حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
أما عن الاتصال الفعلي بالواقع، فيبدو أنه يحتاج إلى معرفة من الداخل، وإلى تقارب بين العارف وموضوع معرفته بحيث يصبحان كيانا واحدا وهنا نجد ما يذكرنا باسبينوزا، وقد ذهب هوايتهد بالفعل إلى أن كل قضية ينبغي أن ينظر إليها، آخر الأمر، في علاقتها بالنسق الشامل، ومن الواضح أن هذا شكل من أشكال المثالية المذهبية، وإن كان مختلفا إلى حد ما عن العناصر المثالية في فلسفة ديوي. فعلى حين أن تصور ديوي للكل والواحد يرتد إلى هيجل، نجد أن هوايتهد أقرب إلى المفاهيم العضوية في فلسفة شلنج المتأخرة.
هذه باختصار شديد، هي الموضوعات الرئيسية في ميتافيزيقا هوايتهد، وأنا لا أزعم لنفسي القدرة على معرفة المكانة التي سوف تكتسبها في تاريخ الفلسفة. غير أن ما له أهمية مباشرة هو الطريقة التي ينبثق بها، في هذه الحالة، مذهب ميتافيزيقي، بصورة مباشرة، من الانشغال بمشاكل عامة في العلم. ولقد رأينا شيئا كهذا يحدث بين الفلاسفة العقليين في القرن السابع عشر، وبين المثاليين في القرن التاسع عشر، وهكذا فإن النظرية العلمية، بقدر ما تحاول أن تضم العالم كله، تستهدف غاية مشابهة لغاية الميتافيزيقا، وما يختلف فيه العلم هو إحساسه الأشد حدة بالمسئولية تجاه الوقائع الصلبة العنيدة.
إذا كان من الممكن أن يقال عن القرن التاسع عشر إنه أحدث في العالم تغييرا يفوق ما أحدثته أية فترة أخرى حتى ذلك الحين، فإن هذا الحكم يصدق أيضا على السنوات الستين الأخيرة، التي كان التحول فيها أشد؛ فقد كانت الحرب العالمية الأولى تمثل نهاية عصر كامل.
كانت الفكرة المحورية التي ظل الناس يستوحونها قبل ذلك بأجيال عديدة هي فكرة التقدم، فقد بدا أن العالم يسير نحو وضع أفضل وأكثر تحضرا، تكون فيه أوروبا الغربية هي السيد المعطاء، ويكون فيه بقية العالم معتمدا عليها سياسيا وتكنولوجيا. ولقد كان لهذه النظرة إلى العالم ما يبررها في نواح معينة، فمن المؤكد أن الغرب كان هو المهيمن سياسيا، كما كانت الصناعة تضمن له سيطرة في القوة المادية. كل ذلك كان يسانده شعور هائل بالثقة بالنفس، وإحساس بأن الله يقف إلى جانب التقدم. ولقد أدى نمو المجتمع الصناعي إلى زيادة سريعة في السكان، فتضاعفت أعدادهم خمس مرات خلال قرن واحد في إنجلترا، دون أن تتحقق برغم ذلك تنبؤات مالثوس المتشائمة. بل لقد كان الأمر على عكس ذلك؛ إذ إن قدرة المجتمع الصناعي على تذليل مصاعبه الأولى أدت إلى مزيد من اليسر في أسلوب حياة المجتمع بوجه عام.
ونتيجة لهذه التغيرات شاع إحساس بالتفاؤل والثقة بالمستقبل، وهو إحساس لم يعد له نفس هذا القدر من الرسوخ، على وجه العموم، منذ ذلك الحين، ولقد كانت كافة الاتجاهات العقلية في القرن الماضي تشارك في هذا التفاؤل العام، لمذهب المنفعة، والبرجماتية، والمادية، كلهم كانوا متشبعين به، وربما كان أبرز الأمثلة هو النظرية الماركسية، التي نجحت في الاحتفاظ بإيمانها بحتمية التقدم حتى في الوقت الحاضر، وبذلك كانت هي النظرية السياسية الوحيدة التي تمكنت من المحافظة على اعتقادها على الرغم من الاضطرابات التي تفشت في العالم منذ ذلك الحين. وهكذا يمكن القول إن الماركسية، في اتجاهها القطعي الجامد، وفي نظرتها الطوباوية، هي أثر من آثار القرن التاسع عشر.
في مناخ التقدم هذا، بدا للناس أن العالم مرتكز على أسس راسخة. ولم تكن هذه الفكرة المسبقة تصبغ تفكير أولئك الذين كانت حالتهم المادية تسمح لهم باتخاذ مثل هذا الموقف التفاؤلي فحسب، بل إن المستضعفين بدورهم شعروا بأن مصيرهم يمكن أن يتحسن، وسوف يتحسن، وهو على أية حال أمل لم يخب مع مضي الوقت، وأدى توفير التعليم الشامل إلى إيضاح الطريقة التي يستطيع بها الناس تحسين أوضاعهم؛ إذ كان في استطاعة من لا يملكون مزايا المركز الاجتماعي، في مثل هذا المجتمع الجديد، أن يعلوا على مركزهم بالمعرفة والقدرة.
كان هذا العنصر التنافسي شيئا جديدا في الميدان الاجتماعي، وبالطبع فإن المنافسة بين التجار كانت قديمة قدم التجارة ذاتها، ولكن الفكرة القائلة إن الناس يستطيعون تحسين أوضاعهم بجهودهم الخاصة كانت فكرة أحدث عهدا بكثير، ففي العصور الوسطى كان الجميع يسلمون بأن المرء يرتكب خطيئة لو حاول أن يتدخل في نظام قضت به المشيئة الإلهية، ولكن مفكري عصر النهضة تشككوا في هذه الآراء القديمة، على حين أن القرن التاسع عشر قضى عليها قضاء مبرما.
وبطبيعة الحال فإن الأوضاع التي نصفها ها هنا لا تنتمي إلا إلى مناطق العالم التي أصبح للتصنيع فيها موطئ قدم، وهي تشمل إنجلترا وبعض أجزاء أوروبا الغربية. وينبغي أن نذكر أن هذه المناطق لا تمثل إلا جزءا صغيرا من سكان المعمورة، لذلك كان التأثير الذي مارسته هذه البلاد على التاريخ العالمي نتيجة لتقدمها الزائد، أعظم بكثير مما يتناسب مع حجمها. ولكن هذا بدوره ليس شيئا جديدا بالنسبة إلى أحوال البشر، فقد كانت الإمبراطورية الفارسية القديمة، من حيث الحجم، أضخم بكثير بالقياس إلى اليونان، ولكن تأثيرها كان ضئيلا.
لقد بدا أن من الممكن، بالنسبة إلى من عاشوا في هذه الفترة وتأثروا بفكرة التقدم، وضع خطط للمستقبل بثقة تامة، فقد كانت الأوضاع مستقرة إلى الحد الذي يبرر للناس أن يتأملوا مستقبل حياتهم بنظرة شاملة. وفي الوقت ذاته كانت هذه الخطط مسألة شخصية تماما، ففي استطاعة المرء أن يكتسب مكانة واستقرارا عن طريق جهوده الشخصية الدائبة. أما الموقف إزاء المستضعفين، فكان يتخذ طابع الإحسان والمساعدة الخيرية التي يقدمها مواطنون كرماء شاعرون بالمسئولية. ومن الغريب حقا أن بسمارك كان هو الذي اتخذ أولى الخطوات في سبيل توفير الرعاية الاجتماعية، إذ استحدث شكلا من أشكال التأمين الصحي للعمال لكي يسحب البساط من تحت أقدام خصومه الاشتراكيين.
ومن السمات الأخرى البارزة لهذه الفترة، نظرتها التي كانت في عمومها ليبرالية إلى السياسة، فقد كان من المسلم به أن الحكم نشاط هامشي، مهمته الفصل بين المصالح المتعارضة، ولم يكن يخطر ببال أحد أن تتدخل الحكومة في إدارة الصناعة أو التجارة. وإذا كنا نرى الحكومات ذاتها، في أيامنا هذه تدير أنواعا شتى من المؤسسات الاقتصادية، فقد جاء ذلك نتيجة لتأثير الماركسية على نظرتنا العامة إلى المسائل الاجتماعية. أما حرية التنقل فكانت طليقة تماما في معظم أرجاء أوروبا، وإن كانت روسيا تمثل عندئذ كما هي الآن، استثناء من هذه القاعدة. فقد كان في وسعك أن تسافر في أي مكان في أوروبا الغربية دون أي نوع من الأوراق إلا في إمبراطورية القيصر، حيث كان جواز السفر ضروريا. ولكن ينبغي أن نلاحظ أن الناس لم يكونوا يسافرون عندئذ بنفس المعدل الحالي، نظرا إلى ضخامة النفقات، مما قيد حركة الأشخاص الأقل ثراء. أما القيود التي أصبحت تفرض منذ ذلك الحين فتدل على مدى انهيار الثقة بين الدول.
ناپیژندل شوی مخ