حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
لقد ذكرت من قبل أنه، على الرغم من أن المبدأ الأخلاقي الأصيل لا يعمل حسابا لأشخاص بعينهم، فإن هذا لا يعني أن الناس جميعا متساوون. ومن النواحي التي توجد فيها اختلافات ملحوظة، المعرفة، التي لا أقصد بها مجرد المعلومات، وإنما المعرفة الدقيقة الواضحة. ولقد سبق أن رأينا أن سقراط يميل إلى التوحيد بين المعرفة والخير، وانتقدنا هذه النظرية على أساس أنها عقلانية أكثر مما ينبغي. ولكن هناك في هذا الصدد نقطة هامة لا ينبغي إغفالها، فقد اعترف سقراط صراحة بأن حصيلة المعرفة التي يمكن أن يتوصل إليها الإنسان ضئيلة للغاية. والأمر الذي يبدو له أهم، في نهاية المطاف، هو سعي المرء إلى المعرفة؛ فالخير هو البحث المنزه. وهذا مبدأ أخلاقي يرجع أصله إلى فيثاغورس، بل إن البحث عن حقيقة يعترف بأنها مستقلة عن الباحث كان، منذ أيام طاليس، هو القوة الأخلاقية الدافعة من وراء حركة العلم. وبالطبع فإن هذا الموضوع له صلة بالمشكلة الأخلاقية الناشئة عن حسن استخدام الكشف أو سوء استخدامه. ولكن على حين أن من الضروري مواجهة هذه المشكلة، فليس مما يساعدنا في فهم هذه الأمور أن نخلط بين هذه المسائل التي هي منفصلة ومتميزة تميزا تاما.
وهكذا يواجه الباحث مهمة مزدوجة: فمن واجبه من جهة أن يتابع الموضوعات المستقلة لدراسته بقدر المستطاع، وعليه أن يفعل ذلك سواء أكانت كشوفه ستؤدي إلى نتائج مريحة أم متعبة. فكما أن المبادئ الأخلاقية لا تعمل حسابا لأشخاص بعينهم، فإن نتائج البحث العلمي بدورها ليست ملزمة بمراعاة مشاعرنا. ومن جهة أخرى هناك مشكلة تحويل الكشف إلى نتيجة مرضية بالمعنى الأخلاقي.
وتبقى بعد ذلك المسألة الأخيرة: كيف ينبغي أن ننظر إلى هذا المبدأ الأخلاقي القائل إن السعي إلى الحقيقة خير في ذاته؟ ذلك لأن من الواضح أننا لسنا جميعا ممن يمتلكون القدرة على الاشتغال بالبحث العلمي. كما أنه ليس من الممكن في كافة المناسبات أن نرجئ الحكم على هذا الموضوع، إذ لا بد للناس أن يسلكوا مثلما يفكرون. غير أن هناك شيئا واحدا يستطيع الناس جميعا أن يفعلوه، هو أن يعطي المرء الآخرين حرية إرجاء الحكم في المسائل التي قد لا يكون هو ذاته على استعداد لوضعها موضع التساؤل. ولنلاحظ أن هذا يكشف عن مدى الارتباط بين البحث العلمي وبين الحرية، التي ينظر إليها على أنها نوع من الخير. فالتسامح شرط ضروري لأي مجتمع يراد للبحث العلمي أن يزدهر فيه. وحرية الكلام والفكر هما العاملان الحاسمان في إقامة مجتمع حر يتاح فيه للباحث أن يدع الحقيقة تقوده إلى أي اتجاه تشاء. وفي هذا الإطار يستطيع كل شخص أن يسهم في الخير الذي نحن بصدده ها هنا. ولا يعني هذا أن تكون لنا جميعا نفس الآراء في كل شيء، بل إنه يضمن ألا يسد أي طريق بقيود مصطنعة. ذلك لأن الحياة التي لا تخضع للفحص والاختبار هي في نظر الإنسان غير جديرة بأن تعاش.
2
ناپیژندل شوی مخ