حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
وفي الميدان السياسي تمتعت أوروبا منذ عام 1875م بحوالي خمسين عاما من السلام، ولكن هذه الحالة السعيدة لم تكن سائدة في العالم كله؟ إذ كانت هناك حروب استعمارية في إفريقيا، وفي الشرق الأقصى لقيت روسيا هزيمة على يد اليابان، التي خطت خطوات سريعة في محاولتها استيعاب حضارة الغرب التكنولوجية. ومع ذلك فقد بدا العالم في نظر من يعيش في أجزائه الغربية، مكانا هادئا آمنا إلى حد معقول.
كان هذا هو الوضع إلى ما قبل ستين عاما فقط. وحين يعود المرء بنظره إلى هذه الفترة، يشعر بأن الناس كانوا في ذلك العصر يعيشون في عالم من الأحلام.
ولكن هيكل القيم والأفكار المسبقة قد انهار كله بقيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918م). فعلى الرغم من ازدياد الوعي القومي خلال القرن التاسع عشر، فإن الاختلافات بين الدول لم تخف حدتها، وأدى ذلك خلال فترة الحرب هذه إلى إغراق العالم في بحر من الدماء لم يعرف له حتى ذلك الحين مثيلا. واقترن بهذه الكارثة انهيار للثقة في التقدم، ونمو لجو من الشك والارتياب لم يفق منه العالم تماما حتى وقتنا هذا.
أما من الناحية التكنولوجية الخالصة فإن الحرب العالمية الأولى أظهرت إلى أي حد تجاوز التقدم في الأسلحة كل الأفكار التكتيكية للعسكريين. وكانت النتيجة مذبحة هائلة غير حاسمة أضعفت أوروبا الغربية إلى حد كبير. ولقد كان الوضع الضعيف وغير المستقر لفرنسا منذ عام 1918م هو إلى حد بعيد من نتائج الجرح الغائر الذي أصابها عندئذ، وفي الوقت ذاته بدأت الولايات المتحدة تلعب دورا متزايد الأهمية في الشئون العالمية. ومن جهة أخرى قامت الثورة البلشفية في روسيا، ومكنتها من بناء مجتمع صناعي جديد أقوى بكثير مما كانت عليه إمبراطورية القيصر في أي وقت. أما تلك المشاعر القومية التي كانت تفور تحت السطح منذ مؤتمر فيينا، فقد وجدت الآن تعبيرا عنها في صورة الدول القومية الجديدة، التي كانت كل منها تنظر إلى جارتها بعين الشك. وأصبحت حرية التنقل مقيدة بقيود لم تبدأ في الاختفاء مرة أخرى إلا في الأيام الأخيرة.
وعلى الرغم من ذلك كله، فقد أصبح من الواضح أن الاقتتال الداخلي بين الأمم الأوروبية كان كفيلا بأن يهدد، منذ ذلك الحين، بقاء الحضارة الغربية ذاتها. وكانت هذه هي القوة الدافعة الرئيسية من وراء إنشاء عصبة الأمم في 1919م. وكان من أقوى أنصار هذه المحاولة التي بذلت من أجل إرساء أسس التعاون السلمي بين الأمم، الرئيس ولسون، رئيس الولايات المتحدة، ولكن اقتراحاته لم تلق في النهاية تأييدا من بلده ذاته، مما كان له دور كبير في إضعاف مركز عصبة الأمم منذ بداية نشأتها، ومن ناحية أخرى فقد أدت هزيمة ألمانيا إلى رد فعل تمثل في إحياء روح قومية أشد شراسة وتصلبا من أية حركة ظهرت من قبل. وهكذا أدت دكتاتورية الاشتراكية الوطنية في ألمانيا إلى نشوب الحرب العالمية الثانية بعد عشرين عاما من إنشاء عصبة الأمم، وفاقت هذه الحرب في مداها وتخريبها أية حرب أخرى في التاريخ؛ ذلك لأن استخدام تكنولوجيا أكثر تفوقا في التسليح، ونشوب الصراع بين إيديولوجيات شديدة التعارض، كل ذلك حول الحرب بين الجيوش إلى حرب شاملة، أثرت مباشرة في المدنيين بقدر ما أثرت في العسكريين. وشهدت الحرب الذرية أول استخدام صارخ لها في اليابان. والواقع أن هذا الإنجاز الذي لا يفوقه إنجاز آخر في القوة التدميرية. أدى في وقتنا الحالي إلى وضع إمكانية التدمير الذاتي في متناول يد الإنسان. وسوف تثبت الأيام إن كنا حكماء إلى حد مقاومة هذا الإغراء. والمأمول أن تنجح هيئة الأمم، التي حلت محل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، في الحيلولة بين البشر وبين تفجير بعضهم البعض إلى حد الفناء التام.
لقد كانت القوتان الرئيسيتان اللتان أعطتا قوة دافعة خاصة للتطور التكنولوجي، طوال التاريخ، هما التجارة والحرب، وهذا ما أثبتته الأحداث الأخيرة بصورة صارخة. فقد أدى تقدم الهندسة الإلكترونية وهندسة الاتصالات إلى ما يطلق عليه الآن اسم الثورة الصناعية الثانية، وهذه الثورة تقوم الآن بتحويل العالم أمام أعيننا بصورة أشد ثورية حتى من الثورة الصناعية الأولى، التي كان قوامها الآلة البخارية.
وبالمثل طرأت على وسائل المواصلات تغييرات لم يكن أحد يحلم بها حتى القرن الماضي، ذلك لأن أساليب السفر لم تتغير إلا تغيرا طفيفا منذ العصر الروماني حتى اختراع السكك الحديدية. ولكن، منذ ذلك الحين، حول الإنسان أسطورة إيكاروس إلى حقيقة. فقبل مائة عام فقط بدا من الأمور المغرقة في الخيال أن يكون المرء قادرا على أن يدور حول العالم في ثمانين يوما، أما اليوم فقد أصبح ذلك ممكنا في نفس العدد من الساعات.
هذه التطورات البعيدة المدى قد تجاوزت أحيانا، في تلاحقها، قدرة الإنسان على التكيف مع الأوضاع الجديدة المحيطة به، فمن الملاحظ أولا أن الصراعات الدولية الهائلة قد أسهمت في القضاء على الإحساس بالأمان، الذي ساد في القرن السابق. إذ لم يعد من الممكن التطلع إلى المستقبل بنظرة بعيدة المدى كما كانت الحال من قبل، وفي الوقت ذاته فإن ممارسات الدول أخذت تتعدى بشدة على حرية التصرف التي كان يتمتع بها الأفراد من قبل. ولهذه الظاهرة أسباب متعددة أولها أن التعقيد المتزايد للحياة الاقتصادية في البلدان الصناعية جعلها شديدة الحساسية لكافة أنواع القلاقل والاضطرابات، ولو قارنا مجتمعنا الحالي بالعصور الوسطى لوجدناه أقل منها استقرارا بكثير؛ ولذا كان من الضرورة ممارسة قدر من السيطرة على القوى التي تستطيع الإخلال بسياسة الدولة. ومن جهة أخرى فقد أثيرت مشكلة إحداث نوع من التأثير المتوازن لتعويض أثر التقلبات التي تحدث حتميا، مما يستتبع تدخل الدولة في المسائل الاقتصادية، وثالثا فإن فقدان الأمان الذي تحقق على نحو مستقل، أصبح يعوضه الآن إلى حد ما، تلك الخدمات التي تقدمها الدولة. هذه التغيرات ليست لها إلا علاقة واهية جدا بالنظام السياسي لبلد ما، وإنما هي تتوقف أساسا على تكنولوجية حضارتنا، بل إن من الملفت للنظر حقا مدى تشابه البلاد ذات الأنظمة الشديدة الاختلاف في هذه الأمور.
ولقد أدى الضغط الرهيب للتنظيم في حياتنا الحديثة إلى ظهور تيارات جديدة من الفكر اللاعقلي في الفلسفة، ويمكن أن تعد هذه الانبثاقات بمعنى معين، رد فعل على فلسفات القوة التي استوحتها أنظمة الحكم الاستبدادية المعاصرة، وهي أيضا تمثل تمردا على الخطر الذي يعتقد أن العلم يهدد به الحرية الإنسانية.
ويتمثل التيار اللاعقلي الرئيسي في الفلسفة، في إعادة إحياء نظريات وجودية كان لها في الآونة الأخيرة دور أساسي في الفلسفة في فرنسا وألمانيا، وسوف ننتقل بعد قليل إلى إبداء بعض التعليقات الموجزة على هذه النظريات التي ينبغي أن نلاحظ أنها شديدة التباين إلى حد أنها كثيرا ما يتعارض بعضها مع البعض.
ناپیژندل شوی مخ