماركسية تدين بمذاقها العلمي لتأثير جون لوك.
لقد كانت نظريات لوك السياسية تلخيصا لما كان يمارس بالفعل في إنجلترا في ذلك الوقت. لذلك لم يكن لنا أن نتوقع لهذه النظريات أن تحدث في إنجلترا تقلبات ضخمة. أما في أمريكا وفرنسا فقد كان الأمر على خلاف ذلك؛ إذ أدت ليبرالية لوك إلى تغييرات ضخمة وثورية. ففي أمريكا أصبحت الليبرالية هي المثل الأعلى القومي، الذي صانه الدستور بحرص شديد، ومع أن من سمات المثل العليا أنها لا تراعى دائما بإخلاص، فإن الليبرالية المبكرة، من حيث هي مبدأ، قد ظلت تمارس في أمريكا لدرجة لا يكاد يطرأ عليها أي تغيير.
ومن الغريب حقا أن نجاح لوك الهائل يرتبط بالانتصار الكاسح الذي أحرزه نيوتن؛ ذلك لأن فيزياء نيوتن قد قضت على سلطة أرسطو بصورة نهائية حاسمة. وبالمثل فإن نظرية لوك السياسية، وإن لم تكن مبتكرة إلا في القليل، قد نفذت حق الملوك الإلهي، وسعت إلى إقامة نظرية جديدة للدولة، مبنية على قانون الطبيعة الذي قال به المدرسيون، بعد أن أدخلت عليه التعديلات التي تجعله ملائما للأوضاع الحديثة. ويظهر الطابع العلمي لهذه الجهود من خلال تأثيراتها على الأحداث التالية. فصيغة إعلان الاستقلال الأمريكي ذاتها تحمل طابعها بوضوح. وحين عدل فرانكلين عبارة جيفرسون التي كانت تقول «إننا نؤمن بأن هذه الحقائق مقدسة لا سبيل إلى إنكارها.» فاستعاض عن التعبير «مقدسة لا سبيل إلى إنكارها.» بالتعبير «واضحة بذاتها.» فقد كان يعبر بذلك عن لغة لوك الفلسفية.
أما في فرنسا فقد كان تأثير لوك أقوى حتى من أمريكا. فقد كان الطغيان السياسي البالي الذي يمارسه النظام القديم
Ancien regime
2
يمثل الوجه المضاد، إلى درجة الوضوح المؤلم، للمبادئ الليبرالية السائدة في إنجلترا. وفضلا عن ذلك فإن مفاهيم نيوتن قد حلت، في الميدان العلمي، محل النظرة الديكارتية الأقدم عهدا، إلى العالم. وفي ميدان الاقتصاد بدوره، كان الفرنسيون يعجبون كثيرا بسياسة التجارة الحرة الإنجليزية، على الرغم من أنهم أساءوا فهمها إلى حد ما. وهكذا كانت تسود في فرنسا، طوال القرن الثامن عشر، حالة من عشق كل ما هو إنجليزي (anglophilia) ، مبنية قبل كل شيء على تأثير لوك.
ولقد كانت فلسفة لوك هي التي أظهرت للمرة الأولى ذلك الانقسام الذي عرف فيما بعد في الفلسفة الأوروبية الحديثة. كان الطابع العام للفلسفة داخل القارة الأوروبية هو طابع بناء المذاهب الشامخة. وكانت الحجج التي ترتكز عليها ذات طابع قبلي
a priori ، ولم تكن في كثير من الأحيان تكترث، في تعميماتها الشاملة بالمسائل التفصيلية. أما الفلسفة الإنجليزية فتتبع بصورة أدق منهج البحث التجريبي في العلم. فهي تعالج عددا كبيرا من المسائل الأصغر بطريقة تجزيئية، وعندما تقدم مبادئ عامة تخضعها لاختبار الأدلة المباشرة.
ونتيجة لهذه الاختلافات في طريقة المعالجة، نجد المذهب القبلي، برغم اتساقه في ذاته، يتهاوى بأكمله إذا ما زعزعت مرتكزاته الأساسية. أما الفلسفة التجريبية فإن اعتمادها على الوقائع الملاحظة يجعلها لا تنهار إذا ما تبين وجود خطأ في مواضيع معينة منها. والاختلاف هنا أشبه بالاختلاف بين هرمين يبنى أحدهما مقلوبا، فالهرم التجريبي يرتكز على قاعدته، ومن ثم فهو لا ينهار إذا ما سقطت كتلة من جزء معين فيه، أما الهرم القبلي فيرتكز على رأسه ويتداعى حتى لو دفعته بالإصبع.
والواقع أن النتائج العملية لهذا المنهج أوضح ظهورا في ميدان الأخلاق بوجه خاص، فمن الممكن أن تؤدي نظرية للخير وضعت بوصفها مذهبا جامدا إلى خراب مرعب لو أن طاغية غشوما تخيل نفسه مبعوث العناية الإلهية من أجل تطبيقها. ولا جدال في أنه قد يكون هناك من يزدرون الأخلاق النفعية لأنها تبدأ من الرغبة الأساسية في السعادة. غير أن من المؤكد أن من يؤيد هذه النظرية سوف يفعل في النهاية، من أجل تحسين حال أقرانه، أكثر مما يفعل المصلح المتزمت المتصلب، الذي يسعى إلى تحقيق غاية مثالية مهما كانت الوسائل. ويناظر هذا الاختلاف في وجهات النظر حول الأخلاق، اختلاف آخر في المواقف إزاء السياسة؛ إذ لم يكن لدى الليبراليين المتأثرين بتراث لوك ميل كبير إلى التغييرات الشاملة المبنية على مبادئ مجردة. فكل مشكلة ينبغي أن تعالج بذاتها في مناقشة حرة. وهذا الطابع التجزيئي، التجريبي، الذي لا يكتفي بالخروج عن المذهبية الجامدة ، بل يعاديها، والذي يتسم به الحكم والممارسة الاجتماعية في إنجلترا، هو الذي يثير قدرا كبيرا من السخط لدى بقية الأوروبيين داخل القارة.
ولقد كان خلفاء المذهب الليبرالي عند لوك، من أصحاب مذهب المنفعة يدعون إلى أخلاق تقوم على النفع الذاتي المستنير، وهي فكرة قد لا تستثير أنبل المشاعر في البشر، ولكنها في الوقت ذاته تتجنب تلك الفظائع التي ارتكبت بطريقة بطولية حقا، باسم مذاهب أرفع، وضعت لنفسها أهدافا أكثر احتراما، ولكنها تجاهلت حقيقة أن الناس ليسوا تجريدات.
على أن من الأخطاء الخطيرة التي وقعت فيها نظرية لوك، رأيه في الأفكار المجردة، وهذا الرأي إنما كان بالطبع محاولة لمعالجة مشكلة الكليات، التي تركتها نظرية المعرفة عند لوك دون حل. والصعوبة هي أننا لو جردنا من أمثلة محددة، لما تبقى في النهاية شيء على الإطلاق. ويضرب لوك لذلك مثلا بالفكرة المجردة للمثلث، وهي الفكرة التي لا ينبغي أن تكون منحرفة أو قائمة، ولا متساوية الأضلاع ولا متساوية الساقين ولا حادة، وإنما كل هذه الأفكار ولا أحد منها في آن معا، ومن هنا كان نقد نظرية الأفكار المجردة هو نقطة البدء في فلسفة باركلي.
ولد جورج باركلي (1685-1753م) في إيرلندا عام 1685م، لأسرة إيرلندية إنجليزية، وقد التحق وهو في الخامسة عشرة بكلية ترينتي، في دبلن، حيث بدأت تزدهر المعارف الجديدة التي جاء بها نيوتن، وكذلك فلسفة لوك، إلى جانب الموضوعات التقليدية. وفي عام 1707م اختير زميلا في كليته، وخلال السنوات التالية نشر الأعمال التي قامت عليها شهرته بوصفه فيلسوفا. فهو قد وصل إلى أوج شهرته ولما يبلغ الثلاثين. أما في السنوات التالية فقد كرس طاقاته لقضايا أخرى. وفيما بين 1713م و1721م عاش باركلي وسافر في إنجلترا وفي القارة الأوروبية. وعندما عاد إلى كلية ترينيف عين في منصب زمالة قيادي، ثم أصبح في عام 1724م عميدا لكلية دري
Dery . وعندما وصل إلى هذه المرحلة بدأ يعمل من أجل تشييد كلية للتبشير في برمودا، فرحل إلى أمريكا عام 1728، حاملا معه تأكيدات بأن الحكومة سوف تسانده، وأخذ ينشر دعوته بين سكان نيو إنجلند طالبا تأييدهم. ولكنه لم يتلق العون الذي وعدته به الحكومة، واضطر إلى التخلي عن خططه. وفي عام 1732م عاد إلى لندن، وبعد عامين عين أسقفا لكلوين
Cloyne ، وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته؛ إذ كان قد ذهب في زيارة إلى أكسفورد عام 1752م، وهناك توفي في أول العام التالي.
إن القضية الأساسية في فلسفة باركلي هي أن وجود أي شيء يساوي كونه مدركا. وقد بدت له هذه الصيغة واضحة بذاتها إلى درجة أنه لم يتمكن أبدا من أن يشرح لمعاصريه، الذين كانوا أقل منه اقتناعا، ما الذي كان يحاول أن يقوله. ذلك لأن هذه الصيغة تبدو للوهلة الأولى متعارضة بشدة مع ما يراه الحس الطبيعي للإنسان. فلا أحد يعتقد عادة كما يتطلب هذا الرأي على ما يبدو أن الأشياء التي يدركها توجد في ذهنه. ولكن المسألة هي أن باركلي يقول بصورة ضمنية إن الرأي التجريبي الذي دعا إليه لوك وإن لم يكن قد طبقه دائما بصورة متسقة، يجعل من فكرة الموضوع باطلة. ومن هنا فإن الادعاء بأن باركلي يمكن تفنيده عن طريق ضرب الأحجار بالأرجل، كما فصل الدكتور جونسون، هو ادعاء لا يحقق أي هدف. وبالطبع فإن مسألة ما إذا كانت نظرية باركلي هي في النهاية علاج للصعوبات التي يواجهها لوك، هي مسألة أخرى، ولكن ينبغي أن نذكر أن باركلى لا يحاول أن يربكنا بألغاز محيرة، وإنما يسعى إلى تصحيح بعض الأفكار غير المتسقة عند لوك. وفي هذا على الأقل، نجح نجاحا تاما؛ إذ لا يمكن الاحتفاظ بالتمييز بين عالم داخلي وعالم خارجي في ظل نظرية المعرفة التي قال بها لوك. ومن المستحيل أن نتمسك في آن واحد بنظرية للأفكار كتلك التي قال بها لوك، وبنظرية تمثيلية أو تصويرية
representative
للمعرفة. وقد واجه التفسير الذي قدمه «كانت» لهذه المشكلة ذاتها صعوبة مشابهة تماما فيما بعد.
كان أول كتاب انتقد فيه باركلي نظرية الأفكار هو «محاولة في سبيل نظرية جديدة للإبصار»، وفي هذا الكتاب يبدأ بمناقشة بعض مظاهر الخلط التي كانت شائعة في عصره حول موضوع الإدراك الحسي، وهو يقدم بوجه خاص الحل الصحيح للغز الذي يبدو محيرا، وهو أننا نرى الأشياء معقولة على الرغم من أن الصورة المنطبعة على عدسة العين تكون مقلوبة. وقد كان هذا اللغز شائعا في ذلك الحين، ولكن باركلي أثبت أنه مبني على مغالطة بسيطة غاية البساطة. فالمسألة هي أننا نرى بأعيننا، وليس بالنظر إلى الأشياء من الخلف وكأننا ننظر إلى شاشة. وهكذا فإن سبب سوء الفهم هذا هو الإهمال الذي يجعلنا ننزلق من البصريات الهندسية إلى لغة الإدراك البصري. وينتقل باركلي بعد ذلك إلى وضع نظرية في الإدراك الحسي تقدم تمييزا أساسيا بين الأشياء التي تسمح لنا مختلف الحواس أن نقولها عن موضوعاتها.
فالإدراكات البصرية ليست في رأيه إدراكا لأشياء خارجية، وإنما هي أفكار في الذهن فحسب. وعلى الرغم من أن الإدراكات اللمسية توجد في الذهن بوصفها أفكارا للإحساس، فإنه يصفها بأنها تتعلق بموضوعات فيزيائية، وإن كان قد أزال هذا التمييز في أعماله اللاحقة، وأصبحت كل الإدراكات تزودنا بأفكار عن الحس فقط. والسبب الذي يجعل الحواس منعزلة على هذا النحو، كلا عن الأخرى، هو أن جميع الإحساسات نوعية. وهذا بدوره يعلل رفض باركلي لما يسميه بالمادية. ذلك لأن المادة ما هي إلا حامل ميتافيزيقي لصفات هي وحدها التي تؤدي إلى تجارب تشكل مضامين ذهنية. أما المادة الخالصة فلا يمكن تجربتها، ومن ثم فإنها تجريد لا تدعو إليه الحاجة. وينطبق هذا الوصف ذاته على الأفكار المجردة عند لوك. فلو نزعت عن المثلث مثلا كل ما فيه من سمات نوعية، لما بقي في النهاية شيء بالمعنى الدقيق، ومن المحال أن تكون لدينا تجربة باللاشيء.
وفي كتاب «مبادئ المعرفة البشرية» الذي نشر عام 1710م، أي بعد عام من الكتاب السابق، يعرض باركلي صيغته بلا تحفظ أو مهادنة: فأن يكون الشيء، معناه أن يكون مدركا. هذه هي النتيجة النهائية لتجريبية لوك لو أخذت بجدية؛ إذ إن كل ما نستطيع أن نقوله هو إن لدينا تجارب بإحساسات أو انعكاسات معينة عندما تكون هذه لدينا بالفعل ، لا في أوقات أخرى. وهكذا فإننا لا نقتصر فقط على التجارب التي تسجل في الذهن، بل إننا نضطر إلى التسليم بهذه التجارب وحدها عندما تكون لدينا. ويمكن القول بمعنى معين إن هذا ليس شيئا غريبا على الإطلاق؛ إذ إن التجارب تكون لديك عندما تكون موجودة، لا في أي وقت آخر، والقول إن أي شيء موجود، لا يكون له معنى إلا في التجربة ومن خلالها، ومن ثم فإن وجود الشيء وكونه مدركا هما شيء واحد. ووفقا لهذا الرأي لا يكون هناك معنى للكلام عن تجربة غير مجربة، أو عن فكرة غير مدركة، وهو موقف لا زال يقول به فلاسفة معاصرون يقولون بنظريات ظاهرية
في المعرفة. ففي ظل هذه النظريات لا تكون هناك معطيات حسية غير محسوسة. أما عن الأفكار المجردة فإنها، إن كانت ممكنة على الإطلاق، لا بد أن تكون معبرة عن حقيقة لا يمكن أن تجرب، وهذا تناقض وقعت فيه تجريبية لوك. أما الرأي التجريبي الصحيح فيذهب إلى أن الواقع يعادل في امتداده ما يمكن تجربته فحسب.
فكيف إذن ينبغي معالجة مشكلة الكليات؟ يشير باركلي إلى أن ما ظن لوك أنه أفكار مجردة إن هو إلا أسماء كلية. غير أن هذه لا تشير إلى أي شيء منفرد، وإنما تشير إلى أي واحد ضمن مجموعة من الأشياء. وهكذا فإن لفظ «المثلث» يستخدم للتعبير عن أي مثلث، ولكنه لا يشير إلى تجريد. والواقع أن الصعوبة في نظرية الأفكار المجردة ترتبط بالصعوبة التي ناقشناها في صدد الصور السقراطية. فهي بدورها غير محددة أو نوعية على الإطلاق، وهي بهذا الوصف تعيش في عالم آخر غير عالمنا، أو مع ذلك، فقد ساد الاعتقاد بأن من الممكن معرفتها.
على أن باركلي لا يكتفي بإنكار الأفكار المجردة، بل يرفض أيضا كل تمييز قال به لوك بين الموضوعات والأفكار، وكذلك نظرية المعرفة التمثيلية
representative
المترتبة عليه؛ إذ كيف يمكننا لو كنا تجريبيين متسقين مع أنفسنا، أن نذهب من جهة إلى أن كل تجربة إنما هي تجربة لأفكار إحساس وانعكاس ، ونؤكد من جهة أخرى أن الأفكار تطابق موضوعات ليست هي ذاتها معروفة، أو حتى قابلة لأن تعرف؟ لقد رأينا من قبل عند لوك بوادر تمييز، أجراه «كانت» فيما بعد، بين الأشياء في ذاتها والمظاهر، أما باركلي فيرفض الأولى رفضا قاطعا، وهو على حق تماما في رفضها بوصفها غير متمشية مع تجريبية لوك. وهذا هو لب مثالية باركلي، فكل ما يمكننا أن نعرفه ونتحدث عنه حقا هو مضامين ذهنية، ولنلاحظ أن لوك قد اعتنق إلى جانب النظرية التمثيلية في المعرفة الرأي القائل إن الكلمات علامات للأفكار، فكل فكرة تناظرها كلمتها، والعكس بالعكس. ولقد كان هذا الرأي الباطل هو أصل نظرية الأفكار المجردة، وهكذا يتعين على لوك أن يقول إن التصريح بكلمة في حديث ما يستدعي الفكرة، وعلى هذا النحو تنتقل المعلومات من شخص إلى آخر.
ولا يجد باركلي صعوبة في تفنيد هذه النظرة إلى اللغة، ذلك لأن ما نفهمه عندما نستمع إلى شخص ما هو المعنى الإجمالي لكلامه، لا سلسلة من المعاني اللفظية المنفصل بعضها عن بعض، والتي تنظم بعد ذلك كحبات العقد. بل يمكننا أن نضيف إلى ذلك قولنا إن الصعوبة المتعلقة بعملية التمثيل ستعود، على أية حال، مرة أخرى، فكيف يعطي المرء الأفكار أسماء؟ إن هذا يقتضي أن يكون المرء قادرا على أن يعبر عن وجود فكرة محددة معينة في ذهنه، ثم يعطيها بعد ذلك أسماء، ولكن حتى في هذه الحالة سيظل من المستحيل أن نرى كيف يمكن التعبير عن التطابق، لأن الفكرة وفقا لما تقول به النظرية ذاتها، غير لفظية، وهكذا فإن التفسير الذي يقدمه لوك للغة يشويه نقص فادح.
لقد رأينا أن في استطاعة المرء تقديم تفسير لمثالية باركلي يجعلها أقل غرابة مما قد تبدو للوهلة الأولى. غير أن بعض النتائج التي اضطر باركلي إلى استخلاصها تتسم بأنها أقل إقناعا؛ فقد بدا له أنه إذا كان هناك نشاط إدراكي فلا مهرب من القول بضرورة وجود أذهان أو أرواح تقوم بهذا النشاط. على أن الذهن، حين تكون له أفكار لا يكون موضوعا لتجربته الخاصة، ومن ثم فإن وجوده لا يكمن في كونه مدركا (بفتح الراء)، بل في كونه مدركا (بكسرها). غير أن هذه النظرة إلى الذهن لا تتسق مع موقف باركلي الخاص؛ ذلك لأننا لو فحصنا المسألة لوجدنا أن الذهن الذي يتصور على هذا النحو هو بالضبط من نوع تلك الفكرة المجردة التي انتقدها باركلي عند لوك، فهو شيء لا يدرك هذا الشيء أو ذاك، وإنما يدرك بالمعنى المجرد. أما مسألة ما يحدث للذهن حين لا يمارس نشاطه، فإنها تتطلب حلا خاصا. فمن الواضح، إذا كان الوجود يعني إما الإدراك، كما في حالة الأذهان التي تمارس نشاطها، وإما كون الشيء مدركا، كما في حالة الأفكار، إن الذهن غير الفعال لا بد أن يكون فكرة في الذهن الإلهي الذي هو فعال أبدا. وهكذا يدخل باركلي هذا الإله الفلسفي لا لشيء إلا لمواجهة صعوبة نظرية. ذلك لأن وظيفة هذا الإله تقتصر على ضمان استمرار وجود الأذهان، وتبعا لذلك، ما نسميه بالموضوعات المادية أيضا. والواقع أن العرض الذي نقدمه لهذه الفكرة هو محاولة فيها قدر من التجاوز، من أجل تقريب كلام باركلي مما يمكن أن يقبله العقل السليم. على أن هذا الجزء من تفكير باركلي هو أقل الأجزاء قيمة وأهمية من الوجهة الفلسفية.
ولا بد لنا أن نؤكد في هذا المقام أن صيغة باركلي القائلة إن وجود الشيء هو كونه مدركا، لا تقول شيئا يعتقد أنه يتقرر عن طريق التجربة العلمية. بل إن ما يقوله في الواقع هو أنه يكفينا أن نتأمل بدقة كيف نستخدم مفرداتنا اللغوية على الوجه الصحيح لكي ندرك أن هذه الصيغة لا بد أن تكون صحيحة. وهكذا فإن ما يقوم به هنا ليست له دلالة ميتافزيقية، وإنما هو مجرد تحديد للطريقة التي ينبغي بها استخدام ألفاظ معينة. وبطبيعة الحال فبقدر ما نقرر أن نستخدم لفظي «الوجود» و«كونه مدركا» بطريقة مرادفة، لا يكون هناك مجال للشك. ولكن باركلي لا يعتقد فقط أن هذه هي الطريقة التي ينبغي أن نستخدم بها هذه الألفاظ، بل يقول إننا نستخدمها بالفعل على هذا النحو عندما نتحدث بدقة. ولقد بينا من قبل أن هذا قد يكون رأيا معقولا إلى حد ما، ومع ذلك فمن حق المرء أن يشعر بأن طريقة باركلي هذه في الكلام ليست صحيحة إلى الحد الذي كان يعتقد.
وأول ما ينبغي أن نلاحظه هو أنه يستخلص نظرية ميتافيزيقية عن الذهن والله لا تتمشى على الإطلاق مع بقية أجزاء فلسفته. وعلى الرغم من أننا لن نلح كثيرا على هذه النقطة، فإننا قد نشعر بأن مصطلح باركلي يخرج بلا داع عن طرق الحديث العادية المألوفة، وإن كان هذا أمرا قابلا للمناقشة، وهو على أية حال ليس سببا ينبغي من أجله أن نرفض رأيه. ولكن بغض النظر عن هذا الأمر تماما فإن العرض الذي يقدمه باركلي ينطوي على ضعف فلسفي يعرضه لقدر كبير من النقد. ومما يزيد من أهمية هذه النقطة أن باركلي وقع في هذا الخطأ عينه حين عرض نظريته في الإبصار، فقد أكد عن حق، كما ذكرنا من قبل، أن المرء يرى بعينيه ولا ينظر إليهما. وبالمثل يمكن القول بوجه عام إن المرء يدرك بذهنه، ولكنه حين يدرك لا يحلق فوق ذهنه، إن جاز التعبير، لكي يلاحظه، فكما أننا لا نلاحظ أعيننا، كذلك لا نلاحظ أذهاننا، وكما أننا لا نقبل القول إننا نرى ما على عدسة العين، كذلك لا ينبغي أن نقول إننا ندرك ما في الذهن، وهذا يثبت على الأقل أن عبارة «في الذهن تحتاج إلى بحث دقيق لم يقم به باركلي.»
والأمر الذي يثبته هذا النقد هو أنه قد تكون هناك أسباب قوية لرفض طريقة باركلي في الكلام، لحساب مصطلح مختلف، وذلك على أساس التشبيه الذي أوردناه في المثل السابق؛ إذ يبدو من الواضح أن صياغة باركلي، يمكن، في هذه الناحية، أن تكون مضللة إلى أبعد حد، وقد يرى البعض أن هذه ليست طريقة منصفة في معالجة باركلي، ولكن هذا، على الأرجح، هو ما كان باركلي ذاته خليقا بأن يطلبه من الناقد؛ ذلك لأنه رأى أن مهمة الفيلسوف هي الكشف عن أساليب الكلام المضللة، وقد عبر عن هذه المسألة في مقدمة كتابه «المبادئ» بقوله: «إنني أميل على وجه العموم إلى الاعتقاد بأن القدر أكبر من تلك الصعاب التي شغلت الفلاسفة من قبل، والتي وقفت حجر عثرة في طريق المعرفة، إن لم يكن كل هذه الصعاب، ترجع برمتها إلينا؛ فنحن نبدأ بأن نثير الغبار، ثم نشكو من عدم قدرتنا على الرؤية.»
أما كتاب باركلي الرئيسي الثاني «محاورات بين هيلاس وفيلونوس» فلا يقدم مادة جديدة للمناقشة، وإنما يكرر الآراء التي عبر عنها في أعماله السابقة، ولكن بأسلوب الحوار الذي هو أقرب إلى فهم القارئ.
إن نظرية الأفكار، كما عرضها لوك، تتعرض لعدد من الانتقادات. فإن كان الذهن لا يعرف سوى الانطباعات الحسية، فعندئذ يستحيل التمييز، كما أوضح باركلي، بين الصفات (أو الكيفيات) الأولية والصفات الثانوية. غير أن العرض النقدي المتكامل ينبغي أن يذهب أبعد حتى مما ذهب إليه باركلي، الذي كان لا يزال يسلم بوجود الأذهان. وهكذا كان هيوم هو الذي طور تجريبية لوك بحيث استخلص منها نتائجها المنطقية. وفي النهاية سنجد أن الإسراف في موقف الشك، الذي يتوصل إليه هيوم نتيجة لذلك، هو الذي يكشف الأخطاء في المسلمات الأصلية.
ولد ديفد هيوم (1711-1776م) في إدنبره، حيث التحق بالجامعة في سن الثانية عشرة. وبعد أن درس برنامجا تقليديا في الآداب، ترك الجامعة ولما يبلغ السادسة عشرة، وحاول لفترة ما أن يدرس القانون. غير أن اهتماماته الأصلية كانت تكمن في الفلسفة التي قرر في النهاية أن يتخصص فيها. وبعد أن انشغل هيوم في مشروع تجاري لفترة قصيرة، تخلى عنه بسرعة. وفي عام 1734م أبحر إلى فرنسا حيث أقام لمدة ثلاث سنوات. ولما كانت موارده محدودة، فقد اضطر إلى تكييف أسلوب حياته حسبما تمنحه إياه الأقدار من متع ضئيلة، وقد قبل هذه القيود برحابة صدر تامة، حتى يتفرغ كلية لأهدافه الفكرية.
وخلال إقامة هيوم في فرنسا، كتب أشهر مؤلفاته «دراسة في الطبيعة البشرية». فحين بلغ السادسة والعشرين كان قد أكمل الكتاب الذي أصبحت شهرة هيوم الفلسفية ترتكز عليه فيما بعد. وقد نشرت الدراسة في لندن بعد وقت قصير من عودة هيوم من سفره. ولكنها لاقت في البداية إخفاقا مدويا. والواقع أن الكتاب يحمل علامات تدل على صغر سن كاتبه، لا من حيث مضمونه الفلسفي وإنما من حيث لهجته الصريحة التي لا تخلو من الاندفاع. كذلك فإن رفضه للمبادئ الدينية السائدة، وهو رفض لم يحاول أن يخفيه، لم يساعد على إذاعة شهرته. ومن أجل أسباب كهذه أخفق هيوم، عام 1744م، في الحصول على وظيفة أستاذ كرسي الفلسفة بجامعة إدنبره. وفي عام 1746م التحق بخدمة الجنرال سانت كلير، وذهب معه في العام التالي في بعثة دبلوماسية إلى النمسا وإيطاليا، وقد أتاحت له هذه المهام أن يدخر مبلغا من المال يسمح له بالتقاعد عام 1748، ومنذ ذلك الحين كرس حياته لعمله. وقد نشر خلال فترة تبلغ خمسة عشر عاما عددا من المؤلفات في نظرية المعرفة والأخلاق والسياسة، وتوجها جميعا بكتاب في «تاريخ إنجلترا» جلب له الشهرة والثروة معا. وفي عام 1763م ذهب مرة أخرى إلى فرنسا، بوصفه السكرتير الشخصي للسفير البريطاني هذه المرة. وبعد عامين أصبح أمينا للسفارة، وأصبح قائما بالأعمال عندما استدعي السفير إلى بلاده، إلى أن عين في وظيفة جديدة في وقت لاحق من العام نفسه، وفي عام 1766م عاد إلى بلاده وأصبح وكيلا لوزارة الخارجية وظل يشغل هذا المركز لمدة عامين إلى أن تقاعد عام 1769م. أما سنواته الأخيرة فقد قضاها في إدنبره.
يرى هيوم، كما ذكر في مقدمة الدراسة أن كل بحث يحكمه ما يسميه علم الإنسان. فهو، على خلاف لوك وباركلي، لا يهتم فقط بتطهير الأرض، وإنما يضع في اعتباره المذهب الذي قد يكون من الممكن تشييده فيما بعد. وهذا المذهب هو علم للإنسان. وتوحي محاولته تشييد مذهب جديد بأنه تأثر بالمذهب العقلي السائد في القارة الأوروبية، وذلك بسبب الصلات التي ربطت بينه وبين المفكرين الفرنسيين الذين ظلوا متأثرين بالمبادئ الديكارتية. وعلى أية حال فإن التطلع إلى إقامة علم للإنسان أدى بهيوم إلى البحث في الطبيعة البشرية بوجه عام، وكانت نقطة بدايته في ذلك هي البحث في نطاق قدرات الإنسان الذهنية والحدود التي لا تتعداها.
كان هيوم يقبل المبدأ الأساسي في نظرية الإحساس عند لوك، ولم يجد بناء على هذا الرأي صعوبة في نقد نظرية الذهن أو الذات عند باركلي؛ ذلك لأن كل ما لدينا وعي به في التجربة الحسية هو الانطباعات، وليس ثمة واحد من هذه الانطباعات يؤدي إلى ظهور فكرة الهوية الشخصية. والواقع أن باركلي ذاته كان يشك في أن معالجته للنفس بوصفها جوهرا قد ألحقت بمذهبه بطريقة مصطنعة، ولم يستطع أن يقبل إمكان أن تكون لدينا فكرة عنها، ومن ثم فقد تقدم الرأي القائل إن لدينا «تصورا
notion » عن النفس. غير أنه لم يشرح أبدا كنه هذه التصورات. ولكن أيا كان ما قاله، فإن هذا يؤدي في الواقع إلى هدم نظريته الخاصة في الأفكار.
إن حجج هيوم مبنية على عدد من المسلمات العامة التي تسري خلال نظريته في المعرفة بأسرها. فهو يتفق من حيث المبدأ مع نظرية الأفكار عند لوك، وإن كان المصطلح الذي استخدمه مختلفا. فهيوم يتحدث عن انطباعات وأفكار بوصفها تؤلف محتوى إدراكاتنا، وهو تمييز لا يناظر تقسيم لوك للأفكار إلى أفكار للإحساس وأفكار للانعكاس، وإنما يتقاطع مع هذا التصنيف.
والانطباع في رأي هيوم، قد يبدأ من التجربة الحسية، أو من أوجه نشاط كالذاكرة. وهو يذكر أن الانطباعات تنتج أفكارا تختلف عن التجربة الحسية في أنها أقل منها حيوية فالأفكار نسخ باهتة من الانطباعات التي لا بد أن تكون قد سبقتها في وقت ما في التجربة الحسية. وعلى أية حال فإن الذهن عندما يفكر يستخدم الأفكار الموجودة فيه، وهنا ينبغي أن يفهم لفظ «الفكرة
idea » بالمعنى الإغريقي الحرفي للكلمة. فالتفكير في رأي هيوم تفكير بالصور، أو تخيل (imagination)
إذا استخدمنا لفظا لاتينيا كان في الأصل يدل على هذا المعنى نفسه. وهو يطلق على مجموع التجربة، سواء في الإحساس وفي التخيل، اسم الإدراك
perception .
هنا ينبغي علينا أن نلاحظ عدة نقاط هامة. فهيوم يسير في طريق لوك عندما يذهب إلى أن الانطباعات منفصلة ومتميزة بمعنى ما. وهكذا يرى هيوم أن من الممكن تفكيك تجربة معقدة إلى انطباعاتها البسيطة المكونة لها، ويترتب على ذلك أن الانطباعات هي أحجار البناء لكل تجربة؛ ومن ثم يمكن تصويرها على نحو منفصل. وفضلا عن ذلك فلما كانت الأفكار نسخا باهتة للانطباع، فإن كل ما يمكننا تصويره لأنفسنا في التفكير يمكن أن يكون موضوعا لتجربة ممكنة. كذلك نستطيع أن نستنتج من هذه الأسس نفسها أن ما لا يمكننا تخيله لا يمكن بالمثل تجربته. وهكذا فإن نطاق التخيل الممكن يمتد بقدر مدى التجربة الممكنة. وهذا أمر ينبغي أن نذكره جيدا إذا ما شئنا فهم حجج هيوم. ذلك لأنه يدعونا على الدوام إلى أن نحاول تخيل شيء أو آخر. وعندما يتصور أننا مثله لا نستطيع أن نفعل ذلك، يؤكد أن الشيء المفترض لا يمكن أن يكون موضوعا للتجربة. وهكذا فإن التجربة عنده تتألف من إدراكات متعاقبة.
وخارج هذا التعاقب، لا يمكننا أن نتصور أي ارتباط آخر بين الإدراكات. وهنا يكمن الفرق الأساسي بين مذهب ديكارت العقلي وتجريبية لوك وأتباعه. فالعقليون يرون أن هناك ارتباطات وثيقة بين الأشياء، وهي ارتباطات يمكن معرفتها، أما هيوم فينكر أن تكون هناك ارتباطات كهذه، أو على الأصح يذهب إلى أنها، حتى لو كانت موجودة، فمن المؤكد أننا لا نستطيع معرفتها. وكل ما يمكننا معرفته إنما هو تعاقبات للانطباعات أو الأفكار، ومن ثم فإن مجرد التفكير في مسألة وجود أو عدم وجود ارتباطات أخرى أعمق، إنما هو مضيعة للوقت.
في ضوء هذه السمات العامة لنظرية المعرفة عند هيوم، نستطيع الآن أن ننظر بمزيد من الإمعان في الحجج الخاصة التي أتى بها لإثبات بعض المسائل الرئيسية في فلسفته. ولنبدأ بمسألة الهوية الشخصية، التي ناقشتها «الدراسة» عند نهاية الكتاب الأول، وعنوانه «في الفهم». يبدأ هيوم بالقول إن «هناك فلاسفة يتصورون أننا في كل لحظة واعون بوضوح بما نسميه «ذاتنا»، وأننا نشعر بوجودها واستمرارها في الوجود. وهم واثقون إلى حد يتجاوز شهادة البرهان العقلي، من هويتها وبساطتها الكاملة. غير أن التجربة تثبت أن جميع الأسباب التي تساق للقول بأن الذات تكمن من وراء التجربة، لا تصمد أمام النقد. ولكن من سوء الحظ أن كل هذه التأكيدات القاطعة تتعارض مع نفس التجربة التي يستندون إلى شهادتها؛ إذ ما هو الانطباع الذي يمكن أن تستمد منه هذه الفكرة؟» ويبين لنا هيوم أنه لا يمكن أن يوجد انطباع كهذا، ومن ثم لا يمكن أن تكون هناك فكرة للذات.
وهناك صعوبة أخرى هي أننا لا نستطيع أن نرى كيف ترتبط إدراكاتنا الجزئية بالذات. وهنا يلجأ هيوم إلى طريقته المميزة في تقديم الحجج، فيقول عن الإدراكات «إن هذه كلها تختلف فيما بينها، ويمكن بحثها مستقلة كما يمكن وجودها مستقلة، ولا حاجة بها إلى أي شيء يدعم وجودها. فعلى أي نحو إذن تنتمي إلى الذات وكيف ترتبط بها؟ إنني من جانبي، عندما أتعمق إلى أقصى حد فيما أسميه «ذاتي»، أصادف على الدوام إدراكا معينا من هذا النوع أو ذاك؛ إدراكا للحرارة أو البرودة، للنور أو الظل، للحب أو الكراهية، للألم أو اللذة. ولكن يستحيل علي في أي وقت أن أمسك «بذاتي» هذه بغير إدراك أو أن ألاحظ أي شيء ما عدا الإدراك.» ثم يضيف بعد قليل: «لو اعتقد أي شخص بناء على تفكير جاد نزيه، أن لديه فكرة مختلفة عن ذاته، فلا مناص لي من الاعتراف بأنني لا أستطيع التفاهم معه أبعد من ذلك. وكل ما يمكنني أن أقوله هو أنه قد يكون على حق مثلي، وأننا مختلفان اختلافا أساسيا في هذه النقطة.» ولكن من الواضح أنه ينظر إلى أمثال هؤلاء الناس على أنهم مرضى، ويواصل كلامه قائلا: «إنني لأتجاسر وأؤكد، فيما يتعلق ببقية البشر، أنهم ليسوا إلا حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة، التي تتعاقب بعضها وراء بعض بسرعة لا يمكن تصورها، وتظل في صيرورة أو حركة دائمة.» «إن الذهن نوع من المسرح الذي تظهر فيه إدراكات عديدة على التعاقب .» ولكنه يعود فيجعل هذا التشبيه مشروطا: «إن التشبيه بالمسرح ينبغي ألا يضللنا؛ فما يؤلف الذهن هو الإدراكات المتعاقبة وحدها، وليست لدينا أدنى فكرة عن المكان الذي تعرض فيه هذه المناظر، أو المواد التي تتألف منها.» أما سبب الاعتقاد الباطل لدى الناس بالهوية الشخصية، فهو أننا نميل إلى الخلط بين الأفكار المتعاقبة وبين فكرة الهوية التي نكونها عن شيء يظل على ما هو عليه طوال فترة من الزمن. وهذا يؤدي بنا إلى فكرة «النفس» و«الذات»، و«الجوهر»، من أجل إخفاء التنوع الذي يوجد بالفعل في تجاربنا المتعاقبة. وهكذا فإن الجدل الذي يدور حول الهوية ليس جدلا حول الألفاظ فحسب، ذلك لأننا عندما نعزو الهوية، بمعنى غير صحيح، إلى موضوعات متنوعة أو متقطعة، لا يكون الخطأ الذي نرتكبه خطأ في التعبير فحسب، بل يكون مصحوبا في العادة باعتقاد بشيء وهمي، إما ثابت غير متقطع، وإما غامض يستحيل تفسيره. أو يكون على الأقل مصحوبا باستعداد لتقبل مثل هذه الأوهام. ثم ينتقل هيوم ليبين كيف يعمل هذا الاستعداد، ويقدم من خلال علم النفس الترابطي تفسيرا للطريقة التي تطرأ بها على أذهاننا تلك الفكرة التي نعتقد أنها فكرة الهوية الشخصية.
وسوف نعود بعد قليل إلى مبدأ الترابط، أما التجاؤنا إلى اقتباس نصوص مطولة من هيوم، فيكفينا عذرا فيه رشاقة أسلوبه، هذا فضلا عن أنه ليس ثمة طريقة أفضل وأوضح لعرض المشكلة من طريقة هيوم ذاته. والواقع أن هذا الوضوح ذاته قد استن سنة حميدة في الكتابة الفلسفية في بريطانيا، وإن كان من الجائز أن أحدا لم يستطع أن يجاري هيوم في كمال أسلوبه.
أما المسألة الثانية التي يتعين علينا بحثها فهي نظرية العلية عند هيوم. فالعقليون يرون أن الرابطة بين العلة والمعلول سمة كامنة في طبيعة الأشياء؛ مثال ذلك ما رأيناه عند اسبينوزا من اعتقاده بأن من الممكن، إذا ما تأملنا الأشياء بقدر كاف من الرحابة والاتساع، أن نثبت بطريقة استنباطية أن كل الظواهر ينبغي أن تكون على ما هي عليه، وإن كان من المعترف به عادة أن الله وحده هو القادر على رؤية الأشياء من هذا المنظور. أما في نظرية هيوم فإن مثل هذه الروابط السببية لا يمكن معرفتها، وذلك لسبب مشابه جدا لذلك الذي قدمناه عند نقد فكرة الهوية الشخصية. أما مصدر نظرتنا الباطلة إلى طبيعة هذه الرابطة فيكمن في استعدادنا لأن ننسب الارتباط الضروري للأطراف التي تكون تعاقبات معينة من الأفكار.
على أن الأفكار تتجمع بالترابط القائم على ثلاث علاقات، هي التشابه
resemblance
والتجاور
contiguity
في المكان والزمان، والعلة والمعلول. وهو يطلق على هذه العلاقات اسم العلاقات الفلسفية، لأنها تقوم بدور في المقارنة بين الأفكار، وهي تناظر في نواح معينة أفكار الانعكاس عند لوك، التي تنشأ كما رأينا عندما يقارن العقل بين محتوياته الخاصة. ويمكن القول إن التشابه يتدخل بقدر ما في جميع حالات العلاقات الفلسفية، ما دامت المقارنة بدونه مستحيلة. ويميز هيوم بين سبعة أنواع من هذه العلاقات: التشابه، والهوية، وعلاقات الزمان والمكان، والعلاقات العددية، ودرجات الكيف، والتضاد، والعلية. ومن بين هذه الأنواع يختار بوجه خاص الهوية وعلاقات المكان والزمان، والعلية، بعد أن أثبت أن الأنواع الأربعة الأخرى تعتمد فقط على الأفكار التي تحدث المقارنة بينها. مثال ذلك أن العلاقات العددية في شكل هندسي معين تعتمد فقط على فكرة ذلك الشكل، وهذه العلاقات الأربعة هي التي توصف بأنها تؤدي إلى معرفة ويقين. أما في حالة الهوية والعلاقات المكانية الزمانية، والعلية، فإننا في الحالات التي لا نستطيع فيها أن نقوم باستدلالات تجريدية، يتعين علينا أن نعتمد على التجربة الحسية. والعلية هي الوحيدة من بين هذه العلاقات التي لها وظيفة حقيقية في الاستدلال، ما دامت الأخريان تعتمدان عليها، فلا بد من الاستدلال على هوية موضوع ما بناء على مبدأ سببي ما، وكذلك الحال في العلاقات المكانية الزمانية. ومن الجدير بالملاحظة هنا أن هيوم كان في كثير من الأحيان ينزلق سهوا إلى أساليب الحديث العادية عن الأشياء، في الوقت الذي كانت دواعي الدقة تحتم عليه فيه أن يقتصر في نظريته على الحديث عن الأفكار فحسب .
ويقدم هيوم بعد ذلك تفسيرا نفسيا للطريقة التي نتوصل بها إلى علاقة العلية من التجربة. فالارتباط المتكرر لموضوعين من نوع معين في الإدراك الحسي يكون عادة ذهنية تؤدي بنا إلى الربط بين الفكرتين اللتين تنتجهما الانطباعات. وعندما تبلغ هذه العادة حدا كافيا من القوة، فإن مجرد ظهور موضوع واحد في الحس يستدعي في الذهن ترابط الفكرتين. فليس في هذا شيء حتمي أو ضروري، وإنما العلية، حسب تعبيره، عادة ذهنية.
على أن معالجة هيوم ليست متسقة كل الاتساق؛ ذلك لأننا قد رأينا من قبل أن الترابط ذاته يوصف بأنه ناشئ عن العلية، على حين أن العلية هنا تفسر من خلال الترابط. ومع ذلك فإن مبدأ الترابط، من حيث هو تفسير لطريقة تولد العادات الذهنية، أداة مفيدة للتفسير السيكولوجي، ما زال لها تأثيرها الهام. أما بالنسبة إلى هيوم ذاته، فليس من حقه في الواقع الكلام عن عادات أو استعدادات ذهنية، أو على الأقل ليس من حقه الكلام عن تكوينها. ذلك لأنه في اللحظات التي كان فيها يلتزم الدقة الكاملة، كان يصف الذهن، كما رأينا، بأنه مجرد تعاقب للإدراكات. وهكذا لا يوجد شيء يمكنه تنمية عادات، كما لا ينفع القول إن تعاقبات الإدراكات تؤدي واقعيا إلى تطوير أنماط معينة، ما دام التعبير ذاته، حتى في صورته المجردة، يتم عن غموض، ما لم يكن في وسعنا، على نحو ما، أن نجعل ذلك التطوير يبدو أكثر من مجرد صدفة موفقة.
إن من الواضح قطعا أن ضرورة الارتباط بين العلة والمعلول، كما يطالب بها العقليون، لا يمكن أن تستخلص من نظرية المعرفة عند هيوم؛ ذلك لأننا مهما صادفنا من تجمعات دائمة ومنتظمة، لن نستطيع أن نقول في أية مرحلة إن انطباع الضرورة قد أضيف إلى تعاقبات الانطباعات. وهكذا يستحيل قيام فكرة عن الضرورة. ولكن لما كان بعض الناس عقليين، وميالين إلى الرأي المخالف، فلا بد أن تكون هناك آلية نفسية معينة هي التي تضللهم. وهنا بالضبط يأتي دور العادات الذهنية. فالتجربة تعودنا على أن نرى النتائج تترتب على أسبابها العديدة، بحيث ننقاد في نهاية المطاف إلى الاعتقاد بأن الأمر لا بد أن يكون كذلك. ولكن هذه الخطوة الأخيرة هي التي يستحيل تبريرها إذا ما قبلنا مذهب هيوم التجريبي.
ويختم هيوم مناقشته للعلية بوضع قواعد نحكم بها على العلل والمعلومات. وهو هنا يستبق بمائة عام قواعد الاستقراء عند جون إستورت مل. ولكن هيوم يستعيد، قبل عرض هذه القواعد، بعضا من السمات الرئيسية للعلية. فهو يقول: «إن أي شيء يمكنه أن ينتج أي شيء.» وبذلك يذكرنا بعدم وجود ما يسمى بالارتباط. أما القواعد ذاتها فعددها ثمانية. أولها تنص على أن «العلة والمعلول ينبغي أن يكونا متجاورين في المكان والزمان.» والثانية هي أن «السبب يجب أن يسبق النتيجة.» والثالثة هي أن «من الضروري وجود تلازم دائم بين السبب والنتيجة.» وتلى ذلك عدة قواعد فيها استباق لقوانين مل؛ ففي القاعدة الرابعة، يقول إن السبب الواحد ينتج دائما نتيجة واحدة، وهو مبدأ يقول هيوم إننا نستمده من التجربة. وتترتب على ذلك القاعدة الخامسة، التي تقول إنه حيثما يكون لأسباب متعددة نتيجة واحدة، لا بد أن يحدث ذلك عن طريق شيء مشترك بين هذه الأسباب جميعا، وبالمثل نستدل على القاعدة السادسة التي تقول إن الاختلاف في النتيجة يكشف عن اختلاف في السبب. أما القاعدتان الأخيرتان فلا داعي لذكرهما هنا.
إن النتيجة التي يؤدي إليها بحث هيوم للمعرفة هي موقف الشك. ولقد رأينا من قبل أن شكاكي العصور القديمة كانوا معارضين لأصحاب المذاهب الميتافيزيقية. على أن لفظ «الشكاك» لا ينبغي أن يفهم بالمعنى الشعبي الذي اكتسبه منذ ذلك الحين، والذي يوحي بنوع من التردد المزمن، فاللفظ اليوناني الأصلي يعني ببساطة شخصا يبحث بعناية ودقة. فعلى حين أن أصحاب المذاهب كانوا يشعرون بأنهم وجدوا إجاباتهم، كان الشكاك أقل تأكدا، ومن ثم فقد واصلوا البحث، ولكن بمضي الوقت أصبح الاسم الذي يعرفون به يدل على افتقارهم إلى الثقة، أكثر مما يدل على استمرارهم في البحث. وبهذا المعنى كانت فلسفة هيوم شكاكة. ذلك لأنه، كالشكاك، توصل إلى النتيجة القائلة إن هناك أشياء معينة نأخذها في حياتنا اليومية قضية مسلما بها، بينما لا يمكن تبريرها على أي نحو. وبالطبع ينبغي ألا يتخيل المرء أن الشكاك عاجز عن أن يتخذ موقفا محددا إزاء المشاكل الجارية التي تواجهه خلال مسار الحياة اليومية. ولذا فإن هيوم، بعد أن عرض موقف الشك، صرح بوضوح قاطع بأن هذا لا يؤدي إلى الوقوف في وجه أعمال المرء العادية: «لو سئلت هنا عما إذا كنت أوافق بصدق على هذه الحجة، التي يبدو أنني أجهد نفسي من أجل دعمها، وعما إذا كنت بحق واحدا من هؤلاء الشكاكين الذين يرون أن كل شيء غير مؤكد، وأن حكمنا على أي شيء لا يتسم بأي قدر من الحقيقة أو البطلان، لأجبت أن هذا السؤال لغو في صميمه، وأنني لم أكن أبدا أقول بهذا الرأي بإخلاص وثبات، ولا كان أي شخص آخر يقول به. فقد حتمت علينا الطبيعة، بحكم ضرورة مطلقة وقاهرة، أن نصدر أحكاما مثلما نتنفس ونشعر ... أما ذلك الذي يجهد نفسه من أجل تفنيد أخطاء هذا الشك الكامل، فإنه في الواقع قد دخل في نزاع ليس له فيه معارض ...»
أما عن نظرية الأفكار التي عرضها لوك، فإن تطوير هيوم لها يبين بجلاء تام إلى أين تؤدي مثل هذه النظرية في النهاية. ذلك لأن المرء لا يستطيع أن يسير في هذا الطريق أبعد من ذلك. أما إذا كان المرء يعتقد أننا عندما نتحدث عادة عن العلية لا نعني ما يقول هيوم إننا نعنيه أو ينبغي أن نعنيه، فعندئذ يكون من الضروري البدء من جديد. فمن الواضح تماما أنه لا العلماء ولا الإنسان العادي ينظرون إلى العلية على أساس أنها تلازم دائم فحسب. أما رد هيوم على هذا فهو أنهم جميعا على خطأ إذا كانوا يقصدون شيئا آخر، ولكن ربما كان هيوم يستبعد موقف العقليين باستخفاف زائد عن الحد. ذلك لأن المذهب العقلي يصف على نحو أفضل بكثير ما يقوم به العالم، وهذا ما اتضح لنا في حالة اسبينوزا . إن هدف العلم هو عرض العلاقات السببية من خلال نسق استنباطي تلزم فيه النتائج عن الأسباب مثلما تلزم نتيجة البرهان الصحيح عن مقدماته، أي أنها تلزم بالضرورة. ولكن نقد هيوم يظل صحيحا بالنسبة إلى المقدمات ذاتها، فلا بد أن نظل نلتزم موقفا فاحصا أو شكاكا من هذه المقدمات.
لقد ذكرنا من قبل أن اهتمام هيوم الأول يتركز في علم الإنسان. وهنا يؤدي موقف الشك إلى تغيير جذري في ميداني الأخلاق والدين؛ ذلك لأننا، ما إن نثبت عدم قدرتنا على معرفة الارتباطات الضرورية، حتى تتهاوى قوة الأوامر الأخلاقية بدورها، وذلك على الأقل إذا كان من المرغوب فيه تبرير المبادئ الأخلاقية بحجج عقلية. فهنا يصبح أساس الأخلاق مماثلا في ضعفه للسببية ذاتها عند هيوم. ولكن هيوم نفسه يعترف بأن هذا سيجعلنا، من الوجهة العملية، أحرارا في اتخاذ أي رأي نشاء، حتى لو لم يكن في وسعنا تبريره.
الفصل الثالث
عصر التنوير والرومانتيكية
كان من أبرز سمات الحركة التجريبية الإنجليزية، موقفها الذي كان في عمومه متسامحا، تجاه أولئك الذين يتبعون اتجاهات فكرية مخالفة. وهكذا أكد لوك أن التسامح ينبغي أن يمتد بلا تمييز، حتى إلى الكاثوليك.
1
وعلى الرغم من أن هيوم لم يكن يتمسك بالدين عامة، وكان يستخف بالكاثوليكية الرومانية بوجه خاص، فقد كان معارضا لتلك الحماسة التي هي شرط ضروري للقمع. وقد أصبح هذا الموقف المستنير في عمومه ممثلا للمناخ العقلي للعصر، واكتسب خلال القرن الثامن عشر موطئ قدم في فرنسا أولا، ثم في ألمانيا. والواقع أن حركة التنوير
Enlightenment (أو
Aufklarung
كما أصبح يسميها الألمان فيما بعد) لم تكن مرتبطة ارتباطا دائما بأية مدرسة فلسفية معينة، وإنما كانت نتيجة الصراعات الدينية الدموية غير الحاسمة التي شهدها القرنان السادس عشر والسابع عشر. فمبدأ التسامح الديني كان، كما رأينا، مستحبا عند لوك بقدر ما كان عند اسبينوزا. وفي الوقت ذاته كان لهذا الموقف الجديد في مسائل الإيمان نتائج سياسية بعيدة المدى. ذلك لأنه كان لا بد أن يقف في وجه السلطة الجامحة في أي ميدان . فحقوق الملوك الإلهية لا تتمشى مع التعبير الحر عن الآراء حول الدين. وكان الصراع الديني قد بلغ ذروته في إنجلترا قبل نهاية القرن السابع عشر. وبالرغم من أن الدستور الذي انبثق عنه لم يكن ديمقراطيا، فإنه كان متحررا من بعض التطرفات السيئة التي كانت تميز حكم النبلاء ذوي الامتيازات في البلاد الأخرى. ومن هنا لم يكن من المتوقع حدوث قلاقل عنيفة. أما في فرنسا فكان الوضع مختلفا. فهناك بذلت قوى التنوير جهودا كبيرة من أجل تمهيد الأرض لثورة 1789م. وفي ألمانيا ظل التنوير مسألة إحياء ثقافي إلى حد بعيد. فمنذ حروب الأعوام الثلاثين، التي ظلت ألمانيا فترة طويلة تضمد جراحها بالتدريج، كانت ألمانيا خاضعة للسيطرة الثقافية لفرنسا. ولم يبدأ الألمان في التحرر من خضوعهم للثقافة الفرنسية إلا بعد ظهور بروسيا في عهد فردريك الأكبر، وإحياء الآداب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
ولقد كانت حركة التنوير مرتبطة أيضا بانتشار المعرفة العلمية. فعلى حين كان الناس في الماضي يسلمون بأمور كثيرة ارتكازا إلى سلطة أرسطو والكنيسة، أصبح الاتجاه الجديد هو الاقتداء بآراء العلماء. وكما أن البروتستانتية قد طرحت، في الميدان الديني، الفكرة القائلة إن كل شخص ينبغي أن يتصرف حسب تقديره هو، فكذلك أصبح من واجب الناس الآن، في الميدان العلمي، أن يتطلعوا إلى الطبيعة بأنفسهم، بدلا من أن يضعوا ثقتهم العمياء في أقوال أولئك الذين كانوا يدافعون عن النظريات البالية. وهكذا بدأت كشوف العلم تغير وجه الحياة في أوروبا الغربية.
وعلى حين أن الثورة الفرنسية سحقت النظام القديم، آخر الأمر، في فرنسا، فإن ألمانيا كانت خاضعة طوال معظم سنوات القرن الثامن عشر، لمستبدين «عادلين». كانت حرية الرأي مكفولة بقدر ما، وإن كانت قد اعترضتها معوقات كثيرة. وعلى الرغم من كل ما كانت تتسم به بروسيا من طبيعة عسكرية، فإنها ربما كانت تمثل أفضل حالة لبلد بدأ يظهر فيه شكل من أشكال الليبرالية، في الميدان الثقافي على الأقل. فقد كان فردريك الأكبر يصف نفسه بأنه الخادم الأول للدولة، وسمح لكل شخص بحرية البحث عن الخلاص لنفسه على طريقته الخاصة، داخل حدود الدولة.
لقد كان عصر التنوير في جوهره عودة إلى تقدير النشاط العقلي المستقل، تستهدف - بالمعنى الحرفي - نشر النور حيث كان الظلام يسود من قبل. ومن الجائز أن الناس كانوا يسعون إلى نشر هذا النور مدفوعين بروح من التفاني والحماس، غير أن سعيهم هذا لم يكن يمثل أسلوبا في الحياة يرتكز على الانفعالات العارمة. ومع ذلك فقد بدأ يظهر عندئذ تأثير قوة مضادة: هو القوة العاتية للرومانتيكية.
إن بين الحركة الرومانتيكية وحركة التنوير علاقة تذكرنا في نواح معينة بالنظرة الديونيزية في مقابل الأبولونية. فجذورها ترجع إلى ذلك التصور المصطبغ بصبغة مثالية، والذي كونه عصر النهضة عن اليونان القديمة. وقد تطورت الحركة في فرنسا خلال القرن الثامن عشر بحيث أصبحت عبادة للانفعالات، وكانت في هذا التطور تمثل رد فعل على الموضوعية الباردة المترفعة لدى المفكرين العقليين. وبينما كان الفكر السياسي لدى العقليين يسعى، منذ أيام هبز، إلى إقرار الاستقرار الاجتماعي والسياسي والمحافظة عليه، فقد كان الرومانتيكيون يفضلون العيش في خطر، ومن هنا أخذوا يبحثون عن المغامرات بدلا من السعي إلى الأمان، واحتقروا الراحة والسلامة على أساس أنها تحط من قدر الإنسان، ورأوا - نظريا على الأقل - أن الحياة المعرضة للخطر هي الأسمى. وهكذا انبثقت الفكرة المصطبغة بالصبغة المثالية، فكرة الفلاح الفقير الذي يحيا حياة شظف من جهده الذي يبذله في قطعة أرضه الصغيرة، ولكنه يعوض عن هذا بأن يعيش حرا، ويظل بمنأى عن فساد حضارة المدن. لقد كانوا يولون قيمة خاصة للاحتفاظ بالصلة الوثيقة مع الطبيعة، وكان نوع الفقر الذي يتحمسون له ريفيا في جوهره، أما حركة التصنيع فكانت لعنة في نظر الرومانتيكيين الأوائل، ولقد كانوا في ذلك على حق لأن الثورة الصناعية جلبت الكثير من القبح، على المستويين الاجتماعي والمادي، ولكن في العقود التالية ظهرت نظرة رومانتيكية إلى الطبقة العاملة الصناعية، بتأثير الماركسية، ومنذ ذلك الحين تمت الاستجابة للكثير مما كان يشكو منه العمال الصناعيون. ومع ذلك فإن النظرة الرومانتيكية إلى «العامل » ما زالت سائدة في السياسة.
وقد ارتبط بالحركة الرومانتيكية إحياء للروح القومية. ولنذكر في هذا الصدد أن الجهود العقلية الكبرى في العلم والفلسفة كانت في صميمها بعيدة عن المشاعر القومية، كما كانت حركة التنوير قوة لا تعرف حدودا سياسية، حتى على الرغم من أنها لم تستطع أن تزدهر في بلاد مثل إيطاليا وإسبانيا، جنبا إلى جنب مع الكاثوليكية. أما الرومانتيكية فقد عملت على تقوية الفوارق القومية وساعدت على ظهور تصورات صوفية للوطنية. ولقد كانت هذه إحدى النتائج غير المتوقعة التي ترتبت على كتاب التنين، لهبز؛ إذ أصبحت الأمة تعد شخصا على نطاق أوسع، يملك نوعا من الإرادة الخاصة به، هذا الشعور القومي الجديد أصبحت له السيطرة على القوى التي أشعلت ثورة 1789م. أما إنجلترا، التي كانت تملك، لحسن حظها، حدودا طبيعية، فكانت قد اكتسبت الحس القومي في ظروف أهدأ بكثير، وبدا أن مركزها وسط الظروف العامة للعالم منيعا لا يمكن مهاجمته. وفي مقابل ذلك فإن الجمهورية الفرنسية الفتية، التي كان يتربص بها حكام معادون من كل الجوانب، لم يكن في وسعها أن تنمي في داخلها مثل هذا الاقتناع التلقائي بهويتها. أما في حالة الألمان فقد كان مثل هذا الاقتناع أصعب حتى من ذلك، لا سيما بعد أن احتلت جيوش نابليون الإمبراطورية أراضيهم. وعندما نشبت حروب التحرير في عام 1813م، كانت تستلهم فورة عارمة من الحس الوطني، وأصبحت بروسيا هي النقطة التي تتجمع عندها الأماني القومية الألمانية. ومن الطريف أن نلاحظ أن بعضا من الشعراء الألمان العظام قد تنبئوا بأن هذا أمر قد يجلب المتاعب في المستقبل.
2
لقد ازدرى الرومانتيكيون كل ما له علاقة بالمنفعة، وارتكزوا في كل شيء على المعايير الجمالية، وهذا ينطبق على آرائهم في السلوك والأخلاق، وكذلك في المسائل الاقتصادية، إن كانت هذه المسائل قد طافت بفكرهم. وفيما يتعلق بأوجه الجمال في الطبيعة، كان ميلهم يتجه إلى الجمال العنيف والمترفع، وقد بدت لهم حياة الطبقة الوسطى مملة مقيدة بأعراف خانقة. والحق أنهم كانوا في هذا الرأي على حق. وإذا كنا قد أصبحنا اليوم أكثر تسامحا بالنسبة إلى هذه القيود، فإن من أهم أسباب ذلك تمرد الرومانتيكيين الذين تحدوا أعراف عصرهم.
ويمكن القول إن الرومانتيكية قد مارست تأثيرها من الوجهة الفلسفية في اتجاهين متعارضين، فهناك أولا التأكيد المفرط للعقل، ومعه الأمل الهادئ في أننا لو أعملنا عقلنا بمزيد من القوة في المشكلات التي تواجهنا، لحلت كافة صعوباتنا إلى الأبد. هذا النوع من العقلانية الرومانتيكية، الذي لم يكن يعرفه مفكرو القرن السابع عشر، يظهر في أعمال المثاليين الألمان، وبعدهم في فلسفة ماركس. كذلك يظهر تأثيره لدى النفعيين، وذلك في افتراضهم أن الإنسان، بالمعنى المجرد، قابل للتشكل إلى غير حد عن طريق التعليم، وهو أمر واضح البطلان. والواقع أن الأفكار الطوباوية بوجه عام، سواء أكانت ثقافية خالصة أم منتمية إلى الميدان الاجتماعي، إنما هي نواتج تمثل العقلانية الرومانتيكية خير تمثيل. ومع ذلك فقد أدت الحركة الرومانتيكية ذاتها إلى الإقلال من قدر العقل. ويمكن القول إن هذا الموقف اللاعقلي، الذي ربما كانت الوجودية أشهر مظاهره، هو في جوانب معينة تمرد على العدوان المتزايد الذي كان يمارسه المجتمع الصناعي على الفرد.
كان أشد مؤيدي الرومانتيكية تحمسا هم الشعراء، فربما كانت أشهر شخصية رومانتيكية هي شخصية بايرون؛ إذ نجد فيه كل العناصر التي يؤدي امتزاجها إلى تكوين رومانتيكي بالمعنى الكامل. ففيه نجد التمرد، والتحدي، واحتقار الأعراف السائدة، والتهور والمسلك النبيل. ويمكن القول إن الموت في مستنقعات ميسولونجي
Missolonghi
دفاعا عن قضية الحرية عند اليونانيين، إنما هو أعظم تعبير رومانتيكي على مر التاريخ. ولقد مارس بايرون تأثيره على الشعر الرومانتيكي اللاحق في ألمانيا وفرنسا. كما أن الشاعر الروسي ليرمونتوف
Lermontov
وصف نفسه صراحة بأنه تلميذه، كذلك كان لإيطاليا شاعرها الرومانتيكي العظيم، وهو ليوباردي
Leopardi
الذي تعكس أعماله حالة القمع اليائسة التي كانت تعاني منها إيطاليا في مطلع القرن التاسع عشر.
إن الأثر البارز الذي خلفه عصر التنوير في القرن الثامن عشر هو «الموسوعة» العظيمة التي أعدتها مجموعة من الكتاب والعلماء في فرنسا. فقد أدار هؤلاء الرجال ظهورهم، بوعي تام، لتعاليم رجال الدين والفلاسفة الميتافيزيقيين، ورأوا في العلم القوة الدافعة الجديدة في الميدان العقلي. وهكذا جمعوا في عمل ضخم كل المعرفة العلمية المتاحة في عصرهم، لا بوصفها سجلا مرتبا ترتيبا أبجديا فحسب، بل من حيث هي وصف للطريقة العلمية في التعامل مع العالم. وكانوا يأملون أن ينتجوا بهذا العمل أداة فعالة في الصراع ضد جهالة السلطة القائمة. وقد أسهم في هذه المهمة معظم الشخصيات الأدبية والعلمية في القرن الثامن عشر. ومن هؤلاء اثنان يستحقان تنويها خاصا. أولهما دالمبير
D’Alembert (1717-1783م) الذي ربما جاء أكبر قدر من شهرته نتيجة لكونه عالما رياضيا، وهناك مبدأ أساسي في الميكانيكا النظرية يطلق عليه اسمه. ولكنه كان في الواقع ذا اهتمامات فلسفية وأدبية واسعة. ومن بين إسهاماته كتابته لمقدمة الموسوعة. أما الرجل الذي كان يحمل على أكتافه العبء الأكبر في القيام بمسئوليات تحريرها فهو ديدرو
Diderot (1713-1784م)، الذي كتب في موضوعات متعددة، وكان يرفض كل الأشكال التقليدية للعقيدة.
على أن الموسوعة لم تكن عملا معاديا للدين بالمعنى الأوسع. فقد كان رأي ديدرو قريب الشبه بمذهب شمول الألوهية
عند اسبينوزا. كما أن فولتير (1694-1778م)، الذي أسهم بدور كبير في ذلك العمل الضخم، قال إنه لو لم يكن يوجد إله لوجب علينا أن نبتدعه. وبطبيعة الحال فقد كان يعارض بشدة مسيحية المؤسسة الدينية الرسمية، ولكنه كان يؤمن بوجود قوة خارقة للطبيعة، يحقق الناس غاياتها لو أنهم عاشوا حياة خيرة. وتلك في الواقع صورة من صور مذهب بيلاجيوس
3
خالية من كافة الارتباطات التقليدية. وفي الوقت ذاته يسخر من رأي ليبنتس القائل إن عالمنا أحسن عالم ممكن، إذ اعترف بالشر بوصفه شيئا إيجابيا ينبغي محاربته. ومن هنا كان صراعه المرير والشرس ضد الأشكال التقليدية للعقيدة.
على أن الماديين الفرنسيين كانوا أشد تطرفا بكثير في رفضهم لعقيدتهم. ولقد كان مذهبهم تطويرا لنظرية الجوهر كما قال بها ديكارت؛ فلقد رأينا كيف يؤدي «مذهب المناسبة
Occasionalism » إلى الاستغناء واقعيا عن دراسة الذهن إلى جانب المادة. فما دام العالم الذهني والعالم المادي يعملان بطريقة متوازية تماما، ففي وسعنا الاستغناء عن أي منهما. ونستطيع أن نجد أفضل عرض للنظرية المادية في كتاب لامتري
Lamettrie «الإنسان الآلة
L’homme machine » الذي رفض فيه ثنائية ديكارت، واحتفظ بجوهر واحد فقط، هو المادة. غير أن هذه المادة ليست جامدة بالمعنى الذي كانت تقول به النظريات الآلية القديمة، بل إن من سمات المادة في ذاتها أنها ينبغي أن تكون في حركة. وليس ثمة حاجة إلى محرك أول، كما أن افتراض أي إله هو، حسب التعبير الذي سيقول به لابلاس فيما بعد، افتراض غير ضروري. وتبعا لهذا الرأي تكون القدرة الذهنية وظيفة من وظائف العالم المادي. والواقع أن لهذه النظرية علاقة ما بتصور ليبنتس للمونادات، على الرغم من أنها لم تقل إلا بجوهر واحد في مقابل لا نهائية المونادات. ومع ذلك فإن القول بأن المونادات «نفوس» يشبه إلى حد ما الفكرة القائلة إن للمادة أحيانا وظيفة شبه عقلية. ولنذكر في هذا الصدد أن هذا هو المصدر الذي استمد منه ماركس النظرية القائلة: إن العقل ناتج من نواتج التنظيم الجسمي العضوي.
وعلى أساس هذه النظرية اتخذ هؤلاء الماديون مواقف مستقلة تماما عن الدين، الذي رأوا أن طريقة نشره تحمل أخطارا يشجع عليها الحكام والقساوسة تحقيقا لمصالحهم الخاصة، ما دام من الأسهل لهم أن يتحكموا في الجهلاء. وفي هذا أيضا كان ماركس مدينا للماديين عندما تحدث عن الدين بوصفه أفيونا للشعب. ولقد كان الهدف من حملة الماديين على التفكير الديني والميتافيزيقي هو دعوة الناس إلى طريق العلم والعقل الذي يمكن أن يؤدي إلى إقامة شكل من أشكال الفردوس على الأرض، وهم في ذلك يشتركون مع «الموسوعيين»، كما أن الاشتراكية الطوباوية عند ماركس تستلهم هذه الأفكار أيضا، ولكن يمكن القول إن الجميع كانوا في هذه الناحية ضحايا لوهم رومانتيكي. ومع الاعتراف بصحة الرأي القائل إن اتخاذ موقف مستنير من الحياة ومشاكلها يقدم إلينا عونا هائلا في سعينا إلى إيجاد حلول مناسبة نتغلب بها على صعوباتنا، فمن الواضح أن الحلول النهائية الدائمة لكافة المشكلات لا يمكن أن تنتمي إلى هذا العالم.
لقد كان ما حرص هؤلاء المفكرون جميعا على تأكيده هو أولوية العقل. ولكن بعد الثورة الفرنسية التي زعزعت أركان العقيدة السائدة، اخترع الناس «كائنا أسمى»، كان يخصص للاحتفال به يوم معين. وكان ذلك في جوهره تأليها للعقل، وفي الوقت نفسه لم تبد الثورة احتراما كبيرا للعقل في مسائل معينة أخرى، فقد حوكم لافوازييه، مؤسس الكيمياء الحديثة أمام محكمة ثورية في عهد الإرهاب، وكان قد اقترح قبل ذلك إصلاحات ضريبية مفيدة عندما كان مشرفا على شئون الزراعة، ولكن مجرد شغله منصبا في النظام القديم، جعلهم يتهمونه بارتكاب جرائم ضد الشعب. وحين قيل للمحكمة إنه من أعظم العلماء، ردت بأن الجمهورية لا حاجة بها إلى العلماء، وهكذا قطعت رأسه بالمقصلة.
إن الموسوعة هي، في نواح معينة، رمز لعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفيها ينصب الاهتمام على المناقشة العقلية الهادئة، بينما الهدف منها هو تحقيق مستقبل جديد أكثر سعادة للبشر، ولكن في نفس الوقت الذي ظهرت فيه الموسوعة نمت حركة رومانتيكية معادية للعقل، كان من أبرز ممثليها جان جاك روسو (1712-1778م). ولم يكن روسو فيلسوفا بالمعنى الدقيق، إذا جاز لنا أن نستثني أعماله في ميدان النظرية السياسية والتربية، وهي الأعمال التي كان لها، بالإضافة إلى سائر جوانب نشاطه الأدبي الواسع، تأثير كبير في الحركة الرومانتيكية فيما بعد.
ويقدم إلينا روسو سجلا لحياته الخاصة في كتاب الاعترافات، وإن كانت القصة التي يرويها قد شوهت إلى حد ما بفعل المبالغات الشاعرية. وقد ولد روسو في جنيف، لأسرة كالفينية، ومات والداه وهو في سن مبكرة فربي على يد إحدى عماته. وبعد أن ترك المدرسة في الثانية عشرة جرب العمل في عدة مهن مختلفة، ولكن لم ترق له واحدة منها. وفي السادسة عشرة رحل عن بيته هاربا، وفي تورينو اعتنق الكاثوليكية لأسباب مصلحية، وظل يعتنقها بعض الوقت، ثم التحق بخدمة إحدى السيدات الشهيرات، ولكنه وجد نفسه مرة أخرى على قارعة الطريق حين توفيت هذه السيدة بعد ثلاثة أشهر، وفي هذه المناسبة وقعت حادثة مشهورة تكشف عن الموقف الأخلاقي للشخص الذي يعتمد على أحاسيسه وحدها. فقد تبين أن روسو كان يملك وشاحا سرقه من السيدة التي كان يعمل عندها. وزعم روسو أن خادمة قد أعطته إياه، فلقيت هذه الخادمة جزاءها على سرقتها. ولكن روسو يقول في «الاعترافات» إن ما دفعه إلى هذا العمل كان تعلقه بالفتاة مما جعلها أول من يخطر بباله حين طلب إليه أن يقدم تفسيرا. ولا تتضمن الاعترافات أية إشارة إلى أن ضميره أنبه. وهو لا ينكر بالطبع أنه أدلى بشهادة كاذبة، ولكن عذره، على الأرجح، هو أنه لم يفعل ذلك بنية سيئة.
وبعد ذلك ارتبط روسو بسيدة تدعى مدام دي فاران
M. de Warens
التي كانت قد تحولت بدورها إلى الكاثوليكية، وكانت تكبره بأعوام كثيرة، ولكنها أصبحت أما وعشيقة له في آن معا. وقد قضى روسو جزءا كبيرا من السنوات العشر التالية في بيتها. وفي عام 1743م أصبح سكرتيرا للسفير الفرنسي في البندقية، ولكنه استقال حين تأخر راتبه في الوصول. وفي باريس التقى حوالي عام 1745م بتيريز لوفاسير
Therese le Vasseur ، وهي خادمة عاش معها منذ ذلك الحين بوصفها زوجة له، مع دخوله في مغامرات أخرى من آن لآخر في نفس الوقت. وقد أنجبت له خمسة أطفال أخذوا جميعا إلى دار اللقطاء. أما سبب ارتباطه بهذه الفتاة فليس واضحا؛ إذ كانت فقيرة، قبيحة، جاهلة، ولم تكن مع ذلك شديدة الأمانة، ولكن يبدو أن عيوبها كانت تزيد إحساس روسو بالتفوق.
ولم يصبح روسو معروفا بوصفه كاتبا إلا في عام 1750م؛ ففي هذه السنة نظمت جامعة ديجون مسابقة سهلة حول مسألة ما إذا كانت الآداب والفنون قد أفادت البشرية، فنال روسو الجائزة ببحث أجاب فيه عن السؤال بالنفي، ولكن بحجج بارعة، فقال إن الثقافة عودت الناس على حاجات غير طبيعية أصبحوا عبيدا لها.
وأيد موقف إسبرطة في مقابل أثينا، وأدان العلم لأن الدوافع التي أدت إلى ظهوره كانت هابطة. وذكر أن الإنسان المتحضر فاسد، أما الفاضل بحق فهو الهمجي النبيل، وقد توسع روسو بعد ذلك في هذه الآراء في كتابه «بحث في اللامساواة» (1754م). ولكن فولتير، عندما وصلته نسخة من الكتاب في العام التالي، كال السخرية والازدراء للمؤلف، وهي إهانة أدت إلى تشاحنهما فيما بعد.
وفي عام 1754م قبل روسو دعوة للعودة إلى بلده الأصلي، جنيف، وعاد إلى الكالفينية لكي يستطيع الحصول على الجنسية. وفي عام 1762م ظهر كتاب «إميل» وهو بحث في التربية، كما ظهر كتاب «العقد الاجتماعي» الذي عرض فيه نظريته الاجتماعية. وقد أدين الكتابان: الأول بسبب العرض الذي قدمه للدين الطبيعي، والذي أغضب جميع الهيئات الدينية على السواء، والثاني بسبب اتجاهه الديمقراطي. وقد فر روسو إلى نيو شاتل أولا، ثم إلى بروسيا، وبعد ذلك إلى بريطانيا، حيث قابل هيوم، بل حصل على معاش من الملك جورج الثالث. ولكنه في النهاية تشاجر مع الجميع وتكونت لديه عقدة اضطهاد جنونية، فعاد إلى باريس حيث قضى سنواته الأخيرة في فاقة وبؤس.
كان دفاع روسو عن المشاعر في مقابل العقل واحدا من المؤثرات القوية التي شكلت الحركة الرومانتيكية. كما كان من نتائجه رسم طريق جديد للاهوت البروتستنتي يفرق بينه بوضوح وبين المذهب التوماوي الذي تابع التراث الفلسفي للقدماء. كان الطريق البروتستنتي الجديد يستغني عن براهين وجود الله، ويجعل الشعور بهذا الوجود نابعا من قلب الإنسان دون مساعدة من العقل. وبالمثل رأى روسو، في ميدان الأخلاق، أن مشاعرنا الطبيعية تهدينا إلى الطريق الصحيح، على حين أن العقل يضللنا. ولا شك أن هذا الموقف الرومانتيكي مضاد تماما لأفلاطون وأرسطو والحركة المدرسية، وهو نظرية شديدة الخطورة، لأنها عشوائية تماما، وتقر أي نوع من الفعل ما دام يرتكز على دعائم انفعالية لدى فاعله. ولقد جاء العرض الذي قدمه روسو للدين الطبيعي في ثنايا كتاب «إميل» وعرض بتوسع في «اعترافات قس من سافوي». والواقع أن اللاهوت العاطفي الجديد الذي أتى به روسو لا يمكن مهاجمته، بمعنى معين، لأنه يقطع صلته بالعقل على طريقة أوكام، منذ البداية الأولى.
أما كتاب «العقد الاجتماعي» فقد كتب بروح مختلفة؛ إذ نجد فيه روسو في أحسن حالات كتابته النظرية. وفيه يقول إن الأفراد حين يفوضون حقوقهم للجماعة ككل، يفقدون جميع حرياتهم. صحيح أن روسو يترك مجالا لنوع من التحوط، حين يقول إن الإنسان يحتفظ بحقوق طبيعية معينة، ولكن هذا يتوقف على افتراض مشكوك فيه، هو أن الحاكم سيحترم هذه الحقوق على الدوام، بينما الحاكم نفسه غير خاضع لأية سلطة أعلى، وإرادته هي «الإرادة العامة»، وهي نوع من الحكم المركب الذي ينفذ قسرا على أولئك الذين قد لا تتفق معه إرادتهم الفردية.
وعلى الرغم من أن الكثير يتوقف على المقصود بالإرادة العامة، فإن روسو لسوء الحظ لا يشرحها بتوسع. ويبدو أن المقصود بالنظرية هو أننا، إذا تركنا جانبا المصالح المتعارضة للأفراد، يبقى من وراء ذلك نوع من المصلحة الذاتية يشتركون فيه جميعهم. ولكن روسو لا يتابع هذه الفكرة أبدا حتى يستخلص نتائجها النهائية. وهو يرى أن الدولة التي تسير وفقا لهذه المبادئ لا بد لها أن تحظر أي نوع من التنظيمات الخاصة، وخاصة تلك التي تستهدف غايات سياسية واقتصادية، وهكذا تكتمل لدينا جميع عناصر نظام شمولي، وعلى الرغم من أن روسو يبدو على وعي بذلك، فإنه لا يبين لنا كيف يمكن تجنب هذه النتائج. أما عن إشاراته إلى الديمقراطية فلا بد أن نفهم منها أنه كان يتحدث عن مدينة الدولة القديمة، لا عن الحكومة النيابية. وبالطبع فقد أسيء فهم الكتاب أولا في أوساط أولئك الذين عارضوا نظرياته، وفيما بعد في أوساط زعماء الثورة الذين أيدوه.
لقد اتخذ التطور الذي طرأ على الفلسفة الأوروبية بعد ديكارت، كما رأينا، اتجاهين مختلفين؛ فهناك من جهة مختلف المذاهب العقلية التي ظهرت في القارة الأوروبية، وهناك من جهة أخرى الخط العام للتجريبية الإنجليزية، ويتصف الاتجاهان معا بالذاتية، من حيث إنهما معنيان بالتجربة الخاصة. فقد أخذ لوك على عاتقه مهمة القيام ببحث أولي لمعرفة نطاق الذهن البشري. وكانت المشكلة الكبرى، التي أبرزها هيوم على أوضح نحو، هي كيفية تفسير الروابط بين الظواهر، وكانت إجابة هيوم هي أننا نكون عادات معينة تجعلنا نرى الأشياء مرتبطة. وكما أوضحنا من قبل، فقد تجاوز هيوم حتى في قوله هذا، ما تسمح مقدماته به ، لو التزم الدقة التامة، ومع ذلك فإن في هذه العبارة إشارة إلى إحدى الطرق الممكنة لحل هذه الصعوبة. والواقع أن قراءة «كانت» لهيوم هي التي أيقظته من سباته الدجماطيقي (اليقيني الجامد)، فقد ارتقى كانت بتلك العادة التي تحدث عنها هيوم إلى مرتبة المبدأ العقلي، وبذلك تخلص ببساطة من مشكلة هيوم، وإن كان قد كبل نفسه بالطبع بصعوبات أخرى جديدة خاصة به.
ولد إيمانويل كانت (1724-1804م) في كونجزبرج، في بروسيا الشرقية ولم يبارح بلدته الأصلية أبدا طوال حياته. وقد ظل محتفظا منذ نشأته الأولى بجانب من نزعة الورع
كان له تأثيره في أسلوب حياته العام وفي كتابته الأخلاقية. وقد درس كانت في جامعة كونجزبرج، بادئا باللاهوت، ومنتهيا بالفلسفة التي شعر بأن اهتماماته الحقيقية إنما تكمن فيها. وقد ظل بضع سنوات يرتزق من العمل مدرسا خصوصيا لأبناء الأرستقراطيين من ملاك الأرض الزراعية، إلى أن حصل في عام 1775م على وظيفة محاضر للفلسفة في كونجزبرج. وفي عام 1770م رقي إلى وظيفة أستاذ كرسي المنطق والميتافيزيقا، وهي الوظيفة التي ظل يشغلها حتى وفاته. وعلى الرغم من أن كانت لم يكن مفرطا في الزهد، فإنه عاش حياة شديدة التنظيم والدأب والمثابرة، وبلغ من انتظام عاداته أن أهل مدينته كانوا يضبطون ساعاتهم على لحظات مروره أمامهم. ولم يكن كانت رجلا متين البنيان، ولكنه أفلت من الأمراض بفضل أساليب حياته المستقرة. وكان في الوقت ذاته محدثا بارعا، يلقى الترحيب دائما إذا ما حضر مناسبات اجتماعية. أما في المسائل السياسية فكان ليبراليا كأحسن ما يكون المفكر في عصر التنوير، وفي ميدان الدين كان موقفه يمثل نوعا من البروتستانتية غير التقليدية. وقد رحب بالثورة الفرنسية، وأيد المبادئ الجمهورية. وقد أكسبته مؤلفاته الفلسفية العظيمة شهرة واسعة، ولكنها لم تجلب له أية ثروة. وفي سنوات حياته الأخيرة تدهورت ملكاته الذهنية، ولكن أهل مدينة كونجزبرج كانوا فخورين به. وعندما مات شيعت جنازته في موكب مهيب، وهو شرف لم يحظ به من الفلاسفة إلا أقل القليل.
كانت أعمال «كانت» تشمل موضوعات شديدة التنوع، كان يحاضر فيها جميعا في وقت ما، والقليل من هذه الأعمال هو الذي ظل محتفظا بأهميته حتى يومنا هذا، إذا استثنينا نظرية في نشأة الكون بنيت بأكملها على أساس فيزياء نيوتن، وأبدى فيها آراء قال بها فيما بعد لابلاس بصورة مستقلة، ولكن الذي يهمنا هنا بوجه خاص هو فلسفة كانت النقدية. والواقع أن لوك كان أول من طرح المشكلة النقدية، رغبة منه في تطهير الأرض، ولكن مسار الأفكار بعد لوك أدى بطريقة حتمية إلى مذهب الشك عند هيوم. أما كانت فقد استحدث ما أسماه «ثورة كوبرنيكية» في هذا الميدان؛ ذلك لأنه بدلا من أن يحاول أن يفسر المفاهيم العقلية على أساس التجربة، كما فعل هيوم، شرع في تفسير التجربة على أساس المفاهيم العقلية. ويمكن القول بمعني معين إن فلسفته كانت تقيم توازنا بين الموقف المتطرف للتجريبية الإنجليزية من جهة، والمبادئ الفطرية التي قال بها المذهب العقلي الديكارتي من جهة أخرى. وعلى الرغم من أن نظريته كانت صعبة ومعقدة وقابلة للنقد في كثير من جوانبها، فإن من واجبنا أن نحاول استيعاب خطوطها العامة إذا ما شئنا أن نفهم ذلك التأثير الهائل الذي مارسته على التطور الفلسفي اللاحق.
لقد اتفق كانت مع هيوم والتجريبيين في القول إن كل معرفة إنما تبدأ من التجربة، ولكنه أضاف، على خلافهم، ملاحظة هامة إلى هذا الرأي، هي أن من الواجب التمييز بين ما ينتج المعرفة بالفعل، والصورة التي تتخذها تلك المعرفة. وعلى ذلك، فرغم أن المعرفة تنشأ عن طريق التجربة، فإنها لا تستمد منها وحدها. ويمكننا التعبير عن هذه الفكرة على نحو مختلف بالقول إن التجربة الحسية شرط ضروري للمعرفة، ولكنها ليست شرطا كافيا لها؛ فالصورة التي تتخذها المعرفة، ومبادئ التنظيم التي تحول المادة الخام للتجربة إلى معرفة، هي ذاتها لا تستمد، في رأي كانت، من المعرفة. ومن الواضح أن هذه المبادئ فطرية بالمعنى الذي قال به ديكارت، وإن لم يكن كانت قد قال بذلك.
وقد أطلق كانت اسم «المقولات» - وهو مصطلح أرسطي - على المبادئ العامة للعقل، التي يضفيها الذهن من عنده من أجل تشكيل التجربة في صورة معرفة. ولما كانت المعرفة تتخذ شكل قضايا، فلا بد أن تكون هذه المقولات مرتبطة بصورة القضايا. ولكن علينا قبل أن نبين كيف استمد كانت مقولاته، أن نتوقف لبحث مسألة هامة متعلقة بتصنيف القضايا. فقد كان «كانت» يتابع ليبنتس في قبوله للمنطق الأرسطي التقليدي، منطق الموضوع والمحمول، بل إنه أعتقد أن هذا المنطق كامل يستحيل إدخال تحسين عليه. وعلى هذا الأساس، فمن الممكن التمييز بين قضايا يكون الموضوع فيها متضمنا للمحمول، وأخرى لا تكون كذلك. فالقضية «كل الأجسام ممتدة» من النوع الأول، لأنها تعبر عن الطريقة التي يتم بها تعريف مفهوم «الجسم» ومثل هذه القضايا تسمى تحليلية، وكل ما تفعله هو أنها تشرح الألفاظ أو توضحها. أما القضية «كل الأجسام لها وزن» فهي من النوع الثاني؛ ذلك لأن فكرة الجسم لا تنطوي في ذاتها على وجود صفة الوزن؛ ولذا فإن هذه قضية تركيبية ومن الممكن إنكارها دون الوقوع في تناقض ذاتي.
وقد أدخل كانت أساسا آخر للتصنيف إلى جانب هذه الطريقة في التمييز بين القضايا. فهو يطلق على المعرفة المستقلة من حيث المبدأ عن التجربة اسم المعرفة القبلية
a Priori
أما تلك التي تستمد من التجربة فيسميها بعدية
a Posteriori . ولكن الشيء الهام هو أن هذين التصنيفين يتقاطعان. وعلى هذا النحو بعينه يتخلص كانت من الصعوبات التي تواجه التجريبيين مثل هيوم، الذين كانوا خليقين بأن ينظروا إلى التصنيفين على أنهما يعبران عن شيء واحد، بحيث يكون التحليلي مساويا لكل ما هو قبلي، والتركيبي مساويا لكل ما هو بعدي. أما كانت فعلى الرغم من أنه وافق على الشطر الأول، فقد أكد أن من الممكن وجود قضايا قبلية وتركيبية في آن معا. والهدف العام من كتاب «نقد العقل الخالص» هو إثبات كيف تكون الأحكام التركيبية القبلية ممكنة. أما الهدف الأخص فهو إمكان قيام الرياضة البحتة أو الخالصة؛ لأن القضايا الرياضية في رأيه قبلية تركيبية. والمثل الذي يضربه مستمد من الحساب، وهو حاصل جمع الخمسة والسبعة وهو مثل مستمد بلا شك من محاورة «تيتاتوس» لأفلاطون، حيث استخدم الرقمان ذاتهما، فالقضية 5 + 7 = 12 قبلية، لأنها لا تستمد من التجربة بينما هي في الوقت ذاته تركيبية لأن مفهوم 12 ليس متضمنا في تصوري 5 و7 ورمز الجمع، وعلى هذا الأساس يرى كانت أن الرياضة قبلية تركيبية.
وهناك مثل آخر هام هو مبدأ السببية. فقد تعثر التفسير الذي قدمه هيوم أمام عقبة الارتباط الضروري، الذي يبدو مستحيلا في إطار نظرية الانطباعات والأفكار. أما عند كانت فإن السببية مبدأ تركيبي قبلي، وليس وصف السببية بأنها قبلية إلا تأكيدا لرأي هيوم القائل إنها لا يمكن أن تستمد من التجربة، ولكن كانت لم يصفها بأنها عادة تتحكم فيها شروط خارجية، وإنما نظر إليها على أنها مبدأ معرفي، وهي تركيبية لأننا نستطيع إنكارها دون أن نقع في تناقض ذاتي لفظي، ومع ذلك فإنها مبدأ قبلي تركيبي يستحيل بدونه قيام المعرفة، كما سنرى بعد قليل.
ولنعد الآن إلى نظرية المقولات عند كانت. إن هذه المقولات تصورات قبلية للفهم، تختلف عن تصورات الرياضة. ولا بد من البحث عنها، كما أشرنا من قبل، في صورة القضايا. وهكذا يصبح من الممكن، في إطار نظرة كانت إلى المنطق، استنتاج قائمة المقولات بطريقة طبيعية، بل إن كانت قد اعتقد أنه اهتدى إلى طريقة لاستنباط القائمة الكاملة للمقولات، فبدأ بالتمييز بين سمات صورية تقليدية معينة للقضايا هي الكم
quantity ، والكيف
quality ، والإضافة
relation
والجهة
modality . ففيما يتعلق بالكم، كان المناطقة منذ أيام أرسطو يميزون بين القضايا الكلية والجزئية والشخصية. وهذه الأنواع تناظرها مقولات الوحدة والكثرة والكلية على التوالي. أما كيف القضية فقد يكون موجبا أو سالبا أو محدودا، وتناظرها مقولات الواقعية والسلب والتحديد. كذلك نستطيع تقسيم القضايا من حيث الإضافة إلى حملية وشرطية متصلة وشرطية منفصلة، ومن هذه نستخلص مقولات الجوهر والعرض، والسبب والنتيجة، والتأثير المتبادل. وأخيرا قد تكون القضية، من حيث الجهة، احتمالية أو تقريرية أو ضرورية. والمقولات المناظرة لها في الإمكان والاستحالة، والوجود واللاوجود، وأخيرا الضرورة والعرض.
ولسنا بحاجة إلى الخوض في تفاصيل استنباط كانت للمقولات، كما أنه ليس من الصعب أن نرى أن قائمة المقولات عند كانت لم تكن مكتملة كما تصور، ما دامت تعتمد على نظرة ضيقة إلى حد ما إلى المنطق. ولكن فكرة التصورات العامة، والتي لا تستمد من التجربة، ومع ذلك يكون لها تأثيرها في ميدان التجربة، تظل فكرة لها أهميتها الفلسفية. وهي تزودنا بإحدى الإجابات عن مشكلة هيوم، وإن كان في وسع المرء ألا يقبل العرض الذي قدمه لها كانت.
وبعد أن استنبط كانت قائمة مقولاته على أسس شكلية، انتقل إلى إثبات أن من المستحيل، بغير المقولات، قيام أية تجربة يمكن نقلها إلى الآخرين. وهكذا فقبل أن تكتسب الانطباعات التي تصل إلى حواسنا صفة المعرفة، ينبني تنظيمها أو توحيدها على نحو ما، عن طريق النشاط الذهني. وتلك مشكلة إبستمولوجية (معرفية) لن يكون من الممكن إيضاح موقف كانت منها إلا إذا حددنا طريقة استخدامه للمصطلحات بدقة. فهو يقول إن عملية المعرفة تنطوي من جهة على الحواس، التي تقتصر على تلقي تأثير التجربة الآتية من الخارج، ومن جهة أخرى على الفهم الذي يربط عناصر الحس هذه سويا، ولا بد من التمييز بين الذهن أو الفهم وبين العقل. وقد عبر هيجل في مرحلة لاحقة عن هذه الفكرة بقوله إن العقل هو ما يوحد الناس، على حين أن الفهم هو ما يفرقهم. ويمكننا القول إن الناس يكونون متساوين بقدر ما يكونون عقلاء، أو مالكين لنعمة العقل، ولكنهم يتفاوتون فيما يتعلق بالفهم؛ لأن هذا الأخير تعقل إيجابي يتفاوت الناس فيما يتعلق به تفاوتا هائلا.
ولكي تكون لدى المرء تجربة يمكن صياغتها في أحكام لا بد من تحقق ما يطلق عليه كانت اسم «وحدة الوعي الذاتي
unity of apperception ». فمن الواضح أن انطباعات هيوم المنعزلة غير كافية، مهما كانت سرعة تتابعها، وبدلا من التقطع الذي تتسم به التجربة الحسية عند التجريبيين، يقول كانت بنوع من الاتصال. فمن المستحيل في رأي كانت أن تكون لدينا تجربة بأي شيء خارجي ما لم يكن ذلك في إطار المقولات التي يكون عملها شرطا ضروريا لحدوث مثل هذه التجربة . وبالطبع فإنها ليست شرطا كافيا، ما دام من الضروري أن تلعب الحواس دورها. ولكن المقولات بدورها تتدخل. وهكذا يبدو أن ما ينكره كانت هو إمكان قيام تجربة خالصة تكون مجرد استقبال سلبي للانطباعات، ما لم يكن في ذهننا تيارات الوعي التي يستحيل التعبير عنها.
أما عن المكان والزمان، فهو يرى أنهما مفهومان خاصان قبليان ينتميان إلى الحدس الخالص للعالم الخارجي والداخلي على التوالي. وقد اتسمت مناقشة كانت لهذه المسالة بقدر من التعقيد، كما أن حججه على وجه العموم ليست مقنعة تماما. وخلاصة النظرية كلها هي أنه بدون مفاهيم قبلية للمكان والزمان تستحيل التجربة. وفي هذه الناحية يكون المكان والزمان مشابهين للمقولات. وهكذا فإن التجربة تتشكل بتصورات قبلية. غير أن ما يدفع إلى قيام التجربة تتحكم فيه أيضا موضوعات خارجة عن الذهن. هذه المصادر التي تستمد منها التجربة يسميها كانت «بالأشياء في ذاتها
noumena » في مقابل المظاهر أو الظواهر
phenomena . وتبعا لنظرية كانت يستحيل أن تكون لدينا تجربة بالشيء في ذاته، ما دامت كل تجربة تحدث عن طريق تضافر المكان والزمان والمقولات (مع أي عنصر خارجي). وأقصى ما يمكننا التوصل إليه هو أن نستدل على وجود هذه الأشياء في ذاتها من المصدر الخارجي المفترض للانطباعات. ولكن لو شئنا الدقة لكان هذا نفسه مستحيلا، ما دمنا لا نملك طريقة مستقلة لاكتشاف وجود مثل هذه المصادر، وحتى لو كانت لدينا طريقة كهذه لظللنا عاجزين عن القول بأنها تسبب انطباعاتنا الحسية. ذلك لأننا لو تحدثنا عن السببية لكان معنى ذلك أننا عدنا إلى الدخول في شبكة التصورات القبلية التي تمارس عملها في إطار الفهم. وهنا تعود الصعوبة التي واجهها لوك مرة أخرى، فمثلما أن نظرية لوك لا تسمح له بالتحدث عن عالم خارجي يؤدي إلى ظهور أفكار الإحساس، فكذلك لا يحق لكانت التحدث عن أشياء في ذاتها على أساس أنها هي التي تسبب الظواهر.
إن الشيء في ذاته، الذي هو خارج المكان والزمان، هو كيان ميتافيزيقي يهدف إلى تمكيننا من تجنب نزعة الشك والاعتراف بمجال للتجربة يمكن وصفه بأنه مشترك بين الذوات
inter-subjective
على الأقل، على الرغم من أن نظرية المعرفة عند كانت تتسم بقدر من الذاتية. ولقد اضطر كانت إلى اتخاذ هذا الموقف لأنه لا يقبل وجود المكان والزمان على نحو مستقل، ولو حذفنا هذين الاثنين من قائمة التصورات القبلية لما أصبح هناك داع للشيء في ذاته. ولا شك أن هذا شيء يمكن القيام به دون مساس بنظرية المقولات عند كانت. غير أن هناك سببا آخر مختلفا كل الاختلاف، جعل الأشياء في ذاتها ضرورية بالنسبة إلى كانت، وأعني به نظريته الأخلاقية التي سننتقل إليها بعد قليل، ولكن لنلاحظ الآن أن الشيء في ذاته يقع خارج نطاق التصورات والمبادئ القبلية تماما ... والواقع أن من أخطار استخدام هذه التصورات بطريقة نظرية، أننا قلما نتجاوز الحدود التي تنطبق خلالها هذه التصورات القبلية بطريقة مشروعة. وأعني بهذه الحدود ميدان التجربة. فلو تجاوزنا هذا الميدان لدخلنا في مجال عقيم هو الميتافيزيقا والديالكتيك، الذي يحمل في نظر كانت معنى مذموما.
غير أن كتاب «نقد العقل الخالص» لا يعالج إلا مسألة واحدة من بين المسائل الرئيسية الثلاث التي تفرض نفسها علينا. فهو يرسم حدود المعرفة ولكنه لا يعرض لموضوعي الإرادة وما يطلق عليه كانت اسم «الحكم». وأول هذين الموضوعين يدخل في نطاق الأخلاق، ويعالج في كتاب «نقد العقل العملي». أما الحكم فيستخدمه كانت بمعني تقدير الأهداف أو الغايات ، وهو موضوع كتاب «نقد ملكة الحكم» الذي لن نعرض له ها هنا، ولكن لنتأمل بإيجاز نظرية كانت الأخلاقية كما ناقشها في «نقد العقل العملي» وفي «ميتافيزيقا الأخلاق».
إن الإرادة توصف بأنها ذات طابع عملي بالمعنى الذي يكون به الفعل أو السلوك مقابلا لعملية المعرفة النظرية. ولا بد أن تفهم كلمتا «النظري»
theoretical ، و«العملي»
practical
في هذا السياق بمعناهما الأصلي في اللغة اليونانية، من حيث هما يرتبطان، على التوالي، «بالرؤية» و«الفعل». وهكذا فإن السؤال الأساسي للعقل العملي هو: كيف ينبغي أن نسلك؟ هنا أيضا يقوم كانت بنوع من الثورة؛ ذلك لأنه إذا كانت الأخلاق قد ظلت من قبل تفترض دائما أن الإرادة تحكمها مؤثرات خارجية، فإن كانت يفترض أنها تعطي نفسها قانونها الخاص، وبهذا المعنى يمكن وصف الإرادة بأنها مستقلة استقلالا ذاتيا، فإذا أردنا أن نصل إلى مبادئ عامة للسلوك، فإننا لن نهتدي إليها في الأهداف أو الأسباب الخارجية، بل ينبغي البحث عنها داخلنا؛ وذلك لكي نتوصل إلى ما يسميه كانت بالقانون الأخلاقي. ولكن من الواضح أن هذا القانون الأخلاقي لا يمكن أن يكون قوامه أوامر جزئية محددة. فهذا القانون لا يمكنه أن يدلنا على الطريقة التي ينبغي أن نسلك بها في أية حالة محددة، لأن هذا بعينه ما ينبغي علينا، وفقا لمبدأ الاستقلال الذاتي، أن نتجنبه، وبذلك يتبقى لدينا مبدأ شكلي بحت، خال من أي مضمون تجريبي، هو ما يطلق عليه كانت اسم الأمر المطلق
categorical imperative . وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى إزاء مفهوم مهجن يناظر، في الاستخدام العملي للعقل، مفهوم القبلي التركيبي في استخدامه النظري. ففي المنطق التقليدي يستحيل أن تجتمع صيغة التقرير المطلق (cathegorical mood)
مع صيغة الأمر (imperative) . ولكن كانت يذهب إلى أن هنالك قضايا معينة متعلقة بما يجب أن يكون، يمكن أن تكون غير مشروطة، وهي تلك التي يسميها أوامر مطلقة، وهكذا يرى أن المبدأ الأسمى للأخلاق يتمثل في الأمر المطلق الآتي: اسلك دائما بحيث يمكن أن تكون المبادئ الموجهة للإرادة قانونا كليا شاملا. والواقع أن هذه العبارة الصارمة إنما هي تعبير آخر، بطريقة استعراضية معقدة، عن القول المأثور: أحب لأخيك ما تحب لنفسك. أي أنه مبدأ ينكر عدالة استثناء المرء لنفسه أو دفاعه عن أي موقف خاص به وحده.
لقد لاحظنا أن الأمر المطلق الذي ترتكز عليه الأخلاق عند كانت هو مبدأ صوري أو شكلي، وبهذا الوصف يستحيل أن يكون منتميا إلى ميدان العقل النظري، ما دام هذا العقل منصبا على الظواهر. ويستنتج كانت من ذلك أن الإرادة الخيرة، التي تتحدد بهذا الأمر المطلق، ينبغي أن تنتمي إلى عالم الأشياء في ذاتها. وهنا تتضح لنا أخيرا وظيفة الشيء في ذاته. فالظواهر تتطابق مع المقولات، وبخاصة مقولة العلة والمعلول، أما الأشياء في ذاتها فلا تخضع لمثل هذه القيود. وعلى هذا النحو يتمكن كانت من التخلص من مأزق الإرادة الحرة في مقابل الحتمية، فبقدر ما يكون الإنسان منتميا إلى عالم الظواهر، يخضع لقوانينه الحتمية. ولكن الإنسان، من حيث هو فاعل أخلاقي، ينتمي إلى عالم الشيء في ذاته، ومن ثم فلديه إرادة حرة. والواقع أن هذا حل بارع حقا، وإن كان مصيره يتحدد تبعا لمصير فكرة الشيء في ذاته، بحيث ينهار إذا انهارت هذه الفكرة.
إن الأخلاق عند كانت تنطوي على عنصر صارم من الاستقامة الكالفينية. ذلك لأن من الواضح في هذه الأخلاق أن الشيء الوحيد الذي له أهمية هو أن يكون سلوكنا نابعا من المبادئ الصحيحة. وتبعا لهذا الرأي يكون استمتاعك بالشيء الذي تكون ملزما، من الوجهة الأخلاقية، بعمله، يكون هذا الاستمتاع عقبة فعلية في وجه السلوك الأخلاقي. فإذا كنت أحب جاري، وأشعر تبعا لذلك بالميل إلى مساعدته في وقت الشدة، عندئذ لا يكون لهذا الفعل، وفقا لمبدأ كانت، نفس القيمة الأخلاقية التي تكون للقيام بعمل طيب مماثل تجاه شخص سمج مكروه تماما، وبذلك تتحول المسألة كلها إلى مجموعة من الواجبات الثقيلة غير السارة، التي نؤديها، لا بناء على رغبة، بل بناء على مبدأ. أما الفاعل فهو الإرادة الخيرة، التي تعد هي وحدها الخيرة بلا قيد أو شرط.
وبالطبع فإن من الصحيح تماما أننا ينبغي أن نمتنع عن الانقياد للميول الوقتية. وهناك ظروف كثيرة نتصرف فيها فعلا بدافع المبدأ، حتى لو كان هذا المبدأ متعارضا مع رغباتنا المباشرة. ومع ذلك يبدو من الأمور الشاذة أن يكون من الضروري فرض مثل هذا الحصار على كل أفعال الإنسان. ويجوز أن اعتقاد كانت بهذا الرأي كان راجعا إلى أن حياته اتسمت في عمومها بطابع نظري إلى أبعد حد، ولولا ذلك لجاز أن يخطر بباله أن في ميدان المشاعر الخاصة أمورا كثيرة يحق لنا أن نعدها خيرا، دون أن يكون من الممكن تحويل أي منها إلى قانون عام. ولكن من الممكن أن يوجه إلى الأخلاق الكانتية أعراض أهم من ذلك بكثير. فإذا كان المعول كله على الحالة الذهنية أو القصد، فعندئذ تستطيع أن توقع نفسك في مآزق لا مخرج منها، وكل ما عليك هو أن تشعر بأن ما فعلته واجب عليك. أما النتائج السيئة التي قد يؤدي إليها فعلك فلا قيمة لها على الإطلاق.
4
ولو كان سقراط قد حاور واحدا من أنصار هذه الأخلاق، لكان من حقه أن يحذره من أن الجهل إنما هو شر الخطايا.
أما عن الوظيفة الأخلاقية للشيء في ذاته، فإنها تجر وراءها بعض النتائج الأخرى؛ فقد بين كانت في «نقد العقل الخالص» أن من المستحيل في إطار العقل النظري، إثبات وجود الله بالحجة العقلية. غير أن النشاط التأملي للعقل الخالص يترك بالفعل مجالا لفكرة وجود الله. ولكن العقل العملي هو وحده الذي يزودنا بأساس عقلي لهذا الاعتقاد. بل إننا في الواقع ملزمون، في المجال العملي، بقبول هذه الفكرة ما دام من المستحيل بدونها أن يوجد نشاط أخلاقي بالمعنى الصحيح. ذلك لأنه يرى أن إمكان السلوك بناء على الأمر المطلق للقانون الأخلاقي يلزم عنه، من الناحية العملية، أن يكون الله موجودا.
ويمكن القول إن نظرية كانت ترسم، على نحو ما، خطا فاصلا يذكرنا بوليم الأوكامي. ذلك لأن ما يأخذه كتاب «نقد العقل الخالص» على عاتقه هو أن يضع للمعرفة حدودا من أجل إفساح المجال للإيمان. فوجود الله لا يمكن معرفته كحقيقة نظرية، ولكنه يفرض نفسه بوصفه إيمانا بناء على أسباب عملية، مع ضرورة أن نأخذ بعين الاعتبار معنيي النظري والعملي اللذين أوضحناهما من قبل. ومع ذلك فإن الأخلاق التي قال بها كانت لم تترك له مجالا للتقيد بأية عقيدة دينية جامدة. ذلك لأن ما له أهمية بحق إنما هو القانون الأخلاقي، أما التعاليم المحددة الجامدة للعقائد فتنسب عن غير حق إلى مصدر إلهي. وهكذا، فعلى الرغم من أن كانت قد اعتقد أن المسيحية هي العقيدة الوحيدة المتمشية مع القانون الأخلاقي، فإن آراءه في الدين قد أدت بالحكومة البروسية إلى أن تفرض عليه حظرا رسميا.
ومن الآراء الأخرى التي نادى بها، ولم تقل عن هذه سبقا لزمنها، آراؤه في السلام والتعاون الدولي كما عرضها في كتيب بعنوان «السلام الدائم» نشر في عام 1795م. ومن الأفكار الرئيسية التي اقترحها في هذا الكتيب، قيام حكومة نيابية، واتحاد عالمي بين الدول، وهما فكرتان ما أحرانا بأن نذكرهما في عصرنا هذا.
لقد قدمت فلسفة كانت، كما رأينا، نوعا من الإجابة عن مشكلة هيوم، ولكن على حساب إدخال فكرة الأشياء في ذاتها. ولذلك بادر خلفاء كانت في الحركة المثالية الألمانية إلى الكشف عن نقاط الضعف في هذا التصور، وإن كانت التطورات التي أدخلوها هم أنفسهم على نظرية المعرفة تتعرض بدورها للنقد.
لقد كان فكر الماديين وسيلة من وسائل تجنب الثنائية؛ إذ نظروا إلى العقل على أنه ظاهرة ناتجة عن أشكال معينة لتنظيم المادة العضوية. أما الوسيلة الأخرى فهي أن تقلب الآية، وتنظر إلى العالم الخارجي على أنه نتاج للعقل بمعنى ما، ولقد كان إصرار كانت على الأشياء في ذاتها تعبيرا عن عدم رغبته في اتخاذ هذه الخطوة الأخيرة. أما فشته
Fichte
فقد اتخذها عن وعي.
ولد فشته (1762-1814م) في ظروف عائلية يغلب عليها الفقر، وتعهده راع كريم طوال فترة تعليمه المدرسي والجامعي، وفيما بعد أصبح مدرسا خصوصيا يعيش على حافة الفقر. وحين وقعت في يده كتابات كانت توجه على الفور للبحث عن الفيلسوف الكبير، الذي ساعده على نشر دراسة نقدية عن الوحي، وقد أحرزت هذه الدراسة نجاحا فوريا، وأصبح فشته أستاذا في يينا
Jena
غير أن آراءه في الدين لم تلق القبول لدى السلطات، فغادر هذه المدينة إلى برلين، والتحق بالسلك الحكومي. وفي عام 1808م أصدر كتابه الشهير «نداءات إلى الأمة الألمانية»، الذي ناشد فيه الألمان ككل أن يقاوموا نابليون. وقد اتخذت القومية الألمانية في هذه النداءات صورة حادة بقدر ما. ففي رأي فشته أن «كون المرء أخلاقيا وكونه ألمانيا هما شيء واحد». وليس من الواضح تماما إن كان قد اعتقد أن هذه حقيقة تجريبية أم أنها تعريف لفظي صحيح. ولكن الأولى مسألة فيها نظر، أما إن كانت تعريفا فسوف يتفق معي القارئ على أن في هذا التعريف قدرا من الشذوذ!
وعندما أسست جامعة برلين في عام 1810م، أصبح فشته أستاذا فيها، وظل محتفظا بهذا المنصب حتى وفاته. وحين نشبت حروب التحرير عام 1813م، أرسل تلاميذه ليحاربوا ضد الفرنسيين. والواقع أنه شأنه شأن الكثيرين، كان متحمسا للثورة الفرنسية، ولكنه كان معاديا للتشويه الذي طرأ عليها على يد نابليون.
ولقد استبق فشته، في تفكيره السياسي، بعض المفاهيم الماركسية المتعلقة ببناء اقتصاد اشتراكي تسيطر فيه الدولة على الإنتاج والتوزيع، ولكن الأمر الذي له أهمية فلسفية أكبر، من وجهة نظرنا ها هنا، هو مذهبه في الأنا، الذي كان الهدف منه الرد على ثنائية كانت، فالأنا، الذي يناظر في جوانب معينة فكرة وحدة الوعي الذاتي عند كانت، هو كيان فعال يتسم بالاستقلال الذاتي بالمعنى الذي حدده كانت، أما عالم التجربة فهو نوع من الإسقاط اللاواعي للأنا، يسميه باللاأنا، ونظرا إلى أن هذا الإسقاط غير واع، فإننا نتصور خطأ أن هناك عالما خارجيا مفروضا علينا، أما عن الأشياء في ذاتها فإن مشكلتها لا يمكن أن تنشأ أصلا، لأن ما نعرفه ليس إلا ظواهر. والواقع أن الكلام عن الأشياء في ذاتها مناقض لذاته، وهو أشبه بمعرفة ما لا يمكن - حسب تعريفه - أن يعرف. غير أن عملية الإسقاط ليست غير واعية فحسب، بل هي أيضا غير مشروطة. ولما كانت لا تدخل في نطاق تجربتنا، فإنها لا تتحدد بمقولة السببية. إنها تنبثق، بوصفها عملية حرة، من الطبيعة العملية والأخلاقية للأنا، حيث ينبغي أن تفهم كلمة العملية، بمعناها الاشتقاقي. فبهذه الطريقة يكون للمبدأ الفعال الذي يشيع في الأنا مهام يقوم بها في التعامل مع إسقاطه الخاص.
هذه النظرية التي تتسم بقدر من الروح الخيالية تتجنب بالفعل صعوبات مذهب الثنائي، وكما سنرى فيما بعد، فإنها استبقت المذهب الهيجلي، ومن نتائج هذه النظرية أنها تجعل من الممكن نسج العالم من الأنا، وهذا ما حاوله بالفعل شلنج
Schelling
في أول الأمر، ومنه استوحى هيجل فلسفته الطبيعية فيما بعد.
كان شلنج (1775-1854م)، مثل هيجل والشاعر الرومانتيكي هولدرلن
Holderlin
من أصل شقابي
Swabian ،
5
وقد أصبح هذان الأخيران صديقين له عندما التحق بجامعة توبنجن في سن الخامسة عشرة. وكان المصدران الرئيسيان اللذان أثرا فيه، من الوجهة الفلسفية، هما كانت وفشته. وقد تمكن بفضل ذكائه المبكر ورشاقة أسلوبه الأدبي من الحصول على كرسي الفلسفة في يينا قبل أن يبلغ الثالثة والعشرين. وهناك عرف الشاعرين الرومانتيكيين تيك
Tieck
ونوفالس
Novalis ، كما عرف الأخوين شليجل
Schlegel : فريدرش
Friedrich
وأوجست
August
وقد قام هذا الأخير، بالاشتراك مع تيك، بترجمة شيكسبير إلى الألمانية. وعندما انفصل عن زوجته بالطلاق تزوجها شلنج، على الرغم من أنه كان يصغرها باثني عشر عاما، وقد كان شلنج مهتما بالعالم متابعا لآخر تطوراته. وقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين كان قد نشر كتابه «فلسفة الطبيعة» الذي أخذ على عاتقه فيه أن يقدم تفسيرا قبليا للطبيعة. ويلاحظ أن شلنج لم يتجاهل الوضع الفعلي للعلم التجريبي في محاولته هذه، وإنما اعتقد أنه لا بد أن يكون من الممكن، لاحقا، استنباط هذه الكشوف العلمية من المبادئ الشديدة العمومية، التي لا تتسم بالطابع التجريبي. ويستطيع المرء أن يتبين في هذه المحاولة ملامح من المذهب العظلي عند اسبينوزا، مقترنا بفكرة الفاعلية عند فشته؛ ذلك لأن شلنج ينظر إلى العالم الذي يحاول استنباطه على أنه عالم فعال، على حين أن عالم العلم التجريبي بدا له جامدا خامدا. وقد تابعه هيجل فيما بعد في منهجه هذا. ولا شك أن مثل هذه التأملات الأثيرية في المسائل العلمية تبدو للقارئ الحديث أمرا يكاد يكون مستحيل الفهم؛ ففي هذه المناقشات الكثير من اللغو اللفظي الفارغ، وفيها قدر كبير من التفاصيل التي تبدو بالفعل مضحكة. ولقد كان هذا أحد الأسباب التي أساءت إلى سمعة الفلسفة المثالية فيما بعد.
ولكن الشيء الملفت للنظر هو أن شلنج ذاته أصبح في سنواته المتأخرة يرفض هذا النوع من التفلسف. فبعد مرحلته المبكرة، تحول اهتمامه إلى الصوفية الدينية، وكانت زوجته الأولى قد توفيت، كما وقعت بينه وبين هيجل قطيعة. وعندما دعي في عام 1841م إلى كتابة مقدمة للترجمة الألمانية لأعمال الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان
V. Cousin ، اغتنم الفرصة ليشن حملة شعواء على فلسفة هيجل الطبيعية. صحيح أنه لم يذكر أسماء، وأن الذي هاجمه كان على أية حال قد مات، غير أن مقصده كان واضحا كل الوضوح؛ فهنا ينكر شلنج بشدة إمكان استنباط الحقائق التجريبية من مبادئ قبلية، ولكن من الصعب أن نقرر إن كان قد أدرك عن وعي عندئذ أن هذا الهجوم يهدم فلسفته، الطبيعية هو ذاته، مثلما يهدم نظيرتها عند هيجل.
وفي استطاعتنا أن نجد لدى كل من فشته وشلنج صورا للمنهج الجدلي (الديالكتيكي) كما سوف يستخدمه هيجل فيما بعد. فقد رأينا عند فشته كيف يواجه الأنا بمهمة تجاوز اللاأنا. وفي فلسفة شلنج الطبيعية نجد فكرة أساسية هي فكرة الأضداد التي تتجمع في وحدة، وهي فكرة تبشر بالجدل الهيجلي بصورة أوضح. ومع ذلك فإن مصدر الجدل يكمن في قائمة المقولات عند كانت؛ حيث أوضح أن الطرف الثالث في كل مجموعة هو جمع بين الأول والثاني، اللذين هما ضدان. مثال ذلك أن الوحدة هي بمعنى ما، ضد الكثرة أو عكسها، على حين أن الكلية تنطوي على كثرة من الوحدات، وهذا يؤدي إلى الجمع بين الفكرتين الأوليين.
وعلى يد هيجل اكتسبت الفلسفة المثالية الألمانية صورتها المنهجية الأخيرة، وقد شاد هيجل، بناء على لمحات أخذها من فشته ومن شلنج في عهده المبكر، بناء فلسفيا ما زالت له أهميته وفائدته، على الرغم من كل سماته التي تفتقر إلى الصواب. وفضلا عن ذلك فقد كان للهيجلية تأثير بعيد المدى على جيل كامل من المفكرين، لا في ألمانيا وحدها، بل في إنجلترا بدورها فيما بعد. أما فرنسا فقد ظلت على وجه العموم غير قابلة للتأثر بفلسفة هيجل،
6
وربما كان سبب ذلك هو الغموض الشديد للأصل، الذي يحول دون التعبير عنه بلغة فرنسية واضحة المعالم. وما زالت فلسفة هيجل حية، بوجه خاص، في المادية الجدلية عند ماركس وإنجلز، التي تقدم إلينا في الوقت ذاته مثلا جيدا يكشف عن أخطاء هذه الفلسفة.
ولد هيجل (1770-1831م) في شتوتجارت، ودرس في توبنجن في نفس الوقت الذي كان يدرس فيه شلنج هناك. وقد اشتغل وقتا ما بالتدريس، ثم انضم إلى شلنج في يينا عام 1801. وهناك أتم بعد خمس سنوات، كتابة «ظاهريات الروح» عشية معركة يينا. وقد رحل عن المدينة قبل دخول الجيوش الفرنسية الظافرة، واشتغل محررا بضع سنوات، ثم أصبح ناظرا لمدرسة ثانوية في نورمبرج، حيث ألف كتاب «علم المنطق». وفي عام 1816م أصبح أستاذا في هيدلبرج، وألف «موسوعة العلوم الفلسفية» وأخيرا استدعي لشغل كرسي الفلسفة في برلين عام 1818م، وهو المنصب الذي ظل يشغله بعد ذلك. وكان هيجل شديد الإعجاب ببروسيا، فأصبحت فلسفته هي التعاليم الرسمية للدولة.
إن كتابات هيجل من أصعب المؤلفات في النتاج الفلسفي بأكمله. ولا يرجع ذلك فقط إلى طبيعة الموضوعات التي كان يعالجها، بل يرجع أيضا إلى الأسلوب الثقيل والرديء الذي كان يكتب به المؤلف. صحيح أن هناك مجازات رائعة تتناثر في كتاباته، وتبعث الراحة في عقل القارئ، ولكنها لا تكفي للتخفيف من وقع الغموض الذي يغلب عليها.
ولكي نحاول فهم الهدف الذي يرمي إليه هيجل، علينا أن نعود بالذاكرة إلى تمييز كانت بين النظري والعملي. عندئذ يمكن وصف الفلسفة الهيجلية بأنها تؤكد أولوية العملي، بالمعنى الأصلي للكلمة؛ ولهذا السبب أولى اهتماما كبيرا للتاريخ والطابع التاريخي لكل نشاط بشري . أما عن المنهج الجدلي، الذي ترجع بعض جذوره إلى كانت وفشته وشلنج، فلا شك أن هيجل قد تنبه إلى أهميته من إدراكه للتطور الذي تسير فيه الحركات التاريخية والذي هو أشبه بالأرجوحة في صعودها وهبوطها. وقد بدا له بوجه خاص أن تطور الفلسفة السابقة لسقراط كان يسير وفقا لهذا النمط، كما ذكرنا من قبل. ويرفع هيجل هذا المنهج إلى مرتبة مبدأ للتفسير التاريخي. والواقع أن المسار الجدلي من مطلبين متضادين إلى نوع من الحل الوسط هو في ذاته أمر مفيد غاية الفائدة، ولكن هيجل ينتقل إلى بيان أن التاريخ كان لا بد أن يمر بمراحله المتباينة على أساس هذا المبدأ. وغني عن البيان أن هذا أمر لا يمكن إثباته إلا عن طريق تشويه الحقائق، فالاعتراف بنمط للأحداث التاريخية شيء، واستنباط التاريخ من هذا المبدأ شيء مختلف كل الاختلاف. ولذا فإن نقد شلنج يمكن أن ينطبق على هذا الميدان بقدر ما ينطبق على فلسفة الطبيعة.
إن المنهج الجدلي يذكرنا في نواح معينة بسعي سقراط إلى مثال الخير، الذي يناظره عند هيجل ما أسماه بالفكرة المطلقة؛ فكما أن الجدل السقراطي يؤدي في النهاية، بعد تفنيد الفروض الخاصة، إلى صورة الخير، فكذلك يصعد الجدل الهيجلي إلى الفكرة المطلقة. وقد شرح هيجل هذه العملية في كتابه عن المنطق، وهو شرح قد نقتنع به أو لا نقتنع. وينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن المنطق عند هيجل مرادف في الواقع للميتافيزيقا. وهكذا يندرج تحت المنطق عرض للمقولات التي تنسج الواحدة من الأخرى في عملية ديالكتيكية تنتقل من الوضع
Thesis
إلى نقيضه
Antithesis
ثم إلى المركب
Synthesis . ولا شك أن هذه الفكرة مستوحاة من مناقشة «كانت» للمقولات. وقد كانت نقطة البداية في العرض الذي قدمه هيجل، شأنه شأن «كانت»، هي مقولة الوحدة، ولكن هيجل سار بعد ذلك في طريقه الخاص، وشيد سلسلة طويلة، اعتباطية إلى حد ما، من المقولات، حتى وصل إلى الفكرة المطلقة، وعند هذه المرحلة نكون قد درنا دورة كاملة وعدنا إلى الوحدة. ولقد نظر هيجل إلى هذا على أنه ضمان للاكتمال ولسلامة البرهان، والواقع أن الفكرة المطلقة تتكشف بوصفها أرفع أمثلة الوحدة، أي تلك التي تستوعب فيها جمع الاختلافات.
أما العملية الجدلية التي تؤدي إلى المطلق، فإنها تساعدنا على اكتساب فهم أفضل لهذه الفكرة المعقدة. ولا شك أن تقديم شرح لهذه العملية بلغة بسيطة هو أمر يتجاوز قدرة هيجل، وقدرة أي شخص آخر. ولكن هيجل يعود هنا مرة أخرى إلى واحد من تلك الأمثلة الإيضاحية التي تحتشد بها مؤلفاته؛ فهو يشرح الفارق بين شخص لا ترتكز فكرة المطلق عنده على معرفة بالمسار الجدلي، وآخر مر بهذا المسار، فيشبهه بدلالة الصلاة بالنسبة إلى طفل، ودلالتها لرجل عجوز؛ فكلاهما يتلو الألفاظ نفسها، ولكنها عند الطفل لا تعني أكثر من مجموعة من الأصوات، على حين أنها تثير لدى العجوز تجارب عمر كامل.
وهكذا ينادي المبدأ الجدلي بأن المطلق، الذي يصل فيه المسار إلى نهايته، هو الحقيقة الوحيدة. وفي هذه الفكرة كان هيجل متأثرا باسبينوزا. ويترتب على ذلك أن أي جزء من الكل ليست له في ذاته حقيقة أو معنى فعال، بل إنه لا يكتسب معناه إلا إذا ارتبط بالكون بأكمله. ويبدو على هذا الأساس أن القضية الواحدة والوحيدة التي ينبغي أن نغامر بالتصريح بها هي أن الفكرة المطلقة حقيقة. فالكل وحده هو الحقيقي، وأي شيء جزئي لا يمكن أن تكون له إلا حقيقة جزئية. أما لو بحثنا عن تعريف للفكرة المطلقة عند هيجل، لوجدناه من الغموض بحيث يغدو أمرا لا جدوى منه. غير أن المقصود منها بسيط للغاية. فالفكرة المطلقة، عند هيجل، هي الفكرة التي تفكر في ذاتها، وهذا مفهوم ميتافيزيقي يناظر في نواح معينة إله أرسطو، الذي هو كيان منعزل غير معروف، مغلف بفكره الخاص، وفي نواح أخرى يذكرنا هذا المفهوم بإله اسبينوزا، الذي كان هو والكون شيئا واحدا. والواقع أن هيجل، مثل اسبينوزا، يرفض أي نوع من الثنائية. فهو يبدأ مثل فشته، من العقلي، ومن ثم فإن حديثه يدور حول الفكرة.
ويطبق هيجل هذه النظرية الميتافيزيقية العامة على التاريخ. وليس مما يدعو إلى الاستغراب أن نجد هذه النظرية تلائم أنماطا عامة معينة في هذا الميدان؛ إذ إن هيجل إنما استمد المبدأ الجدلي، في الواقع، من التاريخ. غير أن العرض التفصيلي للأحداث الخاصة ينبغي، كما رأينا، ألا يلتمس بهذه الطريقة القبلية. كذلك فإن المسار نحو المطلق في التاريخ يتيح له فرصة لتقديم بعض الدعايات القومية التي تتسم بقدر كبير من الفجاجة؛ إذ يبدو في نظره أن التاريخ قد وصل إلى مرحلته النهائية في الدولة البروسية كما كانت قائمة في عصر هيجل. هذه هي النتيجة التي ينتهي هيجل إليها في فلسفة التاريخ. ولا شك أننا لو تأملنا الأمر بمنظورنا الحالي لبدا لنا أن الفيلسوف الجدلي العظيم في استنتاجه هذا كان متسرعا إلى حد ما.
ويؤدي هذا النمط نفسه من الحجج إلى إيثار هيجل لدولة تنظم بطريقة شمولية. فتطور الروح في التاريخ هو قبل كل شيء مهمة الألمان، في رأي هيجل، ذلك لأن الألمان هم وحدهم الذين تفهموا الحرية بنطاقها الكلي الشامل، على أن الحرية ليست مفهوما سلبيا، وإنما ينبغي أن ترتبط ببناء قانوني ما، وهو ما يمكن أن نتفق فيه مع هيجل. ولكن هذه القضية لا يترتب عليها القول بأنه حيثما يوجد القانون توجد الحرية، كما يبدو أن هيجل يعتقد بالفعل؛ إذ لو كان الأمر كذلك، لكانت «الحرية» مرادفة لإطاعة القانون، وهو معنى يختلف إلى حد ما عن معناها الذي اعتدناه، ولكن هناك في الوقت ذاته لمحة عظيمة القيمة في فكرة هيجل عن الحرية. فالشخص الذي يقوم عادة بضرب رأسه في جدار من الطوب، لأنه لا يريد الاعتراف بأن قوالب الطوب أكثر صلابة من الجماجم، يمكن أن يوصف بالمثابرة، ولكن ليس بأنه حر. وبهذا المعنى تكمن الحرية في الاعتراف بالعالم على ما هو عليه بدلا من تعليل النفس بالأوهام؛ أعني أنها تكمن في إدراك الاتجاه الذي تسير فيه الضرورة، وهي فكرة ألمح إليها هرقليطس، كما رأينا من قبل.
7
ولكن عندما يكون الأمر متعلقا بالقوانين الخاصة السائدة في بروسيا، فلا يبدو هناك أي سبب للقول إن هذه القوانين ينبغي أن تكون ذات ضرورة منطقية؛ ذلك لأن وصفها بهذا الوصف، كما يميل هيجل على أن يفعل، إنما يفرض على المواطن الأعزل البريء، طاعة عمياء لأوامر بلده، بحيث تصبح حريته هي أن يفعل ما يؤمر به.
8
وقد استوحي المنهج الجدلي من سمة أخرى نشأت عن ملاحظة للتاريخ، ذلك لأنه يؤكد عنصر الصراع بين قوى متعارضة. ولقد كان هيجل، مثل هرقليطس، يضفي قيمة كبيرة على الصراع والنزاع. وهو يذهب إلى حد القول بأن الحرب أرفع أخلاقيا من السلم. فلو لم يكن للأمم أعداء تحارب ضدهم، لدب فيها الضعف والانحلال الخلقي. وواضح أن هيجل يعمل هنا حسابا لقول هرقليطس إن الحرب هي أم الأشياء جميعا. وقد رفض فكرة كانت المتعلقة باتحاد عالمي، كما عارض الحلف المقدس الذي انبثق عن مؤتمر فينا. ويمكن القول إن مناقشته للسياسة والتاريخ قد تعرضت بأسرها للتشويه نتيجة لاهتمامه الأحادي الجانب بالتاريخ السياسي، وهو في هذا يفتقر إلى نظرة فيكو الواسعة التي جعلته يدرك أهمية الفنون والآداب. فما كان في وسع هيجل أن يتوصل إلى النتيجة القائلة إن وجود الأعداء الخارجيين ضروري لكي تكتسب الأمة صحة معنوية وأخلاقية؛ إلا من منظور سياسي بالمعنى الضيق. أما لو اتخذ المرء منظورا أرحب من ذلك، لاتضح له أن في أي مجتمع معين عناصر كثيرة تتيح مجالا واسعا للتنفيس عن روح القتال الصحية لدى المواطنين. والواقع أن الرأي القائل بأن الخلافات بين الأمم ينبغي أن تحل عن طريق الحرب إنما يفترض استحالة قيام عقد اجتماعي بينها، وأن معاملاتها المتبادلة ينبغي أن تظل في حالة الطبيعة غير المتحضرة؛ حيث يكون للقوة وحدها وزن. وفي هذه الناحية كانت بصيرة كانت، أعمق بكثير من هيجل، وذلك لأن عصورنا الحالية أثبتت أن الحرب تؤدي في النهاية إلى دمار شامل، وهذا الدمار الشامل يعني بالفعل بلوغ ذروة جدلية لا بد أن ترضي أشد دعاة الهيجلية تحمسا.
9
ومن الغريب حقا أن نظرية هيجل في السياسة والتاريخ لا تنسجم حقيقة مع منطقه الخاص؛ ذلك لأن الكلية التي تصل إليها العملية الجدلية ليست مماثلة للواحد، عند بارمنيدس، الذي هو متجانس لا تنوع أو تمايز فيه، بل إنها ليست مماثلة لإله اسبينوزا الذي كان هو ذاته الطبيعة، والذي يزداد فيه الفرد توحدا مع الكون حتى يندمج فيه آخر الأمر؛ ذلك لأن «هيجل» على العكس من ذلك، يفكر على أساس الكل العضوي، وهي فكرة كان لها تأثيرها فيما بعد في فلسفة ديوي. وتبعا لهذا الرأي، لا يكتسب الفرد حقيقته الكاملة إلا من ارتباطه بالكل، مثلما ترتبط أجزاء الكائن العضوي. وربما خطر ببال المرء أن هذا كان خليقا بأن يؤدي بهيجل إلى قبول الفكرة القائلة بوجود مؤسسات متنوعة داخل الدولة، ولكنه لا يقبل أي شيء من هذا القبيل؛ فالدولة هي السلطة الوحيدة الطاغية. ولقد كان من الطبيعي بالنسبة إلى هيجل، بوصفه بروتستانتيا صالحا، أن ينادي بسيطرة الدولة على الكنيسة، لأن هذا يضمن الطابع القومي لتنظيم الكنيسة، أما بالنسبة إلى كنيسة روما فقد وقف هيجل منها موقف المعارضة بسبب ما يعد في الواقع ميزة أساسية فيها بغض النظر عن كافة الاعتبارات الأخرى، وهي كونها هيئة دولية. كذلك لم يترك هيجل مجالا للسعي المستقل من أجل تحقيق اهتمامات عضوية منظمة داخل المجتمع، على الرغم من أنه كان ينبغي، وفقا لرأيه العضوي، أن يرحب بأوجه النشاط هذه. أما عن البحث النزيه أو ممارسة الهوايات، فهذه لا يمكن قبولها. ولكن على أي أساس لا يسمح مثلا لهواة جمع طوابع البريد بأن يتجمعوا في ناد لا هدف له إلا متابعة اهتمامهم المشترك بجمع الطوابع؟ من الجدير بالملاحظة أن التعاليم الماركسية الرسمية.
10
تحتفظ بقدر كبير من الهيجلية في هذه الناحية، فجميع أوجه النشاط ينظر إليها على أنها تخدم مباشرة مصلحة الدولة. فإذا كانت هناك جمعية لهواة الطوابع، في ظل النظام، لا تنظر إلى عملها على أنه يساعد على تمجيد الثورة الاشتراكية، فإن أعضاءها سيجدون أنفسهم ممنوعين بحزم من جمع الطوابع أو من أي شيء آخر.
وهناك عدم اتساق بين نظرية هيجل السياسية ومذهبه السياسي في مسألة أخرى هامة. ذلك لأن التطبيق الدقيق لمبدئه الجدلي كان لا بد أن يكشف له عن عدم وجود سبب يحول دون قيام تنظيم معنوي بين الأمم، على نحو قد يكون مماثلا لما اقترحه «كانت»، ولكن حقيقة الأمر هي أن المطلق في السياسة يبدو أنه هو مملكة بروسيا. ولا شك أن استنباطه لهذه النتيجة باطل. صحيح أن المرء لا يستطيع أن ينكر أنه كان هناك أناس يؤمنون، بنية طيبة، بهذه القضية. ولكن إذا كان الإيمان بأمور كهذه يبعث الراحة في نفوس بعض الناس، فإن مما يتعارض مع الفكر السليم أن نعلن أن هذه القضايا مبادئ يمليها العقل. فبهذا المنهج يستطيع المرء أن يلتمس أعذارا زائفة لكل التحيزات والفظائع التي ترتكب في عالمنا ويصبح الأمر كله شيئا هينا إلى أبعد حد.
والآن، لنعد إلى الجدل، الذي هو بحق الفكرة المركزية في مذهب هيجل. لقد لاحظنا من قبل أن الخطوة الجدلية تنطوي على ثلاث مراحل؛ أولاها قضية ما، ثم قضية مناقضة تعارضها، وأخيرا يتجمع الاثنتان في تنظيم مركب. ولنقدم مثلا بسيطا يوضح ذلك. قد يقول شخص ما إن الذهب قيم، فيعترض عليه بالقضية المضادة القائلة إن الذهب ليس قيما. وعندئذ قد يتم التوصل إلى المركب بالقول إن قيمة الذهب تتوقف على الظروف. فإذا كنت في شارع أكسفورد،
11
حيث تجد أناسا على استعداد لإعطائك مأكولات في مقابل ذهبك، فعندئذ يكون الذهب قيما. أما إذا كنت تائها في الصحراء حاملا كيسا من الذهب، وكنت في حاجة إلى الماء، فعندئذ لا تكون للذهب قيمة. وهكذا يبدو أن من الضروري عمل حساب الظروف في كل حالة، وربما لم يكن هذا المثل ليلقى موافقة من هيجل، ولكنه يخدم أغراضنا في هذا المجال. على أن الفكرة التي يؤكدها هيجل هي أن المركب يصبح قضية جديدة، وتبدأ العملية الجدلية ذاتها من جديد، وهكذا دواليك حتى نصل إلى الكون بأكمله. والفكرة من وراء هذا كله هي أن الدلالة الكاملة لأي شيء لا تظهر إلا عندما ينظر إليه في جميع ارتباطاته الممكنة، أي في وضعه داخل العالم ككل.
وهنا ينبغي أن نطرح مجموعة من التعليمات. أولها يتعلق بالمحتوى التاريخي للجدل. فمن الصحيح كل الصحة أن هناك حالات توجد فيها مطالب يستحيل التوفيق بينها، ويتم تسويتها عن طريق نوع من الحلول الوسطى، فقد أقول مثلا إنني لا أرغب في دفع ضريبة الدخل، على حين أن مصلحة الضرائب تتخذ بالطبع الموقف المضاد وتصر على أن تأخذ كل شيء. وأخيرا نصل إلى نوع من الحل الوسط الذي يرضي كلا الطرفين إلى حد ما. وهذا شيء لا غموض فيه على الإطلاق. وينبغي ملاحظة أن الحل الوسط لا ينشأ عن مطلبين متناقضين، بل عن مطلبين متضادين. وهذه النقطة المنطقية تحتاج إلى بعض الإيضاح. فالقضيتان تكونان متناقضتين إذا كان صدق إحداهما يستلزم كذب الأخرى، والعكس بالعكس. أما القضيتان المتضادتان فمن الممكن أن تكونا معا كاذبتين وإن لم يكن من الممكن أن تكونا معا صادقتين. وهكذا نجد في المثال السابق أن الحل الوسط يخالف كلا المطلبين المتعارضين معا. والشيء الذي يجعل الجدل يمارس عمله في الحالات التاريخية الفعلية هو أن من الممكن في حالات كثيرة التوصل إلى نوع من الاتفاق بناء على مطالب متعارضة. وبالطبع فإن لم يكن لدى الطرفين الصبر الكافي للوصول إلى صيغة مقبولة، فمن الممكن أن تصبح اللعبة أشد عنفا، وفي النهاية يربح الطرف الأقوى ويترك الخاسر في الميدان. وفي هذه الحالة قد ينظر إلى المطالب المتعارضة فيما بعد على أنها مطالب متناقضة، ولكن هذا لا يحدث إلا فيما بعد، لأن وقوعه ليس محتوما، فحين يكون لدى المواطن ولدى سلطات الدولة رأيان متعارضان عن الضرائب، لا يكون أحدهما مضطرا إلى إبادة الآخر.
وثانيا، من الملاحظ أن التطور الثقافي يسير وفقا لنموذج مماثل. وفي هذه الناحية يرتد الجدل إلى تبادل السؤال والجواب في محاورات أفلاطون. وهذه بالضبط هي الطريقة التي يعمل بها الذهن حين تعترضه مشكلة. إذ يعرض موقف ما، وقد تثار عدة اعتراضات، وخلال المناقشة إما أن يتم التوصل إلى تسوية، عن طريق الأخذ برأي أدق في الموضوع، وإما أن يتم التخلي عن القضية الأصلية، إذا بدا بعد إمعان الفكر أن من الضروري قبول أحد الاعتراضات. وفي هذه الحالة يمكن التوصل إلى حل توفيقي، سواء أكانت القضايا التي توضع كل منها في مواجهة الأخرى متناقضة أم متضادة، فقضية هرقليطس القائلة إن كل شيء يتحرك، وقضية بارمنيدس القائلة أنه لا شيء يتحرك، هما قضيتان متضادتان، ولكن قد يكتفي المرء، في اعتراضه على رأي هرقليطس، بالقول إن بعض الأشياء لا يتحرك، وفي هذه الحالة تكون القضيتان متناقضتين. وفي كلتا الحالتين يمكننا التوصل إلى الحل الوسط الذي يقول إن بعض الأشياء يتحرك وبعضها لا يتحرك.
ويؤدي ذلك إلى إبراز فارق هام لم يكن هيجل على استعداد للاعتراف به. فالتناقض شيء لا يحدث في المقال أو الخطاب
discourse ، حيث يمكن أن يكون شخص مناقضا لشخص آخر، أو بعبارة أدق، حيث يمكن أن تكون قضية مناقضة لقضية أخرى. أما في عالم الوقائع اليومية فليس ثمة تناقض. فالواقعة لا يمكن أن تكون مناقضة لأخرى، أيا كان الرأي الذي تقول به عن العلاقة بين اللغة والعالم. وهكذا فإن الفقر والغنى ليسا متناقضين، بل هما مختلفان فحسب.
ولكن، نظرا إلى أن هيجل ينظر إلى العالم نظرة روحية، فإنه يتجه إلى تجاهل هذا التمييز الأساسي. وفضلا عن ذلك فمن السهل وفقا لهذا الرأي، أن ندرك السبب الذي يؤدي إلى تطبيق الجدل، لا بوصفه أداة لنظرية المعرفة فحسب، بل أيضا من حيث هو وصف مباشر للعالم، ولو شئنا أن نعبر عن ذلك بلغة أكثر تخصصا، لقلنا إن هيجل لا يعطي منهجه مكانة إيستمولوجية (متعلقة بالمعرفة) فحسب، بل يعطيه أيضا مكانة أنطولوجية (متعلقة بالوجود)، وهذا هو الأساس الذي يقدم هيجل بموجبه تفسيرا جدليا للطبيعة. ولقد تحدثنا من قبل عن اعتراض شلنج على هذا الجدل. ولكن الماركسيين قد تبنوا هذا الهراء بكامله، فيما عدا أنهم وضعوا المبادئ المادية التي قال بها «لامتري» محل تأكيد هيجل المتحيز لجانب العقل.
وهناك مظهر غريب آخر للتحيز، ينبثق عن المنهج الجدلي، هو ولع هيجل بالرقم ثلاثة، إذ يبدو أن كل شيء يخضع لهذا الرقم لمجرد أن قوام الجدل هو تلك الخطوات الثلاث، الوضع ونقيضه والمركب، وهكذا فكلما احتاج شيء ما إلى تقسيم، وجدنا هيجل يقسمه إلى ثلاثة، ففي العرض الذي قدمه للتاريخ، مثلا، يميز العالم الشرقي، ثم عالم اليونان والرومان، وأخيرا عالم الألمان، أما الباقون فلا يكاد يعمل لهم أي حساب. وبالطبع فإن هذا أمر مقبول إذا نظر إليه من زاوية التناسق والتماثل
symmetry ، أما من حيث هو منهج للدراسة التاريخية فإنه لا يبدو مقنعا على الإطلاق. وبالمثل نجد في الموسوعة، نقشا ثلاثيا، يناظر المراحل الثلاث للروح. فهناك أولا الوجود في ذاته، الذي ينبثق عنه المنطق ، ثم تمر الروح بمرحلة خروج عن ذاتها، تكون خلالها في حالة تغاير، وهي المرحلة التي تناقش في فلسفة الطبيعة. وأخيرا تكمل الروح رحلة الذهاب والإياب الجدلية وتعود إلى ذاتها، وتناظر هذه المرحلة فلسفة الروح، وينظر هيجل إلى هذه العملية كلها على أنها مثلث جدلي، ولكن هذا نوع من التنظير يجافي العقل السليم إلى حد أن أنصار هيجل أنفسهم لم يعودوا يحاولون الدفاع عنه.
ولكن من واجبنا، بعد أن أبدينا هذه الملاحظات النقدية، ألا نغفل عما له قيمة في فلسفة هيجل، فمن الملاحظ أولا، فيما يتعلق بالجدل، أن هيجل يبدي هنا استبصارا عميقا فيما يتعلق بالمسارات التي يتبعها العقل، إذ إن العقل كثيرا ما يسير على أساس هذا النموذج الجدلي، ويمكن القول إن الجدل، من حيث هو إسهام في سيكولوجية النمو العقلي، ينم، إلى مدى معين، عن قدرة على الملاحظة اللماحة. وثانيا فإن الهيجلية تؤكد أهمية التاريخ على نحو ما ألمح إليها «فيكو» قبل ذلك بقرن من الزمان، غير أن الطريقة التي يعرض بها هيجل موقفه يشوبها افتقار إلى الدقة في استخدام الألفاظ، وربما كان هذا يرتبط بتصور شاعري معين للغة ذاتها. فمثلا حين يقول هيجل إن الفلسفة هي دراسة تاريخها ذاته، ينبغي أن ننظر إلى هذه العبارة في ضوء المبدأ الجدلي، فهيجل يقول إن الفلسفة تنمو بالضرورة وفقا للنموذج الجدلي، ومن ثم فإن دراسة الجدل، الذي هو المبدأ الأساسي في الفلسفة، تبدو مطابقة لدراسة تاريخ الفلسفة. ولا شك أن هذا تعبير شديد الالتواء عن الفكرة القائلة إن الفهم الصحيح للفلسفة يحتم معرفة شيء عن تاريخها، وهو رأي قد لا يوافق عليه المرء، ولكنه قطعا ليس لغوا فارغا. والواقع أن هيجل كثيرا ما كان يتلاعب، في صياغاته، بالمعاني المختلفة للألفاظ، بل إنه كان يرى أن للغة نوعا من العقل الكامن الذي هو أسمى من عقول من يستخدمونها. ومن الغريب حقا أن هناك رأيا قريبا جدا من هذا يقول به فلاسفة اللغة العاديون في أكسفورد في أيامنا هذه.
أما بالنسبة إلى الوضع التاريخي، فقد رأى هيجل أن المطلق في متناول أيدينا، لذلك كان من الطبيعي تشييد مذاهب فلسفية كانت في رأيه تأتي دائما بصورة لاحقة، بعد أن تكون الأحداث ذاتها قد وقعت. وقد عبر عن ذلك بصورة بارعة إلى أبعد حد في مقدمة فلسفة القانون، حين قال: «إن بومة منيرفا لا تبدأ تحليقها إلا حين يحل الغسق.»
12
إن الفلسفة الهيجلية تستلهم مبدأ عاما يعاود الظهور على مر تاريخ الفلسفة: هو أن من المستحيل فهم أي جزء من العالم ما لم ينظر إليه في إطار الكون ككل، ومن ثم فإن الكل هو الحقيقة الوحيدة.
هذا الرأي كان موجودا من قبل لدى السابقين لسقراط. فعندما ذكر بارمنيدس أن الكون كرة ساكنة، كان يحاول التعبير عن شيء من هذا القبيل، كذلك فإن الفلاسفة الرياضيين في المدرسة الفيثاغورية أشاروا إلى هذه الفكرة تلميحا عندما قالوا إن الأشياء كلها أعداد. وفي وقت أقرب إلينا، كان إسبينوزا يمثل الرأي القائل إن الكل وحده هو الحقيقي بالمعنى المطلق. ثم جاء الفيزيائيون الرياضيون فساروا في طريق التراث الفيثاغوري، وكان بحثهم عن الصيغة الواحدة العليا التي تفسر الكون بأكمله مدفوعا بهذا الاعتقاد نفسه. ومن أمثلة ذلك، التقدم الباهر الذي أحرزته فيزياء نيوتن، والذي بلغ ذروته في نظريات كونية مثل نظرية لابلاس. على أنه ليس من الصعب أن يثبت المرء بطلان الفكرة المثالية المتعلقة بنسق يضم الكون بأسره. وفي الوقت ذاته فمن الخطأ رفضها كلية دون محاولة لتبين ما ترمي إليه، حتى ولو كان ذلك بطريقة غامضة غير محددة المعالم.
إن المسألة الهامة هي أن مذهب المثاليين يعبر بطريقة صحيحة، في جانب معين منه، عما تطمح إليه النظرية العلمية. ذلك لأن مشروع العلم يهدف بالفعل إلى توسيع فهمنا المنهجي للطبيعة بطريقة تزداد اتساعا على الدوام. وهكذا يلقي الضوء على الارتباطات المتبادلة التي لم يكن أحد ينتبه إليها من قبل، ويدرج عددا متزايدا على الدوام من أحداث الطبيعة في إطار نظرية تؤلف نسقا متكاملا، ولا يكون لهذا التطور، من حيث المبدأ، أي نهاية . وفضلا عن ذلك فإن النظرية العلمية لا تسمح بأية استثناءات، وإنما ينبغي أن تنطبق على نحو شامل؛ فهي إما كل شيء وإما لا شيء. وهكذا يمكن القول إن المذهب أو النسق الذي يقول به المثالي هو نوع من المثال الأفلاطوني للعلم ككل، وهو علم إلهي كما تصوره ليبنتس. والواقع أن ارتباط كل شيء على نحو ما، بكل شيء هو، من بعض النواحي، حقيقة معترف بها، ولكن ليس من الصحيح أن الأشياء تتغير بارتباطها بالأشياء الأخرى. وهكذا فإن تلك الطريقة في النظر إلى العلم ترتكب خطأ فادحا في هذه المسألة الثانية، وهي أيضا على خطأ حين تحاول إظهار المسألة كلها وكأنها نتاج تم وانتهى مع أن من السمات المميزة للبحث العلمي استحالة أن تكون له نهاية. ويبدو أن الموقف الهيجلي مرتبط إلى حد كبير بالنزعة التفاؤلية العلمية التي سادت في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، حين اعتقد الجميع أن الإجابات عن جميع الأسئلة أصبحت قريبة المنال، ثم ثبت فيما بعد أن هذا وهم، كما كان يمكن أن يتوقع المرء منذ البداية.
على أن من غير المجدي أن يحاول المرء، في هذا الصدد، اللجوء إلى فكرة العلم الإلهي لتبرير موقفه. فهذا العالم الذي نعيش فيه، أيا كان رأينا بشأنه، ليس هو الذي ينتمي إليه مثل هذا العلم، أما العوالم الخارجة عن عالمنا فلا يمكن أن تكون لها علاقة بنا. وهكذا فإن النسق المثالي مفهوم مزيف. ولكننا نستطيع أن نثبت هذه النتيجة ذاتها على نحو أقرب إلى الطابع المباشر عن طريق ضرب مثل. فأنا أومن بمجموعة من المعتقدات الصحيحة، كالقول إن عمود نلسون أعلى من قصر بكنجهام. أما الهيجلي فلا يقبل شيئا من ذلك، بل يعترض بقوله: «إنك لا تدري ما تتكلم عنه. فلا بد لك من أجل فهم الحقيقة التي تتحدث عنها، أن تعرف أنواع المواد المستخدمة في البناءين، ومن الذي بناهما ولماذا، وهكذا إلى غير حد، وفي النهاية سيكون عليك أن تعمل حسابا للكون بأسره قبل أن يكون من حقك أن تقول إنك تعرف ما تقصده حين تقول إن عمود نلسون أعلى من القصر.» ولكن المشكلة في هذا الرأي، بالطبع، هي أنه يتعين علي أن أعرف كل شيء قبل أن أعرف أي شيء، وبذلك يستحيل علي حتى أن أشرع في اتخاذ الخطوة الأولى، ولكن أحدا لن يبلغ به التواضع حد الاعتراف بأنه خالي الذهن كلية. وفضلا عن ذلك، فليس هذا بالأمر الصحيح، فأنا أعرف بالفعل أن عمود نلسون أعلى من القصر، وإن كنت في غير ذلك لا أدعي لنفسي علما إلهيا شاملا، وحقيقة الأمر أنك تستطيع أن تعرف شيئا دون أن تعرف كل شيء عنه، مثلما تستطيع أن تستخدم لفظا بطريقة صحيحة دون أن تعرف المفردات كلها. وإن هيجل ليبدو هنا وكأنه يؤكد أن أية قطعة من مجموعة لألعاب الأطفال تكون شكلا واحدا، لا يمكن أن يكون لها معنى ما لم يتم التوصل إلى حل الشكل كله. أما التجريبي فيعترف بأن لكل قطعة معناها الخاص، ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطعت أن تبدأ في تجميع القطع سويا.
ولهذا النقد الموجه إلى فكرة النسق المنطقي نتائج هامة في ميدان الأخلاق؛ ذلك لأنه لو كانت النظرية المنطقية صحيحة، لكانت النظرية الأخلاقية المبنية عليها صحيحة بدورها، أما والأمر على نحو ما قلنا، فإن الباب يفتح لاعتراضات كثيرة .
في هذا الميدان (أي الأخلاق) تقف الهيجلية وليبرالية لوك على طرفي نقيض. ففي رأي هيجل أن الدولة خيرة بذاتها، أما الأفراد فليست لهم أهمية في ذاتهم، بل تكون أهمية بقدر ما يسهمون في أمجاد الكل الذي ينتمون إليه فحسب. أما الليبرالية فتبدأ من الطرف الآخر، وتنظر إلى الدولة على أنها تخدم المصالح الشخصية لأفرادها. وواضح أن الرأي المثالي يولد التعصب والقسوة المفرطة والطغيان. أما الرأي الليبرالي فيدعم التسامح والاحترام والتوفيق بين مختلف الاتجاهات.
إن مثالية هيجل إنما هي محاولة للنظر إلى العالم بوصفه نسقا مترابطا. وعلى الرغم من أن محور الاهتمام فيها هو الروح، فليس للهيجلية اتجاه ذاتي على الإطلاق، بل يمكننا أن نصفها بأنها مثالية موضوعية. ولقد سبق أن رأينا كيف انتقد شلنج فيما بعد المذهب المشيد على أساس جدلي، وهذا النقد كان من الوجهة الفلسفية، هو نقطة البدء في الهجوم العنيف الذي شنه على هيجل فيلسوف دنمركي هو سورين كيركجور
Soren Kierkegaard
الذي لم يكن لكتاباته تأثير كبير في عصره، ولكنها أصبحت بعد حوالي خمسين عاما مصدر الحركة الوجودية.
ولد كيركجور (1813-1855م) في كوبنهاجن، التي التحق بجامعتها وهو في السابعة عشرة، وكان أبوه قد قدم إلى العاصمة الدنمركية في شبابه واستعاض عن حرفة الزراعة بالأعمال التجارية التي أحرز فيها نجاحا كبيرا، وهكذا لم يكن الابن يصادف عناء من أجل البحث عن مورد رزق وقد ورث كيركجور عن أبيه حضور البديهة والذكاء، فضلا عن المزاج التأملي. وفي عام 1841م حصل على درجة الماجستير في اللاهوت، وكان خلال ذلك قد خطب، بعد تردد، فتاة يبدو أنها لم تبد تقديرا كافيا لما كان ينظر إليه على أنه رسالته اللاهوتية، وانتهى الأمر بفسخه الخطبة، ثم سفره بعد انتهاء دراسته إلى برلين حيث كان شلنج يحاضر، ومنذ ذلك الحين كرس حياته للتأمل اللاهوتي والفلسفة، أما الفتاة التي كانت في وقت ما خطيبته، فقد سلكت المسلك المعقول، وتزوجت شخصا آخر.
فلنعد إلى النقد الذي وجهه شلنج إلى مذهب هيجل. لقد ميز شلنج بين الفلسفة السلبية والفلسفة الإيجابية؛ الأولى تبحث في التصورات أو الكليات أو الماهيات، إذا شئنا أن نستخدم المصطلح المدرسي، أي أنها تبحث في «كنه» الأشياء. أما الفلسفة الإيجابية فتتعلق بالوجود الفعلي، أي تنتقل إلى المستوى الإيجابي. وتذكرنا هذه الصيغة بمبدأ الاستقطاب عند شلنج وبالمسار الذي سلكه تطوره الفلسفي الخاص، الذي مر بهاتين المرحلتين عينيهما، فكتابات شلنج الأولى «سلبية»، واللاحقة «إيجابية»، بهذا المعنى للكلمتين، وعلى ذلك فإن النقد الأساسي الموجه إلى هيجل هو أنه بعد أن وجد نفسه منغمسا في الميدان السلبي، سعى إلى استنباط عالم الواقع الإيجابي منه، وإلى هذا النقد يرجع أصل الوجودية.
غير أن هذا ليس إلا اعتراضا منطقيا على هيجل، وهناك اعتراض آخر لدى كيركجور لا يقل عن هذا أهمية، هو الاعتراض العاطفي أو الوجداني، فالهيجلية اتجاه نظري جاف، يكاد لا يترك لانفعالات النفس مجالا، بل إن هذا النقد يصدق على الفلسفة المثالية الألمانية بوجه عام، وحتى تأملات شلنج الأخيرة لم تنج منه. ولنتذكر أن عصر التنوير كان يتجه، قبل ذلك، إلى النظر إلى الانفعالات بنوع من الارتياب، أما كيركجور فيريد أن يعيد إليها احترامها الفلسفي، وهذا يتمشى مع رومانتيكية الشعراء، ويتعارض مع الاتجاه الأخلاقي الذي يربط الخير بالمعرفة والشر بالجهل. والواقع أن الوجودية، إذ فصلت الإرادة عن العقل، على طريقة أوكام بالضبط، إنما حاولت أن تلفت انتباهنا إلى حاجة الإنسان إلى أن يفعل ويختار، لا نتيجة لتفكير فلسفي، بل بدافع الممارسة التلقائية للإرادة، مما يتيح له أن يفسح مجالا للإيمان على نحو غاية في البساطة؛ إذ يصبح قبول المعتقدات الدينية في هذه الحالة فعلا إراديا حرا.
ويتخذ هذا المبدأ الوجودي أحيانا صيغة القول إن الوجود يسبق الماهية، وهو ما يمكن التعبير عنه بقولنا إننا نعرف أولا أن الشيء كائن، وبعد ذلك نعرف ما يكونه، وهو ما يعني وضع الجزئي قبل الكلي، أو أرسطو قبل أفلاطون. ولقد وضع كيركجور الإرادة قبل العقل، وذهب إلى أنه لا يتعين علينا أن نكون علميين أكثر مما ينبغي في كل ما يتعلق بالإنسان. فالعلم الذي لا يستطيع أن يبحث إلا فيما هو عام، لا يمكنه أن يمس الأشياء إلا من الخارج. وفي مقابل ذلك يعترف كيركجور بطرق التفكير والوجودية التي تنفذ إلى باطن الأشياء. وفي حالة الإنسان على وجه التحديد، يرى أننا نغفل ما له أهمية حقيقية إذا ما حاولنا فهمه بطريقة علمية، فالمشاعر النوعية الخاصة لأي فرد لا يمكن أن تفهم إلا وجوديا.
ويري كيركجور أن النظريات الأخلاقية أشد عقلانية من أن تسمح للناس بأن ينظموا حياتهم وفقا لها. فليس في استطاعة أية نظرية منها أن تتفهم الطابع المميز لسلوك الفرد الأخلاقي بطريقة سليمة. وفضلا عن ذلك فمن الممكن الاهتداء دائما إلى أمثلة عكسية أو حالات استثنائية تخالف القاعدة، ومن أجل مثل هذه الأسباب، دعا كيركجور إلى اتخاذ المبادئ الدينية، لا الأخلاقية، أسسا لحياتنا، وهو موقف يتمشى مع التراث الأوغسطيني الذي ظل له تأثيره في البروتستانتية. فالإنسان لا يكون مسئولا إلا أمام الله وأوامره، وليس من حق أي كائن بشري آخر أن يتدخل لتغيير هذه العلاقة. فالدين عند كيركجور مسألة تفكير وجودي، ما دام ينبثق من داخل النفس.
لقد كان كيركجور مسيحيا شديد الإخلاص، ولكن كان من الطبيعي أن تؤدي به آراؤه إلى التصادم مع الكنيسة الرسمية الدنمركية بوصفها مؤسسة جامدة، فقد كان يعارض اللاهوت العقلاني على النحو الذي صاغه كبار المدرسيين؛ إذ إن وجود الله ينبغي أن يدرك وجوديا، ومن المستحيل إثبات هذا الوجود بأية براهين تنتمي إلى ميدان الماهيات. وهكذا يفصل كيركجور، كما قلنا من قبل، بين الإيمان والعقل.
إن نقد هيجل، الذي اتخذ منه فكر كيركجور نقطة انطلاقه، هو في أساسه نقد صحيح، غير أن الفلسفة الوجودية التي ظهرت بناء على هذا النقد، لا تتصف بنفس القدر من الصحة. ذلك لأن تضييقها لنطاق العقل يعرضها لمتناقضات لا حصر لها. ومن المعروف أن مثل هذا التناقض، على مستوى الإيمان، ليس أمرا متوقعا فحسب، بل يكاد يكون موضع ترحيب. فهناك شعار قديم يحترمه المؤمنون بالوحي هو «أومن لأن ما أومن به غير معقول ،
Cedro quia absurdum » ويمكن القول إنهم، بمعنى معين، على حق في ذلك، فإذا كنت تود ممارسة حريتك في الإيمان، فخير لك أن تتعلق بشيء غير متعارف عليه.
ولكن من الواجب أن نتذكر أن الإقلال من شأن العقل لا يقل خطورة عن المبالغة في تقديره، فهيجل نظر إلى العقل نظرة أرفع مما ينبغي، ومن هنا وقع في خطأ الاعتقاد بأن الكون كله يمكن أن يتولد عن العقل. أما كيركجور فقد تطرف في الاتجاه المضاد، وذهب إلى أن العقل عاجز عن مساعدتنا على إدراك النوعي والخاص، الذي هو وحده الجدير بالمعرفة. مثل هذا الرأي ينكر أية قيمة للعلم، وهو يتمشى مع جوهر المبادئ الرومانتيكية. وهكذا فإن كيركجور، على الرغم من انتقاده العنيف لأسلوب الحياة الرومانتيكي، على أساس أنه خاضع كلية لتقلبات المؤثرات الخارجية، كان هو ذاته رومانتيكيا بالمعنى الصحيح. بل إن نفس المبدأ الذي تقوم على أساسه أساليب التفكير الوجودية إنما هو تصور رومانتيكي يسوده الخلط.
هكذا كان رفض الوجودية لهيجل، في أساسه، إنكارا للفكرة القائلة إن العالم ذاته يكون نسقا. والواقع أن الوجودية تفترض نظرية واقعية في المعرفة، بالمعنى المضاد للنظرة المثالية، على الرغم من أن كيركجور ذاته لم يتطرق إلى هذا الموضوع صراحة. ومن الممكن أن ينشأ اعتراض آخر، مختلف كل الاختلاف، عن فلسفة هيجل إذا عدنا إلى نوع من الثنائية الكانتية المعدلة، وهو ما نجده في فلسفة شوبنهور.
كان آرتور شوبنهور
Arthur Schopenhauer (1789-1860م) ابنا لتاجر من دانتسج
Danzig
كان معجبا بفولتير، وكان يشارك هذا الأخير احترامه لإنجلترا، وعندما ضمت بروسيا مدينة دانتسج الحرة في عام 1793م، انتقلت الأسرة إلى هامبورج، وفي عام 1797م انتقل شوبنهور للإقامة في باريس، حيث أقام لمدة عامين كاد فيهما أن ينسى لغته الأصلية، وفي عام 1803م رحل إلى إنجلترا والتحق بمدرسة داخلية لمدة حوالي ستة أشهر وكان هذا كافيا لجعله كارها للمدارس الإنجليزية، ولكنه تعلم اللغة، وقد اعتاد في سنواته المتأخرة قراءة جريدة «التايمس» اللندنية، وعندما عاد إلى هامبورج، قام بمحاولة غير متحمسة للاشتغال بالتجارة، ولكنه تخلى عنها بمجرد أن مات أبوه، وعندئذ انتقلت أمه إلى فيمار، حيث أصبحت، بعد وقت قصير، صاحبة صالون أدبي يؤمه كثير من الشعراء والكتاب الكبار الذين كانوا يقيمون هناك. بل إنها هي ذاتها أصبحت فيما بعد كاتبة روائية، غير أن ابنها، الذي لم تكن تشاركه مزاجه الحاد، بدأ يثور على أسلوب حياتها الذي يتسم بقدر غير قليل من الاستقلال، وعندما بلغ الحادية والعشرين، حصل على ميراث بسيط، ترتب عليه تباعد تدريجي بين الابن والأم.
وقد أتاح له هذا الميراث أن يلتحق بالتعليم الجامعي، فدرس أولا في جوتنجن عام 1809م، حيث اطلع على فلسفة كانت للمرة الأولى، ثم انتقل إلى برلين عام 1811م، حيث تركزت دراساته على العلم أساسا، وقد حضر بعضا من دروس فشته، ولكنه كان يزدري فلسفته، وقد أتم دراسته عام 1813م، عندما نشبت حرب التحرير،
13
ولكن هذه الأحداث لم تثر فيه أية حماسة دائمة، وخلال الأعوام التالية تعرف على جوته في فيمار، حيث بدأ دراساته في التصوف الهندي، وفي عام 1819م بدأ يحاضر في جامعة برلين.
وكان على اقتناع تام بعبقريته الشخصية، ورأى أنه ليس من الأمانة أن يخفي هذه الحقيقة عن بقية البشر، الذين ربما لا يكونون قد عرفوا بها بعد. ولهذا السبب حدد لمحاضراته موعدا هو نفس الساعة التي يحاضر فيها هيجل، وحين لم يجد استجابة من الهيجليين، قرر التوقف عن إلقاء المحاضرات والإقامة في فرانكفورت حيث ظل بالفعل طوال الجزء المتبقي من حياته.
لقد كان شوبنهور، من حيث هو إنسان، مغرورا، يتملكه الشعور بالمرارة والإحباط، وكان تواقا إلى الشهرة، ولكن هذه الشهرة لم تواته إلا في نهاية حياته.
كان شوبنهور قد توصل إلى آرائه الفلسفية في سن مبكرة. فقد ظهر كتابه الرئيسي «العالم إرادة وتمثلا» في عام 1818م، عندما كان في سن الثلاثين بالضبط، وقد لقي الكتاب في البداية تجاهلا تاما، وفي هذا الكتاب قدم شكلا معدلا لنظرية كانت، احتفظ فيه عن عمد بالشيء في ذاته، ولكن شوبنهور، على خلاف كانت، كان يرى أن الشيء في ذاته هو الإرادة، وهكذا ينظر إلى عالم التجربة، كما فعل كانت، على أنه يتألف من ظواهر بالمعنى الكانتي، غير أن ما يسبب هذه الظواهر ليس مجموعة من الأشياء في ذاتها، غير القابلة للمعرفة، وإنما هو الإرادة التي هي شيء في ذاته. وهذا موقف يقترب كثيرا من الرأي الكانتي التقليدي: فقد رأينا أن «كانت» كان ينظر إلى الإرادة على أنها تقع في جانب الأشياء في ذاتها. فإذا مارست إرادتي، كان ما يناظرها في عالم التجربة حركة جسمي. ولنلاحظ، في هذا الصدد، أن كانت هنا لم ينجح بالفعل في تجاوز مذهب المناسبة
Occasionalism ؛ إذ لا يمكن، كما رأينا من قبل، أن تكون هناك علاقة سببية بين الأشياء في ذاتها والظواهر.
وعلى أية حال فإن شويبهور ينظر إلى الجسم على أنه مظهر تكمن حقيقته في الإرادة، وكما هي الحال عند كانت، فإن عالم الأشياء في ذاتها يتجاوز المكان والزمان والمقولات. فالإرادة، من حيث هي شيء في ذاته، لا تخضع بدورها لهذه الأمور، ومن ثم فهي لا زمانية، لا مكانية، مما يعني وحدانيتها، فبقدر ما أكون حقيقيا، أعني بقدر ما يتعلق الأمر بإرادتي، لا أكون متميزا أو منفصلا، بل إن التميز والانفصال إنما هو خداع ينتمي إلى عالم الظواهر. فإرادتي، على عكس ذلك هي الإرادة الواحدة الشاملة.
ولقد نظر شوبنهور إلى هذه الإرادة على أنها في أساسها شريرة، ومسئولة عن العذاب الذي يرتبط حتما بالحياة. وفضلا عن ذلك فإن المعرفة ليست كما هي عند هيجل، منبعا للحرية، وإنما هي مصدر للعذاب. وهكذا فبدلا من تلك النزعة التفاؤلية التي تتسم بها المذاهب العقلانية. سادت لدى شوبنهور نظرة تشاؤمية لا مكان فيها للسعادة، أما الجنس فكان بدوره عملية شريرة، لأن كل ما يفعله التناسل هو أنه يقدم ضحايا جددا للألم والعذاب. ولقد ارتبط هذا الرأي بكراهية شوبنهور للمرأة، إذ كان يعتقد أن المرأة تؤدي في هذا الصدد دورا أكثر تعمدا من دور الرجل.
والواقع أنه لا يوجد سبب منطقي يجعل نظرية المعرفة الكانتية ترتبط على هذا النحو بنظرة تشاؤمية إلى العالم. وكل ما في الأمر أن شوبنهور نفسه لم يكن، بحكم مزاجه، قادرا على أن يكون سعيدا، ومن ثم فقد أعلن أن السعادة شيء يستحيل تحقيقه. وقرب نهاية حياته القاتمة، بدأ العالم يعترف بمؤلفاته، وأصبحت أحواله المالية أفضل إلى حد ما، مما أدى به إلى التحول فجأة نحو المزيد من المرح، على الرغم من نظريته. ومع ذلك فليس من الصواب بالمثل أن نصف الموقف العقلاني المفرط في ثقته بخيرية هذا العالم، بأنه هو الموقف الصحيح. ففي الوقت الذي لم يكن فيه مفكر مثل اسبينوزا على استعداد، من الوجهة النظرية على الأقل، لرؤية الشر.
14
ذهب شوبنهور إلى الطرف المضاد، ولم يستطع أن يرى خيرا في أي شيء.
ولقد رأى شوبنهور أن حل هذا الوضع الأليم ينبغي أن يلتمس في الأساطير البوذية. فما يسبب الألم فينا هو ممارستنا للإرادة بعينها، ومن ثم فإننا نستطيع، عن طريق تخدير الإرادة، أن نصل في النهاية إلى «النرفانا» أي العدم، فالغيبوبة الصوفية تجعلنا نخترق حجاب «المايا»، الذي يرمز للوهم والبطلان. وهكذا نستطيع أن نرى العالم على أنه واحد، وبعد أن نكتسب هذه المعرفة، نقهر الإرادة. غير أن معرفة الوحدة لا تؤدي في هذه الحالة إلى الاتصال بالله، كما هي الحال لدى الصوفية الغربيين من أمثال إكهارت
Eckhart ، كما أنها لا تؤدي إلى الاتحاد بعالم اسبينوزا الذي كان هو والله شيئا واحدا، بل إن الاستبصار بالكل، والتعاطف مع الله وعذابه، يزودنا - على العكس من ذلك - بمهرب إلى العدم.
إن فلسفة شوبنهور تؤكد أهمية الإرادة، على عكس المذاهب العقلانية في المدرسة الهيجلية. وقد أخذ بهذا الرأي فلاسفة عديدون لم تكن تجمع بينهم نقاط مشتركة كثيرة أخرى؛ إذ نجده لدى نيتشه، وكذلك لدى البرجماتيين. وبالمثل فإن الوجودية تهتم كثيرا بالإرادة في مقابل العقل. أما عن نزعة التصوف التي تشيع في مذهب شوبنهور، فإنها تقف خارج التيار الرئيسي للفلسفة.
والحق أنه إذا كانت فلسفة شوبنهور تسعى في النهاية إلى إيجاد مخرج من العالم وصراعاته، فإن نيتشه
Nietzsche (1844-1900م) يسير في الطريق المضاد، وليس من السهل أن يلخص المرء مضمون تفكير نيتشه؛ إذ إنه ليس فيلسوفا بالمعنى المألوف، ولم يترك عرضا منهجيا لآرائه. وربما جاز لنا أن نصفه بأنه صاحب نزعة إنسانية أرستقراطية بالمعنى الحرفي للكلمة، فقد كان أول ما يحرص على تأكيده هو علو الإنسان الأفضل، أعني الأوفر صحة والأقوى شخصية. وقد أدى به ذلك إلى إبداء الاهتمام بالصلابة في مواجهة البؤس، وهو أمر يخالف إلى حد ما معايير الأخلاق الشائعة، وإن لم يكن يخالف الممارسات الفعلية بالضرورة. ولقد ركز الكثيرون اهتمامهم على هذه السمات دون أن يضعوها في سياقها الطبيعي، فرأوا في نيتشه مبشرا بالأنظمة القائمة على الطغيان السياسي في عصرنا الحاضر، ومن الجائز بالفعل أن بعض الطغاة قد استمدوا بعض الوحي من نيتشه، ولكن ليس من العدل أن نعده مسئولا عن شرور أناس لم يفهموه في أحسن الأحوال، إلا فهما سطحيا. ذلك لأن نيتشه كان خليقا بأن يعارض بقوة ما طرأ على بلده ذاته من تطورات سياسية، لو كان العمر قد امتد به حتى يشهد هذه التطورات.
كان نيتشه ابنا لقسيس بروتستانتي، مما كان يعني تنشئة عائلية تسودها التقوى والاستقامة. وقد ظل تأثير هذا العنصر باقيا في تلك النغمة الأخلاقية الرفيعة التي نجدها في أعماله، حتى تلك التي يبلغ فيها التمرد أقصى مداه، وقد أثبت منذ شبابه المبكر أنه باحث علمي ممتاز، وأصبح في الرابعة والعشرين أستاذا لفقه اللغات القديمة بجامعة بازل، وبعد عام من هذا التاريخ اندلعت الحرب بين فرنسا وبروسيا. ولما كان نيتشه قد أصبح مواطنا سويسريا، فقد كان عليه أن يكتفي بالعمل ممرضا في الخدمة العسكرية، وبعد أن تدهورت صحته نتيجة لإصابته بالدوسنتاريا، سرح من الخدمة وأعيد إلى بازل. والواقع أن صحته لم تكن أبدا في حالة جيدة، ولم يصل أبدا إلى الشفاء التام من الأمراض التي أصابته أثناء تجنيده، وهكذا اضطر إلى الاستقالة من منصبه في عام 1879م، وإن كان قد حصل على معاش سخي أتاح له أن يحيا حياة مريحة إلى حد معقول، وقد قضى الأعوام العشرة التالية في سويسرا وإيطاليا، مواصلا عمله التأليفي، وكان في معظم الأحيان منعزلا لا يعرف به أحد، وفي عام 1889م أصيب بالجنون، وكانت إصابته نتيجة متأخرة لمرض تناسلي أصيب به أيام دراسته، وظل في حالة الجنون حتى وفاته.
إن أعمال نيتشه مستوحاة في المحل الأول من المثل العليا اليونانية في عصر ما قبل سقراط، وخاصة في إسبرطة، وقد استحدث في كتابه الرئيسي الأول «ميلاد التراجيديا» (1972م)، التمييز المشهور بين الحالتين الأبولونية والديونيزية للروح اليونانية، فالمزاج الديونيزي القاتم الشديد الانفعال مرتبط بالتعرف على حقيقة المأساة في حياة الإنسان، أما البانثيون الأوليمبي فهو نوع من الرؤية الصافية التي تعوض تأثير الجانب الأليم في الحياة البشرية، وتنبثق هذه الرؤية من العنصر الأبولوني في النفس، وهكذا نستطيع أن نصف المأساة الإغريقية بأنها تسام أبولوني على الرغبات الديونيزية العارمة، وقد رأينا من قبل أن أرسطو كانت له آراء مشابهة في هذه المسائل.
وقد استخلص نيتشه، فيما بعد، من هذا العرض الذي قدمه لأصول التراجيديا فكرة البطل المأساوي، فهو، على خلاف أرسطو، لا يرى في المأساة وسيلة بديلة لتطهير الانفعالات، وإنما يرى فيها قبولا إيجابيا للحياة على ما هي عليه. وبينما كان شوبنهور قد توصل إلى نتيجة تشاؤمية، نجد نيتشه يتخذ موقفا تفاؤليا، يعتقد أن من الممكن التوصل إليه إذا ما فسرت المأساة الإغريقية تفسيرا صحيحا، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن هذا ليس تفاؤلا بالمعنى الشائع بين الناس، وإنما هو نوع من القبول العدواني لحقائق الحياة الصعبة القاسية؛ إنه يعترف، مثل شوبنهور بأولوية الإرادة، ولكنه يمضي شوطا أبعد، ويرى في الإرادة القوية أبرز سمات الإنسان الحر، على حين أن شوبنهور رأى في الإرادة مصدرا لكل شر.
ويميز نيتشه بين نوعين من الناس، لكل منهما أخلاقيته الخاصة، هما السادة والعبيد، وهو يعرض النظرية الأخلاقية المبنية على هذا التمييز في كتابه «ما وراء الخير والشر» (1886م). فلدينا من جهة أخلاق السادة، التي يرتبط فيها الخير بالاستقلال والكرم والاعتماد على النفس، وما شابه ذلك، أعني جميع الفضائل التي يتصف بها الإنسان ذو النفس الكبيرة عند أرسطو، أما النقائص المقابلة فهي الخضوع والوضاعة والتهيب وما إليها، وهذه تمثل الشر، وهنا نجد التقابل بين الخير والشر يعادل على وجه التقريب التضاد بين النبيل والحقير. أما أخلاق العبيد فتقوم على مبدأ مختلف كل الاختلاف. فالخير عندها يكون في نوع من الاستسلام الشامل وفي كل ما من شأنه التخفيف عن المعاناة ووأد الطموح، على حين أنها تندد بتلك الصفات التي تعد خيرا في أخلاق السادة وتراها شرا، لا مجرد سوء أخلاق، ذلك لأن الشخص الحر في أخلاق السادة يبدو في نظر العبيد مرعبا، وكل سلوك يثير الخوف يعد في نظره شرا. أما أخلاق البطل أو الإنسان الأرقى
Superman
فتقع فيما وراء الخير والشر.
وكان نيتشه قد عرض هذه الأفكار في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» على صورة دعوة أخلاقية تحكي في أسلوبها كلمات الكتاب المقدس، وبالفعل كان نيتشه فنانا عظيما في الأدب، حتى لتبدو مؤلفاته أقرب إلى الشعر المنثور منها إلى الفلسفة.
لقد كان أبغض الأمور إلى نيتشه هو ظهور ذلك النوع الجديد من الإنسانية الجماعية التي نمت مع تطور التكنولوجيا الجديدة، فالوظيفة الصحيحة للمجتمع، في رأيه، هي أن يكون بمثابة معمل لتفريخ تلك القلة من العظماء الذين يحققون المثل الأعلى الأرستقراطي. أما المعاناة التي يمكن أن يسببها هذا للناس البسطاء فتبدو في نظره أمرا لا أهمية له، ولقد كان نوع الدولة الذي تخيله مشابها إلى حد بعيد للدولة المثلى في جمهورية أفلاطون. وكان يرى في العقائد التقليدية مجرد أدوات تستعين بها أخلاق العبيد. وفي رأيه أن الإنسان الحر ينبغي أن يعترف بأن «الرب قد مات.»
15
ومن ثم لا يتجه سعيه إليه، وإنما إلى نوع أعلى من الإنسان. ويرى نيتشه أن أوضح نموذج لأخلاق العبيد هو المسيحية، ذلك لأن المسيحية تتجه إلى التشاؤم عندما تعلل النفوس بالأمل في حياة أخروية أفضل، وتبدي تقديرا عاليا للفضائل الهابطة، كالتواضع والشفقة. ولقد كان اتجاه فاجنر، في سنواته المتأخرة، نحو المسيحية هو الذي أدى بنيتشه إلى مهاجمة هذا الفنان الموسيقي الذي كان من قبل يراه صديقا يدعو إلى الإعجاب. أما عبادة البطولة عند نيتشه فكانت تصاحبها نزعة حادة كارهة للمرأة تحبذ معاملة النساء على الطريقة الشرقية - كالقطيع - وهو اتجاه يعكس في رأينا عجز نيتشه عن التعامل مع الجنس اللطيف.
على أن هذه النظرية الأخلاقية تنطوي على قدر غير قليل من الملاحظات المفيدة لمختلف أنماط البشر وأساليبهم في معالجة شئون حياتهم. فهناك جوانب إيجابية كثيرة في فكرة الدعوة إلى نوع من الصرامة والانضباط، بشرط أن يمارسها المرء على ذاته. ولكنا لا نستطيع أن نقتنع، بنفس السهولة بفكرة عدم الاكتراث التام إزاء المعاناة التي تتحملها الكثرة لصالح القلة.
الفصل الرابع
مذهب المنفعة والفلسفات المعاصرة
لنعد الآن قرنا إلى الوراء، ولنتناول تيارا آخر في الفكر الفلسفي. كانت الفلسفة المثالية ونقادها قد تطوروا في عالم أخذت ظروفه المادية تتغير تغيرا جذريا، وقد نجمت هذه التطورات عن الثورة الصناعية التي بدأت في إنجلترا في القرن الثامن عشر، ولقد سار إدخال الآلات في البداية بخطى متدرجة إلى أقصى حد. وأدخلت تحسينات على تركيب الأنوال فزاد إنتاج النسيج، ولكن الخطوة الحاسمة كانت تطوير الآلة البخارية، التي أتاحت مصدرا للطاقة لا حد له، من أجل تشغيل الآلات في الورش التي ظهرت بأعداد هائلة. وكانت أكثر الطرق فعالية في إنتاج البخار هي استخدام الغلايات التي تعمل بالفحم. وهكذا حدث تطور كبير في استخراج الفحم، وذلك في ظل ظروف كانت شديدة القبح والقسوة في كثير من الأحيان. والواقع أن الأيام الأولى من عصر التصنيع كانت، من الناحية الإنسانية فترة قاسية كئيبة بحق.
وخلال القرن الثامن عشر، بلغت حركة التسييج
Enclosure
1
في إنجلترا ذروتها. صحيح أنه كانت هناك، طوال عدة قرون، حالات قام فيها النبلاء بوضع سياج حول أرض مشاع من أجل استخدامهم الخاص، مما خلق مصاعب لسكان الريف الذين كان رزقهم يتوقف إلى حد ما على المنافع التي يجنونها من الأرض المشاع. ومع ذلك فإن هذا التعدي على تلك الامتيازات لم يسبق له، قبل القرن الثامن عشر، أن أدى إلى اقتلاع أعداد كبيرة من سكان الريف من جذورهم ودفعهم دفعا إلى المدن الكبيرة والصغيرة بحثا عن طرق جديدة للارتزاق. وهؤلاء الناس أعينهم هم الذين استوعبتهم المصانع الجديدة. ونظرا إلى ضآلة أجورهم وقسوة استغلالهم فإنهم كانوا يعيشون في أفقر أحياء المدن وضواحيها، واضعين بذلك أسس الأحياء الصناعية الرثة الضخمة
Slums
التي انتشرت في القرن التاسع عشر.
ولقد قوبل اختراع الآلات في البداية بقدر كبير من الشك، من جانب أولئك الذين شعروا بأن الآلات الجديدة ستجعل مهاراتهم في الصناعات اليدوية شيئا لا أهمية له. وبالمثل كان كل تحسين في أداء الآلة يلقى مقاومة من العمال الذين كانوا يخشون أن يؤدي ذلك إلى قطع أرزاقهم، وما زال هذا النوع من الخوف قائما حتى يومنا هذا، إذ إن نقابات العمال تنظر بعين الارتياب إلى إدخال الآلات التي تدار إلكترونيا، تماما كما كان يحدث في القرن الماضي بالنسبة إلى القول الذي يسير بطاقة البخار. ولكن المتشائمين كانوا، في هذه المسألة، مخطئين على الدوام. ذلك لأن الدول الصناعية في العالم، بدلا من أن تعاني من هبوط مستوى معيشتها، أخذت ثروتها ورخاؤها يرتفعان بالتدريج على كافة المستويات. ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن تعاسة الطبقة العاملة في أول العصر الصناعي في إنجلترا كانت شديدة حقا. وكان الجهل من الأسباب التي أدت إلى بعض من أسوأ النتائج، إذ إن المشكلات التي ظهرت كانت جديدة، ولم يكن أحد قد صادف مثلها من قبل. فالليبرالية القديمة، المرتكزة على الحرف اليدوية وعلى الملكية الزراعية، لم تكن مرنة بالقدر الذي يكفي لمواجهة المشكلات الضخمة الجديدة للمجتمع الصناعي. وعندما جاء الإصلاح سار ببطء، ولكنه استطاع بمضي الوقت أن يصحح هذه الأخطاء القديمة. أما في الحالات التي بدأ فيها التصنيع متأخرا، كما حدث في بقية بلدان القارة الأوروبية، فإن بعض المصاعب التي واجهت تطور المجتمع الصناعي كانت أقل قسوة، لأن المشكلات كانت عندئذ قد فهمت على نحو أفضل.
ومنذ أوائل القرن التاسع عشر، بدأ اتجاه تدريجي إلى التفاعل بين العلم والتكنولوجيا، وبالطبع فإن مثل هذا التفاعل كان موجودا، بقدر ما على الدوام، ولكن المبادئ العلمية بدأت تطبق بطريقة منهجية، منذ عهد التصنيع، في تصميم المعدات التكنولوجية وإنتاجها، مما أدى إلى نمو متسارع للتوسع المادي، ولقد كانت الآلة البخارية هي مصدر القوة الجديدة، وشهد النصف الأول من القرن التاسع عشر حركة بحث علمي شامل للمبادئ التي تنطوي عليها تلك الآلة، مما أدى إلى قيام علم جديد هو الديناميكا الحرارية، وأدى هذا العلم بدوره إلى تعليم المهندسين كيف يصممون آلات أعظم كفاءة.
وفي الوقت ذاته بدأت الآلة البخارية تحل محل كل أشكال الطاقة الأخرى في ميدان المواصلات. وما إن حل منتصف القرن التاسع عشر، حتى كانت شبكة واسعة من السكك الحديدية تنمو في أوروبا وأمريكا الشمالية، كما بدأت السفن البخارية تحل محل المراكب الشراعية. وقد أحدثت هذه التجديدات كلها تغيرات هائلة في حياة الناس الذين تأثروا بها، وفي نظرتهم إلى العالم. وإذا كنا نرى الإنسان، على وجه العموم، حيوانا ميالا إلى المحافظة، فإن قدراته التكنولوجية أخذت تفوق حكمته السياسية، مما أدى إلى اختلال في التوازن لم نبرأ منه حتى اليوم.
ولقد أدى التطور الأول للإنتاج الصناعي إلى تجديد الاهتمام بمسائل علم الاقتصاد، وهكذا فإن الاقتصاد السياسي في العصور الحديثة، من حيث هو دراسة قائمة بذاتها، يدين بظهوره إلى أعمال آدم سميث (1723-1790م) الذي كان أستاذا للفلسفة ينتمي إلى نفس موطن ديفيد هيوم. ولقد سارت مؤلفاته في الأخلاق في نفس الاتجاه الذي أقامه هيوم، ولكنها كانت على وجه الإجمال أقل أهمية من أعماله في الاقتصاد، وهو يدين بشهرته لدراسته التي تحمل عنوان «ثروة الأمم» (1776م). ففي هذا الكتاب بذلت لأول مرة محاولة لدراسة مختلف القوى التي تؤثر في الحياة الاقتصادية لبلد ما، وقد اهتم بوجه خاص بمشكلة تقسيم العمل، فأوضح بشيء من الإسهاب كيف يزداد إنتاج السلع الصناعية إذا ما تم تجزيء صناعة سلعة معينة إلى عدد من المراحل، يقوم بكل منها عامل متخصص. ولقد اختار مثالا خاصا هو صناعة الدبابيس، وكانت النتائج التي توصل إليها مبنية بغير شك على ملاحظات فعلية لأرقام الإنتاج.
وعلى أية حال فإن مبدأ تقسيم العمل قد طبق في الصناعة على نطاق واسع بعد ذلك بوقت قصير، وأثبت فعاليته الكاملة، وبالطبع فإن هناك مشكلات إنسانية ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار بدورها، لأن العمل المتخصص إذا ما تجزأ إلى حد إفقاد العامل اهتمامه بعمله، يؤدي إلى معاناة العامل في النهاية، ولكن هذه الصعوبة لم تكن واضحة تماما للأذهان في عصر سميث، بينما أصبح تأثيرها اللاإنساني على العاملين في هذا النوع من الآلات واحدة من المشكلات الكبرى في الصناعة الحديثة.
والواقع أن الاقتصاد السياسي ظل لفترة طويلة مبحثا يتميز به الإنجليز. صحيح أن مدرسة حكم الطبيعة، (الفيزيوقراط) الفرنسية في القرن الثامن عشر قد اهتمت بالمشكلات الاقتصادية، غير أن كتاباتهم لم يكن لها نفس الأثر الذي كان لكتاب آدم سميث؛ إذ إن هذا الأخير قد أصبح إنجيل الاقتصاد الكلاسيكي، وكان الإسهام الهام التالي في هذا الميدان هو نظرية ريكاردو
Ricardo
في القيمة المبنية على العمل، وهي النظرية التي تبناها ماركس.
أما في الميدان الفلسفي فإن ظهور التصنيع جلب نوعا من الاهتمام بفكرة المنفعة، وهو اهتمام كان يعارضه الرومانتيكيون بشدة، ولكن هذه الفلسفة التي كانت تفتقر إلى الجاذبية والتشويق، كانت لها آخر الأمر في ميدان الإصلاح الاجتماعي الذي كانت الحاجة ماسة إليه نتائج تفوق بكثير كل ما أدى إليه ذلك السخط الرومانتيكي الذي أثارته بين الشعراء والمثاليين. لقد كانت التغيرات التي تدعو إليها فلسفة المنفعة تدريجية منظمة، وكانت الثورة أبعد الأمور عن أهدافها، ولكن الأمر كان مختلفا في نظرية ماركس، التي كانت أكثر منها عاطفية، والتي ظلت تصطبغ بكثير من العناصر المتزمتة في المثالية الهيجلية التي كانت مصدرا لها، فقد أصبح الهدف في هذه الحالة الأخيرة هو التغيير الكامل للنظام القائم بالعنف.
وينبغي أن نلاحظ أن المشكلات الإنسانية الكبرى للمجتمع التكنولوجي لم تتكشف على الفور لأولئك الذين لم يعانوا تلك الآلام التي جرها ذلك المجتمع على الطبقة العاملة الصناعية، قد تكون هذه الحقائق الأليمة شيئا يدعو إلى الأسف، ولكنها كانت تعد في مبدأ الأمر شيئا لا مفر منه، على أن عدم الاكتراث الجامد والمتحجر هذا قد تزعزع خلال النصف الثاني من القرن الماضي، عندما تنبه الكتاب إلى المشكلات التي أدى إليها التصنيع. وقد أسهمت ثورة 1848م في تنمية المجتمع إلى هذه الحقائق. صحيح أن الاضطرابات قد أخفقت من حيث هي مناورة سياسية، ولكنها تركت وراءها قدرا من عدم الرضا عن الأوضاع الاجتماعية. وقد وجدت هذه المشكلات في أعمال ديكنز
Dickens
في إنجلترا، ومن بعده زولا
Zola
في فرنسا، تعبيرا ساعد على نشر وعي أعظم بحقيقة الوضع.
لقد رأى المصلحون في ذلك العصر أن من أهم أنواع العلاج التي تشفي كل الأمراض الاجتماعية، توفير قدر كاف من التعليم، ولكنهم ربما لم يكونوا في ذلك على صواب تام. ذلك لأن الاكتفاء بتعليم كل شخص القراءة والكتابة والحساب لا يؤدي في ذاته إلى القضاء على المشكلات الاجتماعية. كما أنه ليس من الصحيح أن هذه القدرات - التي هي في ذاتها مفيدة بلا شك - لا غناء عنها من أجل سير المجتمع الصناعي في الطريق السليم. فهناك قدر كبير من الأعمال الروتينية المتخصصة يمكن أن يقوم بها، من حيث المبدأ، أميون. غير أن التعليم يمكن أن يساعد بصورة غير مباشرة على حل مشكلات معينة، ما دام يؤدي أحيانا إلى مساعدة أولئك الذين يتعين عليهم تحمل المصاعب، على تحسين مصيرهم. وفي الوقت ذاته فمن الواضح أن الاقتصار على تقديم الدراسات التعليمية لا يؤدي إلى هذه النتائج بالضرورة، بل إنه قد يؤدي بالناس إلى الاعتقاد بأن النظام القائم للأشياء هو على ما ينبغي أن يكون عليه. وكثيرا ما يكون تشكيل العقول على هذا النحو فعالا إلى حد بعيد. ومع هذا كله فقد كان أنصار الإصلاح على حق عندما ذهبوا إلى أن هناك مشكلات معينة لا يمكن حلها إلا إذا ساد فهم معقول للموضوعات التي تتعلق بها هذه المشكلات، وهذا الفهم يحتاج بالفعل إلى قدر معين من التعليم.
ولقد امتد تقسيم العمل، الذي دعا إليه آدم سميث في ميدان إنتاج السلع، إلى ميادين النشاط العقلي بنفس القدر تقريبا. ذلك لأن البحث العلمي خلال القرن التاسع عشر، قد أصبح مصنعا، إن جاز هذا التعبير.
لقد اشتق مذهب المنفعة من نظرية أخلاقية ترجع، بوجه خاص، إلى هتشسون
Hutcheson ، الذي كان قد عرضها عام 1725م. وترى النظرية باختصار، أن الخير هو اللذة والشر هو الألم، ومن هنا فإن أفضل حالة يمكن بلوغها هي تلك التي يبلغ فيها تفوق اللذة على الألم أقصى مداه. وقد أخذ بنتام
Bentham
بهذا الرأي، وأصبح يعرف باسم مذهب المنفعة
Utilitarianism . كان جريمي بنتام (1748-1832م) معنيا قبل كل شيء بالتشريع، حيث استمد أفكاره الأساسية من هلفسيوس
Helvetius
وبيكاريا
Beccaria . فالأخلاق عند بنتام هي قبل كل شيء أساس لدراسات عن الأساليب التشريعية الكفيلة بإدخال أفضل التحسينات على الأوضاع. ولقد كان بنتام زعيما لمجموعة أطلق عليها اسم «الراديكاليون الفلسفيون»، كان أفرادها يبدون اهتماما كبيرا بالإصلاح الاجتماعي والتعليم، وكانوا معارضين بوجه عام لسلطة الكنيسة والامتيازات التي تحتكرها الطبقة الحاكمة في المجتمع. أما بنتام نفسه فكان ذا مزاج انطوائي هادئ، وبدأ بآراء لم تكن متطرفة بصورة واضحة، ولكنه في حياته اللاحقة أصبح، على الرغم من خجله الشديد، ينكر الدين بعدوانية شديدة.
كان بنتام شديد الاهتمام بالتعليم، وكان يتفق مع زملائه من الراديكاليين في إبداء ثقة مطلقة بالقدرة غير المحدودة للتعليم على مداواة عيوب المجتمع. وينبغي أن نتذكر أنه لم تكن توجد في إنجلترا، في عصره، سوى الجامعتين،
2
وكان دخولهما مقتصرا على أصحاب العقيدة الأنجليكانية الصريحة. ولم يتم تصحيح هذا الوضع الشاذ إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد أخذ بنتام على عاتقه مهمة إتاحة فرص التعليم الجامعي لمن لم تتوافر فيهم الشروط الصارمة التي كانت تفرضها المؤسسات القائمة. وكان واحدا من أفراد المجموعة التي ساعدت على إنشاء الكلية الجامعية في لندن عام 1825م. وفي هذه الكلية لم تكن تفرض على الطلاب أية اختبارات دينية، ولم يكن في الكلية أي مكان للعبادة. وكان بنتام ذاته في ذلك الحين قد خرج تماما عن الدين ، وعندما مات اشترط أن يبقى في الكلية هيكله العظمي، بعد أن يكسى بغطاء من الشمع ويرتدي الملابس المناسبة، وما زال تمثاله الجالس هذا معروضا ليكون فيه ذكرى دائمة لأحد مؤسسي هذه الكلية.
كانت فلسفة بنتام مبنية على فكرتين رئيسيتين ترجعان إلى القرن الثامن عشر، أولاهما هي مبدأ التداعي الذي أكده هارتلي
Hartley . وينبثق هذا المبدأ آخر الأمر، من نظرية السببية عند هيوم، حيث يستخدم في تفسير فكرة الاعتماد السببي عن طريق تداعي المعاني. وعند هارتلي، وكذلك عند بنتام فيما بعد، يصبح مبدأ التداعي هو الآلية الرئيسية في علم النفس. وهكذا وضع بنتام مبدأه الواحد هذا، الذي يمارس عمله على المادة الخام المقدمة من التجربة، محل الجهاز التقليدي للتصورات المنتمية إلى الذهن وفاعليته، وقد أتاح له ذلك أن يقدم تفسيرا حتميا لعلم النفس، لا يتضمن تصورات ذهنية على الإطلاق ، وكأن هذه قد اجتثتها «سكين أوكام» من جذورها، وفيما بعد، أصبحت نظرية الفعل المنعكس المكيف (الشرطي)، التي وضعها بافلوف
مبنية على نفس الموقف الذي يرتكز عليه علم النفس القائم على فكرة التداعي.
أما المبدأ الثاني فهو القاعدة النفعية التي تدعو إلى البحث عن أكبر قدر من السعادة والتي أشرنا إليها من قبل، وترتبط هذه القاعدة بعلم النفس من حيث إن ما يسعى الناس إلى بلوغه هو في رأي بنتام تحصيل أكبر قدر من السعادة لأنفسهم، وكلمة السعادة مساوية في معناها هذا لكلمة اللذة. فمهمة القانون هي التأكد من أن أي شخص، في سعيه إلى سعادته القصوى، لن يمس حق الآخرين في السعي إلى نفس الهدف. وعلى هذا النحو يتحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولقد كان هذا هو الهدف المشترك لأصحاب مذهب المنفعة جميعا، مهما اختلفوا فيما بينهم، ويبدو هذا الهدف، في صيغته الرديئة هذه، مبدأ فاترا لا يثير حماسا، غير أن النوايا التي تكمن من ورائه بعيدة عن ذلك كل البعد، ذلك لأن مذهب المنفعة، من حيث هو حركة تستهدف الإصلاح، قد حقق قطعا أكثر مما حققته الفلسفات المثالية مجتمعة، وقد فعل ذلك دون ضجة كبيرة، وفي الوقت ذاته فإن مبدأ أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس كان يقبل التفسير على نحو آخر، فقد أصبح في أيدي رجال الاقتصاد الليبراليين مبررا لحرية التبادل التجاري ومبدأ «دعه يعمل». إذ كان يفترض أن سعي كل إنسان، بجدية وبلا عوائق، إلى أعظم قدر من اللذة لنفسه، لا بد - مع وجود التشريع السليم - أن يحقق أكبر قدر من السعادة للمجتمع، غير أن الليبراليين كانوا في هذا مسرفين في التفاؤل. صحيح أن المرء قد يقبل، بروح سقراطية، الفكرة القائلة إن الناس إذا ما حرصوا على الاستزادة من المعرفة وحسبوا نتائج أفعالهم، يتوصلون عادة إلى أن إيذاء المجتمع سيؤدي في النهاية إلى إيذائهم هم أنفسهم، ولكن الناس لا يفكرون دائما في هذه الأمور بعناية، وكثيرا ما يتصرفون باندفاع وجهل، لذلك فإن نظرية «دعه يعمل» أصبحت في أيامنا هذه مقيدة بضمانات معينة تحد من طابعها المطلق.
وإذن فالقانون يعد جهازا يضمن سعي كل فرد إلى تحقيق أهدافه دون أن يلحق ضررا بأقرانه، وهكذا فإن وظيفة العقوبة ليست الانتقام، بل منع الجريمة، والشيء الهام هو أن تكون هناك تعديات معينة ينبغي أن تعاقب، إلا أن يكون القصاص فادحا، كما كان الاتجاه السائد في إنجلترا في ذلك الحين، وقد عارض بنتام توقيع عقوبة الإعدام بلا تمييز، في الوقت الذي كانت تفرض فيه بتوسع شديد، وعلى جرائم بسيطة.
إن هناك نتيجتين هامتين تترتبان على الأخلاق النفعية. الأولى هي أن من الواضح أن لدى الناس جميعا، في نواح معينة، ميولا بنفس القدر من القوة إلى السعادة، وعلى ذلك فلا بد أن يتمتعوا بحقوق وفرص متساوية. هذا الرأي كان في وقته تجديدا، وكان من البنود الأساسية في البرنامج الإصلاحي لمجموعة الراديكاليين، أما النتيجة الثانية التي يمكن استخلاصها فهي أن أكبر قدر من السعادة لا يمكن بلوغه إلا إذا ظلت الأوضاع ثابتة. وهكذا فإن الاعتبارين اللذين تكون لهما الأولوية بالنسبة إلى غيرهما هما المساواة والأمن، أما الحرية فقد رآها بنتام أقل أهمية. ذلك لأن الحرية، شأنها شأن «حقوق الإنسان»، قد بدت له ميتافيزيقية ورومانتيكية على نحو ما، ولقد كان من الوجهة السياسية يؤيد الاستبداد العادل، لا الديمقراطية. وبالطبع فإن هذا يشكل إحدى صعوبات مذهبه في المنفعة؛ إذ إن من الواضح أنه ليست هناك وسيلة تضمن أن يسير المشرع بالفعل في طريق عادل، بل إن هذا يقتضي، في ضوء نظريته النفسية ذاتها، أن يسلك المشرعون دائما ببعد نظر شديد، على أساس معرفة كاملة. غير أن هذا الافتراض، كما قلنا من قبل، ليس صحيحا كل الصحة. فهذه الصعوبة، من حيث هي مسألة متعلقة بالسياسة العملية، لا يمكن أن تزاح مرة واحدة وإلى الأبد، وأقصى ما يمكن محاولته هو التأكد من أن المشرعين لن يترك لهم الحبل على الغارب إلا بقدر معين في كل حالة.
ويسير بنتام، في نقده الإجماعي ، في نفس الخط الذي سار عليه الفلاسفة الماديون في القرن الثامن عشر، وهو يستبق كثيرا من الأفكار التي سيقول بها ماركس فيما بعد. فهو يرى أن أخلاق التضحية السائدة إنما هي خدعة متعمدة فرضتها الطبقة الحاكمة دفاعا عن مصالحها. فهي تتوقع التضحيات من الآخرين. ولكنها لا تقوم بنفسها بأية تضحية. وفي مقابل هذا كله وضع بنتام مبدأه النفعي.
وعلى حين أن بنتام قد ظل هو الزعيم الفعلي للراديكاليين خلال حمايته، فإن القوة الدافعة من وراء الحركة كان جيمس مل
James Mill (1773-1836م). ولقد كان جيمس مل يشارك بنتام آراءه النفعية في الأخلاق ويزدري الرومانتيكيين. وفي الميدان السياسي اعتقد أن من الممكن إقناع الناس بالحجة والبرهان، بحيث يقومون بتقديرات عقلية للأمور قبل اتخاذ خطوة عملية فيها. وكان يتمشى مع هذا اعتقاد مبالغ فيه بأهمية التعليم. وكان ضحية هذه الاعتقادات المسبقة هو ابن جيمس مل، جون استوارت مل (1806-1873م)، الذي طبقت عليه نظريات أبيه التعليمية بلا رحمة. فقد شكا في مرحلة متأخرة من حياته قائلا: «لم أكن طفلا أبدا، ولم ألعب الكريكت في حياتي.» وبدلا من ذلك، درس اليونانية وهو في الثالثة، وأعقبتها كل الموضوعات التعليمية الأخرى قبل الأوان. وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه التجربة المخيفة إلى إصابته بانهيار عصبي قبل أن يبلغ الحادية والعشرين مباشرة. وقد أبدى مل فيما بعد اهتماما إيجابيا بحركة الإصلاح البرلماني خلال الثلاثينيات، ولكنه لم يكترث بتقلد مرتبة الزعامة التي كان يشغلها أبوه وبنتام من قبله. وقد انتخب في الفترة الواقعة بين عامي 1865م و1868م عضوا في مجلس العموم عن دائرة وستمنستر، وظل يدعو إلى حق الاقتراع العام، ويسير في اتجاه كان يتصف في عمومه بالليبرالية والعداء للاستعمار، على طريقة بنتام.
ولقد كان جون استوارت مل في فلسفته مدينا لغيره بكل شيء تقريبا. وكان الكتاب الذي أذاع شهرته أكثر من أي شيء آخر هو كتاب «نسق في المنطق
System of Logic » (1843م). وكان الشيء الجديد في الكتاب، بالنسبة إلى عصره، هو معالجته للاستقراء، الذي يقوم في رأيه على مجموعة من القواعد تذكرنا إلى حد بعيد بقواعد الارتباط السببي عند هيوم. ولقد كان من المشكلات الدائمة التي يواجهها المنطق الاستقرائي، إيجاد تبرير للبرهان الاستقرائي. وكان رأي مل هو أن ما يعطي مبررا للسير على هذا النحو هو الاطراد الملاحظ في الطبيعة، الذي هو ذاته استقراء على أعلى مستوى. وبالطبع فإن هذا يجعل الحجة كلها حلقة مفرغة، وإن كان يبدو أنه لم يكترث بهذا الأمر. غير أن هذا الوضع ينطوي على مشكلة أعم بكثير، ما زالت تؤرق المناطقة حتى يومنا هذا. هذه الصعوبة يمكن التعبير عنها، بصورة عامة، بالقول إن الناس لا يرون الاستقراء، على أية حال، محترما بالقدر الذي ينبغي أن يكون عليه، وعلى ذلك فلا بد من إيجاد تبرير له. ولكن هذا يؤدي إلى مأزق لا مخرج منه، وإن لم يكن يشيع الاعتراف به دائما. ذلك لأن التبرير مسألة تنتمي إلى المنطق الاستنباطي. فلا يمكن أن يكون هو ذاته استقرائيا إن كان الاستقراء هو ما يجب تبريره. أما الاستنباط نفسه فلا أحد يشعر بأنه مضطر إلى تبريره، لأنه كان محترما منذ أقدم العصور. وربما كان المخرج الوحيد هو أن نترك الاستقراء مختلفا كما هو ، دون أن نحاول ربطه بالحجج الاستنباطية التبريرية.
أما العرض الذي قدمه مل للأخلاق النفعية فهو متضمن في دراسة بعنوان «مذهب المنفعة» (1863م)، وهي دراسة لا تتجاوز بنتام بكثير. ولقد كان مل، مثل أبيقور، الذي يمكن أن يعد أول القائلين بمذهب المنفعة، على استعداد لأن يقول في النهاية إن بعض اللذات أعلى من بعضها الآخر. ولكنه لا ينجح نجاحا حقيقيا في إيضاح المقصود باللذات الأفضل من حيث الكيف (أو النوع)، في مقابل الاختلافات الكمية البحتة. وهذا أمر لا يدعو إلى الدهشة، ما دام مبدأ أعظم قدر من السعادة، وحساب اللذات الذي يقترن به، يزيل الكيف لصالح الكم.
وحين حاول مل تقديم برهان يثبت المبدأ النفعي القائل إن اللذة هي ما يسعى إليه الناس بالفعل، ارتكب خطأ فادحا. «إن الدليل الوحيد الذي يمكن تقديمه على أن شيئا ما قابل للرؤية
Visible ، هو أن الناس يرونه بالفعل . والدليل الوحيد على أن الصوت قابل لأن يسمع
audible ، هو أن الناس يسمعونه، ومثل هذا يقال عن المصادر الأخرى لتجربتنا. وبالمثل أعتقد أن الدليل الوحيد الذي يمكن الإتيان به لإثبات أن شيئا ما مرغوب فيه
desirable ، هو أن الناس يرغبون فيه بالفعل.» ولكن هذه مغالطة مبنية على تشابه لفظي يحجب اختلافا منطقيا. فالمرء يقول عن الشيء إنه قابل للرؤية إن كان من الممكن رؤيته. أما في حالة «مرغوب فيه» فهناك التباس في المعنى. فإن قلت عن شيء إنه مرغوب فيه، قد يكون كل ما أعنيه هو أنني أرغب فيه بالفعل. وحين أتحدث على هذا النحو إلى شخص آخر أفرض بالطبع أن ما يحبه وما لا يحبه يشبهان، على وجه الإجمال، ما أحبه أنا وما لا أحبه. فإن قلنا بهذا المعنى إن المرغوب فيه ترغب فيه بالفعل، لكان ذلك كلاما لا يساوي شيئا. غير أن هناك معنى آخر نتحدث فيه عن شيء بوصفه مرغوبا فيه، كما يحدث حين نقول إن الأمانة مرغوب فيها. فما يعنيه هذا بالفعل هو أننا ينبغي أن نكون أمناء، أي أننا نصدر هنا حكما أخلاقيا. وهكذا فإن حجة مل باطلة قطعا، لأن تشبيه «ما يمكن رؤيته
Visible » بما هو مرغوب فيه
desirable (بالمعنى الثاني) هو تشبيه غير صحيح. وهذا ما سبق أن أشار إليه هيوم حين قال إننا لا نستطيع أن نستنبط ما ينبغي أن يكون مما هو كائن.
على أن من السهل، على أية حال، أن يقدم المرء أمثلة مضادة مباشرة تثبت خطأ هذا المبدأ. فباستثناء المعنى التافه الذي تعرف فيه اللذة بأنها ما يرغب فيه بالفعل، لا يكون من الصحيح بوجه عام القول إن ما أرغبه هو اللذة، وإن كان إشباع رغبة لا بد أن يؤدي بي إلى اللذة. وفضلا عن ذلك فهنالك حالات قد أرغب فيها في شيء لا تربطه بحياتي أية علاقة مباشرة سوى وجود هذه الرغبة لدي. فقد يرغب المرء مثلا في أن يربح حصان معين سباقا دون أن يراهن عليه بالفعل. وهكذا فإن مبدأ المنفعة يتعرض لعدد من الاعتراضات الجدية. ومع ذلك فمن الممكن أن تكون أخلاق المنفعة مصدرا لنشاط اجتماعي فعال. إذ إن ما تنادى به تلك النظرية الأخلاقية هو أن الخير يتمثل في تحقق أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، وهذا أمر لا يمكن التصديق به بغض النظر تماما عما إذا كان الناس يسلكون دائما على نحو يزيد من هذه السعادة الكلية أم لا. عندئذ تكون وظيفة القانون هي ضمان تحقيق السعادة القصوى. وبالمثل فإن هدف الإصلاح على هذا الأساس لن يكون الوصول إلى تنظيمات مثلى، بقدر ما يكون الوصول إلى تنظيمات قابلة للتطبيق تؤدي بالفعل إلى إسباغ قدر من السعادة على المواطن. وتلك هي النظرية الديمقراطية.
لقد كان مل، على عكس بنتام، مدافعا متحمسا عن الحرية. وأفضل عرض لآرائه في هذه المسألة هو ذلك الذي نجده في دراسته المشهورة «عن الحرية» (1859م) وكان مل قد كتب هذه الدراسة بالاشتراك مع هاريت تيلور
Harriet Taylor
التي كان قد تزوجها عام 1851م، بعد وفاة زوجها الأول. في هذه الدراسة يقدم مل دفاعا قويا عن حرية الفكر والمناقشة، ويقترح وضع حدود لسلطة الدولة في التدخل في حياة رعاياها. وهو هنا يعارض بوجه خاص ادعاء المسيحية بأنها هي منبع الخير كله.
كان من المشكلات التي بدأت تظهر بوضوح عند نهاية القرن الثامن عشر، الزيادة السريعة في السكان، التي طرأت عندما بدأ التطعيم يقلل نسبة الوفيات. وقد اضطلع بدراسة هذه المشكلة مالثوس
Malthus (1766-1834م) الذي كان عالما في الاقتصاد، وصديقا لجماعة الراديكاليين، وكان في الوقت ذاته رجل كنيسة إنجليكانيا. فعرض في كتابه المشهور «دراسة في السكان» (1797م) النظرية القائلة إن نسبة زيادة السكان تتجاوز بسرعة زيادة الموارد الغذائية. فعلى حين أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية، فإن موارد الغذاء لا تتزايد إلا بنسبة حسابية. ولا بد أن تأتي نقطة يتعين معها تحديد الأعداد، وإلا تفشت مجاعات هائلة. وقد اتخذ مالثوس موقفا مسيحيا تقليديا في مسألة الطريقة التي يتم بها هذا التحديد. فلا بد من تعليم الناس بحيث يعرفون كيف يمارسون «التعفف»، وبذلك تظل أعداد السكان منخفضة. ولقد أحرز مالثوس نفسه، عندما تزوج، نجاحا باهرا في تطبيق هذه النظرية على حالته الخاصة: فخلال أربع سنوات كانت لديه أسرة مكونة من ثلاثة أطفال.
وعلى الرغم من انتصار هذه النظرية فيبدو الآن أنها لا تتسم بالقدر المطلوب من الفعالية، بل يبدو أن رأي كوندورسيه
Condorcet
في هذه المسألة كان هو الأصح. فبينما دعا مالثوس إلى «التعفف»، نجد كوندورسيه يدعو من قبله إلى تحديد النسل بالمعنى الحديث. وهذا أمر لم يغفره له مالثوس أبدا؛ إذ إن مثل هذه الأساليب كانت تندرج، وفقا لنظريته الأخلاقية الصارمة ضمن فئة الرذيلة، وكان ينظر إلى تحديد النسل بطرق مصطنعة كما لو كان معادلا، على نحو ما، لممارسة البغاء.
والواقع أن جماعة الراديكاليين كانت في البداية منقسمة حول هذه المسألة العامة. فقد كان بنتام يؤيد مالثوس، على حين أن مل، الأب والابن، كانا أقرب إلى الاتفاق مع آراء كوندورسيه. وقد قبض على جون استوارت مل ذات مرة وهو في الثامنة عشرة، خلال قيامه بتوزيع كتيبات عن وسائل تحديد النسل وسط حي عمالي فقير، وحكم عليه بالسجن جزاء على هذه الجريمة. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن يظل موضوع الحرية، في عمومه واحدا من أهم الموضوعات التي كانت تشغل اهتمامه.
على أن كتاب «دراسة في السكان» كان مع ذلك إسهاما عظيم الأهمية في الاقتصاد السياسي، وقدم عددا من المفاهيم الأساسية التي طورت بعد ذلك في ميادين أخرى. ومن أهم هذه المفاهيم، تلك التي استمدها داروين (1859-1882م)، وهي مبدأ الانتقاء الطبيعي، وفكرة الصراع من أجل البقاء. فعندما ناقش داروين مشكلة المعدل الهندسي لزيادة الكائنات العضوية، وما يترتب عليه من صراع، قال في كتابه «أصل الأنواع» (1859م)، إن هذه هي نظرية مالثوس مطبقة بقوة مضاعفة على العالمين الحيواني والنباتي بأسرهما، إذ لا يمكن أن تكون هناك، في هذه الحالة، زيادة مستحدثة في الغذاء، ولا ضبط للتناسل على سبيل الحرص ففي هذا الصراع الذي يخوضه الجميع من أجل وسائل العيش المحدودة، يكون النصر للكائن العضوي الأفضل تكيفا مع بيئته، وهذه هي نظرية بقاء الأصلح عند داروين. وهي بمعنى ما مجرد امتداد لفكرة المنافسة الحرة كما قال بها أنصار بنتام. غير أن هذه المنافسة ينبغي عليها، في الميدان الاجتماعي، أن تخضع لقواعد معينة، على حين أن التنافس الدارويني في الطبيعة لا يعرف قيودا. وعندما ترجمت نظرية بقاء الأصلح إلى اللغة السياسية، أصبحت مصدرا تستلهم منه دكتاتوريات القرن العشرين جانبا من تفكيرها السياسي. على أنه لو كان داروين نفسه قد شهد هذه الامتدادات لنظريته، لكان من المستبعد أن يقرها، لأنه كان هو ذاته ليبراليا، وكان يؤيد جماعة الراديكاليين وبرنامجها الإصلاحي.
أما الجزء الآخر من أعمال داروين، والأقل أصالة بكثير، فهو نظرية التطور، التي ترتد في بدايتها، كما رأينا، إلى الفيلسوف اليوناني أنا كسيمندر. فكل ما فعله داروين هنا هو أنه قدم كمية هائلة من التفصيلات الواقعية المبنية على ملاحظته الدءوب للطبيعة. أما براهينه على التطور فإن قيمتها تتفاوت، ولكنها كانت قطعا ترتكز على أسس أقوى من تلك التي ارتكز عليها سلفه اليوناني الكبير. وعلى أية حال فإن النظرية الداروينية كانت هي التي طرحت فرض التطور لأول مرة على ساحة النقاش الشعبي الواسع. ولما كانت تفسر أصل الأنواع على أساس الانتقاء الطبيعي من كائن عضوي كلي قديم، فإنها كانت معارضة للقصة التي تضمنها سفر التكوين، والتي كانت تدافع عنها الكنيسة الرسمية. وقد أدى ذلك إلى صراع مرير بين الداروينيين وبين المسيحيين المتمسكين من جميع الطوائف. ولقد كان من أقوى أنصار داروين في هذا الصراع عالم البيولوجيا الكبير توماس هكسلى
Thomas Huxley . وإذا كانت هذه الصراعات قد خفت حدتها منذ ذلك الحين إلى حد ما، فينبغي أن نلاحظ أنه كانت تثار، في وقت احتدام النزاع، مشاعر عارمة حول مسألة وجود أصل مشترك بين الإنسان والقردة العليا. وأنا شخصيا أعتقد أن اقتراحا كهذا لا بد أن يجرح مشاعر القردة، على حين أن القليلين فقط من البشر هم الذين يغضبون منه في أيامنا هذه.
وهناك طريق آخر للتطور بدأ مع الراديكاليين وأدى مباشرة إلى الاشتراكية وإلى ماركس. ففي عام 1817م نشر ريكاردو (1772-1823م)، الذي كان صديقا لبنتام وجيمس مل، كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي والسياسة الضريبية». في هذا الكتاب عرض ريكاردو نظرية سليمة في الربح، تجاهلتها الأوساط العلمية، ونظرية في القيمة تربطها بالعمل، وترى أن القيمة التبادلية لأية سلعة تتوقف على كمية العمل المبذول فيها فحسب. وقد أدى ذلك بتوماس هودسكين
Hodgskin
إلى أن يقول، في عام 1825م، بأن من حق العامل أن يحصل على أرباح القيم التي ولدها. أما تقديم ربح إلى الرأسمالي أو صاحب الأرض، فليس إلا سرقة.
وفي الوقت ذاته وجد العمال مدافعا عن قضيتهم في شخص روبرت أوين
Robert Owen
الذي كان قد أدخل في مصانع النسيج الخاصة به، في نيولانارك
New Lanark
أسسا جديدة كل الجدة لمعاملة العمال. كان أوين رجلا يعتنق آراء أخلاقية رفيعة، وأعلن أن الاستغلال غير الإنساني للعمال، الذي كان سائدا عندئذ، خطأ. وقد أثبتت ممارساته أن من الممكن إدارة عمل اقتصادي بربح مع دفع أجور مجزية للعمال، ودون أن يشتغلوا ساعات زائدة عن الحد. ولقد كان أوين هو القوة الدافعة من وراء أول «قوانين للمصانع»، على الرغم من أن أحكام هذه القوانين كانت أقل بكثير مما كان يأمل في تحقيقه. وفي عام 1827م أصبح أتباع أوين يسمون لأول مرة بالاشتراكيين.
على أن تعاليم أوين لم تعجب جماعة الراديكاليين، إذ يبدو أن هذه التعاليم كانت تهدم الأفكار السائدة عن الملكية. وفي هذه الناحية كان الليبراليون أميل إلى تحبيذ المنافسة الحرة والفوائد التي يمكن أن تنجم عنها. وقد أدت الحركة التي نمت تحت قيادة أوين إلى ظهور النظام التعاوني، وساعدت على دعم الحركة النقابية في عهدها الأول. ولكن هذه التطورات المبكرة لم تحرز نجاحا فوريا نظرا إلى افتقارها إلى فلسفة اجتماعية. فقد كان أوين قبل كل شيء رجلا عمليا يسيطر عليه إيمان قاطع بفكرته الرئيسية. وكان على ماركس أن يتولى مهمة تقديم أساس فلسفي للحركة الاشتراكية. وقد ارتكز ماركس في هذا على نظرية القيمة المبنية على العمل، كما قال بها ريكاردو، من الناحية الاقتصادية، وكذلك على الديالكتيك (الجدل) الهيجلي بوصفه أداة للبحث الفلسفي. وفي هذا الصدد نجد أن مذهب المنفعة إنما كان نقطة الانطلاق لنظريات أخرى أثبتت في النهاية أنها أقوى منه تأثيرا بكثير.
لقد تميزت بلدة تريف
Treves
على نهر الموزيل، بكثرة عدد القديسين الذين أنتجتهم طوال تاريخها. ذلك لأنها لم تكن مسقط رأس القديس أمبروز فحسب، بل إنها كانت أيضا مسقط رأس كارل ماركس (1813-1883م). ولا جدال في أن ماركس كان، من ناحية القداسة، أنجح الإثنين، وكان من العدل أن يكون الأمر كذلك. فقد كان هو مؤسس حركة قدسته، بينما كان مواطنه وزميله في القداسة مجرد واحد من المعتنقين المتأخرين للعقيدة التي كان يؤمن بها.
كان ماركس ينحدر من أسرة يهودية تحولت إلى البروتستانتية. وقد تأثر بقوة، خلال أيام دراسته الجامعية، بالهيجلية التي كانت هي الموجة السائدة عندئذ. ثم اشتغل بالصحافة، ولكن عمله هذا توقف فجأة عندما حظرت السلطات البروسية «مجلة الراين» التي كان يعمل بها عام 1843م. عندئذ سافر ماركس إلى فرنسا وتعرف إلى كبار الاشتراكيين الفرنسيين. وفي باريس قابل فريدرش إنجلز
Friedrich Engels
الذي كان أبوه يملك مصانع في ألمانيا ومانشستر. وكان إنجلز يدير المصنع الأخير، مما أتاح له أن يطلع ماركس على مشكلات العمل والصناعة في إنجلترا. وقد نشر ماركس «البيان الشيوعي» عشية ثورة 1848م، وشارك بنشاط في الثورة، في فرنسا وألمانيا. وفي عام 1849م أصدرت حكومة بروسيا حكما بنفيه، فالتجأ إلى لندن، حيث ظل - باستثناء بضع رحلات قصيرة إلى موطنه - حتى نهاية حياته. وقد كان ماركس وأسرته يعيشون أساسا على المعونة التي يقدمها إليهم إنجلز. ولكن ماركس كان، على الرغم من فقره، يدرس ويكتب بحماسة، ممهدا بذلك الطريق للثورة الاجتماعية التي شعر بأنها وشيكة الوقوع.
لقد تشكل تفكير ماركس بفعل ثلاثة مؤثرات رئيسية. فهناك أولا ارتباطه بالراديكاليين الفلسفيين، الذين كان مماثلا لهم في معارضته للرومانتيكية وسعيه إلى إيجاد نظرية اجتماعية تصف نفسها بأنها علمية، فقد أخذ عن ريكاردو نظرية القيمة المرتكزة على العمل، وإن كان قد فسرها بطريقة مختلفة. فقد كان ريكاردو ومالثوس يبنيان تفكيرهما على أساس تسليم ضمني بأن النظام الاجتماعي القائم ثابت لا يتغير، ومن ثم فإن المنافسة الحرة تجعل أجور العمل باقية عند مستوى الكفاف، مما يؤدي إلى ضبط أعداد السكان. أما ماركس فيأخذ بوجهة نظر العامل الذي يستغل الرأسمالي عمله. فهذا العامل ينتج قيمة تفوق أجره، وهذه القيمة الفائضة يبتزها الرأسمالي من أجل منفعته الخاصة، وعلى هذا النحو يكون مستغلا. ولكن هذه ليست في الواقع مسألة شخصية؛ إذ إن إنتاج سلع على نطاق صناعي يقتضي تضافر أعداد كبيرة من البشر وكميات ضخمة من المعدات. وعلى ذلك ينبغي فهم الاستغلال من خلال نظام في الإنتاج، ومن خلال علاقات الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية ككل بهذا النظام.
وهذا يؤدي بنا إلى المصدر الثاني لتفكير ماركس، وهو المذهب الهيجلي؛ ذلك لأن الأمر الهام عند ماركس، بقدر ما كان عند هيجل، هو النسق الكلي لا الفرد. فالنسق أو النظام الاقتصادي هو الذي ينبغي التصدي له، لا الشرور أو الأضرار الجزئية. وفي هذه الناحية كان ماركس على اختلاف تام مع ليبرالية الراديكاليين وإصلاحاتهم. فالمذهب الماركسي يرتبط أوثق الارتباط بنظريات فلسفية هي في أساسها هيجلية. وقد يكون هذا هو السبب الذي لم يجعل للماركسية أية شعبية حقيقية في إنجلترا في أي وقت إذ إن الإنجليز في عمومهم لا يتأثرون كثيرا بالفلسفة.
كذلك كان هيجل هو الأصل الذي استمدت منه نظرة ماركس التاريخية إلى التطور الاجتماعي. فهذه النظرة التطورية ترتبط بالجدل (الديالكتيك)، الذي اقتبسه ماركس بلا تغيير عن هيجل. فالمسار التاريخي يتقدم بطريقة جدلية. وهنا نجد تفسير ماركس هيجليا تماما في منهجه، وإن كان كل منهما ينظر إلى القوة المحركة للتاريخ بطريقة مختلفة. فعند هيجل يكون مجرى التاريخ تحققا ذاتيا متدرجا للروح التي تصبو إلى المطلق. أما ماركس فيستعيض عن الروح بأساليب الإنتاج، وعن المطلق بالمجتمع اللاطبقي. فكل نظام في الإنتاج يولد بمضي الوقت توترات داخلية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة التي ترتبط به. ثم تنحل هذه المتناقضات، كما يسميها ماركس، إلى مركب أعلى. والطابع الذي يتخذه الصراع الجدلي هو الحرب الطبقية، وهي حرب تظل مستعرة إلى أن يحل محلها، في ظل الاشتراكية، مجتمع لا طبقي. وما إن يتم بلوغ هذه المرحلة حتى لا يعود هناك شيء يحارب من أجله، وتستطيع العملية الجدلية عندئذ أن تهدأ وتستريح. لقد كانت جنة الله في الأرض، عند هيجل، هي الدولة البروسية، أما عند ماركس فهي المجتمع اللاطبقي.
وينظر ماركس إلى تطور التاريخ بطريقة لا تقل حتمية عن هيجل، وكلاهما يستنبط نظرته هذه من نظرية ميتافيزيقية. لذلك فإن النقد الموجه إلى هيجل يمكن أن ينطبق بلا تغيير على ماركس. والواقع أن ملاحظات ماركس، بقدر ما تكشف عن فهم ذكي لأحداث تاريخية معينة وقعت بالفعل، لا تحتاج إلى منطق تستنبط منه كما تدعي.
ولكن، على حين أن العرض الذي قدمه ماركس كان هيجليا في منهجه، فإنه انتقد بشدة تأكيد هيجل للطبيعة الروحية للعالم. وهكذا قال ماركس إن من الواجب أن نقلب هيجل رأسا على عقب، وحقق ذلك عن طريق الأخذ بالمذاهب المادية التي شهدها القرن الثامن عشر. وفي هذه المادية نجد العنصر الرئيسي الثالث في الفلسفة الماركسية. ولكن ماركس يقدم هنا أيضا تفسيرا جديدا للنظريات القديمة. فإذا تركنا جانبا العنصر المادي في التفسير الاقتصادي للتاريخ، وجدنا أن مادية ماركس الفلسفية ليست من النوع الآلي. بل إن ما كان يقول به ماركس أقرب إلى أن يكون نظرية في الفاعلية ترتد إلى فيكو.
وقد عبر عن هذه المسألة في عبارة مشهورة وردت في قضاياه الإحدى عشرة عن فويرباخ (1845م) فقال: «لقد اقتصر الفلاسفة على تفسير العالم على أنحاء شتى، ولكن المهمة الحقيقية هي تغييره.» وهو يتقدم في هذا الصدد بمفهوم للحقيقة يذكرنا إلى حد بعيد بصيغة فيكو، ويستبق بعض أشكال المذهب البرجماتي. فالحقيقة عنده ليست مسألة تأمل، وإنما هي شيء ينبغي إثباته بالممارسة. أما النظرة التأملية فترتبط بالنزعة الاشتراكية اللاطبقية.
إن ما يحاول ماركس القيام به هو أن يمزج بين المذهب المادي وبين فكرة الفاعلية التي طورتها المدرسة المثالية بوجه عام، وهيجل بوجه خاص. ونظرا لأن المذاهب الآلية كانت قد تخلت عن فكرة الفاعلية هذه، لعدم وجود مكان لها فيها، فإنها أتاحت الفرصة للمثالية كيما تطور هذا الجانب من النظرية، وإن كان ماركس قد رأى بالطبع ضرورة قلبها رأسا على عقب قبل أن يمكن الإفادة منها على أي نحو.
أما عن تأثر فيكو، فربما لم يكن ماركس على وعي كامل به، وإن كان من المؤكد أنه عرف كتاب «العلم الجديد» وقد أطلق على نظريته الخاصة اسم المادية الجدلية، مؤكدا بذلك عنصرها التطوري والهيجلي.
من هذا كله يتضح لنا أن النظرية الماركسية معقدة وعالية المستوى إلى حد بعيد. والواقع أن نظرية المادية الجدلية هي مذهب فلسفي يدعي أنصاره أنه ينطبق على نطاق شامل. وقد أدى ذلك، كما هو متوقع، إلى قدر كبير من التفكير النظري الفلسفي، على الطريقة الهيجلية، حول مسائل كان من الأفضل تركها للبحوث العلمية التجريبية. ويظهر أول مثال لذلك في كتاب إنجلز «ضد دورنج
Anti-Duhring » الذي انتقد فيه نظريات الفيلسوف الألماني دورنج. غير أن التفسيرات الديالكتيكية المفصلة للسبب، الذي يجعل الماء يغلي، على أساس تغيرات كمية تتراكم حتى تصبح تغيرات كيفية، وعلى أساس التناقض والنفي ونفي النفي - كل هذا لا يقل شططا عن فلسفة الطبيعة عند هيجل. فلا جدوى في الواقع من التنديد بالعلم التقليدي بحجة أنه يستهدف غايات بورجوازية.
لقد كان ماركس على الأرجح مصيبا عندما قال إن الاهتمامات العلمية العامة لمجتمع ما تعبر بقدر معين عن المصالح الاجتماعية للفئة المسيطرة عليه. وهكذا يمكن القول إن إحياء علم الفلك في عصر النهضة تم لصالح التوسع التجاري، وزاد من قوة الطبقة الوسطى الصاعدة، وإن كان في وسع المرء أن يلاحظ أنه ليس من السهل تفسير إحدى الظاهرتين من خلال الأخرى. غير أن هذه النظرية يشوبها عيبان أساسيان: فمن الواضح أولا أن حل مشكلات جزئية خاصة في ميدان علمي معين لا يتعين أن يكون مرتبطا على أي نحو بأي شكل من أشكال الضغوط الاجتماعية. وليس معنى ذلك بالطبع أن ننكر أن هناك حالات تعالج فيها مشكلة معينة استجابة لحاجة وقتية عاجلة. ولكن المشكلات العلمية في عمومها لا تحل بهذه الطريقة. وهذا يؤدي بنا إلى نقطة الضعف الثانية في التفسير المادي الجدلي، وأعني بها عدم اعترافه بالحركة العلمية بوصفها قوة مستقلة. ولنقل هنا، مرة أخرى، إن أحدا لا ينكر وجود روابط هامة بين البحث العلمي وأمور أخرى تحدث في المجتمع. غير أن ممارسة العلم قد اكتسبت، بمضي الوقت، قوة دفع خاصة بها، تضمن لها قدرا معينا من الاستقلال الذاتي. وهذا يصدق على كافة أنواع البحث الموضوعي المنزه من الغرض. وعلى ذلك، فبينما كان للمادية الجدلية أهميتها في إيضاح أهمية المؤثرات الاقتصادية في تشكيل حياة المجتمع، نجدها تخطئ حين تفرط في تبسيط الأمور على أساس هذه الفكرة الرئيسية.
ويؤدي ذلك، في الميدان الاجتماعي، إلى عدد من النتائج الغريبة. ذلك لأنك إن لم توافق على النظرية الماركسية، فسينظر إليك على أنك لست منحازا إلى صف التقدم. واللفظ المبجل الذي يطلق على أولئك الذين لم ينزل عليهم الوحي الجديد هو «رجعي». وهكذا يكون الاستنتاج حرفيا، هو أنك تعمل ضد التقدم، في اتجاه تراجعي. غير أن المسار الجدلي يضمن أنه سيتم اكتساحك في الوقت المناسب، لأن التقدم لا بد أن ينتصر في النهاية. وهكذا تصبح هذه هي الحجة التي يبرر بها استخدام العنف في التخلص من العناصر غير المسايرة. وهنا نجد الفلسفة الماركسية السياسية تصطبغ بصبغة العقيدة ذات الرسالة المحددة، التي عبر عنها مؤسس عقيدة أخرى أسبق منها بقوله: من ليس منا فهو علينا. وواضح أن هذا ليس هو المبدأ الذي يمكن أن تقوم عليه أية نظرية ديمقراطية.
كل هذا يقودنا إلى القول بأن ماركس لم يكن مفكرا سياسيا نظريا فحسب، بل كان أيضا كاتبا ثوريا تحريضيا. وكثيرا ما تتخذ كتابته لهجة السخط والاستقامة الأخلاقية، وهي لهجة بعيدة عن المنطق كل البعد إن كان الجدل سيسير في طريقه الحتمي مهما كان الأمر. فإذا كانت الدولة، كما قال لينين فيما بعد، سوف تذبل، فلا معنى لإثارة ضجة حولها مقدما. غير أن هذا الهدف التاريخي البعيد، وإن كان يدعو إلى الإعجاب لو تأملناه بطريقة نظرية، لا يقدم عزاء كبيرا لأولئك الذين يعانون في هذا المكان، وفي هذه اللحظة. وعلى ذلك فإن السعي إلى أي تحسين للأوضاع يمكن الحصول عليه هو، في كل الأحوال، أمر جدير بالاحترام، حتى لو لم يكن متمشيا تماما مع نظرية التطور الجدلي للتاريخ. ذلك لأن ما تدعو إليه هذه النظرية هو قلب الأوضاع القائمة بالعنف. وبالطبع يبدو هذا الجانب من النظرية، في أساسه، تعبيرا عن المحنة الأليمة للطبقة العاملة في القرن التاسع عشر، وهو بالفعل مثال جيد لتفسير ماركس الاقتصادي للتاريخ، الذي يفسر الأفكار والنظريات السائدة في أي عصر من خلال النظام الاقتصادي السائد. ولكن هذه النظرية تقرب إلى حد الخطر من البرجماتية في ناحية واحدة على الأقل؛ إذ يبدو أنها تستغني عن الحقيقة لصالح الأفكار المسبقة التي تتحكم فيها العوامل الاقتصادية. فإذا ما طبقنا هذا المعيار على النظرية ذاتها، لوجب أن نقول إنها هي ذاتها إنما تعكس أوضاعا اجتماعية معينة في زمن محدد. ولكن الماركسية في هذه النقطة تفترض ضمنا أنها استثناء من هذه القاعدة، إذ تؤكد أن التفسير الاقتصادي للتاريخ على النمط المادي الجدلي هو الرأي الصحيح.
ولم يكن ماركس ناجحا كل النجاح في تنبؤاته عن التطور الجدلي للتاريخ. فقد تنبأ فعلا، بقدر من الدقة، بأن نظام المنافسة الحرة سيؤدي بمضي الوقت إلى تكوين احتكارات. وهذا أمر نستطيع التوصل إليه بالفعل من خلال النظرية الاقتصادية التقليدية. ولكن الأمر الذي أخطأ فيه ماركس هو افتراضه أن الأغنياء سيصبحون أكثر غنى، والفقراء أكثر شرا، إلى أن يصل التوتر الجدلي لهذا «التناقض» إلى حد من القوة يحتم قيام الثورة. فلم يكن هذا هو ما حدث على الإطلاق، بل إن البلدان الصناعية في العالم قد ابتكرت طرقا للتنظيم خفضت من حدة الصراع الاجتماعي عن طريق الحد من حرية التصرف في الميدان الاقتصادي وإدخال مشاريع الرعاية الاجتماعية. وعندما جاءت الثورة بالفعل، لم تحدث، كما تنبأ ماركس، في الجزء الغربي الصناعي من أوروبا، وإنما في روسيا الزراعية.
إن الفلسفة الماركسية هي آخر مذهب فلسفي عظيم أنتجه القرن التاسع عشر؟ وأهم أسباب جاذبيتها الشديدة وتأثيرها الواسع هو الطابع الديني لتنبؤاتها الطوباوية، فضلا عن العنصر الثوري في برنامج العمل الذي تدعو إليه. أما عن خلفيتها الفلسفية فإنها، كما حاولنا أن نبين، لا تتصف بالبساطة الشديدة أو بالجدة التامة التي تنسب إليها في كثير من الأحيان. فالتفسير الاقتصادي للتاريخ هو واحد من عدد من النظريات العامة في التاريخ، التي استمدت أصلها الأول من هيجل. ومن الأمثلة الأخرى لهذه النظريات، نظرية كروتشه
Croce
في التاريخ بوصفه قصة الحرية، وهي نظرية تنتمي إلى الجيل التالي. ولقد كانت نظرية التناقض عند ماركس، على وجه الخصوص، مستمدة مباشرة من هيجل، وهي تواجه نفس الصعوبات التي واجهها هذا الأخير. وقد أدى ذلك، من الوجهة السياسية إلى إثارة مشكلات على قدر غير قليل من الضخامة في عصرنا هذا. فحوالي نصف العالم اليوم تحكمه أنظمة تثق ضمنيا بنظريات ماركس. ومن هنا فإن إمكان التعايش السلمي معها يقتضي قدرا من التخفيف من الالتزامات النظرية الصارمة.
أما في فرنسا، فإن حركة «الموسوعيين» الفلسفية قد وجدت خليفة لها في شخص أوجست كونت
August Comte (1798-1857م). ولقد كان كونت يشارك الراديكاليين الفلسفيين احترامهم للعلم ومعارضتهم للعقائد السائدة، وأخذ على عاتقه تقديم تصنيف شامل لكل العلوم، بادئا بالرياضة ومنتهيا إلى علم الاجتماع. ولقد كان مثل معاصريه الإنجليز، معارضا للميتافيزيقا، وإن لم يكن قد عرف، مثلهم أيضا، إلا القليل عن المثالية الألمانية. ونظرا إلى الحاجة إلى ضرورة البدء بما هو معطى مباشرة في التجربة، والامتناع عن محاولة تجاوز الظواهر، فقد أطلق على مذهبه اسم «الفلسفة الوضعية». ومن هذا المصدر جاء اسم المذهب الوضعي.
ولد كونت في مدينة مونبلييه
Montpellier
الجامعية القديمة، لعائلة محترمة وتقليدية من موظفي الحكومة. وكان أبوه ملكي النزعة، وكاثوليكيا متزمتا، ولكن كونت سرعان ما تجاوز النطاق والحدود لتربيته العائلية. وخلال دراسته في معهد البوليتكنيك بباريس، طرد من المعهد بسبب اشتراكه في تمرد طلابي ضد أحد الأساتذة. وقد أدى ذلك فيما بعد إلى منعه من الحصول على وظيفة جامعية . وفي سن السادسة والعشرين نشر أول عرض تخطيطي لمذهبه الوضعي، ثم ظهر كتابه «دراسة في الفلسفة الوضعية» في ستة مجلدات، بدءا من عام 1830م. وخلال الأعوام العشرة الأخيرة من حياته، كرس قدرا كبيرا من وقته لوضع معالم ديانة وضعية، كان يريد منها أن تحل محل العقائد الشائعة. وهكذا كان كتابه المقدس الجديد يجعل الإنسانية هي العليا، بدلا من الألوهية. ولقد كان كونت طوال حياته معتل الصحة، وكان يعاني من نوبات من الاكتئاب العقلي وضعته على حافة الانتحار. وكان يرتزق من تقديم دروس تعليمية خاصة، مصحوبة بهدايا من الأصدقاء والمعجبين، الذين كان من بينهم جون استوارت مل. ولكن يبدو أن كونت كان صبره ينفد من أولئك الذين لا يقبلون أن يعترفوا دواما بعبقريته، مما أدى آخر الأمر إلى فتور صداقة مل له.
إن فلسفة كونت تحمل ملامح شبه مع تفكير فيكو، الذي كان كونت قد درسه، فهو يستمد من فيكو فكرة أولوية التاريخ في أمور البشر، كما أمده هذا المصدر بفكرة المراحل المختلفة في التطور التاريخي للمجتمع البشري. وكان فيكو ذاته قد استمد ملاحظته هذه من دراسة للأساطير اليونانية. وقد أخذ كونت بالرأي القائل إن المجتمع ينتقل من حالة لاهوتية أصلية، مارا بمرحلة ميتافيزيقية، لينتقل أخيرا إلى ما يسميه بالمرحلة الوضعية، التي تنتقل بالمسار التاريخي إلى نهايته السعيدة. وفي هذا الصدد كان فيكو مفكرا أكثر واقعية، فاعترف بأن المجتمع يمكن أن ينتكس من فترات رقي وإنجاز حضاري إلى عهود بربرية تعود من جديد، كما حدث بالفعل في العصور المظلمة التي أعقبت تفكك العالم الروماني. وربما كان هذا ينطبق على عصرنا الحاضر أيضا. فإذا عدنا إلى كونت، وجدناه يقول إن المرحلة الوضعية يحكمها العلم العقلاني. وتلك هي نظرية كونت المشهورة في مراحل التطور الثلاث. وقد تصور البعض أننا نجد هنا صدى معينا لهيجل، ولكن التشابه سطحي. ذلك لأنه لا ينظر إلى التطور من مرحلة إلى التالية بطريقة جدلية (ديالكتيكية)، أما مسألة كون المراحل ثلاثا فهي صدفة بحت. والأمر الذي يشترك فيه هيجل بالفعل مع كونت هو فكرته التفاؤلية في قيام حالة كمال نهائية يصل إليها المسار التاريخي. وكما رأينا فقد كانت لماركس آراء مماثلة، وهكذا كان هذا أحد الأعراض العامة للنزعة التفاؤلية في القرن التاسع عشر.
تذهب النظرية الوضعية إلى أن جميع الميادين العلمية قد مرت بهذا التطور ذي المراحل الثلاث. والعلم الوحيد الذي لم يتم اجتياز جميع العوائق حتى الآن هو الرياضة. أما في الفيزياء فإن المفاهيم الميتافيزيقية ما زالت موجودة بكثرة، وإن كان الأمل معقودا على ألا تكون المرحلة الوضعية بعيدة. وسوف نرى فيما بعد كيف أن ماخ
Mach
قد قدم تفسيرا وضعيا للميكانيكا بعد خمسين عاما من عصر كونت. والشيء الذي حاول كونت أن يفعله هو، قبل كل شيء، ترتيب ميدان الدراسة العلمية بأكمله ترتيبا منطقيا شاملا. وفي هذه المحاولة أثبت أنه خليفة حقيقي للفلاسفة «الموسوعيين». وبطبيعة الحال فإن فكرة القيام بترتيب كهذا هي فكرة قديمة إلى أبعد حد، ترتد إلى أيام أرسطو. ويسهم كل علم في هذا التسلسل في تفسير العلوم التي تليه، ولكن ليس تلك التي تسبقه. وبذلك نصل إلى قائمة كونت، التي تبدأ بالرياضة ثم الفلك والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء وتنتهي بعلم الاجتماع.
والعلم الهام حقا هو الأخير. وقد نحت كونت لفظ «علم الاجتماع
Sociology » ليدل على ما كان يمكن أن يسميه هيوم «علم الإنسان». وفي رأي كونت أن هذا علم لم يقم بعد، ولذا نظر إلى نفسه على أنه مؤسسه. ويعد علم الاجتماع من الوجهة المنطقية آخر العلوم وأعقدها في السلسلة وإن كنا نحن، واقعيا، نحس بالألفة تجاه الأوضاع الاجتماعية التي نحيا فيها أكثر مما نحس بها تجاه بديهيات الرياضة البحت. وهذا يكشف عن مظهر آخر لأولوية العامل التاريخي، على نحو ما صادفنا من قبل عند فيكو. ذلك لأن الحياة الاجتماعية للإنسان هي مسار التاريخ.
ولقد كانت المرحلة الوضعية للحياة الاجتماعية التي ألهبت خيال كونت، تتسم بالعيوب التي تشترك فيها جميع المذاهب الطوباوية. فهنا نجد تأثيرا ملحوظا للمثالية على تفكير كونت، وإن لم تكن الطريقة التي استمد بها هذا التأثير واضحة كل الوضوح. إنه يرى أن هناك، في كل مرحلة من مراحل التطور الثلاث، اتجاها متدرجا إلى التوحيد، يمر هو ذاته بثلاث خطوات. ففي المرحلة اللاهوتية نبدأ بحيوية الطبيعة
Animism
التي تنسب الألوهية إلى جميع الأشياء التي يراها الإنسان البدائي، ومن هذه ننتقل إلى تعدد الآلهة، ثم إلى التوحيد، بحيث يكون الاتجاه دائما نحو المزيد من التوحيد. وفي حالة العلم يعني هذا الاتجاه أننا نسعى إلى إدراج عدد من الظواهر المتنوعة تحت فئة واحدة. أما في حالة المجتمع فإن الهدف هو الانتقال من الأفراد في اتجاه الإنسانية ككل، وهو رأي يحمل نغمة هيجلية. وعندما نصل إلى مرحلة الإنسانية الوضعية، يكون الحكم للسلطة الأخلاقية التي يملكها صفوة من العلماء، على حين أن السلطة التنفيذية يعهد بها إلى خبراء فنيين. وهكذا لا يكون التنظيم العام مختلفا كثيرا عما نجده في الدولة المثلى لجمهورية أفلاطون.
أما من الناحية الأخلاقية فإن المذهب يقتضي أن يحد المرء من رغباته الخاصة لكي يتفانى من أجل تقدم الإنسانية. هذا التأكيد لأهمية الهدف أو «القضية» إلى حد استبعاد المصالح الخاصة هو أيضا من السمات المميزة للنظرية السياسية الماركسية. وكما هو متوقع، فإن المذهب الوضعي لا يعترف بإمكان قيام نوع استبطاني من علم النفس، وهو يحرص على إنكار هذا الموضوع على وجه التحديد، على أساس استحالة قيام عملية المعرفة بمعرفة ذاتها، وهو رأي يمكننا أن نقر بصحته إذا كان يعني أنه ليس من الصحيح بوجه عام، في الموقف المعرفي، أن يعرف العارف معرفته. ولكن الوضعية باستبعادها الفروض بوجه عام على أساس أنها ميتافيزيقية تسيء فهم طبيعة التفسير.
أما فلسفة ش. س. بيرس
C. S. Peirce (1839-1914م) فتسودها نظرة مختلفة كل الاختلاف عن الوضعية. فعلى حين أن كونت قد استبعد الفروض على أساس أنها ميتافيزيقية، حرص بيرس، بعكس ذلك، على أن يبين أن صياغة الفروض نشاط ذهني أساسي له منطقه الخاص. ولقد كان إنتاج بيرس غزيرا، غير متماسك، وكان فضلا عن ذلك يتصارع مع مشكلات صعبة وأفكار جديدة، ومن هنا لم يكن من السهل الوصول إلى رأي واضح عن موقفه. ولكن مما لا شك فيه أنه واحد من أكثر العقول أصالة في الجزء الآخر من القرن التاسع عشر، وهو بلا جدال أعظم مفكر أمريكي على الإطلاق.
ولد بيرس في كيمبردج بولاية ماساشوستس، لأب كان أستاذا للرياضيات بجامعة هارفارد، حيث تلقى بيرس ذاته دراسته الجامعية. ولم تتح لبيرس فرصة الحصول على وظيفة أكاديمية دائمة مضمونة، إذا استثنينا فترتين من التدريس دامتا بضع سنوات. وقد شغل وظيفة حكومية في مصلحة المساحة، وأنتج إلى جانب أعماله العلمية، سيلا متدفقا بانتظام من الأبحاث والمقالات حول موضوعات فلسفية شديدة التنوع، وكان عجزه عن الحصول على الأستاذية راجعا، إلى حد ما، إلى تجاهله لمعايير المسايرة كما كان يتطلبها المجتمع الذي عاش فيه. وفضلا عن ذلك فإن القليلين، باستثناء بعض الأصدقاء والعلماء الباحثين، هم الذين اعترفوا بعبقريته، ولم يفهمه أحد فهما كاملا. ومما يشهد بتفانيه من أجل أهدافه أنه لم يشعر بمرارة إزاء عدم اعتراف الآخرين به. فعلى الرغم من أنه ظل طوال الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة من حياته منكوبا بالفقر والمرض، فقد ظل يواصل عمله حتى النهاية.
إن من الشائع النظر إلى بيرس بوصفه مؤسس البرجماتية. ومع ذلك فإن هذا الرأي لا يمكن قبوله إلا بتحفظات هامة جدا؛ ذلك لأن البرجماتية المعاصرة لا تنبثق من بيرس، بل مما اعتقد وليم جيمس أن بيرس كان يقوله. ويرجع ظهور هذا الخلط إلى عدة أسباب، أولها أن آراء بيرس ازدادت وضوحا في كتاباته المتأخرة، على حين أن جيمس استمد نقطة انطلاقه من صياغات مبكرة كانت عرضة لمزيد من سوء الفهم. ولقد حاول بيرس أن يتبرأ من البرجماتية التي نسبها جيمس إليه، لذا أصبح يطلق على فلسفته اسم «البرجماتوية
»، آملا أن يلفت هذا اللفظ الثقيل الذي ابتكره أنظار الناس إلى الاختلاف بين الفلسفتين.
لقد عبر بيرس في بعض من كتاباته المبكرة عن المذهب البرجماتي بصورة تسمح للمرء، إذا ما أخذها بمعنى حرفي، بالاستدلال على أن جيمس قد تأثر بها. فبيرس يربط تعريفه للحقيقة بمناقشة عامة لطبيعة البحث العلمي والدوافع الكامنة من وراء السعي إليه. ذلك لأن البحث ينشأ من نوع من عدم الرضا أو عدم الارتياح، وهدفه هو بلوغ حالة من الراحة أو الاستقرار، يتم فيها استبعاد المؤثرات المقلقة، والرأي الذي يقبله المرء في أية مرحلة من مراحل التوازن المتوسطة هذه هو الحقيقة، بقدر ما يستطيع المرء أن يعرفها. ولكن يظل المرء على الدوام عرضة للاعتقاد بأنه قد تظهر أدلة جديدة تقتضي منه تغيير موقفه. فلا يمكن أن نكون واثقين من أننا لم نرتكب خطأ. ويطلق بيرس على هذه النظرية العامة في البحث اسم «استحالة العصمة من الخطأ
Fallibilism » وهو يقول، في معرض شرحه لها، إن الحقيقة هي الرأي الذي تستقر عليه الجماعة آخر الأمر. ولكن هذا القول، إذا ما أخذ بحرفيته، ممتنع بالتأكيد. ذلك لأننا لو اعتقدنا أن العدد اثنين مضروبا في اثنين يساوي خمسة، ثم حدث في هذه اللحظة نفسها أن دمرت الأرض، فإن حسبتنا الباطلة الأولى تظل مع ذلك خطأ . صحيح أنه لو اعتقد جميع جيراني بهذا الأمر، فمن الفطنة من جانبي أن أدعي على الأقل أنني أشاركهم رأيهم، غير أن هذا أمر مختلف كل الاختلاف. وهكذا ينبغي النظر إلى قضية بيرس في سياق مذهب «استحالة العصمة» الذي قال به.
أما بالنسبة إلى تأثر أية حقيقة خاصة بعينها، فإن بيرس يؤكد أن أية عبارة تزعم أنها حقيقة ينبغي أن تكون لها نتائج عملية، أي إنها يجب أن تسمح بإمكان قيام فعل معين في المستقبل، وتكوين استعداد للتصرف على هذا النحو نفسه في كافة الظروف المماثلة. وهكذا يقال إن معنى قضية ما هو هذه النتائج العملية ذاتها. وهذه هي الصيغة التي استمد منها جيمس مذهبه البرجماتي. ولكن ينبغي أن يكون واضحا أن رأي بيرس أقرب إلى صيغة فيكو في الحقيقة الفاعلة
Verum factum . فالحقيقة هي ما يمكنك أن تفعله بقضاياك. وعلى سبيل المثال، فإذا أصدرت عبارة أو قضية عن مادة كيميائية، فإن مدلول هذه القضية يدعم عن طريق جميع خصائص المادة التي يمكن أن تخضع للفحص والتجربة. ويبدو أن هذا، بصورة مجملة، هو ما كان يرمي إليه بيرس. أما البرجماتية التي استخلصها جيمس من هذا كله فتذكرنا بصيغة بروتاجوراس عن الإنسان بوصفه مقياس الأشياء جميعا، في مقابل ما كان يقصده بيرس، وهو ما عبرت عنه نظرية فيكو بصورة أفضل.
ولقد قدم بيرس إسهاما أساسيا في مناقشته لمنطق الفروض، فقد اعتقد كثير من الفلاسفة، على اختلاف اتجاهاتهم، بأن الفروض هي إما نتيجة استنباط
Deduction
كما يميل العقليون إلى الاعتقاد، أو للاستقراء
Induction
كما يرى التجريبيون. أما بيرس فرأى أن كلا هذين الرأيين غير كاف. فالفروض حصيلة عملية منطقية ثالثة ومختلفة اختلافا جذريا، يطلق عليها بيرس، بأسلوبه الذي اعتاد التعبيرات الجديدة البراقة، اسم «الاستخلاص
abduction » ويعني به، على وجه التقريب، الأخذ بفرض معين لأنه يفسر ظاهرة ما. وبطبيعة الحال فإن تفسير الظاهرة مسألة استنباط، ولكن قبول الفرض ليس كذلك.
كان بيرس، كأبيه، متمرسا في الرياضيات، وقام في ميدان المنطق الرمزي بعدد من الكشوف الهامة، من بينها اختراع منهج قوائم الصدق لتحديد قيمة الصدق في صيغة مركبة، وهو إجراء استخدمه المناطقة فيما بعد على نطاق واسع. كذلك كان له الفضل في وضع منطق جديد للعلاقات.
لقد استخدم بيرس في مذهبه أسلوب البرهنة عن طريق الأشكال المرسومة وإن كانت القواعد التي طبقها معقدة إلى حد ما، ويبدو أن الفكرة لم تلق إقبالا واسعا، ولقد أدت نظرته البرجماتية الخاصة إلى تأكيد جانب هام في البرهان الرياضي، لا ينال في أحيان كثيرة حظه من الاهتمام: فهو يؤكد أهمية التركيب في إقامة البرهان الرياضي. وقد ظهرت هذه الآراء مرة أخرى عند جوبلو
Goblot
ومايرسون
Meyerson . ولم يكن بيرس متمكنا من الرياضة والكشوف العلمية الجديدة في عصره فحسب، بل من تاريخ العلوم وتاريخ الفلسفة أيضا. ومن هذا المنظور الواسع بدا له أن العلم يفترض مقدما أساسا ميتافيزيقيا من نوع واقعي. لذلك صاغ ميتافيزيقا خاصة به، تميل بصورة واضحة إلى الواقعية المدرسية عند دنز سكوتس
Duns Scotus . بل إنه يرى أن صيغته الخاصة من البرجماتية، والمذهب الواقعي عند المدرسيين، يسيران جنبا إلى جنب. وسواء أكان الأمر كذلك أم لم يكن، فإنه يدل على أن مذهبه الخاص لم يكن يشترك مع برجماتية جيمس في الكثير.
لقد كان لبيرس في زمنه تأثير ضئيل جدا، ولكن الأمر الذي جعل من البرجماتية فلسفة لها تأثيرها هو التفسير الذي أضفاه عليها وليم جيمس (1842-1910م). ولم يكن بيرس نفسه راضيا تماما عن هذا التفسير، كما ذكرنا من قبل؛ إذ إن مذهب بيرس كان أعمق بكثير من برجماتية جيمس، ولم يبدأ فهمه وتقديره إلا في أيامنا هذه.
كان جيمس ينتمي إلى منطقة «نيو إنجلند»
3
وكان بروتستانتيا متمسكا بعقيدته. وقد ظل لهذه الخلفية أثرها في تفكيره، رغم كونه مفكرا حرا ينظر بعين الشك إلى كافة ضروب اللاهوت المتزمت. ولقد كان له، على عكس بيرس، تاريخ أكاديمي متميز في جامعة هارفارد، حيث كان أستاذا لعلم النفس. ومع أن كتابه «مبادئ علم النفس» قد ظهر في عام 1890م، فإنه ما زال حتى يومنا هذا من أفضل الكتب العامة في الموضوع، والواقع أن الفلسفة كانت بالنسبة إليه نشاطا جانبيا، ولكنه أصبح يعد، عن حق، أهم الشخصيات الأمريكية في هذا الميدان. أما عن صفاته الشخصية فقد كان عطوفا كريما، ونصيرا قويا للديمقراطية، على خلاف شقيقه الأديب هنري جيمس. وعلى الرغم من أن تفكيره كان أقل عمقا بالقياس إلى فلسفة بيرس، فإن شخصيته ومركزه جعلاه يمارس تأثيرا أوسع بكثير على الفكر الفلسفي، ولا سيما في أمريكا.
إن الأهمية الفلسفية لجيمس ترجع إلى عاملين، أحدهما أشرنا إليه منذ قليل، وهو دوره الفعال في نشر البرجماتية. أما الآخر فيرتبط بنظرية يسميها
radical empiricism «التجريبية الجذرية». وقد صاغ هذه النظرية للمرة الأولى عام 1904م في مقال بعنوان «هل للوعي وجود؟» في هذا المقال يأخذ جيمس على عاتقه إثبات أن الثنائية التقليدية للذات والموضوع عقبة في وجه الفهم السليم لنظرية المعرفة. ففي رأي جيمس أن من الواجب التخلي عن فكرة الوعي الذاتي بوصفه كيانا يوجد في مقابل موضوعات العالم المادي. وهكذا يبدو له تفسير المعرفة على أساس تقابل الذات والموضوع كما لو كان تشويها عقلانيا معقدا، ليس على أية حال تجريبيا بالمعنى الصحيح. ذلك لأننا لا نملك في الواقع شيئا يتجاوز نطاق ما يسميه جيمس «بالتجربة الخالصة» التي ينظر إليها على أنها الامتلاء العيني للحياة في مقابل التفكير التجريدي اللاحق فيها. وهكذا تصبح عملية المعرفة علاقة بين أجزاء مختلفة من التجربة الخالصة. ولا يتابع جيمس عملية وضع التفاصيل الكاملة لنظريته، غير أن أولئك الذين اقتفوا أثره أصبحوا يستعيضون عن النظريات الثنائية القديمة «بواحدة محايدة
Neutral monism » تقرر أن هناك مادة أساسية واحدة فقط للعالم، وإذن فالتجربة الخالصة عند جيمس هي المادة التي تصنع منها الأشياء جميعا. وهنا نجد أن تجريبية جيمس الجذرية تشوه نزعته البرجماتية، التي لا تعترف بأي شيء ليس له تأثير عملي على الحياة البشرية، فالشيء الوحيد الذي يستحق الاهتمام في نظره هو ما يكون جزءا من التجربة، التي كان يعني بها التجربة البشرية. ولقد أطلق معاصر جيمس الإنجليزي ف. ك. س. شيلر
F. C. S. Schiller ، الذي كان يقول بآراء شبيهة بهذه حول هذا الموضوع، أطلق على نظريته الخاصة اسم «النزعة الإنسانية
Humanism ». ولكن المشكلة في هذا المذهب هي أن نطاقه أضيق من أن يتسع لواحدة من المهام الرئيسية التي كان العلم دائما، وكذلك النظرة العادية للإنسان، يضطلعان بها، فلا بد للباحث أن ينظر إلى نفسه بوصفه جزءا من عالم يمتد على الدوام خارج نطاقه الخاص به، وإلا لما كان هنا معنى للبحث في أي شيء، فإذا كانت حدودي تمتد بالضرورة إلى أي مدى يمكن أن يعنيه العالم، فعندئذ يكون خيرا لي أن أسكت وأستريح. وهكذا فعلى الرغم من أن جيمس كان على حق في نقده للنظريات الثنائية القديمة عن الذهن والجسم، فإن نظريته الخاصة في التجربة الخالصة لا يمكن اعتناقها.
أما بالنسبة إلى المسالة العامة المتعلقة بالمذهب العقلي في مقابل التجريبي، فينبغي أن نشير إلى تمييز مشهور يقول به جيمس. ذلك لأن المذاهب العقلية تميل إلى تأكيد الذهني على حساب المادي. وهي تفاؤلية الطابع، تنشد الوحدة وتفضل التفكير الانعكاسي على حساب التجربة. ويصف جيمس من يميلون إلى الأخذ بمثل هذه النظريات بأنهم «أصحاب عقول رقيقة». أما النظريات التجريبية، فهي أكثر ميلا إلى الاهتمام بالعالم المادي، وهي متشائمة، تعترف بالانفصال في العالم، وتفضل إجراء التجارب على التأمل والتدبر، والذين يؤيدون هذه الآراء هم «أصحاب العقول الصلبة». ولكن من الواجب بالطبع ألا نسير في هذا التشبيه أبعد مما ينبغي، وعلى أية حال فإن البرجماتية تنتمي قطعا، في هذه الثنائية، إلى الجانب ذي العقل الصلب. وقد شرح جيمس نظريته في بحث بعنوان «البرجماتية» (1907م)، موضحا أن لها جانبين: فالبرجماتية من جهة منهج يراه جيمس معادلا للموقف التجريبي، وهو يحرص على أن يؤكد أن البرجماتية، من حيث هي منهج، لا تفرض مقدما أية نتائج بعينها، وإنما هي مجرد وسيلة للتعامل مع العالم، وقوام هذا المنهج بوجه عام، هو أن التمييزات التي لا تنطوي على فوارق عملية، لا معنى لها. ويقترن بهذا رفض للنظر إلى أية مسألة على أنها يمكن أن تنتهي في أي وقت بصورة قاطعة. هذا كله مستمد مباشرة من بيرس، ولا بد بالفعل أن يتحمس له أي باحث تجريبي. ولو كان الأمر لا ينطوي إلا على هذا، لكان جيمس على حق تماما في قوله إن البرجماتية ما هي إلا اسم جديد لأساليب قديمة في التفكير.
غير أن جيمس ينزلق تدريجيا من هذه المبادئ الرائعة إلى موقف أكثر اهتزازا وأقل منها استقرارا بكثير. فالمنهج البرجماتي يؤدي به إلى الرأي القائل إن النظريات العلمية هي أدوات لسلوك في المستقبل، لا إجابات مقبولة نهائيا عن أسئلة حول الطبيعة. فمن الواجب ألا نرى في النظرية تعاويذ سحرية من الكلمات التي تتيح للساحر أن يحكم قبضته على الطبيعة. بل إن البرجماتي يصر على فحص كل لفظ بدقة مطالبا بما أسماه جيمس «قيمته النقدية
Cash Value ».
4
ولا تتبقى بعد هذا إلا خطوة واحدة نحو التعريف البرجماتي للحقيقة بأنها ما له نتائج مثمرة. وإلى مثل هذا الموقف ينتهي تصور جيمس الوظيفي للحقيقة.
عند هذه النقطة تصبح البرجماتية ذاتها مذهبا ميتافيزيقيا من نوع مشكوك فيه إلى أبعد حد ، ونستطيع عندئذ أن نفهم السبب في الحرص الشديد الذي أبداه بيرس من أجل التبرؤ منها. فالمشكلة الأولى هي الصعوبة التي نجدها عندما نريد أن نحدد، في هذه اللحظة وهذا المكان، نتائج رأي معين، وهل ستكون مثمرة أم لا. وتبقي مشكلة أخرى تترتب على ذلك، هي أن أية مجموعة معينة من النتائج إما أن تكون مثمرة أو لا تكون، وهذا أمر يتحدد بطريقة عادية، لا بطريقة برجماتية. ولا جدوى من تجنب هذه المشكلة بالقول إن النتائج ستكون مثمرة بقدر غير محدد، إذ إن هذا يؤدي بنا إلى قبول أي شيء على إطلاقه. وعلى أية حال يبدو أن جيمس لديه قدر من الوعي بهذه الصعوبة، لأنه يعترف بحرية الإنسان في الأخذ بمعتقدات معينة إذا كان ذلك يؤدي إلى سعادته. والمثل الواضح على ذلك هو حالة الإيمان الديني. ولكن الواقع أن هذه ليست على الإطلاق الطريقة التي يعتنق بها الشخص المتدين آراءه. فهو لا يؤمن بهذه الآراء بسبب الرضا الذي يعتقد أنها ستجلبه له، بل إن ما يحدث هو العكس: فمعتقداته هي التي تجعله سعيدا.
لقد كان الفلاسفة يبدون على الدوام اهتماما خاصا بموضوع الرياضيات، منذ أول عهود الفلسفة في اليونان. وإن التقدم الذي حدث خلال الأعوام المائتين الأخيرة لدليل بالغ على ذلك. فقد أدى حساب اللامتناهيات (التفاضل والتكامل)، الذي صاغه ليبنتس ونيوتن في القرن الثامن عشر إلى قفزة هائلة إلى الأمام في ميدان الإبداع الرياضي، ولكن الأسس المنطقية للرياضة لم تكن مفهومة فهما صحيحا، وكانت هناك مفاهيم لا أساس لها، تستخدم على نطاق واسع.
كان التحليل الرياضي في تلك الأيام يعتمد اعتمادا كبيرا على مفهوم «اللامتناهيات في الصغر
Infinitesimals »، الذي كان يعتقد أنه يقوم بدور أساسي في تطبيق حساب التفاضل والتكامل المخترع حديثا، وكان الرأي السائد هو أن اللامتناهي في الصغر هو كمية ليست بلا حجم، وليست لا نهائية، وإنما هي صغيرة إلى حد «التلاشي». وكان الاعتقاد السائد هو أن مثل هذه الكميات هي التي تستخدم في تكوين المعادلات التفاضلية والتكاملية. وبالطبع فإن هذا المفهوم كان واحدا من أقدم الآثار التي تحتوي عليها خزانة الرياضيات. ذلك لأنه يرتد إلى الوحدة عند الفيثاغوريين، التي هي صيغة مماثلة لهذا الكيان. ولقد رأينا من قبل كيف انتقد زينون النظرية الفيثاغورية. وفي العصر الحديث بدوره صدرت عن الفلاسفة تعليقات نقدية على نظرية اللامتناهيات في الصغر. وربما كان باركلي أول من أشار إلى الصعوبة المتضمنة في هذا المفهوم. وهناك بعض النقاط اللماحة في مناقشة هيجل لهذه المسائل، غير أن الرياضيين لم يعيروا هذه التحذيرات انتباها في البداية، وإنما مضوا في طريقهم، وطوروا علمهم الخاص، وخيرا فعلوا؛ ذلك لأن من السمات الغريبة في نشأة مباحث العلم الجديدة ونموها، أن فرض قدر زائد من الصرامة عليها قبل الأوان يخنق الخيال ويكبت الإبداع، على حين أن وجود قدر من التحرر من القيود الشكلية الصارمة يساعد على نمو البحث العلمي في مراحله المبكرة، حتى ولو كانت النتيجة هي المخاطرة بالوقوع في قدر من الخطأ.
ولكن، يأتي على تطور العلم في أي ميدان وقت يتعين فيه التشدد في معايير الدقة. ففي الرياضة، تبدأ فكرة الدقة والصرامة مع بداية القرن التاسع عشر. وجاء أول هجوم من جانب الرياضي الفرنسي «كوشي
Cauchy »، الذي صاغ نظرية منهجية في الحدود. وأدى ذلك، مقترنا بأعمال فايرشتراوس
Weierstrass
اللاحقة في ألمانيا، إلى أن أصبح الاستغناء عن اللامتناهيات في الصغر ممكنا، وقد بحث جورج كانتور
Georg Cantor
لأول مرة المشكلات العامة للمتصل والأعداد اللانهائية، وهي المشكلات التي تكمن من وراء هذه التطورات.
كانت اللانهائية العددية تثير مشكلات منذ عصر زينون ومفارقاته. فلو تذكرنا أخيل والسلحفاة، لأمكننا أن نعبر عن أحد الجوانب المحيرة في هذا السباق على النحو الآتي: بالنسبة إلى كل مكان فيه أخيل، هناك مكان احتلته السلحفاة. وهكذا فإن المتسابقين قد احتلا، في أي وقت بعينه، عددا متساويا من المواقع. ومع ذلك فمن الواضح أن أخيل قطع مسافة أوسع، مما يبدو متعارضا مع الفكرة التي يؤكدها الحس العادي، والقائلة إن الكل أكبر من الجزء. ولكننا عندما نتعامل مع مجموعات لا نهائية، لا يعود الأمر كذلك. فلنأخذ مثلا بسيطا: ففي سلسلة الأعداد الصحيحة الموجبة، التي هي مجموعة لا نهائية، توجد أعداد فردية وزوجية. فإذا استبعدنا الأعداد الفردية، قد يبدو لنا أن الباقي هو نصف ما بدأنا به. ولكن الواقع أن ما يتبقى من الأعداد الزوجية يساوي كل ما كان لدينا من الأعداد في البداية. ومن السهل جدا إثبات هذه النتيجة المحيرة، وذلك بأن نكتب أولا سلسلة الأعداد الطبيعية، ثم إلى جانبها سلسلة ناتجة عنها عن طريق مضاعفة كل عدد على التوالي، فنجد لكل عدد في السلسلة الأولى مقابلا في السلسلة الثانية، أي أن هناك، على حد تعبير الرياضيين، علاقة «واحد لواحد» بينهما. وعلى ذلك فإن كلا من السلسلتين لها نفس العدد من الحدود. وإذن ففي حالة المجموعات اللانهائية يحتوي الجزء على عدد من الحدود يساوي الكل. وتلك هي السمة التي استخدمها كانتور لتعريف المجموعة اللانهائية.
وعلى هذا الأساس وضع كانتور نظرية كاملة في الأعداد اللانهائية، فبين بوجه خاص أن هناك أعدادا لا نهائية من أحجام مختلفة، وإن كان من الواجب بالطبع ألا ننظر إليها بنفس الطريقة التي نتحدث بها عن الأعداد العادية. ومن أمثلة اللانهائية التي هي أعلى من سلسلة الأعداد الطبيعية، سلسلة الأعداد الحقيقية، أو المتصل
Continuum
كما تسمى أحيانا، فلنفرض أننا وضعنا قائمة بجميع الكسور العشرية مرتبة حسب حجمها، ثم صنعنا كسرا عشريا جديدا عن طريق أخذ الرقم الأول من الفئة الأولى، والثاني من الفئة الثانية، وهلم جرا، ورفعنا كل رقم بمقدار واحد. عندئذ يكون الكسر العشري الناتج مختلفا عن جميع الكسور العشرية في نفس القائمة التي كنا قد اعتقدنا أنها كاملة. وهذا يثبت أن من المستحيل أصلا وضع قائمة يمكن تعدادها بالكامل. فعدد الكسور العشرية لا نهائي بدرجة أعلى من عدد الأعداد الطبيعية. هذه العملية التي توصف بأنها محورية
diagonal
كان لها فيما بعد شيء من الأهمية في المنطق الرمزي أيضا.
وقد أثيرت قرب نهاية القرن التاسع عشر مسألة أخرى لها أهمية رئيسية بالنسبة إلى المشتغل بالمنطق، فقد كان طموح الرياضيين منذ أقدم العصور يتجه إلى محاولة تقديم علمهم على أنه نسق من الاستنباطات من نقطة بداية واحدة، أو من أقل عدد ممكن من نقاط البداية. وكان ذلك أحد جوانب «صورة (أو مثال) للخير» عند سقراط، ويمثل كتاب «المبادئ» لإقليدس نموذجا لما كان مطلوبا، على الرغم مما كان يشوب طريقة إقليدس في العرض من عيوب.
وهكذا قدم الرياضي الإيطالي بيانو
في حالة الحساب، مجموعة صغيرة من المصادرات
يمكن استنباط كل شيء آخر منها. فالقضايا الأساسية عددها خمسة، وهي تقوم معا بتعريف فئة المتواليات، التي تعد سلسلة الأعداد الطبيعية مثلا واحدا منها. وتنص هذه المصادرات، باختصار، على أن ما يلي كل رقم هو أيضا رقم، وأن لكل رقم رقما آخر واحدا فقط هو الذي يليه. وتبدأ السلسلة بالصفر، الذي هو رقم، ولكنه هو ذاته لا يلي رقما آخر. وأخيرا، هناك مبدأ الاستقراء الرياضي، الذي يتم بواسطته إثبات الخصائص العامة المنتمية إلى جميع أفراد السلسلة. ونص هذا المبدأ هو: إذا كانت خاصية معينة لأي رقم «ع» تنتمي أيضا إلى الرقم الذي يليه، وإلى الرقم صفر، فإنها تنتمي إلى كل رقم في السلسلة.
ومنذ أيام بيانو، أصبح هناك اهتمام أكبر بالمسائل المتعلقة بأسس الرياضة، وفي هذا الميدان توجد مدرستان فكريتان متعارضتان: الأولى هي مدرسة الشكليين
Formalists
الذين ينصب اهتمامهم على الاتساق والثانية هي مدرسة الحدسيين، الذين يسيرون في طريق وضعي إلى حد ما، ويطالبون المرء بأن يكون قادرا على الإشارة إلى ما يتحدث عنه.
ومن السمات التي تشترك فيها هذه التطورات الرياضية، أنها كلها تهم المشتغل بالمنطق. بل لقد بدا هنا أن المنطق والرياضة سيندمجان عند أطرافهما. والواقع أنه منذ أيام «كانت» الذي كان يرى أن المنطق تام ومكتمل، حدثت تغيرات هائلة في دراسة النظرية المنطقية، واستحدثت بوجه خاص طرق جديدة لمعالجة البراهين المنطقية بصيغ رياضية. وكان أول عرض منهجي لهذه الطريقة الجديدة في معالجة المنطق هو ذلك الذي قدمه فريجه
Frege (1848-1925م)، وإن كانت أعماله قد ظلت مجهولة لمدة عشرين عاما، حتى لفت كاتب هذه السطور الأنظار إليها في عام 1903م. وقد ظل فريجه في بلده أستاذا مغمورا للرياضيات، ولم يتم الاعتراف بأهميته من حيث هو فيلسوف إلا في السنوات الأخيرة.
كان ظهور المنطق الرياضي عند فريجه يرجع إلى عام 1879م، وفي عام 1884م نشر كتابه «أسس علم الحساب»، الذي طبق فيه المنهج من خلال معالجة أكثر جذرية لمشكلة بيانو. ذلك لأن بديهيات بيانو، على الرغم من كل ما اتسمت به من اقتصاد، كانت مع ذلك غير مرضية من وجهة النظر المنطقية؛ إذ كان اختيار هذه القضايا بالذات أساسا للعلم الرياضي، بدلا من غيرها، يبدو اختيارا عشوائيا إلى حد ما. والواقع أن بيانو نفسه لم يذهب في أي وقت إلى حد البحث في هذه المسائل. وهكذا كان حل هذه المسألة بأعم صورة ممكنة هو المهمة التي أخذها فريجه على عاتقه.
كان ما أخذه فريجه على عاتقه هو عرض بديهيات بيانو بوصفها نتيجة منطقية لنسقه الرمزي، وهذا يؤدي على الفور إلى تخليصها من تهمة العشوائية، ويثبت أن الرياضة البحتة ما هي إلا امتداد للمنطق. ويبدو من الضروري بوجه خاص استخلاص تعريف منطقي ما للعدد ذاته. والواقع أن فكرة إرجاع الرياضة إلى المنطق تستوحى بوضوح من بديهيات بيانو. ذلك لأن هذه البديهيات تقصر المفردات الأساسية للرياضة على لفظي «العدد» و«التالي»، واللفظ الثاني من هذين هو لفظ منطقي عام، بحيث إن كل ما يلزمنا لتحويل مفرداتنا كلها إلى مصطلحات منطقية هو أن نقدم عرضا منطقيا للفظ الأول (العدد). وهذا ما فعله فريجه، إذ عرف العدد من خلال تصورات منطقية بحتة. ويقترب تعريفه كثيرا من ذلك الذي قدمه هويتهد وكاتب هذه السطور في كتابهما «المبادئ الرياضية»، حيث يذكران أن العدد هو فئة كل الفئات المماثلة لفئة معينة. وهكذا فكل فئة من ثلاثة أشياء هي مثل للعدد ثلاثة، الذي هو نفسه فئة كل هذه الفئات. أما عن العدد بوجه عام، فإنه فئة كل الأعداد الخاصة، وبذلك يتبين أنه فئة من المرتبة الثالثة.
5
ومن السمات التي ربما كانت غير متوقعة، والتي تترتب على هذا التعريف، أن الأعداد لا يمكن جمعها سويا. فبينما تستطيع جمع ثلاث تفاحات وبرتقالتين فيكون الحاصل خمس قطع من الفواكه فإنك لا تستطيع جمع فئة كل ما هو ثلاثة وفئة كل ما هو اثنان. ولكن هذا، كما رأينا من قبل، ليس كشفا جديدا على أية حال. فقد سبق لأفلاطون أن قال إن الأعداد لا يمكن جمعها.
لقد أدت طريقة فريجه في معالجة الرياضة إلى وضعه للتمييز بين معنى أية جملة وإشارتها، وهو أمر لازم لتفسير حقيقة أن المعادلات ليست مجرد تكرارات فارغة. فطرفا المعادلة يشيران إلى نفس الشيء، ولكنهما يختلفان في المعنى.
على أن العرض الذي قدمه فريجه لم يقدر له أن يمارس تأثيرا كبيرا، بوصفه نسقا في المنطق الرمزي، لأسباب من بينها قطعا طريقته المعقدة في التدوين. أما الرمزية المستخدمة في كتاب «المبادئ الرياضية» فتدين ببعض عناصرها لتلك التي استخدمها بيانو، وقد تبين أنها اكثر مرونة وأسهل قبولا. ومنذ ذلك الحين أصبح عدد كبير من أساليب التدوين يستخدم في ميدان المنطق الرياضي. من أشدها إحكاما ذلك الذي وضعته المدرسة البولندية المشهورة في المنطق، التي تشتتت خلال الحرب العالمية الثانية. وبالمثل أدخلت تحسينات كبيرة على طريقة الاقتصاد في التدوين وعلى عدد البديهيات الأساسية في النسق. وقد استحدث المنطقي الأمريكي شيفر
Sheffer
ثابتا منطقيا واحدا، يمكن من خلاله تعريف ثوابت حساب القضايا بدورها. وبفضل هذا الثابت المنطقي الجديد أمكن إقامة نسق المنطق الرمزي على بديهية واحدة. ولكن هذه كلها مسائل فنية شديدة التعقيد، لا يمكن شرحها هنا بالتفصيل.
على أن المنطق الرياضي، في جانبه الصوري البحت، لم يعد من اهتمامات الفلاسفة من حيث هم فلاسفة، وإنما أصبح يعالجه الرياضيون، وإن كان بالطبع يمثل رياضيات من نوع خاص جدا. والأمر الذي يهم الفلاسفة هو المشكلات التي تنشأ من المسلمات العامة المتعلقة بالرمزية، تلك المسلمات التي يأخذ بها المرء قبل الشروع في بناء النسق. وبالمثل فإنه يهتم بالنتائج التي تنطوي على مفارقة والتي يتم التوصل إليها أحيانا عند بناء نسق رمزي.
6
وقد نشأت إحدى هذه المفارقات فيما يتعلق بتعريف العدد في كتاب «المبادئ الرياضية»، وكان سببها هو مفهوم «فتة جميع الفئات»؛ إذ إن من الواضح أن فئة جميع الفئات هي ذاتها فئة، ومن ثم فهي تنتمي إلى فئة جميع الفئات، وعلى ذلك فهي تشتمل على نفسها بوصفها أحد أفرادها. وبالطبع فإن هناك فئات أخرى كثيرة لا تتصف بهذه الصفة. ففئة كل المقترعين في الانتخابات لا تتمتع هي ذاتها بمزايا الاقتراع العام. وهنا تنشأ المفارقة عندما نبحث في فئة جميع الفئات التي لا تكون أفرادا لذاتها.
والمسألة هي ما إذا كانت هذه الفئة أحد أفراد ذاتها أم لا. فإذا افترضنا أنها كذلك، عندئذ لا تكون أحد أمثلة فئة لا تشتمل على ذاتها، ولكنها لكي تكون أحد أفراد فئتها، لا بد أن تكون من النوع الذي بحث أولا، أي ليست أحد أفراد فئتها. أما إذا افترضنا، بعكس ذلك، أن الفئة موضوع البحث ليست أحد أفراد ذاتها، فعندئذ لا تكون مثالا لفئة لا تتضمن ذاتها. غير أنها لكي لا تكون عضوا في فئتها، لا بد أن تكون إحدى الفئات في تلك التي طرح السؤال الأصلي حولها، ومن ثم فهي أحد أفراد ذاتها. وهكذا نصل إلى تناقض في كل حالة.
على أن من الممكن التخلص من هذه الصعوبات إذا لاحظنا أن من الواجب ألا ننظر إلى الفئات بنفس الطريقة التي ننظر بها إلى فئات الفئات، مثلما نمتنع في الظروف العادية عن التحدث عن أفراد البشر على نفس مستوى الأمم.
عندئذ يصبح من الواضح أنه ليس من حقنا التحدث عن الفئات التي هي أعضاء في ذاتها بالطريقة التي تحدثنا بها عنها عندما طرحنا المفارقة. والواقع أن الصعوبات المتعلقة بالمفارقات قد عولجت على أنحاء شتى، ولم يتم بعد التوصل إلى اتفاق عام حول الطريقة التي ينبغي بها التخلص منها. ولكن هذه المشكلة على أية حال، قد نبهت الفلاسفة مرة أخرى إلى الحاجة الشديدة إلى التدقيق في طريقة تركيب الجمل، وفي الألفاظ المستخدمة فيها.
الفصل الخامس
الفترة المعاصرة
هناك صعوبات خاصة تواجهنا حين نعالج فلسفة الأعوام السبعين أو الثمانين الأخيرة. ذلك لأننا ما زلنا قريبين من هذه التطورات إلى حد يصعب علينا معه أن ننظر إليها من بعد، وبالتجرد المطلوب. فالمفكرون الأقدم عهدا قد صمدوا لاختبار التقويم النقدي الذي تقوم به الأجيال التالية لهم، وبمضي الزمن تحدث عملية انتقاء تدريجي تساعد على تيسير مهمة الاختيار. ولم يحدث إلا في حالات نادرة جدا أن استطاع مفكر ثانوي أن يحرز في المدى الطويل قدرا من الشهرة لا تبرره أعماله، وإن كان يحدث بالفعل أن يلحق الظلم بأشخاص لهم أهميتهم، فيغيبون في زوايا النسيان.
أما في حالة المفكرين المنتمين إلى الفترة القريبة، فإن مسألة الاختيار تزداد صعوبة، كما تقل فرص الوصول إلى نظرة متوازنة. وعلى حين يكون من الممكن بالنسبة إلى الماضي، تأمل مراحل التطور في مجملها، فإن الحاضر أقرب إلينا من أن يتيح لنا التمييز بين مختلف عناصر القصة بنفس القدر من الثقة واليقين. والواقع أن الأمر لا يمكن أن يكون على خلاف ذلك. فمن السهل نسبيا أن يكون المرء حكيما بأثر رجعي، وأن يصل إلى فهم تطور التراث الفلسفي. أما لو تخيلنا أن من الممكن استنباط دلالة التغيرات المعاصرة بكل تفاصيلها النوعية المميزة، لكان ذلك وهما هيجليا. وأقصى ما يمكننا أن نأمل فيه هو أن ندرك بعض الاتجاهات العامة التي يمكن ربطها بأحداث أسبق عهدا.
لقد تميزت الفترة المتأخرة من القرن التاسع عشر بعدد من التطورات الجديدة التي كان لها تأثيرها في المناخ العقلي لعصرنا الحاضر. فهناك أولا انهيار الأساليب القديمة في الحياة، التي كانت جذورها ترجع إلى عصر ما قبل التصنيع. ذلك لأن النمو الهائل في القدرة التكنولوجية جعل الحياة عملية أعقد بكثير جدا مما اعتدنا أن نراها عليه من قبل. وليس من مهمتنا هنا أن نقرر إن كان هذا خيرا أو شرا، بل يكفينا أن نلاحظ أن المطالب المفروضة على عصرنا أشد تنوعا بكثير، وأن الشروط المطلوبة منا لكي نواصل حياتنا المعتادة أشد تعقيدا بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى.
هذا كله ينعكس على المجال الثقافي والعقلي بدوره. فعلى حين أنه كان في وسع شخص واحد من قبل أن يكون متمكنا من عدة فروع علمية، أصبح من الصعب على نحو متزايد في الوقت الراهن، أن يكتسب شخص واحد معرفة متينة حتى بميدان علمي واحد. والواقع أن تفتيت الميادين العقلية إلى أجزاء يزداد نطاقها ضيقا بالتدريج، قد أدى في العصر الحاضر إلى ارتباك حقيقي في لغة الحوار، وهذه الحالة غير الصحية إنما هي حصيلة تغيرات معينة فرضت نفسها مع نمو المجتمع التكنولوجي المعاصر، فحتى عهد ليس بعيدا في الماضي كانت تسود في كافة أرجاء أوروبا الغربية، لا في بلد بعينه فحسب، خلفية مشتركة يتقاسمها كل من بلغوا مستوى معينا من التعليم، وبالطبع لم تكن هذه مظهرا للشمول أو المساواة في الفرص؛ فقد كان التعليم عادة، في تلك الفترة، مرتبطا بامتياز خاص، وكان من نصيب قلة محظوظة، وهو وضع أزيل في الوقت الراهن إلى حد بعيد. فالمعيار الوحيد المقبول الآن هو الكفاءة، التي هي ميزة من نوع مختلف. على أن هذا الأساس المشترك للتفاهم قد اختفى منذ ذلك الحين، وأصبحت مطالب التخصص وضغوطه توجه الشباب إلى قنوات أضيق، قبل أن تتاح لهم فرصة تنمية اهتمامات أوسع، وفهم أفضل للعالم. ونتيجة لهذا كله أخذت تزداد إلى حد بعيد صعوبة الاتصال والتفاهم بين أولئك الذين يكرسون أنفسهم لفروع مختلفة في البحث.
غير أن القرن التاسع عشر قد تولد عنه عامل آخر أوضح، من العوامل المؤدية إلى صعوبة الحوار والتفاهم. فقد شهد ذلك القرن انهيار ثم موت وسيلة التعبير التي ظلت منذ عهود قديمة وسيلة مشتركة بين المثقفين في كافة الأمم الأوروبية؛ فقد كانت اللاتينية هي لغة الباحثين والمفكرين والعلماء منذ عصر شيشرون حتى عصر النهضة. ولكن حين كتب جاوس
Gauss
مؤلفه المشهور عن السطوح المقوسة باللاتينية، في أوائل القرن التاسع عشر، كان ذلك قد أصبح نوعا من التمسك بتقليد غابر. أما اليوم فإن الباحث في أي فرع ينبغي عليه أن يلم بلغتين حديثتين أو ثلاث غير لغته الخاصة، إذا ما أراد الاطلاع على الأعمال التي تتم في ميدان تخصصه، وقد أصبحت هذه مشكلة غير هينة، لم يتم الاهتداء إلى حل لها حتى الآن، وإن كان يبدو أن لغة حديثة ما سيتعين عليها، بمضي الوقت، أن تؤدي الوظيفة التي كانت اللاتينية تقوم بها من قبل.
ومن السمات الجديدة الأخرى للحياة العقلية في القرن التاسع عشر، الانفصال بين النشاط الفني والنشاط العلمي. ويعد هذا الانفصال تراجعا إذا ما قورن بالمزاج العقلي الذي كان سائدا لدى أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة. فعلى حين أن هؤلاء المفكرين الأسبق عهدا كانوا ينشدون العلم والفن في ضوء مبدأ عام واحد من التوافق والتناسب، فإن القرن التاسع عشر قد تمخض، بتأثير الحركة الرومانتيكية، عن رد فعل عنيف ضد الأضرار التي بدا لهم أن التقدم العلمي يلحقها بالإنسان. فقد خيل إليهم أن الأسلوب العلمي في الحياة بمعامله وتجاربه، يخنق روح الحرية والمغامرة التي لا يستغني عنها الفنان. ومن الغريب أن الرأي القائل بأن النظرة التجريبية لا تكشف أسرار الطبيعة، قد أعرب عنه جوته من قبل، وكان ذلك قطعا في إحدى حالاته الرومانتيكية. وعلى أية حال فإن التضاد بين المعمل ومرسم الفنان يعبر بوضوح عن الانفصال الذي أشرنا إليه.
وفي الوقت ذاته حدث نوع من التباعد بين العلم والفلسفة، فخلال القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كان أولئك الذين قاموا بدور هام في الفلسفة، في معظم الأحيان. أشخاصا لا يمكن أن يوصفوا بأنهم مجرد هواة في المسائل العلمية. غير أن هذا الاتساع في نطاق النظرة الفلسفية اختفى خلال القرن التاسع عشر، في إنجلترا وألمانيا على الأقل، وكان ذلك راجعا في المحل الأول، إلى تأثير الفلسفة المثالية الألمانية. أما الفرنسيون فكانوا في ذلك الحين، كما ذكرنا من قبل، محصنين ضد تأثير تلك المثالية الألمانية، لسبب بسيط هو أن لغتهم لا تتلاءم بسهولة مع هذا النوع من الفكر التأملي، ونتيجة لذلك، لم يكن للانفصال بين العلم والفلسفة نفس القدر من التأثير في فرنسا، ولكن هذا الانشقاق استمر على وجه العموم منذ ذلك الحين. صحيح أن العلماء والفلاسفة لا يتجاهل كل منهم الآخرين تجاهلا تاما، ومع ذلك يبدو من المعقول أن نذكر أن كل فريق كثيرا ما يخفق في فهم ما يقوم به الفريق الآخر. وهكذا فإن مغامرات بعض العلماء المعاصرين في ميدان الفلسفة ليست في أغلب الأحيان، أكثر توفيقا من محاولات الفلاسفة المثاليين في الاتجاه المضاد.
أما على الصعيد السياسي فإن القرن التاسع عشر كان في أوروبا عصر خلافات قومية متزايدة، على خلاف القرن الأسبق الذي لم يكن ينظر إلى تلك المسائل بمثل هذه الحدة. ففي القرن الثامن عشر كان في وسع النبلاء الإنجليز أن يقضوا شهور الشتاء على سواحل البحر المتوسط، كما اعتادوا من قبل، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تخوض حربا ضد إنجلترا، وهكذا كانت الحرب، مع كل قبحها، أخف إلى حد بعيد مما أصبحت عليه بعد ذلك. ولكن الوضع قد اختلف في الحروب القومية الكبرى التي نشبت خلال الأعوام المائة الأخيرة، فأصبحت الحرب أكفأ بكثير، شأنها شأن العديد من الأمور في حياتنا المعاصرة. والشيء الوحيد الذي أنقذ العالم من الدمار الكامل هو انعدام الكفاءة الأزلي في حكامه. ولو قدر لشخص في مثل عبقرية أرشميدس أن يمسك بمقاليد الحكم في أيامنا هذه، بحيث تكون الآلات الموضوعة تحت تصرفه قنابل ذرية بدلا من المنجنيق، لكان مصيرنا الفناء الفوري.
على أن الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر لم تستطع أن تتنبأ بكل هذه التطورات، بل كان يسود، على العكس من ذلك، نوع من التفاؤل العلمي جعل الناس يؤمنون بأن مملكة السماء أوشكت أن تحل في الأرض، وأدى التقدم السريع الذي تحقق في العلم والتكنولوجيا إلى الاعتقاد بأننا أوشكنا على حل جميع مشكلاتنا، وكان المتوقع أن تكون فيزياء نيوتن هي الأداة التي تضطلع بهذه المهمة، غير أن كشوف الجيل التالي قد أحدثت صدمة عنيفة لدى أولئك الذين ظنوا أن كل ما تبقى أمامنا هو تطبيق المبادئ المعروفة للنظرية الفيزيائية على الحالات الخاصة التي تعرض لنا . كذلك فإن الكشوف المتعلقة بالتركيب الداخلي للذرة قد أدت في عصرنا الراهن، إلى زعزعة النظرة الهادئة المستقرة التي كانت سائدة عند نهاية القرن الماضي.
ورغم هذا كله فما زال هناك قدر من هذه النزعة التفاؤلية العلمية سائدا؛ إذ يبدو أن إمكانات تشكيل العالم عن طريق العلم والتكنولوجيا لا حد لها، وفي الوقت ذاته هناك شك متزايد، حتى بين الخبراء أنفسهم، في أن العالم الجديد الذي تخلقه هذه التكنولوجيا قد لا يكون نعمة خالصة كما يتخيل أنصاره المتحمسون؛ ذلك لأن جيلنا الحالي قد أتيحت له فرص عديدة لكي يلاحظ أثناء حياته إحدى النتائج المؤسفة لهذا العالم الجديد، وهي أن من الممكن إلغاء قدر كبير من الاختلافات بين البشر، هذا الإلغاء قد يجعل المجتمع أكثر كفاءة وأكثر استقرارا، ولكنه سيكون بالتأكيد بداية النهاية بالنسبة إلى كل جهد عقلي، في العلم أو في أي ميدان آخر. والواقع أن هذا النوع من الحلم هو في أساسه وهم هيجلي، يفترض أن هناك حالات نهاية قصوى يمكن بلوغها، وأن البحث العقلي عملية يمكن أن تقف عند حد. غير أن هذا رأي باطل، والصحيح، على العكس من ذلك، هو أن البحث لا حدود له، وربما كانت هذه الحقيقة الأخيرة هي التي ستحمينا آخر الأمر من ذلك النوع من الأهداف الذي يحلم به صناع الأوهام الطوباوية من آن لآخر.
إن الاتساع الهائل في نطاق السيطرة العلمية يثير مشكلات اجتماعية جديدة ذات طابع أخلاقي. ولو نظرنا إلى كشوف العلماء واختراعاتهم في ذاتها لكانت محايدة من الوجهة الأخلاقية، ولكن القوة التي تكسبنا إياها هي التي يمكن تحويلها في اتجاه الخير أو الشر. والواقع أن هذه ليست مشكلة جديدة بالمعنى الصحيح، ولكن ما يجعل نتائج العلم أشد خطورة في أيامنا هذه هو الفعالية المرعبة لأدوات الدمار المتوافرة في الوقت الراهن. وهنالك فارق آخر بين الوضع الراهن والأوضاع السابقة، هو أن المصادر العلمية الحديثة للقوة والسيطرة تتخذ طابعا لا تمييز فيه حين تستخدم من أجل التدمير. وهكذا ابتعدنا كل الابتعاد عما كانت عليه الأوضاع أيام الإغريق، حين كان من أفظع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها اليوناني في زمن الحرب، قطع أشجار الزيتون.
ولكننا بعد أن وجهنا كل هذه التحذيرات، ينبغي أن نتذكر أن من أصعب الأمور رؤية المرء لعصره من منظور صحيح. وفضلا عن ذلك فلم تحدث حتى الآن طوال تاريخ حضارتنا، حالة واحدة لم يتمكن فيها ذوو البصيرة والعزم في نهاية الأمر، من الوصول إلى طريقة لإصلاح الأوضاع في الوقت الذي كان يبدو فيه أن كل شيء قد ضاع، ورغم ذلك فمن الواجب أن نؤكد أننا نواجه موقفا مختلفا عن كل ما حدث في الماضي. ففي الأعوام المائة الأخيرة طرأت على الغرب تغيرات مادية لم يسبق لها في التاريخ مثيل.
لقد كان رد فعل العلم ضد الفلسفة، في المحصلة النهائية، إحدى نتائج وضعية كونت، فقد رأينا في هذا الصدد أن كونت كان حريصا على استبعاد وضع الفروض، وكان يرى أن ما يجب عمله إزاء الظواهر الطبيعية هو وصفها لا تفسيرها، ومثل هذا البرنامج يرتبط على نحو ما بالحالة العامة للتفاؤل العلمي في العصر؛ إذ لا يمكن أن يظهر موقف كهذا إزاء التفكير النظري إلا حين يسود الشعور بأن العمل العلمي قد وصل إلى درجة من الاكتمال وأن النهاية باتت على مرمى البصر.
ومن الجدير بالملاحظة، بالنسبة إلى هذا الموضوع بالذات، أن هناك فقرة كتبها نيوتن، يقتبسها الكثيرون بمعزل عن سياقها، فيؤدي ذلك إلى تشويهها، ففي معرض حديث نيوتن عن الطريقة التي تسير بها الأشعة الضوئية قال بطريقة حذرة أنه لا يضع فروضا، فهو لا يحاول أن يقدم تفسيرا، ولكنه لا يقصد أن هذا مستحيل. ومع ذلك يمكننا أن نعترف بأنه حين تطرح نظرية قوية مثل نظرية نيوتن، تظل تستخدم طوال وقت ما استخداما فعالا دون حاجة إلى مثل هذه الفروض. وبقدر ما اعتقد العلماء أن فيزياء نيوتن توشك على أن تحل جميع المشكلات الباقية، كان من الطبيعي أن يؤكدوا أهمية الوصف على حساب التفسير. ومن جهة أخرى فإن الفلاسفة المثاليين كانوا يميلون، على الطريقة الهيجلية، إلى الجمع بين كافة فروع البحث في نسق واحد شامل. وفي مقابل ذلك رأى العلماء أن أبحاثهم ينبغي ألا تدرج ضمن فلسفة واحدية كهذه. أما المطلب الوضعي بضرورة التزام حدود التجربة ووصفها، فقد تم الربط عن وعي بينه وبين العودة إلى «كانت» وأتباعه. ذلك لأن البحث عن تعليلات للظواهر والسعي إلى تقديم تفسيرات، يعني الخوض في ميدان الأشياء في ذاتها، حيث لا تنطبق المقولات المستخدمة في التفسير أصلا. لذلك لا بد أن تكون مهمة تقديم التفسيرات مهمة وهمية خداعة.
هذا الموقف من النظرية العلمية هو الطابع المميز لمجموعة كاملة من العلماء المهتمين بالنتائج الفلسفية لأعمال البحث العلمي، ولكن ينبغي أن نلاحظ، في صدد استخدامهم لاسم «كانت» في هذه المسألة، أن وجهة النظر التي يمثلها هؤلاء المفكرون ليست كانتية بالمعنى الأصلي للكلمة. ذلك لأن نظرية المعرفة عند «كانت»، كما رأينا من قبل، تجعل إطار مقولات التفسير شرطا ضروريا للتجربة. وفي هذا السياق الحالي يوصف التفسير بأنه غير علمي؛ إذ يفترض أنه يتجاوز التجربة. ولذا لا يمكن أن يقال عن هؤلاء العلماء الوضعيين أنهم فهموا «كانت» فهما سليما.
ولقد كان أشهر ممثلي هذه الجماعة هو إرنست ماخ
E. Mach (1838-1916م) الذي يقدم إلينا كتابه «علم الميكانيكا» عرضا وضعيا للميكانيكا. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، حرص كل الحرص على تجنب استخدام المصطلح المدرسي الذي تسرب بقدر ما إلى فيزياء نيوتن. ومن أوضح أمثلته مصطلح «القوة». فالقوة ليست شيئا يمكن رؤيته. بل إن كل ما يمكننا قوله هو أن الأجسام تتحرك على أنحاء معينة. لذلك استغنى ماخ عن القوة وعرفها من خلال تصور حركي بحت هو عجلة السرعة
acceleration . وبالطبع فإن ماخ لا يعتزم تقديم ميكانيكا تكون أكثر إحكاما من حيث هي علم، بل إن الممارسة الوضعية هي في الواقع تطبيق «لسكين أوكام» على ما يبدو أنه نمو طفيلي زائد لتصورات علمية لا جدوى منها. ولن يمكننا أن نبحث هنا بالتفصيل عما إذا كان هناك مبرر لعملية الإزالة هذه. ولكن من المهم أن نؤكد مسألة واحدة فيما يتعلق بالمنهج العلمي بوجه عام. فاستبعاد الفروض معناه إساءة فهم وظيفة التفسير في العلم؛ ذلك لأن الفرض يفسر بقدر ما يعلل الظواهر ويتنبأ بالمستقبل. وإذا لم يكن هو ذاته موضوعا للبحث، فمن الممكن أن يظل يفسر، وذلك على الأقل بقدر ما لا يتعارض مع الوقائع، ولكنه لا يفسر إلا لأنه يظل هو ذاته بلا تفسير. وعندما يراد إيجاد تعليل له هو ذاته لا يعود يفسر، بل ينبغي تعليله بفرض آخر، يظل بدوره بلا تفسير، وليس في ذلك أي غموض؛ إذ إنك لا تستطيع أن تفسر على الفور كل شيء في آن واحد. ولكن الوضعيين يخطئون حين يذهبون إلى أنك لا تستطيع أن تفسر أي شيء على الإطلاق؛ ذلك لأننا لو افترضنا أننا قررنا التخلي عن كل الفروض، فكيف إذن سنظل نمارس علمنا؟ إن كل ما يتبقى عندئذ سيكون نوعا من التصنيف على غرار ما قام به بيكن ، وهذا التصنيف، كما رأينا، لن يفيدنا كثيرا، وهكذا فإن مجرد استمرار العلم في طريقه هو في ذاته تفنيد لوضعية مفكرين مثل ماخ. ونستطيع أن نجد أوضح وأصرح نقد للمذهب الوضعي في أعمال مايرسون
E. Meyerson (1859-1933م) حيث نجد نظرية في العلم تستلهم روح «كانت» بطريقة أصيلة في مبدئها العام، وإن لم تتقيد بتفاصيلها.
والواقع أن الفلاسفة العلميين، في محاولاتهم إيجاد بدائل علمية لا يطلقون عليه بازدراء اسم «الميتافزيقا». قد وقعوا في كثير من الأحيان في مشكلات ميتافيزيقية خاصة بهم، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب. فعلى الرغم من أنه قد يكون لهم بعض الحق في رفض التأملات الميتافيزيقية للفلاسفة، فإنهم لم يدركوا أن البحث العلمي ذاته يمضي في طريقه على أساس فروض مسبقة معينة. وإلى هذا الحد، على الأقل، يبدو أن «كانت» كان على حق. فالفكرة العامة للسببية مثلا، شرط مسبق للعمل العلمي، وهي ليست نتيجة بحث، وإنما هي افتراض مسبق، حتى ولو كان ضمنيا فحسب، يستحيل بدونه السير في طريق البحث. ولو نظرنا، في ضوء هذه الملاحظات، إلى التجديدات الفلسفية التي ظهرت مؤخرا في كتابات العلماء لما وجدناها مثيرة للاهتمام إلى الحد الذي تبدو عليه للوهلة الأولى.
أما بالنسبة إلى دلالة القضايا وإجراءات البحث العلمية، فقد كان الاتجاه يسير نحو طرحها جانبا لصالح شكل من أشكال الطقوس الرياضية، فقد أدت كشوف العلم إلى زعزعة النظرة النيوتونية إلى العالم، بكل ما كانت تتصف به من صلابة واكتمال. غير أن العلماء بدلا من أن يحاولوا توسيع مدى النظرة، اكتفوا - على وجه العموم - بمعالجة مشكلاتهم عن طريق الاستعانة بنظريات رياضية يمكن أن تأتي بنتائج مرضية إذا ما فسرت بالطريقة المناسبة. وهكذا فإن الخطوات الوسطى، المتعلقة بالحساب والتحويل، تترك وحدها، وتقوم بوظيفة مجموعة من القواعد فحسب. والواقع أن هذا الموقف، الذي هو واسع الانتشار، وإن لم يكن ساريا على الجميع، يذكرنا إلى حد بعيد بالنزعة الصوفية العددية عند الفيثاغوريين وأتباعهم في عصر النهضة المتأخر.
أما في الفلسفة ذاتها فقد أدت هذه الاتجاهات العامة إلى إيجاد حركة متباعدة عن العلم، ولا يتمثل ذلك فقط في عودة ظهور الاتجاهات المثالية في القارة الأوروبية، بل إنه يصدق أيضا على الفلسفة الإنجليزية التي تسير في اتجاه لغوي إلى حد بعيد. فإذا بدأنا بالحديث عن هذه الأخيرة (أي الفلسفة الإنجليزية) لوجب أن نوافق على الرأي القائل إنه ليس من مهمة الفلسفة بالفعل أن تقوم باكتشافات، بل إن مهمتها تنحصر في تقدير مزايا الطرق المختلفة في الكلام عن الأمور التي تعترف بها جميع الأطراف. وهذه، على أية حال، إحدى المهام التي كانت الفلسفة تقوم بها على الدوام. ومع ذلك فإن الآراء الفلسفية المختلفة قد تساعد على تقدم البحث العلمي أو تعوقه بدرجات مختلفة.
فإذا عدنا إلى ميدان الفلسفة بمعناها الصحيح، وجدنا أن المسرح الفلسفي في إنجلترا كانت تسيطر عليه، في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، المثالية التي انتقلت إليه من داخل القارة: ففي بريطانيا يأتي المطر من أيرلندة وتأتي المثالية من ألمانيا. غير أن الشخصية الرئيسية في هذا الميدان لم تكن تساير التراث الهيجلي كلية، تلك الشخصية هي برادلي
F. H. Bradley (1846-1924م) الذي درس وألف في أكسفورد، وصاغ رفضا نقديا للمثالية، وكان يهدف إلى بلوغ «مطلق» يذكرنا بالله أو الطبيعة عند اسبينوزا أكثر مما يذكرنا بالفكرة المطلقة عند هيجل. أما المنهج الجدلي الذي اتبعه في مناقشاته فلم يكن مبدأ للنمو العضوي، كما كان بالفعل عند هيجل، وإنما كان سلاحا كلاميا على طريقة أفلاطون والسابقين عليه من الإيليين. بل إن برادلي يبذل جهدا خاصا من أجل معارضة النزعة العقلية الواحدية عند هيجل، التي كانت تنطوي على اتجاه إلى التوحيد بين المعرفة والوجود، وهو رأي يرتد آخر الأمر إلى سقراط والفيثاغوريين. فبرادلي يحاول الهبوط إلى ما هو أدنى من الفكر العقلي ومقولاته، إلى مستوى الشعور المحض أو التجربة الخالصة، وهذه هي المرحلة التي نستطيع فيها أن نتحدث عن الواقع الفعلي
reality . أما الفكر فهو دائما نوع من التزييف لا يوجد فعليا، فالفكر يبعث مظاهر فحسب، لأنه يشوه الواقع الفعلي إذ يضفي عليه إطارا دخيلا من التصنيفات والارتباطات. وهكذا يرى برادلي أنه لا مفر لنا، خلال عملية التفكير، من أن نوقع أنفسنا في تناقضات. وقد عرض برادلي هذه النظرية في كتاب أطلق عليه اسم «المظهر والحقيقة».
إن محور هجوم برادلي على الفكر هو أنه بالضرورة «علائقي»، والعلاقات توقعنا في التناقض، كما يحاول أن يثبت. ولكي يبرهن برادلي على هذه النتيجة غير العادية يستخدم شكلا آخر من أشكال حجة «الرجل الثالث» على النحو الذي استخدمتها عليه شخصية بارمنيدس، في محاورة أفلاطون، ضد نظرية المشاركة عند سقراط. فلما كانت الصفات والعلاقات متميزة من جهة ومتلازمة من جهة أخرى، فلا بد أن يكون في وسعنا أن نميز، في أية صيغة أو كيفية بعينها، بين الجزء الذي هو كيفي بالمعنى الصحيح، والجزء الذي يحدد الروابط العلائقية. غير أننا لا نستطيع أن نقوم بتمييز كهذا بين الأجزاء المختلفة لصفة أو كيفية، وحتى لو أمكننا ذلك، لواجهتنا مشكلة الربط بين الجزأين مرة أخرى، مما يؤدي إلى علاقة جديدة تثير حجة الرجل الثالث، من جديد.
1
وهكذا فإن ميدان الفكر، ومعه العلم، يشوبه التناقض، ومن ثم فهو ينتمي إلى ميدان المظهر لا الحقيقة. والواقع أن برادلي يصل هنا، ولكن بطريقة ملتوية تدعو إلى الدهشة، إلى نفس النتيجة التي وصل إليها هيوم، وإن كانت الأسباب التي أدت به إلى ذلك مختلفة. ولكنه مثل هيوم يرفض فكرة الذات لأنها تنطوي على علاقات. أما ألوهية الأديان التقليدية فتنتمي بدورها، ولنفس السبب، إلى ميدان المظهر.
وبعد أن تخلص برادلي من المظهر على هذا النحو، يجد الحقيقة في «المطلق»، الذي يمكن تشبيهه «بالواحد» في المدرسة الإيلية، ولكننا نستشعره من الداخل على مستوى أقرب إلى الطابع المباشر من الفكر العقلي. في هذا المطلق تتحد جميع الاختلافات وتحل جميع الصراعات. ولكن هذا لا يعني إلغاء المظاهر؛ ففي حياتنا اليومية نفكر في العلم ونمارسه، مما يجعلنا نندمج في المظهر. وبالمثل فإن الشر الذي يرتكبه الناس متغلغل في العالم اليومي العادي، بوصفه مظهرا. غير أن هذه النقائص تختفي في المطلق.
وفي فلسفة بندتو كروتشه
Benedetto Crce (1866-1952م) نجد ضربا آخر من المثالية، مستمدا في بعض جوانبه من الهيجلية، وإن كان التأثير المباشر لفيكو أهم في هذه الحالة. ولم يكن كروتشه فيلسوفا أكاديميا، بل كان يتمتع باستقلال اقتصادي طوال حياته المديدة. ونظرا إلى مكانته الدولية فقد صمد للعهد الفاشي دون أن يلحق به أذى بالغ، وشغل بعد الحرب عدة مناصب في الحكومة الإيطالية.
وقد ألف كروتشه بغزارة في التاريخ والأدب، وأسس في عام 1905م مجلة أدبية ترأس تحريرها، اسمها «النقد
La Critica ». ومن السمات المميزة لنظرته الفلسفية، اهتمامه بعلم الجمال، نظرا إلى تلك التجربة العينية التي يمر بها الذهن حين يتأمل عملا فنيا.
ولقد كان كروتشه يشارك هيجل رأيه القائل إن الحقيقة روحية، إذ إن الاتجاه الواحد عند هيجل لا يترك مجالا للصعوبات المعرفية التي أثارتها التجريبية الإنجليزية، ولا حتى لتلك التي أثارتها نظرية كانت. ولكن على الرغم من أن إلحاح هيجل على الجدل جعله يؤكد أن العمليات الذهنية تنطوي على قهر إيجابي للعقبات، فإن كروتشه يبدو وكأنه يعود هنا مباشرة إلى معادلة فيكو القائلة بأن الحقيقة هي الفعل
Venum Factum . وعلى أية حالة فإن كروتشه كان واعيا ببعض نقاط الضعف الرئيسية في الهيجلية كتطبيق الجدل على الطبيعة، والتقشات الثلاثية التي تنطوي على ممارسات عددية سحرية، ولكن أكبر أخطاء هيجل هو مفهوم المذهب المثالي عنده، وهو المفهوم الذي وجهنا إليه من قبل بعض الملاحظات النقدية، ونستطيع أن نضيف الآن إلى ما قلناه أن هناك نوعا من التعارض بين فكرة التطور الجدلي وفكرة بلوغ أهداف نهائية. أما كروتشه فيحتفظ بفكرة التطور وإن لم يقبل الوصف الذي قدمه هيجل لها. وبدلا من أن يقول بالمسار الجدلي، قال بشكل معدل من أشكال نظرية المراحل عند فيكو؛ ذلك لأن فيكو كان يعتقد أن هذه التطورات دائرية، بحيث يعود كل شيء في النهاية إلى نقطة البداية الواحدة، وهو رأي يرجع كما رأينا، إلى أنبادقليس. أما كروتشه فقد نظر إلى هذه التغيرات على أنها تسير إلى الأمام، بحيث إن العقل، حين يعود إلى المرحلة الأصلية ، يكون قد اكتسب خلال مساره السابق استبصارا جديدا.
ولكن ينبغي أن نعترف بأن كروتشه، على الرغم من كل ما رفضه من هيجل، يظل يحتفظ في كتاباته بقدر معقول من الجدل، فهو يتحدث في كتابه عن علم الجمال بطريقة تذكرنا بمنطق هيجل إلى حد بعيد، ولنستمع إليه وهو يقول: «إن الرابطة الوثيقة بين الخطأ والصواب تنشأ من أن الخطأ البحت، الخالص، لا يمكن تصوره، ونظرا إلى أن من المستحيل تصوره، فهو غير موجود. إن الخطأ يتكلم بصوتين، أحدهما يؤكد البطلان، ولكن الآخر ينكره، وهذا تصادم بين نعم ولا، يسمى بالتناقض.» هذا النص يفيد أيضا في إبراز فكرة كروتشه القائلة إن الذهن مطابق للواقع، فليس في العالم شيء لا يمكننا أن نكتشفه من حيث المبدأ. وأي شيء يستحيل تصوره لا يمكن أن يكون موجودا، ومن ثم فإن ما هو موجود هو أيضا قابل لأن يتصور، ومما تجدر ملاحظته أن برادلي يؤمن بالشكل العكسي لهذه القضية، إذ رأى أن ما يمكن تصوره لا بد من أجل ذلك أن يكون موجودا، وقد صاغ فكرته هذه على النحو الآتي : «ما يمكن وجوده، وينبغي وجوده، موجود.» وأخيرا فإن التأثير الهيجلي هو الذي جعل كروتشه يعرض فيكو كما لو كان فيلسوفا عقلانيا ينتمي إلى القرن التاسع عشر، على حين أنه كان في الواقع أفلاطونيا ينتمي إلى القرن السابع عشر.
أما في فرنسا فإن أقوى الفلاسفة تأثيرا عند نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد اتخذ وجهة نظر مختلفة في رد فعله على العلم، فهنري برجسون
H. Bergson (1859-1941م) ينتمي إلى التراث اللاعقلي الذي يرجع إلى روسو والحركة الرومانتيكية، وقد أكد برجسون، كالبرجماتيين، أهمية الفعل فوق كل شيء آخر، وكان في ذلك يعبر عن قدر من نفاد الصبر تجاه الاستخدام الدقيق والنزيه للعقل في الفلسفة والبحث العلمي، فمن أهم سمات الفكر العقلي بحثه عن الدقة. وتمثل القواعد التي نص عليها ديكارت في كتاب «المقال في المنهج» وصفا جيدا لهذه السمة. وأهم ما نلاحظه في هذا الصدد هو أننا، حين نحاول اقتناص الحركة العابرة للتجربة وحصرها داخل إطار اللغة، نوقف تدفق الواقع وصيرورته، ونضع في مكانها صورة لفظية سكونية هزيلة له. هنا نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة مشكلة هرقليطس وبارمنيدلس القديمة، والهدف الذي يسعى إليه برجسون هو الدفاع عن حقيقة الصيرورة في التجربة، في مقابل تشويه الصيغ الجامدة التي تنتمي إلى العقل وصورته عن العالم.
إلى هذا الحد تذكرنا مشكلة برجسون بمشكلة برادلي. غير أن الحل الذي أتى به برجسون للمشكلة مختلف كل الاختلاف. فقد كانت ميتافيزيقا برادلي مرتبطة في النهاية ارتباطا وثيقا بالنظريات المنطقية التي تبنى عليها، ومرتبطة بوجه خاص بنظرية عن الحقيقة تقوم على فكرة الرابط. أما عند برجسون فإن المنطق ذاته هو العنصر الذي ينبغي تجاوزه. وبهذا المعني يمكن أن يوصف برادلي بأنه عقلي، على حين أن برجسون لا عقلي.
إن فلسفة برجسون، على العكس من الفلسفات الواحدية، من مثالية ومادية، في القرن التاسع عشر، تعود إلى النظرة الثنائية إلى العالم. غير أن القسمين اللذين أرجع الكون إليهما، يختلفان عما قالت به النظريات الثنائية السابقة، فأحدهما هو المادة، كما كانت الحال عند ديكارت، أما الآخر فهو نوع من المبدأ الحيوي يختلف عن الشطر الذهني في العالم، الذي قال به الفلاسفة العقليون. هاتان القوتان الكبيرتان: الحيوية من جهة، والمادية من جهة أخرى، تشتبكان في صراع دائم يحاول فيه الاندفاع الإيجابي للحياة أن يتغلب على العقبات التي تضعها أمامه المادة الجامدة. وفي هذه العملية تتشكل القوة الحيوية إلى حد ما، بالظروف المادية التي تعمل فيها، ولكنها تحتفظ مع ذلك بصفة الحرية الأساسية فيها، ويرفض برجسون نظريات التطور التقليدية نظرا إلى ميولها العقلانية، التي لا تسمح بانبثاق أي شيء جديد بصفة أساسية. فاللاحق يبدو متضمنا على نحو ما في السابق، أو محكوما به، مما يهدد بضياع حرية الفعل التي ينسبها برجسون إلى القوة الحيوية. فالتطور في رأيه ينتج تجديدا أصيلا، وهو خلاق بالمعنى الحرفي. هذه النظرية تعرض في أشهر كتبه، الذي يحمل عنوان «التطور الخلاق». والواقع أن نوع المسار التطوري الذي يفترضه برجسون مأخوذ مباشرة من تشبيه الخلق أو الإبداع الفني، فكما أن ما يحرك الفنان إلى الفعل هو نوع من الحافز الخلاق، كذلك تعمل القوة الحيوية في الطبيعة، أي أن التغيرات التطورية تحدث عن طريق اندفاعات خلاقة مستمرة تهدف إلى إيجاد سمات جديدة معينة لم يكن لها وجود من قبل.
أما بالنسبة إلى الإنسان، فإن العملية التطورية قد أوصلتنا إلى حيوان طغى فيه العقل على الغريزة. ويرى برجسون أن هذا أمر مؤسف، تماما كما رأى روسو من قبل. فقد اتجه عقل الإنسان إلى خنق غرائزه، وسلبه بذلك حريته. ذلك لأن العقل يفرض قيوده الذهنية الخاصة على العالم، فيقدم بذلك صورة مشوهة له. وهكذا نرى إلى أي حد تبتعد هذه الآراء عن موقف العقليين الذي يرى في العقل قوة تحقق لنا التحرر.
وأعلى أشكال الغريزة هو الحدس، الذي هو نوع من النشاط الروسي يتوافق بصورة مباشرة مع العالم. فعلى حين أن العقل يشوه التجربة، نجد الحدس يندمج فيها على ما هي عليه. والعيب الذي يشوب العقل في رأي برجسون هو أنه لا يتطابق إلا مع الانفصال السائد في العالم المادي. وواضح أن هذا الرأي يرتبط بفكرة اللغة بوصفها إطارا يضم مفاهيم يسودها الانفصال. أما الحياة فهي في جوهرها متصلة، ومن ثم يعجز العقل عن فهمها، ولذا ينبغي علينا أن نعود مرة أخرى إلى الغريزة.
ويرتبط التمييز بين العقل والحدس عند برجسون بتمييز آخر مواز له بين المكان والزمان. فالعقل، الذي يفكك العالم أو يحلله، يعمل بطريقة لا زمانية، شبيهة بالحلم. ولو عدنا إلى استخدام التقابل الذي أشرنا إليه من قبل بين النظري والعملي، بالمعنى الاشتقاقي لهاتين الكلمتين، لوجدنا العقل نظريا، فهو يتأمل العالم بطريقة هندسية، وبالنسبة إليه يكون هناك مكان دون أن يكون ثمة زمان. غير أن الحياة مسألة عملية تنساب في الزمان، وهنا يكون للحدس دوره. صحيح أن لعمليات التشريح المكانية التي يقوم بها العقل بعض الأهمية، ولكنها مع ذلك عقبة في وجه الفهم الصحيح للحياة. أما الزمن الذي تتحدث عنه النظريات الفيزيائية فليس زمنا بالمعنى الحقيقي، وإنما هو نوع من المجاز المكاني، والزمن الحقيقي للحدس هو ذلك الذي يطلق عليه برجسون اسم الديمومة
duree
وهو شيء يصعب وصفه، ويبدو أن برجسون يتصوره على أنه نوع من التجربة البحت التي تطغي علينا عندما نتوقف عن التفكير العقلي ونترك أنفسنا في انسياب مع موجة الزمان، وربما جاز لنا أن نشبه هذه الفكرة بأحوال المعرفة الوجودية كما تحدث عنها كيركجور، وكما أخذ بها الوجوديون اللاحقون بعد تعديلها.
وترتبط نظرية الزمان عند برجسون بالوصف الذي يقدمه للذاكرة. ففي الذاكرة يصطنع العقل الواعي نوعا من الاتصال بين الماضي والحاضر؛ ذلك الماضي الذي لم يعد يمارس فعلا، والحاضر الذي هو فعال الآن. وبالطبع فإن هذه الطريقة في الكلام تفترض نفس ذلك الزمن الرياضي الذي حرص برجسون في غير ذلك من المواضع على استبعاده لصالح الديمومة، فلا بد أن يكون الماضي والحاضر منفصلين حتى يكون هنالك معنى للقضية السابقة المتعلقة بالفعل. وفضلا عن ذلك، فهناك خلط ينشأ من المعنى المزدوج الذي ينسب إلى كلمة الذاكرة، إذ نعني بالذاكرة أحيانا النشاط العقلي المتعلق بالتذكر هنا، وفي الوقت الراهن، ونعني بها أحيانا أخرى الحدث الماضي الذي يتم تذكره على هذا النحو. وهكذا فإن الخلط بين النشاط الذهني وموضوعه يؤدي إلى الكلام عن الماضي والحاضر وكأنهما ممتزجان.
ولقد كان هذا الاتجاه المضاد للعقلانية في تفكير برجسون هو الذي أدى به إلى أن ينصرف على وجه العموم، عن تقديم أسباب مقنعة أو غير مقنعة، للآراء التي يدعونا إلى قبولها، وبدلا من ذلك اعتمد على الطابع الشعري في تقديم نماذج لآرائه. وهذا يؤدي إلى أسلوب مشوق جذاب، ولكنه لا يقنع القارئ بالضرورة. بل إن هذه صعوبة تعترض أية مجموعة من القضايا التي تستهدف تضييق نطاق العقل. ذلك لأن الكلام عن أسباب لقبول رأي معين، هو في ذاته التزام بميدان العقل.
ولعل أفضل فهم لنظرية برجسون هو أن تنظر إليها على أنها تعرض علينا بعض السمات النفسية، لا المنطقية، للتجربة. وبهذا المعنى تكون متمشية مع بعض الاتجاهات في النظرية النفسية، وهو حكم ينطبق بالمثل على الوجودية. ولقد كان أهم تطور جديد في ميدان علم النفس هو نظرية التحليل النفسي، ولكن قبل أن نقدم عرضا موجزا لها، ينبغي علينا أن نتحدث عن اتجاه آخر في علم النفس كان مضادا للتحليل النفسي في نواح متعددة، أعني ذلك الاتجاه الذي يطلق عليه، بصورة عامة اسم «السلوكية».
لقد انبثقت المدرسة السلوكية في علم النفس عن الوضعية. فهي تنكر تلك الكيانات الخفية التي كان يقول بها علم النفس الاستنباطي القديم، وتعلن تمسكها بالسلوك الظاهر، فلا أهمية إلا للأفعال التي نلاحظ أن الناس يقومون بها فعلا، وأقصى ما يمكن السماح به هو أن نتكلم عن الاستعدادات للعمل على أنحاء معينة في ظروف معينة، وذلك ضمن إطار التصورات التي نستخدمها في وصف السلوك، وهذه أمور يمكن ملاحظتها بوضوح واختبارها بطريقة تشبه إلى حد بعيد تجارب عالم الفيزياء، ولهذه الطريقة في النظر إلى الموضوع امتداد بسيط يتمثل في البحث عن تفسيرات فيزيائية كيميائية، وفسيولوجية، للظواهر النفسية، وهكذا تسير هذه النظرية في الاتجاه المادي والوضعي بالمعنى الذي أوضحناه. ولقد كان من أشهر الإنجازات التي تحققت في هذا الاتجاه، أعمال العالم الفسيولوجي الروسي بافلوف
كل عن الأفعال المنعكسة المكيفة
Conditioned reflexes .
2
فكلنا قد سمعنا عن بافلوف وكلابه التي تفرز اللعاب. وقوام التجربة باختصار شديد، هو تقديم الطعام للحيوان في نفس الوقت الذي تعرض عليه فيه إشارة ما، كشكل معين على شاشة مثلا، وبعد فترة معينة يصبح الشكل وحده كافيا لإحداث التأثيرات الفسيولوجية التي كان يتوقع حدوثها مع تقديم الطعام، ويبدأ إفراز اللعاب بمجرد ظهور الإشارة. ويسمى هذا النوع من ردود الفعل باسم الفعل المنعكس المكيف.
والأمر الذي يفترض أن هذه الأبحاث تهدف إلى إثباته هو أن الموقف العيني، القابل للملاحظة يكشف عن أحداث معينة متصلة به، لها ارتباطات يمكن تغييرها إلى حد ما عن طريق غرس عادات معينة. وفي هذه النقطة نجد أن التفسير يستخدم علم النفس الترابطي بطريقة تقليدية إلى حد كبير ، تشبه طريقة هيوم، ولكن يبدو أن هناك نتيجة أخرى تستخلص من ذلك، هي أنه لا حاجة بنا إلى افتراض كيانات غامضة كالفكر، فكل ما يمكن أن يقال تغطيه الحوادث المترابطة، القابلة للملاحظة.
وربما كانت هذه صياغة متطرفة للقضية، ولا يمكن قبولها قطعا إلا في ضوء تحفظات معينة، ومع ذلك فيكفينا، بالنسبة إلى هدفنا الحالي، أن نشير إلى الاتجاه العام، ونستطيع أن نجد في الفلسفة تطورا مماثلا في بعض أشكال علم اللغة التي تستغني عن المعنى، بمفهومه التقليدي، وتستعيض عنه بالاستخدام الفعلي للغة، أو بالاستعداد لاستخدامها بطرق معينة في الظروف المناسبة، وهكذا تفترض هذه الاتجاهات أننا، مثل كلاب بافلوف، يسيل لعابنا بدلا من أن نفكر.
ولكننا نجد موقفا مضادا لهذا تماما في النظرية النفسية التي ترتبط باسم زيجمند فرويد
Sigmund Freud (1856-1939م). فقد بدأ فرويد من وجهة نظر بيولوجية إلى حد غير قليل، ثم انتقل بمضي الوقت إلى علم نفس يتقبل الكيانات الخفية بلا تردد. ذلك لأن مفهوم الذهن اللاشعوري يحتل في نظريته موقعا عظيم الأهمية، وهذا اللاشعور هو، حسب طبيعته ذاتها، غير قابل للملاحظة المباشرة. فإذا تركنا جانبا ، بصورة مؤقتة، الحكم على مدى صحة هذه النظرية لوجب أن نكرر أنها، على أية حال، فرض علمي مشروع إلى أبعد حد. أما أولئك الذين يبادرون إلى رفضها بدافع التعصب الوضعي، فإنهم لا يفهمون وظيفة الفرض في المنهج العلمي. ولكن لنعد إلى فرويد، فنجد أن نظرية الذهن اللاشعوري وأساليب عمله تشكل أداة لتطورات هامة متعددة في ميدان البحث النظري في علم النفس. أولها هو نظرية فرويد العامة في الأحلام، التي نشرها عام 1900م بعنوان «تفسير الأحلام»، والثاني الذي يرتبط بالأول هو نظريته في النسيان، التي ظهر عرض مبسط لها عام 1904م ضمن كتاب «الأمراض النفسية في الحياة اليومية».
إن ما يميز الحلم عن حالة الوعي واليقظة هو أنه يسمح بنوع من الحرية والتخييل لا يستطيع أن يصمد، خلال حياة اليقظة، للوقائع الصلبة التي تواجهنا، ولكن حرية الحالم هذه، مع ذلك، وهمية وليست حقيقية، وتلك هي النتيجة التي ينبغي أن توصل إليها أية نظرية عامة في الأحلام. والفرض العام الذي تتضمنه مؤلفات فرويد هو أننا في هذه الحرية نصل إلى إشباع رغبات تظل في حياتنا العادية مكبوتة لأسباب مختلفة، ولا يتسع المقام ها هنا للخوض في آلية الكبت والتركيب التفصيلي للجهاز النفسي للفرد، بل يكفي أن نشير إلى أن الحالم يكون لديه قدر من الحرية في إعادة تشكيل وإعادة بناء عناصر متنوعة لها أساس في التجربة المباشرة ويقوم بهذا العمل نفسه، لا بالنسبة إلى الرغبات المكبوتة التي ظهرت في اليوم نفسه فحسب، بل أيضا بالنسبة إلى الرغبات التي قد تكون أحيانا راجعة إلى الطفولة المبكرة ذاتها. ومهمة التفسير هي إماطة اللثام عن المعنى الحقيقي للحلم. وهذا يقتضي التعرف على رموز معينة تتدخل في عملية الكبت، من أجل إخفاء حقيقة غير مؤكدة، أو تجنب ذكر الحقائق باسمها الصحيح، إذا لم يكن ذلك مقبولا. وقد وضع فرويد خلال هذه التفسيرات مجموعة كاملة من الرموز، وإن كان الإنصاف يقتضي أن نقرر أنه كان في استخدامه لها أكثر تحوطا بكثير مما كان أتباعه. أما من الجانب العلاجي، الذي كان يهم فرويد لأنه كان طبيبا، فإن الكشف عن هذه العمليات أو تحليلها نفسيا كان يعد أمرا ضروريا من أجل التخلص من الاضطرابات الناجمة عن الكبت. صحيح أن التحليل لا يكفي لتحقيق العلاج، ولكن أية محاولة للعلاج تصبح بدونه مستحيلة. وبطبيعة الحال فإن النظرة العلاجية إلى المعرفة ليست جديدة؛ إذ قال بها كما رأينا سقراط. كما أن أصحاب مدرسة التحليل اللغوي المعاصرة يقولون برأي يقرب من هذا كل القرب عن الألغاز الفلسفية، التي يشبهونها بحالات عصاب لغوي يشفينا منها التحليل.
أما عن النسيان، فإن فرويد يربط بينه وبين آلية مماثلة للكبت. فنحن ننسى لأننا، بمعنى ما، نخاف أن نتذكر. ولا بد لكي نشفى من نسياننا أن نصل إلى فهم وإدراك للعوامل التي تجعلنا نخشى من التذكر.
لقد كانت الميزة التي اتسمت بها النظرية الفرويدية هي أنها قد بذلت محاولة جادة لتقديم تعليل علمي عام للأحلام. ولا شك أن بعض تفصيلاتها لا تقنعنا إقناعا تاما؛ إذ يبدو مثلا أن قاموس الرموز الفرويدي ليس مقبولا كله. ولكن الشيء الذي لفت الأنظار إلى التحليل النفسي بقوة تزيد عما كان يمكن أن تكون له في الظروف الأخرى، هو اعترافه الصريح بالسلوك الجنسي وكبته، وفي الوقت نفسه فإن هذه الحقيقة ذاتها جعلت التحليل النفسي هدفا لكثير من التشنيع غير المرتكز على فهم سليم.
لقد كانت القوة المسيطرة في الفلسفة الأمريكية، منذ نهاية القرن الماضي، هي صورة معدلة للبرجماتية. وكان أهم ممثليها هو جون ديوي
John Dewey (1859-1952م)، الذي كان أجداده ينتمون إلى منطقة نيو إنجلاند، ومن ثم فقد تغلغل فيه التراث الليبرالي الذي اشتهرت به هذه المنطقة. وكانت اهتماماته واسعة المدى دائما، تتجاوز نطاق الفلسفة الأكاديمية. وربما كان أقوى تأثير له هو ذلك الذي مارسه في ميدان التربية، وهو موضوع كانت له فيه إسهامات كثيرة منذ أن أصبح أستاذا للفلسفة بجامعة شيكاغو عام 1894م. وإذا كنا نلاحظ في أيامنا هذه أن الفرق بين التعليم بمعناه التقليدي والتدريب المهني الذي يستلزمه المجتمع التكنولوجي على نحو متزايد؛ إذا كنا نلاحظ أن هذا الفرق لم يعد واضحا بما فيه الكفاية، فإن من أهم أسباب ذلك تأثير أعمال ديوي.
إن فلسفة ديوي تتضمن ثلاثة مفاهيم رئيسية ترتبط بتطورات معينة حدثت من قبل، أولها هو العنصر البرجماتي، الذي تحدثنا عنه من قبل. فديوي يشارك بيرس رأيه القائل إن عملية البحث أساسية، ويأتي بعد ذلك التأكيد على الفعل، على نحو كان أقرب إلى برجسون منه إلى البرجماتية. صحيح أن البرجماتيين كانوا مقتنعين، كما ذكرنا من قبل، بأهمية الفعل ولكن ينبغي أن نتذكر هنا أن جيمس قد أساء فهم بيرس، وأن الفاعلية التي كان يتحدث عنها بيرس أقرب بكثير إلى ما كان في ذهن فيكو عندما صاغ معادلة: الحقيقة هي الفعل. وثالثا ففي نظرية ديوي قدر واضح من الفكر الهيجلي، ويظهر ذلك بوجه خاص في تأكيده أن الهدف النهائي للبحث هو الوصول إلى الكل العضوي أو الموحد. وهكذا ينظر إلى الخطوات المنطقية التي تحدث خلال سعينا إلى تحقيق هذا الهدف على أنها أدوات توصل إلى هذا الكل. هذه النظرة «الأداتية
Instrumental » إلى المنطق تشترك في عناصر كثيرة مع الجدل الهيجلي، إذا ما تأملنا هذا الأخير على أنه أداة تؤدي إلى النسق الكامل، وقد رفض ديوي، كبقية أتباع المدرسة البرجماتية، أن يتقيد بالتصورات التقليدية للصواب والخطأ كما توارثناها من الفلسفة الرياضية عند فيثاغورس وأفلاطون، وبدلا من ذلك تحدث ديوي عن إمكانية الحكم بطريقة مبررة
warranted assertability ، وهي فكرة مستمدة من بيرس، وإن كان ينبغي أن نضيف تحفظا هو أن بيرس قد اعترف في مرحلته المتأخرة بوجود إجابة واحدة عن أي سؤال، مهما كانت بعيدة المنال.
وفيما يتعلق بهذه المسألة العامة، أعني الاستغناء عن الحقيقة بمعناها المطلق، نستطيع أن نوجه نفس النقد الذي تحدثنا عنه من قبل في صدد بروتاجوراس. فلنفرض أن شخصا أكد أنني إنسان يبعث على الضجر؛ عندئذ، لو سألته بروح برجماتية، عما إذا كان لديه ما يبرر به هذا الحكم، فماذا عساه يجيب؟ الواقع أنه ربما كان من المفيد له أن يعتنق مثل هذه الآراء عني، وفي هذه الحالة قد يشعر بالميل إلى أن يجيب عن سؤالي بالإيجاب، ولكنه سواء أجاب بنعم أو لا، فإنه يتجاوز بذلك، على الفور، نطاق مبادئه البرجماتية؛ ذلك لأن المسألة لا تعود عندئذ مسألة تبرير، فهو لا يفكر في ذرائع ثانوية أو مبررات على الإطلاق، لأن هذا يؤدي به إلى تسلسل لا نهائي، بل إنه حين يجيب بنعم أو لا. يفترض ضمنيا معنى مطلقا للحقيقة، ولا يغير من ذلك احتمال أن يكون مخطئا في حكمه على هذه المسألة، أو أنه قد يقدم بنية حسنة إجابة يتضح بطلانها. فمع هذا كله، ينبغي أن يقبل ضمنا بمعيار مطلق حتى يستطيع تقديم أية إجابة على الإطلاق. هذا النوع من النقد لا ينطبق فقط على النظريات البرجماتية عن الحقيقة، بل على أية نظرية تسعى إلى تعريف الحقيقة من خلال أية معايير أخرى.
والواقع أنه ليس من الصعب أن ندرك من أين تأتي هذه المحاولة من أجل إدراج المنطق ضمن إطار الفعل، فمصدرها، في الأساس هو النقد البرجسوني القائل إن النظريات الموضوعية التقليدية في المنطق لا تسمح بظهور أي شيء جديد وأصيل في العالم. فالمنبع الذي تستلهمه هذه الطريقة في التنظير هو الرغبة في التجديد وفي التوسع الاجتماعي. وهنا نستطيع أن نجد، في نهاية المطاف، خلطا بين تنوع النشاط البشري وبين الإطار الثابت الذي نعبر من خلاله عن هذا النشاط في اللغة والمنطق. ولو لم يدرك الإنسان هذه المعايير ويعترف بها لتعرض بسهولة لتجاوز نطاق المعقول وإغفال الحدود التي لا تتعداها قدراته.
أما الشخصية الرئيسية الثانية التي ينبغي أن نذكرها في هذا الصدد فهي الزميل السابق لكاتب هذه السطور، أ. ن. هوايتهد
A. N. Whitehead (1861-1947م) وقد تحدثنا عنه من قبل بوصفه منطقيا رياضيا. ولكن اهتماماته أخذت تتغير بالتدريج، بعد كتاب المبادئ الرياضية، في اتجاه المشكلات الفلسفية التي يثيرها العلم المعاصر، وانتهي به المطاف إلى الميتافيزيقا. وفي عام 1924م بدأ طريقا يكاد يكون جديدا كل الجدة، بعد أن عين أستاذا للفلسفة في هارفارد. وفي كثير من الأحيان نجد كتاباته التي تنتمي إلى السنوات المتأخرة من حياته شديدة الغموض عسيرة الفهم. وعلى الرغم من أن وصف أي كتاب بأنه صعب ليس في ذاته نقدا بالطبع، فلا بد أن أعترف بأن التأملات الميتافيزيقية لهوايتهد تبدو في نظري غريبة إلى حد ما، ومع ذلك فسأحاول أن أتحدث عنها بإيجاز.
إن هوايتهد يرى أن علينا، لكي نفهم العالم، ألا نتابع تراث جاليليو وديكارت، الذي يقسم عالم الواقع إلى صفات أو كيفيات أولية وثانوية. فمثل هذا الطريق لا يوصلنا إلا إلى صورة تشوهها المقولات العقلانية، بل إن العالم يتألف من مجموعة لا نهائية من الأحداث العينية التي يبدو أن كلا منها يذكرنا بمونادة ليبنتس. ولكن الأحداث، على خلاف المونادات، وقتية وتتلاشى لكي تفسح الطريق لأحداث أخرى. هذه الأحداث تحدث على نحو ما للأشياء، وهكذا نستطيع أن نشبه مجموعات الأحداث بصيرورة هرقليطس، والأشياء بأفلاك بارمنيدس. وبطبيعة الحال فإن هذه، إذا ما أخذت منعزلة، كانت تجريدات، ولكنها في عملياتها الفعلية ترتبط فيما بينها ارتباطا لا ينفصم.
أما عن الاتصال الفعلي بالواقع، فيبدو أنه يحتاج إلى معرفة من الداخل، وإلى تقارب بين العارف وموضوع معرفته بحيث يصبحان كيانا واحدا وهنا نجد ما يذكرنا باسبينوزا، وقد ذهب هوايتهد بالفعل إلى أن كل قضية ينبغي أن ينظر إليها، آخر الأمر، في علاقتها بالنسق الشامل، ومن الواضح أن هذا شكل من أشكال المثالية المذهبية، وإن كان مختلفا إلى حد ما عن العناصر المثالية في فلسفة ديوي. فعلى حين أن تصور ديوي للكل والواحد يرتد إلى هيجل، نجد أن هوايتهد أقرب إلى المفاهيم العضوية في فلسفة شلنج المتأخرة.
هذه باختصار شديد، هي الموضوعات الرئيسية في ميتافيزيقا هوايتهد، وأنا لا أزعم لنفسي القدرة على معرفة المكانة التي سوف تكتسبها في تاريخ الفلسفة. غير أن ما له أهمية مباشرة هو الطريقة التي ينبثق بها، في هذه الحالة، مذهب ميتافيزيقي، بصورة مباشرة، من الانشغال بمشاكل عامة في العلم. ولقد رأينا شيئا كهذا يحدث بين الفلاسفة العقليين في القرن السابع عشر، وبين المثاليين في القرن التاسع عشر، وهكذا فإن النظرية العلمية، بقدر ما تحاول أن تضم العالم كله، تستهدف غاية مشابهة لغاية الميتافيزيقا، وما يختلف فيه العلم هو إحساسه الأشد حدة بالمسئولية تجاه الوقائع الصلبة العنيدة.
إذا كان من الممكن أن يقال عن القرن التاسع عشر إنه أحدث في العالم تغييرا يفوق ما أحدثته أية فترة أخرى حتى ذلك الحين، فإن هذا الحكم يصدق أيضا على السنوات الستين الأخيرة، التي كان التحول فيها أشد؛ فقد كانت الحرب العالمية الأولى تمثل نهاية عصر كامل.
كانت الفكرة المحورية التي ظل الناس يستوحونها قبل ذلك بأجيال عديدة هي فكرة التقدم، فقد بدا أن العالم يسير نحو وضع أفضل وأكثر تحضرا، تكون فيه أوروبا الغربية هي السيد المعطاء، ويكون فيه بقية العالم معتمدا عليها سياسيا وتكنولوجيا. ولقد كان لهذه النظرة إلى العالم ما يبررها في نواح معينة، فمن المؤكد أن الغرب كان هو المهيمن سياسيا، كما كانت الصناعة تضمن له سيطرة في القوة المادية. كل ذلك كان يسانده شعور هائل بالثقة بالنفس، وإحساس بأن الله يقف إلى جانب التقدم. ولقد أدى نمو المجتمع الصناعي إلى زيادة سريعة في السكان، فتضاعفت أعدادهم خمس مرات خلال قرن واحد في إنجلترا، دون أن تتحقق برغم ذلك تنبؤات مالثوس المتشائمة. بل لقد كان الأمر على عكس ذلك؛ إذ إن قدرة المجتمع الصناعي على تذليل مصاعبه الأولى أدت إلى مزيد من اليسر في أسلوب حياة المجتمع بوجه عام.
ونتيجة لهذه التغيرات شاع إحساس بالتفاؤل والثقة بالمستقبل، وهو إحساس لم يعد له نفس هذا القدر من الرسوخ، على وجه العموم، منذ ذلك الحين، ولقد كانت كافة الاتجاهات العقلية في القرن الماضي تشارك في هذا التفاؤل العام، لمذهب المنفعة، والبرجماتية، والمادية، كلهم كانوا متشبعين به، وربما كان أبرز الأمثلة هو النظرية الماركسية، التي نجحت في الاحتفاظ بإيمانها بحتمية التقدم حتى في الوقت الحاضر، وبذلك كانت هي النظرية السياسية الوحيدة التي تمكنت من المحافظة على اعتقادها على الرغم من الاضطرابات التي تفشت في العالم منذ ذلك الحين. وهكذا يمكن القول إن الماركسية، في اتجاهها القطعي الجامد، وفي نظرتها الطوباوية، هي أثر من آثار القرن التاسع عشر.
في مناخ التقدم هذا، بدا للناس أن العالم مرتكز على أسس راسخة. ولم تكن هذه الفكرة المسبقة تصبغ تفكير أولئك الذين كانت حالتهم المادية تسمح لهم باتخاذ مثل هذا الموقف التفاؤلي فحسب، بل إن المستضعفين بدورهم شعروا بأن مصيرهم يمكن أن يتحسن، وسوف يتحسن، وهو على أية حال أمل لم يخب مع مضي الوقت، وأدى توفير التعليم الشامل إلى إيضاح الطريقة التي يستطيع بها الناس تحسين أوضاعهم؛ إذ كان في استطاعة من لا يملكون مزايا المركز الاجتماعي، في مثل هذا المجتمع الجديد، أن يعلوا على مركزهم بالمعرفة والقدرة.
كان هذا العنصر التنافسي شيئا جديدا في الميدان الاجتماعي، وبالطبع فإن المنافسة بين التجار كانت قديمة قدم التجارة ذاتها، ولكن الفكرة القائلة إن الناس يستطيعون تحسين أوضاعهم بجهودهم الخاصة كانت فكرة أحدث عهدا بكثير، ففي العصور الوسطى كان الجميع يسلمون بأن المرء يرتكب خطيئة لو حاول أن يتدخل في نظام قضت به المشيئة الإلهية، ولكن مفكري عصر النهضة تشككوا في هذه الآراء القديمة، على حين أن القرن التاسع عشر قضى عليها قضاء مبرما.
وبطبيعة الحال فإن الأوضاع التي نصفها ها هنا لا تنتمي إلا إلى مناطق العالم التي أصبح للتصنيع فيها موطئ قدم، وهي تشمل إنجلترا وبعض أجزاء أوروبا الغربية. وينبغي أن نذكر أن هذه المناطق لا تمثل إلا جزءا صغيرا من سكان المعمورة، لذلك كان التأثير الذي مارسته هذه البلاد على التاريخ العالمي نتيجة لتقدمها الزائد، أعظم بكثير مما يتناسب مع حجمها. ولكن هذا بدوره ليس شيئا جديدا بالنسبة إلى أحوال البشر، فقد كانت الإمبراطورية الفارسية القديمة، من حيث الحجم، أضخم بكثير بالقياس إلى اليونان، ولكن تأثيرها كان ضئيلا.
لقد بدا أن من الممكن، بالنسبة إلى من عاشوا في هذه الفترة وتأثروا بفكرة التقدم، وضع خطط للمستقبل بثقة تامة، فقد كانت الأوضاع مستقرة إلى الحد الذي يبرر للناس أن يتأملوا مستقبل حياتهم بنظرة شاملة. وفي الوقت ذاته كانت هذه الخطط مسألة شخصية تماما، ففي استطاعة المرء أن يكتسب مكانة واستقرارا عن طريق جهوده الشخصية الدائبة. أما الموقف إزاء المستضعفين، فكان يتخذ طابع الإحسان والمساعدة الخيرية التي يقدمها مواطنون كرماء شاعرون بالمسئولية. ومن الغريب حقا أن بسمارك كان هو الذي اتخذ أولى الخطوات في سبيل توفير الرعاية الاجتماعية، إذ استحدث شكلا من أشكال التأمين الصحي للعمال لكي يسحب البساط من تحت أقدام خصومه الاشتراكيين.
ومن السمات الأخرى البارزة لهذه الفترة، نظرتها التي كانت في عمومها ليبرالية إلى السياسة، فقد كان من المسلم به أن الحكم نشاط هامشي، مهمته الفصل بين المصالح المتعارضة، ولم يكن يخطر ببال أحد أن تتدخل الحكومة في إدارة الصناعة أو التجارة. وإذا كنا نرى الحكومات ذاتها، في أيامنا هذه تدير أنواعا شتى من المؤسسات الاقتصادية، فقد جاء ذلك نتيجة لتأثير الماركسية على نظرتنا العامة إلى المسائل الاجتماعية. أما حرية التنقل فكانت طليقة تماما في معظم أرجاء أوروبا، وإن كانت روسيا تمثل عندئذ كما هي الآن، استثناء من هذه القاعدة. فقد كان في وسعك أن تسافر في أي مكان في أوروبا الغربية دون أي نوع من الأوراق إلا في إمبراطورية القيصر، حيث كان جواز السفر ضروريا. ولكن ينبغي أن نلاحظ أن الناس لم يكونوا يسافرون عندئذ بنفس المعدل الحالي، نظرا إلى ضخامة النفقات، مما قيد حركة الأشخاص الأقل ثراء. أما القيود التي أصبحت تفرض منذ ذلك الحين فتدل على مدى انهيار الثقة بين الدول.
وفي الميدان السياسي تمتعت أوروبا منذ عام 1875م بحوالي خمسين عاما من السلام، ولكن هذه الحالة السعيدة لم تكن سائدة في العالم كله؟ إذ كانت هناك حروب استعمارية في إفريقيا، وفي الشرق الأقصى لقيت روسيا هزيمة على يد اليابان، التي خطت خطوات سريعة في محاولتها استيعاب حضارة الغرب التكنولوجية. ومع ذلك فقد بدا العالم في نظر من يعيش في أجزائه الغربية، مكانا هادئا آمنا إلى حد معقول.
كان هذا هو الوضع إلى ما قبل ستين عاما فقط. وحين يعود المرء بنظره إلى هذه الفترة، يشعر بأن الناس كانوا في ذلك العصر يعيشون في عالم من الأحلام.
ولكن هيكل القيم والأفكار المسبقة قد انهار كله بقيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918م). فعلى الرغم من ازدياد الوعي القومي خلال القرن التاسع عشر، فإن الاختلافات بين الدول لم تخف حدتها، وأدى ذلك خلال فترة الحرب هذه إلى إغراق العالم في بحر من الدماء لم يعرف له حتى ذلك الحين مثيلا. واقترن بهذه الكارثة انهيار للثقة في التقدم، ونمو لجو من الشك والارتياب لم يفق منه العالم تماما حتى وقتنا هذا.
أما من الناحية التكنولوجية الخالصة فإن الحرب العالمية الأولى أظهرت إلى أي حد تجاوز التقدم في الأسلحة كل الأفكار التكتيكية للعسكريين. وكانت النتيجة مذبحة هائلة غير حاسمة أضعفت أوروبا الغربية إلى حد كبير. ولقد كان الوضع الضعيف وغير المستقر لفرنسا منذ عام 1918م هو إلى حد بعيد من نتائج الجرح الغائر الذي أصابها عندئذ، وفي الوقت ذاته بدأت الولايات المتحدة تلعب دورا متزايد الأهمية في الشئون العالمية. ومن جهة أخرى قامت الثورة البلشفية في روسيا، ومكنتها من بناء مجتمع صناعي جديد أقوى بكثير مما كانت عليه إمبراطورية القيصر في أي وقت. أما تلك المشاعر القومية التي كانت تفور تحت السطح منذ مؤتمر فيينا، فقد وجدت الآن تعبيرا عنها في صورة الدول القومية الجديدة، التي كانت كل منها تنظر إلى جارتها بعين الشك. وأصبحت حرية التنقل مقيدة بقيود لم تبدأ في الاختفاء مرة أخرى إلا في الأيام الأخيرة.
وعلى الرغم من ذلك كله، فقد أصبح من الواضح أن الاقتتال الداخلي بين الأمم الأوروبية كان كفيلا بأن يهدد، منذ ذلك الحين، بقاء الحضارة الغربية ذاتها. وكانت هذه هي القوة الدافعة الرئيسية من وراء إنشاء عصبة الأمم في 1919م. وكان من أقوى أنصار هذه المحاولة التي بذلت من أجل إرساء أسس التعاون السلمي بين الأمم، الرئيس ولسون، رئيس الولايات المتحدة، ولكن اقتراحاته لم تلق في النهاية تأييدا من بلده ذاته، مما كان له دور كبير في إضعاف مركز عصبة الأمم منذ بداية نشأتها، ومن ناحية أخرى فقد أدت هزيمة ألمانيا إلى رد فعل تمثل في إحياء روح قومية أشد شراسة وتصلبا من أية حركة ظهرت من قبل. وهكذا أدت دكتاتورية الاشتراكية الوطنية في ألمانيا إلى نشوب الحرب العالمية الثانية بعد عشرين عاما من إنشاء عصبة الأمم، وفاقت هذه الحرب في مداها وتخريبها أية حرب أخرى في التاريخ؛ ذلك لأن استخدام تكنولوجيا أكثر تفوقا في التسليح، ونشوب الصراع بين إيديولوجيات شديدة التعارض، كل ذلك حول الحرب بين الجيوش إلى حرب شاملة، أثرت مباشرة في المدنيين بقدر ما أثرت في العسكريين. وشهدت الحرب الذرية أول استخدام صارخ لها في اليابان. والواقع أن هذا الإنجاز الذي لا يفوقه إنجاز آخر في القوة التدميرية. أدى في وقتنا الحالي إلى وضع إمكانية التدمير الذاتي في متناول يد الإنسان. وسوف تثبت الأيام إن كنا حكماء إلى حد مقاومة هذا الإغراء. والمأمول أن تنجح هيئة الأمم، التي حلت محل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، في الحيلولة بين البشر وبين تفجير بعضهم البعض إلى حد الفناء التام.
لقد كانت القوتان الرئيسيتان اللتان أعطتا قوة دافعة خاصة للتطور التكنولوجي، طوال التاريخ، هما التجارة والحرب، وهذا ما أثبتته الأحداث الأخيرة بصورة صارخة. فقد أدى تقدم الهندسة الإلكترونية وهندسة الاتصالات إلى ما يطلق عليه الآن اسم الثورة الصناعية الثانية، وهذه الثورة تقوم الآن بتحويل العالم أمام أعيننا بصورة أشد ثورية حتى من الثورة الصناعية الأولى، التي كان قوامها الآلة البخارية.
وبالمثل طرأت على وسائل المواصلات تغييرات لم يكن أحد يحلم بها حتى القرن الماضي، ذلك لأن أساليب السفر لم تتغير إلا تغيرا طفيفا منذ العصر الروماني حتى اختراع السكك الحديدية. ولكن، منذ ذلك الحين، حول الإنسان أسطورة إيكاروس إلى حقيقة. فقبل مائة عام فقط بدا من الأمور المغرقة في الخيال أن يكون المرء قادرا على أن يدور حول العالم في ثمانين يوما، أما اليوم فقد أصبح ذلك ممكنا في نفس العدد من الساعات.
هذه التطورات البعيدة المدى قد تجاوزت أحيانا، في تلاحقها، قدرة الإنسان على التكيف مع الأوضاع الجديدة المحيطة به، فمن الملاحظ أولا أن الصراعات الدولية الهائلة قد أسهمت في القضاء على الإحساس بالأمان، الذي ساد في القرن السابق. إذ لم يعد من الممكن التطلع إلى المستقبل بنظرة بعيدة المدى كما كانت الحال من قبل، وفي الوقت ذاته فإن ممارسات الدول أخذت تتعدى بشدة على حرية التصرف التي كان يتمتع بها الأفراد من قبل. ولهذه الظاهرة أسباب متعددة أولها أن التعقيد المتزايد للحياة الاقتصادية في البلدان الصناعية جعلها شديدة الحساسية لكافة أنواع القلاقل والاضطرابات، ولو قارنا مجتمعنا الحالي بالعصور الوسطى لوجدناه أقل منها استقرارا بكثير؛ ولذا كان من الضرورة ممارسة قدر من السيطرة على القوى التي تستطيع الإخلال بسياسة الدولة. ومن جهة أخرى فقد أثيرت مشكلة إحداث نوع من التأثير المتوازن لتعويض أثر التقلبات التي تحدث حتميا، مما يستتبع تدخل الدولة في المسائل الاقتصادية، وثالثا فإن فقدان الأمان الذي تحقق على نحو مستقل، أصبح يعوضه الآن إلى حد ما، تلك الخدمات التي تقدمها الدولة. هذه التغيرات ليست لها إلا علاقة واهية جدا بالنظام السياسي لبلد ما، وإنما هي تتوقف أساسا على تكنولوجية حضارتنا، بل إن من الملفت للنظر حقا مدى تشابه البلاد ذات الأنظمة الشديدة الاختلاف في هذه الأمور.
ولقد أدى الضغط الرهيب للتنظيم في حياتنا الحديثة إلى ظهور تيارات جديدة من الفكر اللاعقلي في الفلسفة، ويمكن أن تعد هذه الانبثاقات بمعنى معين، رد فعل على فلسفات القوة التي استوحتها أنظمة الحكم الاستبدادية المعاصرة، وهي أيضا تمثل تمردا على الخطر الذي يعتقد أن العلم يهدد به الحرية الإنسانية.
ويتمثل التيار اللاعقلي الرئيسي في الفلسفة، في إعادة إحياء نظريات وجودية كان لها في الآونة الأخيرة دور أساسي في الفلسفة في فرنسا وألمانيا، وسوف ننتقل بعد قليل إلى إبداء بعض التعليقات الموجزة على هذه النظريات التي ينبغي أن نلاحظ أنها شديدة التباين إلى حد أنها كثيرا ما يتعارض بعضها مع البعض.
ولقد اقترن إحياء النظريات الوجودية، في داخل القارة الأوروبية، بعودة إلى المتيافيزيقا التقليدية، أما في بريطانيا فقد أخذت الفلسفة في الفترة الأخيرة تسير في الاتجاه اللغوي، بحيث إن الفجوة بين الفلسفة داخل القارة والفلسفة الإنجليزية لم تصبح في أي وقت بهذا القدر من الاتساع الذي أصبحت عليه الآن. بل إن كل طرف لم يعد يعترف بأن ما يقوم به الطرف الآخر يستحق بالفعل اسم الفلسفة.
هذا، بإيجاز شديد، هو إطار المسرح الفلسفي المعاصر. وحين يغامر المرء برسم تخطيط عام لا يتعرض لخطر التشويه فحسب، بل أيضا للافتقار إلى المنظور، وهو أمر لا علاج له، ومع ذلك يمكننا أن نشير إلى نتيجة واحدة هامة: فالشيء الذي أتاح للحضارة الغربية من قبل أن تسيطر على العالم هو تكنولوجيتها، مقترنة بالتراث العلمي والفلسفي الذي أدى إلى ظهورها، ولا تزال هذه القوى تبدو مسيطرة في الوقت الحاضر، وإن لم يكن هناك في طبيعة الأشياء ما يحتم أن يظل الأمر على هذا النحو. فمع امتداد المهارات التكنولوجية التي طورت في الغرب إلى سائر أرجاء العالم الحالي، يمكن أن تهبط مكانة الغرب من مستواها الرفيع.
إن الفلسفة الوجودية داخل القارة الأوروبية هي في جوانب معينة أمر محير. بل إن من الصعب أحيانا أن يرى المرء فيها أي شيء يمكن التعرف عليه بوصفه فلسفة بالمعنى التقليدي. ومع ذلك يبدو أن نقطة البداية العامة التي تشترك فيها الحركة بأسرها هي النظر إلى المذهب العقلي في الفلسفة على أنه عاجز عن تقديم تفسير سليم لمعنى الوجود الإنساني. فالعقلاني حين يستخدم نسقا من المفاهيم، يقدم أوصافا عامة لا تلتقط المذاق المميز للتجربة الإنسانية الفردية. وهكذا عاد الوجوديون، من أجل التغلب على هذا الإخفاق الظاهر، إلى ما كان كيركجور قد أسماه بالأحوال الوجودية للتفكير، فالعقلانية، إذ تتناول العالم من الخارج، لا تعطي التجربة الحية في طابعها المباشر حقها، بل ينبغي أن تدرك هذه التجربة من الداخل. مثل هذا المأزق يمكن أن يعالج على أنحاء متباينة. فقد يشعر المرء بالميل إلى القول بأن الحياة الإنسانية بلا معنى أو دلالة، إذا فهمت هذه الكلمات بالطريقة المطلوبة في مثل هذه التأملات النظرية. فهدف الحياة هو أن نحياها بأكثر الطرق طرافة وتشويقا، وكل ما عدا ذلك من الأهداف إنما هو أوهام، وفضلا عن ذلك فهناك ضعف أساسي في نفس تصور أحوال الفكر الوجودية: فإذا فكرت في وجود أي شيء وجب عليك أن تفكر في شيء من نوع معين، أما الوجود وحده وفي ذاته فهو تجريد لا مهرب منه، وهذه نتيجة كان هيجل ذاته واعيا بها.
ولكن هذه حجج متكلفة. إنها صحيحة بلا شك، ولكنها خليقة بأن تخفي عنا ما يريد هؤلاء المفكرون قوله. لذلك ينبغي أن ننظر إلى الوجودية نظرة أرحب، ونحاول أن نبين بإيجاز ما تريد أن تقوله.
إن فلسفة ياسبرز الوجودية، إذ تعترف بثلاثة أنواع من الوجود، تظل - على الرغم من رفضها القاطع للميتافيزيقا المثالية - محتفظة بعنصر من الجدل بالمعنى الهيجلي. ولقد وصل كارل ياسبرز
Karl Jaspers (1883-1969م) إلى الفلسفة من خلال اهتمام أسبق بعلم النفس، وبخاصة مشكلات علم النفس المرضي، وهكذا فإن الإنسان يحتل مركز دراساته الفلسفية. وبهذا المعنى نستطيع أن نصف وجوديته بأنها إنسانية، وهو الوصف الذي استخدمه سارتر للدلالة على اتجاهه الفلسفي الخاص. ولكن أقصى ما تقدمه الوجودية هو نزعة إنسانية ذاتية، في مقابل النزعة الإنسانية الموضوعية لعصر النهضة. لذلك كان استخدام الفلاسفة الوجوديين لتعبير سارتر مضللا إلى حد ما.
وفي نظرية الوجود عند ياسبرز نجد ثلاثة مفاهيم مختلفة، فهنالك في أدنى المستويات، العالم الموضوعي الذي هو هنالك فحسب. أي أن وجوده وجود هناك، يدرك موضوعيا من الخارج. وهذا العالم يغطي ميدان العلم في كافة جوانبه، ولكن هذا المستوى لا يصلح لجعل الذات تتعرف على وجودها الخاص، بل إن الوجود الموضوعي الذي يسري على الميدان العلمي هو عقبة في طريق الإحساس بهذا النوع الأعلى من الوجود، الذي يسميه ياسبرز «وجود الأنا» أو الوجود الشخصي. هذا الضرب من الوجود ليس مصدر المقولات العقلية التي تحكم عالم الوجود الموضوعي، بل إن وجود الأنا، أو الوجود الشخصي، يوصف دائما بأنه يشير إلى ما يتجاوز ذاته. ولن يكون المرء قد ظلم ياسيرز لو وصف هذه الفكرة بعبارات أرسططالية فقال إن الوجود الشخصي ينطوي في ذاته على رصيد لا حدود له من الإمكانات
. وفي سعي الأنا إلى تجاوز ذاته، يتوافق مع نوع ثالث من الوجود، يمكن تسميته بالمتعالي، وهو وجود في ذاته يشمل النوعين السابقين معا، وعلى الرغم من أن ياسبرز لا يضع لنفسه أهدافا كتلك التي كان يستوحيها المثاليون، فمن الواضح كل الوضوح أن ضروب الوجود الثلاثة عنده هي نموذج جيد للمسار الجدلي، وبهذا القدر ينبغي أن تكون داخلة على نحو ما في نطاق المعقول. وهذه كما رأينا من قبل، صعوبة كامنة في أية نظرية تهدف من حيث المبدأ إلى تقييد دور العقل. صحيح أن من حق مثل هذه النظرية أن تستشهد بحقائق مألوفة، كالقول إن الناس تحركهم الانفعالات مثلما يحركهم العقل، وربما أكثر منه. ولكن هذا ليس تقييدا للعقل. أما حين تصل إلى نظرية عقلية تحاول أن تهدم العقل ذاته، فعندئذ ينشأ تناقض لا سبيل إلى حله. ذلك لأن من الضروري الاستعانة بالعقل من أجل تفسير أي شيء على الإطلاق. وهكذا فإن إنكار قدرة العقل لا يمكن أن يعبر عنه بأية طريقة نظرية، بل يظل غير قابل للتعبير عنه، ويدفعنا إلى الصمت.
ويمكن القول إن الوجوديين أنفسهم قد اعترفوا بذلك إلى حد ما، ومن ثم كانوا أحيانا يحبذون الصمت، حتى ولو لم يكونوا قد مارسوه بأنفسهم. أما ياسبرز فقد كان واعيا بهذه الصعوبة، وحاول التخفيف منها بالقول إن العقل له أهميته في نهاية المطاف.
وعلى أساس هذا التقسيم للوجود، يرى ياسبرز أن العلم، الذي هو بالضرورة ذو طابع تفسيري، لا بد أن يخفق في التوصل إلى إدراك أصيل لحقيقة الواقع ... ذلك لأننا حين نسمح بوجود تمييز بين التفسير وموضوعه، نعترف ضمنا بهذا الإخفاق، والفكرة الضمنية هي أن كل القضايا إنما هي تشويه للوقائع، لمجرد أن القضية ليست هي الشيء الذي تتحدث عنه.
وهكذا فإن القضايا، نظرا لكونها متعلقة بشيء آخر، توصف بأنها غير مطابقة، وينبغي أن يلاحظ أن القضية تعد هنا غير مطابقة حسب طبيعتها ذاتها، وليس لأنها - كما تقول المثالية - تنعزل عن مجموعة القضايا الأخرى التي تكتسب القضية في داخلها معناها الكامل.
وفي رأي ياسبرز أن الفلسفة تنتمي إلى ميدان الوجود المتعالي، أو الوجود في ذاته، أو لنقل على الأصح إن الفلسفة هي الجهد الذي يبذله الفرد في محاولته أن يصل إلى التعالي، أما الحياة الأخلاقية للفرد فتقع ضمن دائرة الوجود الشخصي، ففي هذا المستوى يتفاهم الناس ويمارسون الشعور بالحرية. ولما كانت الحرية تقع خارج الإطار العقلي، فإننا لا نستطيع أن نقدم تفسيرا عقليا لها، وعلينا أن نكتفي بالاعتراف بمظاهرها في أحوال معينة، وهكذا يقول ياسبرز - مستعيرا تعبيرا من كيركجور - إن شعورنا بأننا أحرار يرتبط بحالة معينة من الجزع أو القلق، ونستطيع أن نقول، بوجه عام، إنه إذا كان العقل هو الذي يسود على مستوى الوجود - هناك فإن الأحوال الداخلية هي التي تسوء على مستوى الوجود الشخصي.
وعلى حين أن وجودية ياسبرز، على المستوى المتعالي، تعمل حسابا للدين، كما كانت الحال في وجودية كيركجور، فإن أعمال هيدجر (ولد عام 1889م)،
3
التي كانت الميتافيزيقا تحتل فيها موقعا أهم، تسير في اتجاه مختلف كل الاختلاف، والواقع أن فلسفة هيدجر، التي استخدمت مصطلحات غاية في الغرابة، تتسم بالغموض الشديد، بل إن المرء يضطر إلى القول إن اللغة هنا تسير بلا ضابط. ومن النقاط الطريفة في تأملاته، تأكيده أن العدم شيء إيجابي، وتلك ملاحظة نفسية حورت بحيث تبدو قضية منطقية، كما يحدث في حالات كثيرة بين الوجوديين.
وفي فرنسا كانت الحركة الوجودية أوثق ارتباطا بالأدب، وكان أشهر ممثليها هو سارتر (ولد عام 1905م)،
4
الذي كتب روايات إلى جانب دراسة فلسفية كبرى، وقد عرض في رواياته قدرا كبيرا من أفكاره الوجودية من خلال شخصيات تواجه ذلك النوع من الدعوة إلى الفعل، الذي هو جانب عظيم الأهمية من جوانب الوجودية. ويتيح الشكل الروائي الأدبي أفضل وسيلة لعرض التأملات المتعلقة بمحنة الإنسان.
ويسير سارتر إلى نهاية الشوط في الفكرة الوجودية المتعلقة بالحرية الإنسانية. فالإنسان يختار مصيره على الدوام. وليس في حياة الفرد أي ارتباط بالتراث الماضي أو الأحداث السابقة. وهكذا يبدو كل قرار جديد وكأنه يقتضي نوعا من الالتزام الشامل. أما الذين يخافون من هذه الحقيقة الأليمة فإنهم يحاولون الاحتماء بالتبريرات التي يضفونها على العالم، وهو أمر يشترك فيه رجل العلم مع المؤمن بالدين: فكلاهما يحاول الهروب من الواقع، ولكنهما معا يرتكبان، في رأي سارتر، خطأ مؤسفا. فالعالم ليس على النحو الذي يصوره به العلم، أما الرب فهو في رأي سارتر قد مات منذ عصر نيتشه.
5
والواقع أن الشخص الذي لديه استعداد لمواجهة العالم على ما هو عليه يذكرنا بالبطل عند نيتشه، فمن هذا المصدر استمد سارتر خروجه عن الإيمان الديني.
إن ما تنصب عليه معارضة سارتر هو مفهوم الضرورة العقلاني، كما نجده عند ليبنتس واسبنيوزا ، وكما توارثه الفلاسفة المثاليون. وينبغي أن نذكر أن هؤلاء المفكرين كانوا يرون أن كل ما يوجد يمكن أن ينظر إليه من حيث المبدأ على أنه ضروري، بشرط أن تكون نظرتنا واسعة بما فيه الكفاية. عندئذ لا يكون هناك مفر من أن تتخذ فكرة الحرية الصورة التي نجدها عند اسبينوزا أو هيجل، أي أن تكون الحرية هي التمشي مع مسار الضرورة. ولكن حين يرفض المرء هذه النظرة إلى الحرية كما فعل سارتر تتوالى بقية النتائج من تلقاء ذاتها. فالنظرة العقلانية إلى الضرورة تسود، كما لاحظنا من قبل، في ميدان العلم النظري. لذلك ينبغي رفضها بمجرد أن نأخذ بفكرة الحرية الوجودية. وبالمثل ينبغي التخلي عن اللاهوت العقلاني، وإن كان يبدو أن سارتر قد ذهب إلى أبعد مما ينبغي في محاولته أن يربط هذا الموقف بالإلحاد. ذلك لأننا لو كنا أحرارا بالمعنى الذي يؤمن به سارتر، لكان في استطاعتنا أن نختار ما نشاء. والواقع أن المفكرين الوجوديين المختلفين قد اختاروا في هذه المسألة مواقف متباينة كما رأينا من قبل.
والحق أن الوجودية في نقدها للنظرة العقلية إلى الضرورة، تلفت أنظارنا إلى مسألة هامة، ولكن ما تقوم به ليس نقدا فلسفيا بقدر ما هو احتجاج انفعالي قائم على أسس نفسية. فتمرد الوجودية على المذهب العقلي منبثق من حالة شعور بالاضطهاد، وهذا يؤدي إلى موقف غريب وشخصي إزاء عالم الواقع يشكل عقبة في وجه الحرية. فبينما يرى العقلاني حريته في معرفة الطريقة التي تعمل بها الطبيعة، يجدها الوجودي في الاستسلام لحالاته النفسية الباطنة.
أما النقطة المنطقية الأساسية التي تكمن وراء هذا كله فترجع إلى نقد شلنج لهيجل. فالوجود لا يمكن أن يستنبط من مبادئ منطقية عامة. وهذا نقد يمكن أن يرحب به أي تجريبي متمسك بمذهبه. ولكننا بعد أن نصدر هذا الحكم، لا نحتاج إلى أن نضيف إليه شيئا. بل إنه ليبدو أن المرء يهدم هذا النقد السليم إذا ما استنبط على أساسه علم نفس وجوديا كما تفعل نظرية سارتر، ففي هذه النظرية نجد ملاحظات طريفة وقيمة في وصف حالات نفسية متنوعة، ولكن سلوك الناس وشعورهم على هذا النحو ليس نتيجة منطقية للحقيقة القائلة إن الوجود ليس له ضرورة منطقية، ولو سرنا في الاتجاه الآخر لكان معنى ذلك قبول قضية شلنج ورفضها في الآن نفسه، وعلى ذلك فبينما يحق لنا الاعتراف بصحة الملاحظات النفسية ودقتها، فإن هذه المادة لا يصح تحويلها إلى مبحث في الوجود (أنطولوجيا). ولكن هذا بالضبط هو هدف دراسة سارتر المسماة: «الوجود والعدم» وهو كتاب يتمشى تماما مع الطريقة الألمانية في التأليف، من حيث غموضه الشعري وغرائبه اللفظية. أما محاولته أن يحول موقفا خاصا من الحياة إلى نظرية أنطولوجية فتبدو خارجة عن المألوف في التراث الفلسفي، سواء أكان هذا التراث منتميا إلى المعسكر العقلي أم التجريبي. وهي أشبه بتحويل روايات دستويفسكي إلى كتب مدرسية في الفلسفة.
ولنلاحظ أن الوجوديين سيرفضون نقدنا، على الأرجح، على أساس أنه خارج عن الموضوع، قائلين إننا نستخدم في هذا النقد معايير عقلانية. فبدلا من أن نتصدى للمشكلات الوجودية، نتحرك في ميدان المنطق العقلي. وقد يكون الأمر كذلك بالفعل. ولكن من الممكن استخدام هذا الاعتراض ضد من يوجهونه؛ إذ إن هذا تعبير آخر عن القول إن أية معايير، مهما كان نوعها، تدور في إطار الميدان العقلي. وهذا ينطبق على اللغة بدورها ومن ثم كانت هنالك خطورة في استخدامها من أجل دعم النظريات الوجودية. وفي مقابل ذلك ففي وسع المرء بالطبع أن يكتفي بنوع من التدفق الشاعري يستخدمه كل شخص كما يشاء.
أما وجودية جابرييل مارسيل
Gabriel Marcel (1889-1973م) فهي على خلاف وجودية سارتر؛ ذات اتجاه ديني، وهي في ذلك تشبه نظريات ياسبرز إلى حد ما. ولقد تركز اهتمام مارسيل، شأنه شأن سائر المفكرين الوجوديين، على الفرد، وعلى تجربته العينية في مواقف إنسانية محددة. أما في ميدان الفلسفة بوجه عام، فإن ما يؤكده مارسيل هو الحاجة إلى تجاوز النوع العادي من التفكير، الذي يشرح ويحلل؛ فلكي نرى حقيقة الواقع بأكمل معنى، ينبغي أن نعيد تجميع تلك الشرائح الجزئية التي يوصلنا إليها تشريحنا العقلاني، وتتم عملية إعادة التركيب هذه عن طريق ما يسميه مارسيل بالتفكير ذي المرتبة الأعلى (الثانية) الذي يقصد به نوعا أعلى وأشد حدة وكثافة من التفكير، فعلى حين أن التفكير ذا المرتبة الأدنى (الأولى) موجه إلى الخارج، نجد أن هذا التفكير الأعلى، ذا المرتبة الثانية، ينعكس داخليا ليتأمل ذاته.
ومن المشكلات التي يهتم بها مارسيل، مشكلة العلاقة بين الجسم والذهن. وقد برزت هذه المشكلة نتيجة لانشغاله بمحنة الإنسان، كما تصيب الفرد في موقف واقعي معين. ويذكرنا النقد الذي وجهه إلى ثنائية ديكارت بنقد باركلي لأولئك الذين يخلطون بين الإبصار وبين علم البصريات الهندسي، ونستطيع أن نقول إن فصل الذهن عن الجسم يفترض مقدما صورة مجازية تنظر إلى الذهن على أنه يحلق على نحو ما فوق الشخص، ويرى نفسه والجسم على أنهما شيئان متميزان. هذه على ما يبدو، هي وجهة نظر مارسيل، وهي صحيحة إلى حد بعيد، غير أنه يربط حل المشكلة بممارسة التفكير التركيبي، على حين أننا نميل إلى القول بأن قليلا من التحليل اللغوي يكفي للكشف عن موضع الخطأ.
لقد كانت الوضعية التي ظهرت حوالي نهاية القرن الماضي ممثلة بمفكرين مثل ماخ، الذي تحدثنا من قبل عن أعماله في ميدان الميكانيكا. وخلال الأعوام العشرين التالية، نما بالتدريج اهتمام أوسع بالمنطق الرمزي. وقد أدى تجمع هذين العاملين إلى ظهور حركة جديدة كان محورها شليك
M. Schlick
الذي كان مثل ماخ، أستاذا في جامعة فيينا، ولذا أطلق على المجموعة التي كان يتزعمها اسم «حلقة فيينا» وأصبحت فلسفتهم تعرف باسم الوضعية المنطقية.
كان هذا المذهب، كما يدل اسمه، وضعيا في المقام الأول؛ فهو يرى أن العلم هو الذي يزودنا بمجموع معارفنا، وأن الميتافيزيقا بنمطها التقليدي، هي ثرثرة لفظية فارغة، فليس ثمة ما يمكن معرفته وراء التجربة. وفي هذا نجد بعض التشابه بينهم وبين أفكار كانت، إذا حذفنا منها الشيء في ذاته، ويقترن تأكيدهم للملاحظة التجريبية بالأخذ بمعيار للمعنى يرتبط إلى حد ما بالبرجماتية التي يطلقها العالم في مختبره خلال عمله اليومي. ويتمثل هذا المعيار في مبدأ مشهور هو مبدأ قابلية التحقيق، الذي يذهب إلى أن معنى القضية هو طريقة تحقيقها، وهذا المعني مستمد من ماخ، الذي طبق هذه الطريقة ذاتها في تعريف الألفاظ المستخدمة في الميكانيكا.
على أن الحركة الوضعية المنطقية التي بدأت في فيينا لم تستمر في المكان الذي ظهرت فيه؛ فقد قتل شليك في عام 1936م على يد واحد من تلاميذه، ووجد بقية أعضاء المدرسة لزاما عليهم أن يستقروا في مكان آخر بسبب القيود التي فرضها الاحتلال النازي، ولم يمض وقت طويل حتى رحلوا جميعا إلى أمريكا أو إنجلترا، وهكذا فإن كارناب
R. Carnap
قد توفي في لوس أنجلوس عام 1970م وفايسمان
Waissmann
في أكسفورد عام 1959م.
وتمشيا مع الاتجاه العام إلى التوحيد في لغة العلم، بدأت الحركة قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة في نشر أول بحث من السلسلة التي أصبحت تعرف باسم «موسوعة العلم الموحد»، وهي تنشر في مطبعة جامعة شيكاغو. وقد توفي أول رئيس تحرير لها، وهو أوتو نويرات
O. Neurath
بأكسفورد عام 1945م. وهكذا أعيد غرس الوضعية المنطقية من تربتها الأصلية إلى البلدان الناطقة بالإنجليزية، حيث ارتبطت مرة أخرى بالتراث القديم للتجريبية الإنجليزية، التي تدين لها بوجودها إلى حد ما. وكان أول ما لفت الأنظار إلى الوضعية المنطقية على نطاق واسع في إنجلترا هو كتاب آير
A. J. Ayer «اللغة والحقيقة والمنطق» (1936م).
لقد ساد الحركة الوضعية كلها احتقار للميتافيزيقا، واحترام للعلم. أما فيما عدا ذلك فكانت هناك فوارق ملحوظة في مسائل المنطق والمنهج العلمي، وقد أدى مبدأ قابلية التحقيق، بوجه خاص، إلى ظهور عدد من التفسيرات المتباينة. والواقع أن تاريخ الحركة يدور بالفعل حول المناقشة التي جرت بشأن أهمية هذا المبدأ ومكانته.
إن من الانتقادات الأولية الموجهة ضد النظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق، أنها تواجه نفس الصعوبة التي تواجهها نظرية الحقيقة عند البرجماتيين. فلنفرض أننا وجدنا طريقة ما للتحقق من صحة قضية، فإذا ما قدمنا عرضا وصفيا لهذا الإجراء، كان من حقنا أن نتساءل عن معنى هذا العرض ذاته، ويؤدي ذلك على الفور إلى تسلسل لا نهاية له، للمعاني التي ينبغي تحقيقها، ما لم نعترف في مرحلة ما بأن معنى القضية، ببساطة، واضح كالشمس. ولكننا إذا اعترفنا بذلك، كان معناه القضاء على المبدأ الأصلي، وكان من حقنا عندئذ أن نسلم بأننا نستطيع إدراك المعاني مباشرة على الفور.
ويواجه الموقف الوضعي صعوبة أخرى هي رفض كل تأمل فلسفي بوصفه لغوا. ومصدر الصعوبة هو أن نظرية قابلية التحقيق هي ذاتها نظرية فلسفية، وقد حاول شليك أن يتجنب هذه العقبة بالقول إن مبدأ قابلية التحقيق هو في الحقيقة متأصل في سلوكنا، وكل ما نفعله حين نعرضه بهذه العبارات هو أن نذكر أنفسنا بالطريقة التي نسير عليها بالفعل. ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، لكان المبدأ صحيحا في نهاية الأمر؛ ومن ثم فهو يحدد موقفا فلسفيا. ذلك لأن من المتفق عليه بين جميع الأطراف أنه ليس من قضايا العلم التجريبي.
وهنا نجد أن شليك يحاول تجنب التسلسل إلى ما لا نهاية في عمليات التحقيق المتعاقبة. فهو يرى أن المعاني تستمد في نهاية المطاف من تجارب تلقي الضوء على ذاتها، وتضفي بدورها معنى على القضايا. ولقد استهدف كارناب غاية مماثلة، عندما حاول أن يضع صيغة نسق منطقي شكلي يرد المشكلة الإبستمولوجية (المعرفية)، إلى أفكار بدائية تربط بينها علاقة أساسية وحيدة هي التعرف على التشابه.
هذه الطريقة في التصدي للموضوع ترتكز على تسليم ضمني بشكل من أشكال النظرية القائلة إن معيار الحقيقة هو التطابق.
6
وعيب هذه النظرية، من حيث تفسيرها لمشكلة المعرفة، هو أنها تقتضي منا أن نقف خارج الساحة التي تتم فيها المقارنة بين التجارب والقضايا، وقد أدرك نويرات، هذه الصعوبة، وأكد أن القضية لا يمكن أن تقارن إلا بقضية أخرى، فما يقدم دعما وتأييدا لقضية ما هو، في رأيه «قضية بروتوكولية»
(أي قضية أولية) يضعها على نفس مستوى القضايا التجريبية العادية؛ أي إنها لا تتسم بالضرورة. وقد اتخذ كارناب موقفا مماثلا، ولكنه رأى أن القضايا البروتوكولية هي نقاط لا تقبل الشك، وهو رأي تشتم منه رائحة المذهب الديكارتي. وفي كلتا الحالتين نجد أن هذه الطريقة في معالجة المشكلة تؤدي إلى نظرية تقول إن الحقيقة هي الترابط،
7
على طريقة العقليين التقليدية.
ولقد تحول اهتمام كارناب، آخر الأمر، إلى موقف مختلف كل الاختلاف إزاء المشكلة الرئيسية للفلسفة الوضعية المنطقية. فلو استطاع المرء اختراع لغة صورية مركبة بحيث لا يمكن أن تصاغ فيها قضية غير قابلة للتحقيق، عندئذ يؤدي الأخذ بمثل هذه اللغة، إلى تلبية جميع المطالب الوضعية؛ إذ سيكون مبدأ التحقيق جزءا لا يتجزأ من بنية النسق ذاته، غير أن هذه الطريقة في معالجة المشكلة غير كافية بدورها. ومن أسباب ذلك أن مسائل المعنى لا يمكن إرجاعها إلى تركيبات في البنية اللغوية، التي تتعلق بأساليب الربط بين الكلمات. وفضلا عن ذلك فإن بناء مثل هذا النسق يفترض ضمنا أن جميع الكشوف قد تم إنجازها من قبل. ففكرته من هذه الزاوية معادلة في بعض جوانبها لبناء النسق الهيجلي، الذي كان مبنيا على رأي مماثل هو أن العالم قد انتقل إلى مرحلته النهائية.
وهناك شخصية لها قدر من الأهمية بالنسبة إلى الوضعيين المنطقيين، رغم أن صاحبها لم يكن عضوا في حلقة فيينا، هي شخصية فتجنشتين
Wittgenstein . فقد كان لنظرياته المنطقية الأولى تأثير كبير على تفكير الوضعيين. ولكن التطورات المتأخرة، ذات الطابع اللغوي، التي طرأت على فكر فتجنشتين هي التي حولت الوضعية المنطقية في اتجاه جديد بمجرد أن أصبحت لها ركيزة في إنجلترا.
لقد تفرعت الحركة الوضعية عدة فروع متباينة، من أهمها مدرسة التحليل اللغوي التي سيطرت على الفلسفة الإنجليزية خلال العقود الأخيرة. وهي تشترك مع الوضعية المنطقية الأصلية في القول بأن جميع الإشكالات الفلسفية إنما نتجت عن الاستخدام الفضفاض للغة، وهكذا يرون أن كل سؤال صيغ على نحو سليم له إجابة واضحة دقيقة، ومهمة التحليل هي أن يبين أن المسائل الفلسفية، إنما تنشأ عن إساءة استخدام اللغة نتيجة للإهمال، وما إن يتم الكشف عن عناصر الغموض في هذه الأسئلة ويلقى عليها ضوء ساطع، حتى يتضح أن المشكلات لا معنى لها، وتتلاشى من تلقاء ذاتها، وهكذا فإن الفلسفة إذا ما استخدمت على النحو الصحيح، ينبغي النظر إليها على أنها ضرب من العلاج اللغوي.
ولنضرب لهذا المنهج مثلا بسيطا، وإن لم أكن أنا شخصيا أقبل الحجة المتعلقة بهذه المسألة؛ فكثيرا ما يحدث أن يتساءل شخص عن كيفية بدء كل شيء، فما الذي بدأ مسيرة العالم، ومن أية نقطة بدأ مساره؟ ولكن بدلا من أن نقدم إجابة، دعونا ندقق في صياغة السؤال. إن الكلمة المركزية في السؤال هي (البدء)، فكيف تستخدم هذه الكلمة في الحديث العادي؟ لكي نجيب عن هذا السؤال الفرعي، ينبغي أن ننظر إلى نوع الموقف الذي نستخدم فيه الكلمة عادة، فقد نتحدث عن حفل موسيقي قائلين إنه يبدأ في الساعة الثامنة، وقبل البداية ربما كنا قد تناولنا العشاء في المدينة، وبعد الحفل نعود إلى البيت، والشيء الهام الذي ينبغي ملاحظته هو أن الكلام عما حدث قبل البداية وبعدها كلام له معنى، فالبداية هي نقطة في الزمان تحدد مرحلة لشيء يحدث في الزمان، فإذا ما عدنا الآن إلى سؤالنا الفلسفي اتضح لنا على الفور أننا نستخدم فيه كلمة «البداية» بطريقة مختلفة كل الاختلاف؛ إذ ليس المقصود هنا أن يكون في وسعنا الكلام عما حدث قبل بداية كل شيء ، بل إننا حين نصوغ المسألة على هذا النحو، نستطيع أن ندرك جانب الخطأ في السؤال، فالسؤال عن بداية لا يسبقها شيء أشبه بالسؤال عن مربع دائري، وحين يتضح لنا ذلك سنكف عن طرح السؤال، لأننا ندرك أنه سؤال لا معنى له.
لقد تأثرت فلسفة التحليل في إنجلترا تأثرا كبيرا بلودفيج فتجنشتين (1889-1951م) الذي كان خلال إحدى المراحل متصلا بحلقة فيينا، وقد غادر بلاده، كبقية أعضاء الحلقة، قبل أن تتجمع سحب العاصفة الهتلرية في ألمانيا، وانتقل إلى الإقامة في كيمبردج، حيث عين أستاذا في عام 1939م عندما تقاعد ج. أ. مور
G. E. Moore
وكان الكتاب الوحيد الذي ظهر له خلال حياته هو «دراسة منطقية فلسفية
Tractatus logico-philosophicus » الذي نشر عام 1921م، في هذا الكتاب عرض الرأي القائل إن حقائق المنطق تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل
tautology ، بالمعنى الفني الذي استخدمه به، هو قضية يكون نقيضها مناقضا لذاته. وبهذا المعنى تكون كلمة «تحصيل حاصل» مطابقة بصورة عامة لكلمة تحليلي، أكثر شيوعا. وقد قادته اهتماماته في السنوات اللاحقة بعيدا عن المنطق، في اتجاه التحليل اللغوي. والمصدر الذي سجلت فيه آراؤه هو مذكرات محاضراته، ومجموعة أبحاثه التي نشرت بعد وفاته، والتي ظهر منها حتى الآن مجلدان. وليس من السهل تقديم وصف يلخص اتجاهاته بصورة مجملة، نظرا إلى أسلوبه الغريب الذي كان مستترا إلى حد ما. وربما كان التعبير المعقول عن الفكرة الأساسية في نظريته الفلسفية المتأخرة هو أن معنى أية كلمة هو طريقة استخدامها.
ولقد أدخل فتجنشتين، في معرض تقديمه لآرائه، تشبيه «الألعاب اللغوية» الذي يعني به أن الاستخدام الفعلي لجزء معين من اللغة هو أشبه بلعبة كالشطرنج مثلا، ولهذه اللعبة قواعد معينة ينبغي على كل من يمارسونها أن يراعوها، كما أن هناك قيودا معينة على الحركات المسموح بها، ويرفض فتجنشتين عالمه المنطقي السابق كما عرضه في الدراسة، رفضا تاما. فقد بدا له عندئذ أن من الممكن تحليل جميع القضايا إلى مكونات نهائية بسيطة لا تقبل مزيدا من التجزيء. ومن ثم كان يطلق على هذه النظرية أحيانا اسم «الذرية المنطقية»، وهي تشترك في الكثير مع نظريات أسبق منها عن المكونات النهائية البسيطة التي قال بها العقلانيون. وهذه الفكرة هي أساس جميع محاولات وضع لغة كاملة تعبر عن كل شيء بأقصى قدر من الدقة، أما في المرحلة المتأخرة فقد أنكر فتجنشتين إمكان إيجاد مثل هذه اللغة، فمن المستحيل أن نقضي على الخلط قضاء مبرما.
وهكذا فإننا حين نتعلم كيف نلعب عددا من الألعاب اللغوية المتنوعة، نكتسب معنى الكلمات عن طريق استخدامها ومن خلاله. وفي بعض الأحيان نعبر عن ذلك بطريقة أخرى فنقول إننا نتعلم «النحو» أو «المنطق» الخاص بكلمة معينة، وهو تعبير فني أصبح شائعا على نطاق واسع في التحليل اللغوي، وهكذا فإن إثارة المشكلات الميتافزيقية ينجم عندئذ عن نقص في إدراك «النحو» الخاص بالكلمات. ذلك لأننا بمجرد أن نفهم القواعد فهما صحيحا، لا تظل لدينا رغبة في طرح مثل هذه الأسئلة، بعد أن يكون العلاج اللغوي قد شفانا من هذه الرغبة.
لقد كان لفتجنشتين تأثير كبير في الفلسفة اللغوية. ومع ذلك فإن التحليل اللغوي قد سار في طرقه ودروبه الخاصة إلى حد ما، ونخص بالذكر ظهور اهتمام جديد بالتمييزات اللغوية بغض النظر عن أي علاج مفيد يمكن أن يسفر عنه ذلك. وهكذا ظهر نوع جديد من النزعة المدرسية وهو يخنق نفسه كما فعل سلفه القديم في العصر الوسيط في مسار ضيق. والشيء الذي تشترك فيه معظم تيارات التحليل اللغوي هو الاعتقاد بأن اللغة العادية كافية، وأن الإشكالات الفلسفية إنما تنشأ عن سوء الاستخدام. هذا الرأي يتجاهل حقيقة واضحة هي أن اللغة العادية تحتشد ببقايا النظريات الفلسفية الغابرة.
إن المثل الذي قدمناه من قبل يبين الطريقة التي ينبغي أن يفهم بها العلاج المرتكز على الاستخدام الشائع. فمن المؤكد أن هذا النوع من التحليل سلاح يفيد في التخلص من كثير من التعقيدات الميتافيزيقية المتشابكة الغامضة، ولكنه من حيث هو نظرية فلسفية، ينطوي على بعض نقاط الضعف. بل إنني لأعتقد أن الفلاسفة كانوا طوال الوقت يفعلون هذا الشيء على وجه التحديد، ولكن بصمت. وإذا كان الناس لا يعترفون بذلك اليوم فإن مرد هذا إلى نوع من ضيق الأفق العقلي الذي أصبح شائعا بيننا في الآونة الأخيرة. والأخطر من ذلك هو تمجيد اللغة العادية باتخاذها حكما في جميع المنازعات؛ إذ إنني لا أستطيع أن أدرك على الإطلاق لماذا لا تكون اللغة العادية ذاتها مليئة بالخلط. وأقل ما يمكن أن يقال هو أن النظر إليها كما لو كانت شكلا من أشكال مثال الخير، دون أن نتساءل ما هي اللغة، وكيف تنشأ وتعمل وتنمو، هذا كله أمر محفوف بالخطر. والافتراض الضمني هو أن اللغة كما تستخدم عادة تنطوي على نوع من العبقرية الرفيعة أو الذكاء الخفي، وهناك مسلمة أخرى، ترتبط بهذه على نحو غير مباشر، هي الاعتراف بإمكان تجاهل كل معرفة غير لغوية، وهو نعمة يستمتع بها أنصار هذا الاتجاه على نطاق واسع.
خاتمة
لقد وصلنا الآن إلى نهاية قصتنا، وربما تساءل القارئ الذي ظل يتابعنا حتى الآن عن الفائدة التي جناها مما قرأه. وإلى مثل هذا القارئ ينبغي أن نوجه كلمة تحذير: فقد ألفت مكتبات كاملة عن كل موضوع من الموضوعات الرئيسية التي تحدثنا عنها ها هنا، ولم يكن من الممكن أن نتناول في كتابة هذا المؤلف إلا نسبة ضئيلة من هذه المادة الغزيرة، ولا بد أن نعترف بأن تصفح كتاب واحد، مهما كان اتساع نطاقه، لم يسبق أن أدى في أية حالة إلى جعل القارئ خبيرا، بل إن أي قدر من القراءة الخالصة لا يمكن أن يؤدي إلى رفع مستوى فهم المرء لأي شيء، وإنما المطلوب، إلى جانب اكتساب المعلومات، قدر من التفكير المركز في المشكلات المتعددة التي اطلع عليها المرء من خلال هذه المعلومات، وهذا أيضا عذر نستطيع أن نبرر به تأليف كتب في تاريخ الفلسفة، حيث يوجد عدد هائل من الأبحاث التفصيلية التي ألفها المتخصصون حول كل مسألة تعالجها هذه الكتب. ذلك لأن القارئ غير المتخصص، بل والعالم المتخصص بدوره، يحتاج من آن لآخر إلى أن يبتعد عن التفاصيل ويتأمل المسائل من منظور شامل، ومن أجل ذلك يحتاج إلى عرض ليس مفرطا في الضخامة ولا مفرطا في التفصيل. والأهم من ذلك أن يكون عرضا نبع من عقل واحد. والواقع أن العرض الذي قدمناه ليس موسوعيا بالمعنى المباشر للكلمة؛
1
بل كانت هناك بالضرورة اختيارات للفلاسفة وللأفكار، وأقصى ما نأمل أن نكون قد حققناه هو تقديم موجز للاتجاهات العامة. وبالمثل فإن الخلفية التاريخية التي قدمناها شديدة التركيز والإيجاز، إذ إن هذا الكتاب لا يأخذ على عاتقه أن يعلم القارئ التاريخ، وإنما يحاول أن يذكره به من آن لآخر، بحيث لا يغيب عن ذهنه الإطار الذي تمت فيه الآراء الفلسفية، وفي الوقت ذاته يؤكد الكتاب استمرار التراث الحضاري للغرب منذ العصور اليونانية المبكرة حتى الوقت الراهن.
وربما سألنا قارئ عن السبب الذي حال دون إعطاء حيز، في تاريخ كهذا، لما يطلق عليه عادة اسم حكمة الشرق. وهناك إجابات متعددة نستطيع أن نقدمها عن هذا السؤال؛ أولها أن العالمين قد تطورا كل بمعزل عن الآخر، بحيث يمكن تقديم عرض يكون فيه الفكر الغربي مكتفيا بنفسه. وفضلا عن ذلك، فإن مجرد عرض الفلسفة الغربية هو في ذاته عمل غير هين، وقد اخترنا أن نقصر جهدنا عليه. ولكن هناك سببا أهم من ذلك، هو أن التراث الفلسفي الغربي يختلف في جوانب أساسية عن تأملات العقل الشرقي. فالحضارة اليونانية هي وحدها التي سارت فيها الحركة الفلسفية مع التراث العلمي جنبا إلى جنب. وهذا ما أضفى على الإنجاز اليوناني طابعه المميز، بل إن هذا التراث المزدوج هو الذي شكل حضارة الغرب.
ومن المهم أن نحدد موقفنا بوضوح من هذه العلاقة الخاصة، فمتابعة البحث العلمي في ميدان بعينه ليس هو والفلسفة شيئا واحدا، ولكن العلم أحد مصادر التفكير الفلسفي. وحين نبحث بوجه عام في معنى العلمية نخوض مشكلة فلسفية. فدراسة قواعد المنهج العلمي هي دراسة فلسفية. كما أن من المشكلات التي شغلت انتباه الفلاسفة على الدوام، محاولة تقديم عرض للعالم في سماته العامة. ولكن ينبغي علينا أن نحرص هنا على التمييز بين أمرين: فليس من أهداف الدراسة الفلسفية أن تقدم وصفا للوقائع على طريقة العلم. ولقد كان عدم مراعاة هذه القاعدة هو الذي أدى بالمثاليين من أصحاب المذاهب إلى أن يقعوا من آن لآخر في شطحات. أما الشيء الذي تستطيع الفلسفة تقديمه فهو طريقة في النظر إلى نتائج البحث التجريبي، وإطار لجمع الكشوف العلمية وفقا لنظام من نوع معين، وبقدر ما التزمت المثالية بهذه المهمة، كانت تتحرك في نطاق حدودها المشروعة. وينبغي أن نشير في الوقت ذاته إلى أننا حين نأخذ على عاتقنا ممارسة العلم، نكون نظرة فلسفية معينة إلى العالم؛ ذلك لأن ما نسميه بالموقف الطبيعي المألوف هو في الواقع نسيج من المسلمات الضمنية العامة عن طبيعة الأشياء. وربما كان أعظم مزايا الفلسفة النقدية هو أنها لفتت الأنظار إلى هذه الحقيقة. وعلى أية حال فمن المفيد أن نذكر أنفسنا بأن النظريات العلمية تهدف إلى أن تقرر شيئا يصدق على العالم، أيا كانت الأفعال النافعة التي قد تتيح لنا هذه النظريات أن نقوم بها. وهذه مسألة يغفلها أحيانا أولئك الذين لا يرون في النظريات أكثر من أنساق شكلية مجردة، مثلما يغفلون أن الأعداد تستخدم في الحساب.
إن العالم الذي هو موضوع للبحث ليس من صنعنا؛ بل إننا نحن الذين نصنع أخطاءنا وأوهامنا، وكثيرا ما نجد صعوبة في اكتشاف أننا على خطأ، غير أن ما يجعل اعتقاداتنا صحيحة ليس ما تبعثه فينا هذه الاعتقادات من راحة أو متعة. فقد يتصور شخص ما أن لديه موارد مالية غير محدودة، لأن هذا التصور يبعث فيه نوعا من الرضا. وهناك بالفعل أناس يتخذون هذا الموقف، ولكن مديري البنوك والمحاكم ليسوا مبالين إلى مشاركتهم هذه الآراء. إن نتائج البحث العلمي تكون أحيانا على خطأ، ولكن هذا لا يجعلها ذاتية؛ بل إن في وسعنا أن نلاحظ بقدر من الصواب، أن الخطأ يحتاج على الأقل إلى إنسان يرتكبه. أما الطبيعة ذاتها فلا يمكن أن تخطئ، لأنها لا تصدر أحكاما. فالناس هم الذين يقعون في الخطأ حين يصوغون قضايا وأحكاما، وربما كانت هذه الحقيقة واحدا من الدوافع الكامنة من وراء النظريات البرجماتية. ذلك لأن الخطأ إذا كان ذاتيا بمعنى أنه مرتبط بإنسان يرتكبه، وإذا لم يكن هناك أي ضمان ضد الخطأ، فقد يبدو أننا نظل دائما منغلقين داخل آرائنا الذاتية. ولكن هذا غير صحيح على الإطلاق. فالقول إن الأخطاء يمكن دائما أن تتسلل إلينا، يختلف كل الاختلاف عن القول إننا لا نكون أبدا على صواب. وإذا قلت عن شيء ما إنه كذا، حين يكون بالفعل كذلك، فإن حكمي في هذه الحالة لا يتسلل إليه أي عنصر ذاتي، وينطبق ذلك على حالة الخطأ أيضا. فإذا كنت مخطئا، فإن هذا الخطأ الذي أرتكبه هو حقيقة من حقائق العالم.
وهكذا فمن المهم أن نؤكد الطابع الموضوعي للبحث النزيه، والطابع المستقل للحقائق التي يستهدفها هذا البحث. أما أولئك الذين يؤكدون أن الحقيقة ذاتية قابلة للتشكل، فإنهم لا يتنبهون إلى أن هذا الرأي يجعل البحث العلمي مستحيلا، وهم فضلا عن ذلك يخطئون حين يعتقدون أن الباحث لا يمكنه أن يشبع حبه للاستطلاع بمعزل عن الربح أو المنفعة التي تجلبها كشوفه. صحيح أن قدرا كبيرا من البحث ليس من هذا النوع، ولكن بعضه كذلك، ولهذا فإن تاريخ العلم لا يمكن أن يفسر من خلال المفاهيم البرجماتية، بل إن احترام الحقيقة الموضوعية يمكن أن يكون كابحا لأوهام القوة اللامحدودة التي تنبثق عن التحيز الذاتي.
وهذا يؤدي بنا إلى المصدر الرئيسي الآخر للتأمل الفلسفي، فنحن لم نتحدث حتى الآن إلا عن العلم أو المبادئ العامة لأساليب العمل فيه، بوصفها موضوعا للدراسة الفلسفية، غير أن الإنسان، من حيث هو حيوان اجتماعي، لا يهتم فقط بكشف طبيعة العالم، بل إن من مهامه أن يسلك فيه. وإذا كان الجانب العلمي يعنى بالوسائل، فإننا هنا ندخل عالم الغايات، وهكذا فإن الطبيعة الاجتماعية للإنسان هي التي تضعه في مواجهة مشكلات أخلاقية. إن العلم يستطيع أن ينبئه بأفضل الطرق لبلوغ غايات معينة، ولكنه يعجز عن أن يقول له إن من واجبه أن يسعى إلى هذه الغاية المعينة دون غيرها.
ولقد رأينا من قبل أن هناك طرقا مختلفة في النظر إلى المشكلة الأخلاقية؛ فعند أفلاطون يسير العامل الأخلاقي والعامل العلمي جنبا إلى جنب، ويتم التوحيد بين الخير والمعرفة. والواقع أن الأمر لو كان كذلك بالفعل لكان فيه عزاء كبير، ولكن من سوء الحظ أن الرأي الأفلاطوني مفرط في التفاؤل، فقد يلجأ من يعرفون أكثر من غيرهم، إلى استخدام معرفتهم في أغراض شريرة، وعلى أية حال فمهما كان مقدار ما يعرفه المرء فإن هذا لن يؤدي في ذاته إلى حل مشكلة ما ينبغي عمله.
هذه إذن، هي المشكلة العامة للعقل والإرادة، فإذا رفضنا الرأي القائل إن الاثنين سيتطابقان لو بلغا مدى معينا، كان علينا أن نسلم، كما فعل أوكام، بأنهما مستقلان، ولكن هذا الاستقلال لا يعني بالطبع أن أحدهما لا صلة له على الإطلاق بالآخر، فالعقل يستطيع أن يقوم بدور التوجيه والضبط بالنسبة إلى الإرادة والانفعالات، وهو يقوم به بالفعل، ولكننا لو شئنا الدقة الكاملة لقلنا إن الإرادة هي التي تختار الغايات.
ومن نتائج هذه الحقيقة أننا لا نستطيع تقديم مبررات علمية للأهداف التي قد نسعى إليها، أو للمبادئ الأخلاقية التي نسير وفقا لها. فلن يمكننا أن نبدأ تقديم الحجج إلا إذا سلمنا منذ البدء بمقدمة أخلاقية ما، وهكذا فقد يسلم المرء بأن أفعاله ينبغي أن يكون من شأنها المحافظة على المجتمع الذي يعيش فيه، أو قد يقول إن أفعاله ينبغي أن تساعد على إحداث تغيير في النظام الاجتماعي. وسواء أكانت المقدمة الأخلاقية المسلم بها هي هذه أو تلك فمن الممكن، على هذا الأساس، تقديم حجج لإثبات السبب في ضرورة اتباع هذا المسلك أو ذاك، والمهم في الأمر هو ملاحظة أننا، ما لم تكن لدينا مقدمة مسلم بها، تنطوي على معنى «الوجوب
ought »، فلن نستطيع أن نستخلص نتيجة تدلنا على ما ينبغي عمله.
على أن من الواضح أن المطالب الأخلاقية يمكن أن تتباين من شخص لآخر، بل إن من المسلم به أن الناس كثيرا ما يختلفون حول هذه الأمور . عندئذ يثار السؤال حول إمكان الاهتداء إلى مبدأ أخلاقي يسري على نحو شامل. ويقتضي ذلك ألا يكون المطلب متوقفا، من أجل إمكان قبوله، على الشخص الذي يتقدم به، ومن ذلك نستنتج أنه إذا كانت هناك مبادئ أخلاقية ذات نطاق شامل فلا بد أن تنطبق على المجتمع الإنساني بوجه عام. وهذا لا يعني القول بأن الناس جميعا متساوون في كل شيء، لأن من الحمق أن نقول بذلك، ما داموا بالفعل غير متساوين؛ إذ يختلفون في قدراتهم واتساع آفاقهم، وفي أمور كثيرة أخرى. ولكننا طالما كنا بصدد الأحكام الأخلاقية فلن يكون من حقنا أن نقصرها على فئة معينة من الناس، فإذا قلنا مثلا إن على الإنسان أن يسلك بأمانة، فإن هذا لا يتوقف على حجم أو شكل أو لون أولئك الذين يتعامل معهم مثل هذا الإنسان. ومن هنا فإن المشكلة الأخلاقية تؤدي إلى ظهور مفهوم الإخاء بين البشر. وهذا رأي عبر عنه المذهب الرواقي الأخلاقي لأول مرة تعبيرا صريحا ثم وجد طريقه فيما بعد إلى المسيحية.
ويمكن القول إن معظم المبادئ التي ترتكز عليها الحياة المتحضرة تحمل هذا الطابع الأخلاقي. والواقع أننا لا نستطيع تقديم سبب علمي لإثبات أن من الشر معاملة الغير بقسوة متعمدة. فهذا أمر يبدو في نظري شرا، وأعتقد أنه يبدو كذلك في نظر أناس كثيرين. أما لماذا كانت القسوة شرا فهو أمر لست على ثقة من أنني أستطيع تقديم أسباب مرضية تعلله. فهذه مسائل صعبة يحتاج حسمها إلى وقت، وربما أمكن الاهتداء إلى حل لها بمضي الزمن، ولكننا نود ممن يؤمنون بالرأي العكسي أن يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: هل آراؤنا في هذه المسائل مستقلة عن حقيقة كوننا نعتنقها؟ عندئذ قد يبدو أن ما يتوهمون أنه مبدأ أخلاقي عام لا يعدو في الواقع أن يكون دفاعا خاصا عن موقف ذاتي.
لقد ذكرت من قبل أنه، على الرغم من أن المبدأ الأخلاقي الأصيل لا يعمل حسابا لأشخاص بعينهم، فإن هذا لا يعني أن الناس جميعا متساوون. ومن النواحي التي توجد فيها اختلافات ملحوظة، المعرفة، التي لا أقصد بها مجرد المعلومات، وإنما المعرفة الدقيقة الواضحة. ولقد سبق أن رأينا أن سقراط يميل إلى التوحيد بين المعرفة والخير، وانتقدنا هذه النظرية على أساس أنها عقلانية أكثر مما ينبغي. ولكن هناك في هذا الصدد نقطة هامة لا ينبغي إغفالها، فقد اعترف سقراط صراحة بأن حصيلة المعرفة التي يمكن أن يتوصل إليها الإنسان ضئيلة للغاية. والأمر الذي يبدو له أهم، في نهاية المطاف، هو سعي المرء إلى المعرفة؛ فالخير هو البحث المنزه. وهذا مبدأ أخلاقي يرجع أصله إلى فيثاغورس، بل إن البحث عن حقيقة يعترف بأنها مستقلة عن الباحث كان، منذ أيام طاليس، هو القوة الأخلاقية الدافعة من وراء حركة العلم. وبالطبع فإن هذا الموضوع له صلة بالمشكلة الأخلاقية الناشئة عن حسن استخدام الكشف أو سوء استخدامه. ولكن على حين أن من الضروري مواجهة هذه المشكلة، فليس مما يساعدنا في فهم هذه الأمور أن نخلط بين هذه المسائل التي هي منفصلة ومتميزة تميزا تاما.
وهكذا يواجه الباحث مهمة مزدوجة: فمن واجبه من جهة أن يتابع الموضوعات المستقلة لدراسته بقدر المستطاع، وعليه أن يفعل ذلك سواء أكانت كشوفه ستؤدي إلى نتائج مريحة أم متعبة. فكما أن المبادئ الأخلاقية لا تعمل حسابا لأشخاص بعينهم، فإن نتائج البحث العلمي بدورها ليست ملزمة بمراعاة مشاعرنا. ومن جهة أخرى هناك مشكلة تحويل الكشف إلى نتيجة مرضية بالمعنى الأخلاقي.
وتبقى بعد ذلك المسألة الأخيرة: كيف ينبغي أن ننظر إلى هذا المبدأ الأخلاقي القائل إن السعي إلى الحقيقة خير في ذاته؟ ذلك لأن من الواضح أننا لسنا جميعا ممن يمتلكون القدرة على الاشتغال بالبحث العلمي. كما أنه ليس من الممكن في كافة المناسبات أن نرجئ الحكم على هذا الموضوع، إذ لا بد للناس أن يسلكوا مثلما يفكرون. غير أن هناك شيئا واحدا يستطيع الناس جميعا أن يفعلوه، هو أن يعطي المرء الآخرين حرية إرجاء الحكم في المسائل التي قد لا يكون هو ذاته على استعداد لوضعها موضع التساؤل. ولنلاحظ أن هذا يكشف عن مدى الارتباط بين البحث العلمي وبين الحرية، التي ينظر إليها على أنها نوع من الخير. فالتسامح شرط ضروري لأي مجتمع يراد للبحث العلمي أن يزدهر فيه. وحرية الكلام والفكر هما العاملان الحاسمان في إقامة مجتمع حر يتاح فيه للباحث أن يدع الحقيقة تقوده إلى أي اتجاه تشاء. وفي هذا الإطار يستطيع كل شخص أن يسهم في الخير الذي نحن بصدده ها هنا. ولا يعني هذا أن تكون لنا جميعا نفس الآراء في كل شيء، بل إنه يضمن ألا يسد أي طريق بقيود مصطنعة. ذلك لأن الحياة التي لا تخضع للفحص والاختبار هي في نظر الإنسان غير جديرة بأن تعاش.
2
ناپیژندل شوی مخ