حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
ومن المهم أن نحدد موقفنا بوضوح من هذه العلاقة الخاصة، فمتابعة البحث العلمي في ميدان بعينه ليس هو والفلسفة شيئا واحدا، ولكن العلم أحد مصادر التفكير الفلسفي. وحين نبحث بوجه عام في معنى العلمية نخوض مشكلة فلسفية. فدراسة قواعد المنهج العلمي هي دراسة فلسفية. كما أن من المشكلات التي شغلت انتباه الفلاسفة على الدوام، محاولة تقديم عرض للعالم في سماته العامة. ولكن ينبغي علينا أن نحرص هنا على التمييز بين أمرين: فليس من أهداف الدراسة الفلسفية أن تقدم وصفا للوقائع على طريقة العلم. ولقد كان عدم مراعاة هذه القاعدة هو الذي أدى بالمثاليين من أصحاب المذاهب إلى أن يقعوا من آن لآخر في شطحات. أما الشيء الذي تستطيع الفلسفة تقديمه فهو طريقة في النظر إلى نتائج البحث التجريبي، وإطار لجمع الكشوف العلمية وفقا لنظام من نوع معين، وبقدر ما التزمت المثالية بهذه المهمة، كانت تتحرك في نطاق حدودها المشروعة. وينبغي أن نشير في الوقت ذاته إلى أننا حين نأخذ على عاتقنا ممارسة العلم، نكون نظرة فلسفية معينة إلى العالم؛ ذلك لأن ما نسميه بالموقف الطبيعي المألوف هو في الواقع نسيج من المسلمات الضمنية العامة عن طبيعة الأشياء. وربما كان أعظم مزايا الفلسفة النقدية هو أنها لفتت الأنظار إلى هذه الحقيقة. وعلى أية حال فمن المفيد أن نذكر أنفسنا بأن النظريات العلمية تهدف إلى أن تقرر شيئا يصدق على العالم، أيا كانت الأفعال النافعة التي قد تتيح لنا هذه النظريات أن نقوم بها. وهذه مسألة يغفلها أحيانا أولئك الذين لا يرون في النظريات أكثر من أنساق شكلية مجردة، مثلما يغفلون أن الأعداد تستخدم في الحساب.
إن العالم الذي هو موضوع للبحث ليس من صنعنا؛ بل إننا نحن الذين نصنع أخطاءنا وأوهامنا، وكثيرا ما نجد صعوبة في اكتشاف أننا على خطأ، غير أن ما يجعل اعتقاداتنا صحيحة ليس ما تبعثه فينا هذه الاعتقادات من راحة أو متعة. فقد يتصور شخص ما أن لديه موارد مالية غير محدودة، لأن هذا التصور يبعث فيه نوعا من الرضا. وهناك بالفعل أناس يتخذون هذا الموقف، ولكن مديري البنوك والمحاكم ليسوا مبالين إلى مشاركتهم هذه الآراء. إن نتائج البحث العلمي تكون أحيانا على خطأ، ولكن هذا لا يجعلها ذاتية؛ بل إن في وسعنا أن نلاحظ بقدر من الصواب، أن الخطأ يحتاج على الأقل إلى إنسان يرتكبه. أما الطبيعة ذاتها فلا يمكن أن تخطئ، لأنها لا تصدر أحكاما. فالناس هم الذين يقعون في الخطأ حين يصوغون قضايا وأحكاما، وربما كانت هذه الحقيقة واحدا من الدوافع الكامنة من وراء النظريات البرجماتية. ذلك لأن الخطأ إذا كان ذاتيا بمعنى أنه مرتبط بإنسان يرتكبه، وإذا لم يكن هناك أي ضمان ضد الخطأ، فقد يبدو أننا نظل دائما منغلقين داخل آرائنا الذاتية. ولكن هذا غير صحيح على الإطلاق. فالقول إن الأخطاء يمكن دائما أن تتسلل إلينا، يختلف كل الاختلاف عن القول إننا لا نكون أبدا على صواب. وإذا قلت عن شيء ما إنه كذا، حين يكون بالفعل كذلك، فإن حكمي في هذه الحالة لا يتسلل إليه أي عنصر ذاتي، وينطبق ذلك على حالة الخطأ أيضا. فإذا كنت مخطئا، فإن هذا الخطأ الذي أرتكبه هو حقيقة من حقائق العالم.
وهكذا فمن المهم أن نؤكد الطابع الموضوعي للبحث النزيه، والطابع المستقل للحقائق التي يستهدفها هذا البحث. أما أولئك الذين يؤكدون أن الحقيقة ذاتية قابلة للتشكل، فإنهم لا يتنبهون إلى أن هذا الرأي يجعل البحث العلمي مستحيلا، وهم فضلا عن ذلك يخطئون حين يعتقدون أن الباحث لا يمكنه أن يشبع حبه للاستطلاع بمعزل عن الربح أو المنفعة التي تجلبها كشوفه. صحيح أن قدرا كبيرا من البحث ليس من هذا النوع، ولكن بعضه كذلك، ولهذا فإن تاريخ العلم لا يمكن أن يفسر من خلال المفاهيم البرجماتية، بل إن احترام الحقيقة الموضوعية يمكن أن يكون كابحا لأوهام القوة اللامحدودة التي تنبثق عن التحيز الذاتي.
وهذا يؤدي بنا إلى المصدر الرئيسي الآخر للتأمل الفلسفي، فنحن لم نتحدث حتى الآن إلا عن العلم أو المبادئ العامة لأساليب العمل فيه، بوصفها موضوعا للدراسة الفلسفية، غير أن الإنسان، من حيث هو حيوان اجتماعي، لا يهتم فقط بكشف طبيعة العالم، بل إن من مهامه أن يسلك فيه. وإذا كان الجانب العلمي يعنى بالوسائل، فإننا هنا ندخل عالم الغايات، وهكذا فإن الطبيعة الاجتماعية للإنسان هي التي تضعه في مواجهة مشكلات أخلاقية. إن العلم يستطيع أن ينبئه بأفضل الطرق لبلوغ غايات معينة، ولكنه يعجز عن أن يقول له إن من واجبه أن يسعى إلى هذه الغاية المعينة دون غيرها.
ولقد رأينا من قبل أن هناك طرقا مختلفة في النظر إلى المشكلة الأخلاقية؛ فعند أفلاطون يسير العامل الأخلاقي والعامل العلمي جنبا إلى جنب، ويتم التوحيد بين الخير والمعرفة. والواقع أن الأمر لو كان كذلك بالفعل لكان فيه عزاء كبير، ولكن من سوء الحظ أن الرأي الأفلاطوني مفرط في التفاؤل، فقد يلجأ من يعرفون أكثر من غيرهم، إلى استخدام معرفتهم في أغراض شريرة، وعلى أية حال فمهما كان مقدار ما يعرفه المرء فإن هذا لن يؤدي في ذاته إلى حل مشكلة ما ينبغي عمله.
هذه إذن، هي المشكلة العامة للعقل والإرادة، فإذا رفضنا الرأي القائل إن الاثنين سيتطابقان لو بلغا مدى معينا، كان علينا أن نسلم، كما فعل أوكام، بأنهما مستقلان، ولكن هذا الاستقلال لا يعني بالطبع أن أحدهما لا صلة له على الإطلاق بالآخر، فالعقل يستطيع أن يقوم بدور التوجيه والضبط بالنسبة إلى الإرادة والانفعالات، وهو يقوم به بالفعل، ولكننا لو شئنا الدقة الكاملة لقلنا إن الإرادة هي التي تختار الغايات.
ومن نتائج هذه الحقيقة أننا لا نستطيع تقديم مبررات علمية للأهداف التي قد نسعى إليها، أو للمبادئ الأخلاقية التي نسير وفقا لها. فلن يمكننا أن نبدأ تقديم الحجج إلا إذا سلمنا منذ البدء بمقدمة أخلاقية ما، وهكذا فقد يسلم المرء بأن أفعاله ينبغي أن يكون من شأنها المحافظة على المجتمع الذي يعيش فيه، أو قد يقول إن أفعاله ينبغي أن تساعد على إحداث تغيير في النظام الاجتماعي. وسواء أكانت المقدمة الأخلاقية المسلم بها هي هذه أو تلك فمن الممكن، على هذا الأساس، تقديم حجج لإثبات السبب في ضرورة اتباع هذا المسلك أو ذاك، والمهم في الأمر هو ملاحظة أننا، ما لم تكن لدينا مقدمة مسلم بها، تنطوي على معنى «الوجوب
ought »، فلن نستطيع أن نستخلص نتيجة تدلنا على ما ينبغي عمله.
على أن من الواضح أن المطالب الأخلاقية يمكن أن تتباين من شخص لآخر، بل إن من المسلم به أن الناس كثيرا ما يختلفون حول هذه الأمور . عندئذ يثار السؤال حول إمكان الاهتداء إلى مبدأ أخلاقي يسري على نحو شامل. ويقتضي ذلك ألا يكون المطلب متوقفا، من أجل إمكان قبوله، على الشخص الذي يتقدم به، ومن ذلك نستنتج أنه إذا كانت هناك مبادئ أخلاقية ذات نطاق شامل فلا بد أن تنطبق على المجتمع الإنساني بوجه عام. وهذا لا يعني القول بأن الناس جميعا متساوون في كل شيء، لأن من الحمق أن نقول بذلك، ما داموا بالفعل غير متساوين؛ إذ يختلفون في قدراتهم واتساع آفاقهم، وفي أمور كثيرة أخرى. ولكننا طالما كنا بصدد الأحكام الأخلاقية فلن يكون من حقنا أن نقصرها على فئة معينة من الناس، فإذا قلنا مثلا إن على الإنسان أن يسلك بأمانة، فإن هذا لا يتوقف على حجم أو شكل أو لون أولئك الذين يتعامل معهم مثل هذا الإنسان. ومن هنا فإن المشكلة الأخلاقية تؤدي إلى ظهور مفهوم الإخاء بين البشر. وهذا رأي عبر عنه المذهب الرواقي الأخلاقي لأول مرة تعبيرا صريحا ثم وجد طريقه فيما بعد إلى المسيحية.
ويمكن القول إن معظم المبادئ التي ترتكز عليها الحياة المتحضرة تحمل هذا الطابع الأخلاقي. والواقع أننا لا نستطيع تقديم سبب علمي لإثبات أن من الشر معاملة الغير بقسوة متعمدة. فهذا أمر يبدو في نظري شرا، وأعتقد أنه يبدو كذلك في نظر أناس كثيرين. أما لماذا كانت القسوة شرا فهو أمر لست على ثقة من أنني أستطيع تقديم أسباب مرضية تعلله. فهذه مسائل صعبة يحتاج حسمها إلى وقت، وربما أمكن الاهتداء إلى حل لها بمضي الزمن، ولكننا نود ممن يؤمنون بالرأي العكسي أن يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: هل آراؤنا في هذه المسائل مستقلة عن حقيقة كوننا نعتنقها؟ عندئذ قد يبدو أن ما يتوهمون أنه مبدأ أخلاقي عام لا يعدو في الواقع أن يكون دفاعا خاصا عن موقف ذاتي.
ناپیژندل شوی مخ