حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
إن النظرية - كما عرفناها هنا - مستوحاة أساسا من أفكار فيثاغورية، كما ذكرنا من قبل، ومما يشهد على أنها لم تكن تعبر عن رأي أفلاطون الخاص في مرحلته المتأخرة والناضجة على الأقل، إن نظرية المثل قد هدمت أولا في المحاورات المتأخرة ، ثم اختفت كلية. فمهمة تفنيدها كانت من المحاور الرئيسية لمحاورة «بارمنيدس»، ولم يكن التقاء بارمنيدس وزينون مع سقراط أمرا مستحيلا على الإطلاق، بل إنه من الممكن أن يعد حقيقة تاريخية، وإن كان من المستبعد بالطبع أن يكون الحوار قد سجل ما قيل في هذا اللقاء، ومع ذلك فإن المتحدثين جميعا يتحدثون بطريقة تتمشى مع شخصياتهم، ويعبرون عن آراء تتفق مع ما نعرفه عنهم من مصادر مستقلة. ولنذكر أن بارمنيدس كان قد تأثر أيام شبابه بالفيثاغوريين، ثم فصم روابطه بتعاليمهم فيما بعد. ومن ثم فإن نظرية المثل لم تكن جديدة بالنسبة إليه، وكان من السهل أن يجد انتقادات جاهزة توجه إلى الصيغ التي عبر بها سقراط الشاب عن هذه النظرية.
يشير بارمنيدس أولا إلى أنه لا يوجد سبب معقول يدعو سقراط إلى أن يجعل للموضوعات الرياضية ولمفاهيم كالخير والجمال مثلا، بينما ينكر وجود مثل للعناصر المادية والأشياء الوضيعة، ويؤدي به ذلك إلى مسألة أخطر بكثير. فالصعوبة الرئيسية في نظرية الصور السقراطية هي العلاقة بين الصور والأشياء الجزئية؛ ذلك لأن الصورة واحدة والأشياء الجزئية كثيرة، ولقد حاول سقراط أن يقدم وصفا للرابطة بينهما مستخدما فكرة «المشاركة» غير أن من المحير حقا أن نرى كيف تستطيع الجزئيات أن تشارك في الصورة، فمن الواضح أن الصورة الكاملة لا يمكن أن تكون موجودة في كل شيء جزئي؛ لأنها لن تعود عندئذ صورة واحدة، أما البديل فهو يحتوي كل شيء جزئي على جزء من الصورة، ولكن معنى ذلك أن الصورة لا تعود تفسر شيئا.
غير أن هناك نقدا أشد من ذلك، فلكي يفسر سقراط الارتباط بين الصورة والجزئيات التي تندرج تحتها، كان عليه أن يدخل فكرة المشاركة، وهذه الفكرة الأخيرة نظرا إلى أنها تتمثل في حالات متعددة، هي بدورها صورة، ولكن يتعين علينا عندئذ أن نتساءل: كيف ترتبط هذه الصورة بالصورة الأصلية من جهة، وبالشيء الجزئي من جهة أخرى؟ إذ يبدو أننا نحتاج لذلك إلى صورتين أخريين، وهذا يؤدي بنا إلى تسلسل لا يتوقف أبدا؛ ففي كل مرة نحاول فيها أن نسد الثغرة عن طريق إدخال صورة، تنفتح أمامنا ثغرتان أخريان، وهكذا فإن سد هذه الثغرة هي مهمة هرقلية، لا مهرب فيها لهرقل. وتلك هي حجة «الرجل الثالث» المشهورة، التي سميت بهذا الاسم على أساس الحالة الخاصة التي تكون فيها الصورة التي نبحثها هي صورة الإنسان. ويحاول سقراط أن يتجنب هذه الصعوبة بأن يقترح بأن تكون الصور نماذج، وأن تكون الجزئيات مشابهة لها. ولكن هذا الاقتراح تسري عليه حجة «الرجل الثالث». وهكذا يعجز سقراط عن تقديم وصف للطريقة التي ترتبط بها الصور مع أمثلتها الجزئية، ولكن هذا أمر يمكن أيضا إثباته بطريقة مباشرة؛ ذلك لأننا سلمنا من قبل بأن الصور ليست محسوسة وإنما معقولة، فهي لا تترابط إلا فيما بينها، وفي عالمها الخاص، وكذلك الحال في الأشياء الجزئية، وهكذا تبدو الصور غير قابلة لأن تعرف. ولكن إذا لم تكن الصور قابلة لأن تعرف، فإنها تغدو بالطبع شيئا زائدا، ومن ثم عاجزة أيضا عن تفسير أي شيء، ونستطيع أن نعبر عن المسألة بصورة أخرى فنقول: لو كانت الصورة بذاتها غير متصلة بعالمنا، لما كان لها جدوى، أما لو كانت متصلة به، فإنها لا تعود منتمية إلى عالم خاص بها، وبذلك تصبح النظرية الميتافيزيقية للصور غير مقبولة.
وسوف نرى فيما بعد كيف يعالج أفلاطون ذاته مشكلة الكليات. أما الآن فحسبنا أن نشير إلى أن هذه النظرية السقراطية لا تصمد أمام النقد، ولذلك لا تتابع محاورة «بارمنيدس» الموضوع أبعد من ذلك، وتنتقل إلى مشكلة مختلفة هي بيان أن كل شيء ليس على ما يرام، حتى في عالم الصور السقراطية؛ ذلك لأن الجدل المفصل على طريقة زينون، يكشف عدم صحة زعم سقراط الأصلي بأن الصور كلها ينفصل بعضها عن بعض، ويمهد ذلك الطريق للحل الذي يأتي به أفلاطون.
غير أن هناك صعوبة أخرى ترجع إلى الأصل الفيثاغوري لنظرية المثل؛ فقد رأينا من قبل كيف أن هذا الجانب من النظرية ينبع من وصف لطبيعة موضوعات البرهان الرياضي، إذ إن العالم الرياضي عندما يريد إثبات نظرية عن المثلثات لا يهتم بأي شكل فعلي قد يرسمه المرء على الورق؛ لأن أي شكل كهذا ينطوي على نواقص تخرج عن نطاق البحث الرياضي. فمهما حاول المرء أن يكون دقيقا في رسم خط مستقيم، فلن يكون ذلك الخط دقيقا إلى حد الكمال، والنتيجة التي نخلص إليها من ذلك هي أن الخط المستقيم الكامل ينتمي إلى عالم مختلف، ومن ثم ينشأ لدينا الرأي القائل إن المثل تنتمي إلى نوع من الوجود يختلف عن وجود الموضوعات المحسوسة.
هذا الرأي يبدو صائبا للوهلة الأولى؛ إذ إن من المعقول مثلا أن نقول إن موضوعين محسوسين يقتربان من التساوي، ولكنهما ليسا متساويين كلية؛ فمن الصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن نقرر إن كانا متساويين تساويا تاما، ولكن لنتأمل من جهة أخرى شيئين غير متساويين. هنا يسهل أن نرى على الفور أنهما غير متساويين، بحيث يبدو أن صورة اللامساواة تكشف عن نفسها بوضوح كامل في العالم المحسوس، ولكن بدلا من أن نصوغ هذه الفكرة باستخدام مصطلح الصور، لنتأمل كيف نعبر عادة عن هذه المسائل. فمن الطبيعي جدا أن نقول عن شيئين أنهما يكادان يتساويان، ولكنهما لا يتساويان تماما، ولكن لا معنى لأن نقول عن شيئين إنهما يكادان يكونان غير متساويين، ولكنهما ليسا غير متساويين تماما، وإذن فهذا نقد يصيب نظرية الصور في الصميم.
وهنا قد يتساءل المرء: إذا كانت نظرية الصور قد عانت على أيدي الإيليين من هذه الانتقادات القاضية، فلماذا ظل سقراط يتمسك بها دون تغيير؟ ذلك لأنه لا بد أن يكون قد أدرك بوضوح قوة هذا الهجوم، ولكن يبدو من الأسلم أن نعكس اتجاه هذا السؤال؛ لأن هذه الصعوبات بعينها هي التي جعلت سقراط يتراجع في اهتماماته العقلية إلى ميداني الأخلاق والجمال؛ فصفة الخير في الإنسان لا تظهر على أية حال بنفس المعنى الذي يظهر به لون شعره مثلا، ولكن حتى في هذا الميدان أصبح سقراط مع مرور الوقت غير راض عن نظرية المشاركة، وإن لم يكن قد تقدم أبدا بأية نظرية أخرى. غير أن هناك تلميحا إلى أن الحل ينبغي ألا يلتمس في الأشياء، بل فيما يمكننا قوله عنها، أي في حججنا، وفي هذا الاتجاه يواصل أفلاطون بذل جهوده من أجل حل مشكلة الكليات.
يشير سقراط إلى المسألة عرضا في محاورة «فيدون»، وإن لم يستمر في معالجة هذا الجانب من جوانب المشكلة، ثم يعود إليها في محاورتي «تيتاتوس» و«السفسطائي»، أما «الجمهورية» فلعلها أشهر محاورات أفلاطون، وهي تحتوي على البذور الأصلية لكثير من موضوعات البحث التي تابعها عدد كبير من المفكرين حتى يومنا هذا. وقد اشتقت المحاورة اسمها من الهدف الذي كانت تسعى إليه، وهو تشييد دولة مثلى. وسوف ننتقل الآن إلى وصف هذه الدولة، وكما رأينا من قبل كان اليونانيون ينظرون إلى الدولة على أنها مدينة، ويتضح ذلك من الاسم اليوناني
الذي يعني بصورة إجمالية «إدارة مدنية» بالمعنى الذي يشتمل على كل النسيج الإجماعي المرتبط بمدينة حسنة التنظيم، وهذه الكلمة هي العنوان اليوناني للمحاورة، ومنها اشتقت الكلمة الإنجليزية
political (سياسي).
ناپیژندل شوی مخ