235

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

tautology ، بالمعنى الفني الذي استخدمه به، هو قضية يكون نقيضها مناقضا لذاته. وبهذا المعنى تكون كلمة «تحصيل حاصل» مطابقة بصورة عامة لكلمة تحليلي، أكثر شيوعا. وقد قادته اهتماماته في السنوات اللاحقة بعيدا عن المنطق، في اتجاه التحليل اللغوي. والمصدر الذي سجلت فيه آراؤه هو مذكرات محاضراته، ومجموعة أبحاثه التي نشرت بعد وفاته، والتي ظهر منها حتى الآن مجلدان. وليس من السهل تقديم وصف يلخص اتجاهاته بصورة مجملة، نظرا إلى أسلوبه الغريب الذي كان مستترا إلى حد ما. وربما كان التعبير المعقول عن الفكرة الأساسية في نظريته الفلسفية المتأخرة هو أن معنى أية كلمة هو طريقة استخدامها.

ولقد أدخل فتجنشتين، في معرض تقديمه لآرائه، تشبيه «الألعاب اللغوية» الذي يعني به أن الاستخدام الفعلي لجزء معين من اللغة هو أشبه بلعبة كالشطرنج مثلا، ولهذه اللعبة قواعد معينة ينبغي على كل من يمارسونها أن يراعوها، كما أن هناك قيودا معينة على الحركات المسموح بها، ويرفض فتجنشتين عالمه المنطقي السابق كما عرضه في الدراسة، رفضا تاما. فقد بدا له عندئذ أن من الممكن تحليل جميع القضايا إلى مكونات نهائية بسيطة لا تقبل مزيدا من التجزيء. ومن ثم كان يطلق على هذه النظرية أحيانا اسم «الذرية المنطقية»، وهي تشترك في الكثير مع نظريات أسبق منها عن المكونات النهائية البسيطة التي قال بها العقلانيون. وهذه الفكرة هي أساس جميع محاولات وضع لغة كاملة تعبر عن كل شيء بأقصى قدر من الدقة، أما في المرحلة المتأخرة فقد أنكر فتجنشتين إمكان إيجاد مثل هذه اللغة، فمن المستحيل أن نقضي على الخلط قضاء مبرما.

وهكذا فإننا حين نتعلم كيف نلعب عددا من الألعاب اللغوية المتنوعة، نكتسب معنى الكلمات عن طريق استخدامها ومن خلاله. وفي بعض الأحيان نعبر عن ذلك بطريقة أخرى فنقول إننا نتعلم «النحو» أو «المنطق» الخاص بكلمة معينة، وهو تعبير فني أصبح شائعا على نطاق واسع في التحليل اللغوي، وهكذا فإن إثارة المشكلات الميتافزيقية ينجم عندئذ عن نقص في إدراك «النحو» الخاص بالكلمات. ذلك لأننا بمجرد أن نفهم القواعد فهما صحيحا، لا تظل لدينا رغبة في طرح مثل هذه الأسئلة، بعد أن يكون العلاج اللغوي قد شفانا من هذه الرغبة.

لقد كان لفتجنشتين تأثير كبير في الفلسفة اللغوية. ومع ذلك فإن التحليل اللغوي قد سار في طرقه ودروبه الخاصة إلى حد ما، ونخص بالذكر ظهور اهتمام جديد بالتمييزات اللغوية بغض النظر عن أي علاج مفيد يمكن أن يسفر عنه ذلك. وهكذا ظهر نوع جديد من النزعة المدرسية وهو يخنق نفسه كما فعل سلفه القديم في العصر الوسيط في مسار ضيق. والشيء الذي تشترك فيه معظم تيارات التحليل اللغوي هو الاعتقاد بأن اللغة العادية كافية، وأن الإشكالات الفلسفية إنما تنشأ عن سوء الاستخدام. هذا الرأي يتجاهل حقيقة واضحة هي أن اللغة العادية تحتشد ببقايا النظريات الفلسفية الغابرة.

إن المثل الذي قدمناه من قبل يبين الطريقة التي ينبغي أن يفهم بها العلاج المرتكز على الاستخدام الشائع. فمن المؤكد أن هذا النوع من التحليل سلاح يفيد في التخلص من كثير من التعقيدات الميتافيزيقية المتشابكة الغامضة، ولكنه من حيث هو نظرية فلسفية، ينطوي على بعض نقاط الضعف. بل إنني لأعتقد أن الفلاسفة كانوا طوال الوقت يفعلون هذا الشيء على وجه التحديد، ولكن بصمت. وإذا كان الناس لا يعترفون بذلك اليوم فإن مرد هذا إلى نوع من ضيق الأفق العقلي الذي أصبح شائعا بيننا في الآونة الأخيرة. والأخطر من ذلك هو تمجيد اللغة العادية باتخاذها حكما في جميع المنازعات؛ إذ إنني لا أستطيع أن أدرك على الإطلاق لماذا لا تكون اللغة العادية ذاتها مليئة بالخلط. وأقل ما يمكن أن يقال هو أن النظر إليها كما لو كانت شكلا من أشكال مثال الخير، دون أن نتساءل ما هي اللغة، وكيف تنشأ وتعمل وتنمو، هذا كله أمر محفوف بالخطر. والافتراض الضمني هو أن اللغة كما تستخدم عادة تنطوي على نوع من العبقرية الرفيعة أو الذكاء الخفي، وهناك مسلمة أخرى، ترتبط بهذه على نحو غير مباشر، هي الاعتراف بإمكان تجاهل كل معرفة غير لغوية، وهو نعمة يستمتع بها أنصار هذا الاتجاه على نطاق واسع.

خاتمة

لقد وصلنا الآن إلى نهاية قصتنا، وربما تساءل القارئ الذي ظل يتابعنا حتى الآن عن الفائدة التي جناها مما قرأه. وإلى مثل هذا القارئ ينبغي أن نوجه كلمة تحذير: فقد ألفت مكتبات كاملة عن كل موضوع من الموضوعات الرئيسية التي تحدثنا عنها ها هنا، ولم يكن من الممكن أن نتناول في كتابة هذا المؤلف إلا نسبة ضئيلة من هذه المادة الغزيرة، ولا بد أن نعترف بأن تصفح كتاب واحد، مهما كان اتساع نطاقه، لم يسبق أن أدى في أية حالة إلى جعل القارئ خبيرا، بل إن أي قدر من القراءة الخالصة لا يمكن أن يؤدي إلى رفع مستوى فهم المرء لأي شيء، وإنما المطلوب، إلى جانب اكتساب المعلومات، قدر من التفكير المركز في المشكلات المتعددة التي اطلع عليها المرء من خلال هذه المعلومات، وهذا أيضا عذر نستطيع أن نبرر به تأليف كتب في تاريخ الفلسفة، حيث يوجد عدد هائل من الأبحاث التفصيلية التي ألفها المتخصصون حول كل مسألة تعالجها هذه الكتب. ذلك لأن القارئ غير المتخصص، بل والعالم المتخصص بدوره، يحتاج من آن لآخر إلى أن يبتعد عن التفاصيل ويتأمل المسائل من منظور شامل، ومن أجل ذلك يحتاج إلى عرض ليس مفرطا في الضخامة ولا مفرطا في التفصيل. والأهم من ذلك أن يكون عرضا نبع من عقل واحد. والواقع أن العرض الذي قدمناه ليس موسوعيا بالمعنى المباشر للكلمة؛

1

بل كانت هناك بالضرورة اختيارات للفلاسفة وللأفكار، وأقصى ما نأمل أن نكون قد حققناه هو تقديم موجز للاتجاهات العامة. وبالمثل فإن الخلفية التاريخية التي قدمناها شديدة التركيز والإيجاز، إذ إن هذا الكتاب لا يأخذ على عاتقه أن يعلم القارئ التاريخ، وإنما يحاول أن يذكره به من آن لآخر، بحيث لا يغيب عن ذهنه الإطار الذي تمت فيه الآراء الفلسفية، وفي الوقت ذاته يؤكد الكتاب استمرار التراث الحضاري للغرب منذ العصور اليونانية المبكرة حتى الوقت الراهن.

وربما سألنا قارئ عن السبب الذي حال دون إعطاء حيز، في تاريخ كهذا، لما يطلق عليه عادة اسم حكمة الشرق. وهناك إجابات متعددة نستطيع أن نقدمها عن هذا السؤال؛ أولها أن العالمين قد تطورا كل بمعزل عن الآخر، بحيث يمكن تقديم عرض يكون فيه الفكر الغربي مكتفيا بنفسه. وفضلا عن ذلك، فإن مجرد عرض الفلسفة الغربية هو في ذاته عمل غير هين، وقد اخترنا أن نقصر جهدنا عليه. ولكن هناك سببا أهم من ذلك، هو أن التراث الفلسفي الغربي يختلف في جوانب أساسية عن تأملات العقل الشرقي. فالحضارة اليونانية هي وحدها التي سارت فيها الحركة الفلسفية مع التراث العلمي جنبا إلى جنب. وهذا ما أضفى على الإنجاز اليوناني طابعه المميز، بل إن هذا التراث المزدوج هو الذي شكل حضارة الغرب.

ناپیژندل شوی مخ