حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
ولقد اقترن إحياء النظريات الوجودية، في داخل القارة الأوروبية، بعودة إلى المتيافيزيقا التقليدية، أما في بريطانيا فقد أخذت الفلسفة في الفترة الأخيرة تسير في الاتجاه اللغوي، بحيث إن الفجوة بين الفلسفة داخل القارة والفلسفة الإنجليزية لم تصبح في أي وقت بهذا القدر من الاتساع الذي أصبحت عليه الآن. بل إن كل طرف لم يعد يعترف بأن ما يقوم به الطرف الآخر يستحق بالفعل اسم الفلسفة.
هذا، بإيجاز شديد، هو إطار المسرح الفلسفي المعاصر. وحين يغامر المرء برسم تخطيط عام لا يتعرض لخطر التشويه فحسب، بل أيضا للافتقار إلى المنظور، وهو أمر لا علاج له، ومع ذلك يمكننا أن نشير إلى نتيجة واحدة هامة: فالشيء الذي أتاح للحضارة الغربية من قبل أن تسيطر على العالم هو تكنولوجيتها، مقترنة بالتراث العلمي والفلسفي الذي أدى إلى ظهورها، ولا تزال هذه القوى تبدو مسيطرة في الوقت الحاضر، وإن لم يكن هناك في طبيعة الأشياء ما يحتم أن يظل الأمر على هذا النحو. فمع امتداد المهارات التكنولوجية التي طورت في الغرب إلى سائر أرجاء العالم الحالي، يمكن أن تهبط مكانة الغرب من مستواها الرفيع.
إن الفلسفة الوجودية داخل القارة الأوروبية هي في جوانب معينة أمر محير. بل إن من الصعب أحيانا أن يرى المرء فيها أي شيء يمكن التعرف عليه بوصفه فلسفة بالمعنى التقليدي. ومع ذلك يبدو أن نقطة البداية العامة التي تشترك فيها الحركة بأسرها هي النظر إلى المذهب العقلي في الفلسفة على أنه عاجز عن تقديم تفسير سليم لمعنى الوجود الإنساني. فالعقلاني حين يستخدم نسقا من المفاهيم، يقدم أوصافا عامة لا تلتقط المذاق المميز للتجربة الإنسانية الفردية. وهكذا عاد الوجوديون، من أجل التغلب على هذا الإخفاق الظاهر، إلى ما كان كيركجور قد أسماه بالأحوال الوجودية للتفكير، فالعقلانية، إذ تتناول العالم من الخارج، لا تعطي التجربة الحية في طابعها المباشر حقها، بل ينبغي أن تدرك هذه التجربة من الداخل. مثل هذا المأزق يمكن أن يعالج على أنحاء متباينة. فقد يشعر المرء بالميل إلى القول بأن الحياة الإنسانية بلا معنى أو دلالة، إذا فهمت هذه الكلمات بالطريقة المطلوبة في مثل هذه التأملات النظرية. فهدف الحياة هو أن نحياها بأكثر الطرق طرافة وتشويقا، وكل ما عدا ذلك من الأهداف إنما هو أوهام، وفضلا عن ذلك فهناك ضعف أساسي في نفس تصور أحوال الفكر الوجودية: فإذا فكرت في وجود أي شيء وجب عليك أن تفكر في شيء من نوع معين، أما الوجود وحده وفي ذاته فهو تجريد لا مهرب منه، وهذه نتيجة كان هيجل ذاته واعيا بها.
ولكن هذه حجج متكلفة. إنها صحيحة بلا شك، ولكنها خليقة بأن تخفي عنا ما يريد هؤلاء المفكرون قوله. لذلك ينبغي أن ننظر إلى الوجودية نظرة أرحب، ونحاول أن نبين بإيجاز ما تريد أن تقوله.
إن فلسفة ياسبرز الوجودية، إذ تعترف بثلاثة أنواع من الوجود، تظل - على الرغم من رفضها القاطع للميتافيزيقا المثالية - محتفظة بعنصر من الجدل بالمعنى الهيجلي. ولقد وصل كارل ياسبرز
Karl Jaspers (1883-1969م) إلى الفلسفة من خلال اهتمام أسبق بعلم النفس، وبخاصة مشكلات علم النفس المرضي، وهكذا فإن الإنسان يحتل مركز دراساته الفلسفية. وبهذا المعنى نستطيع أن نصف وجوديته بأنها إنسانية، وهو الوصف الذي استخدمه سارتر للدلالة على اتجاهه الفلسفي الخاص. ولكن أقصى ما تقدمه الوجودية هو نزعة إنسانية ذاتية، في مقابل النزعة الإنسانية الموضوعية لعصر النهضة. لذلك كان استخدام الفلاسفة الوجوديين لتعبير سارتر مضللا إلى حد ما.
وفي نظرية الوجود عند ياسبرز نجد ثلاثة مفاهيم مختلفة، فهنالك في أدنى المستويات، العالم الموضوعي الذي هو هنالك فحسب. أي أن وجوده وجود هناك، يدرك موضوعيا من الخارج. وهذا العالم يغطي ميدان العلم في كافة جوانبه، ولكن هذا المستوى لا يصلح لجعل الذات تتعرف على وجودها الخاص، بل إن الوجود الموضوعي الذي يسري على الميدان العلمي هو عقبة في طريق الإحساس بهذا النوع الأعلى من الوجود، الذي يسميه ياسبرز «وجود الأنا» أو الوجود الشخصي. هذا الضرب من الوجود ليس مصدر المقولات العقلية التي تحكم عالم الوجود الموضوعي، بل إن وجود الأنا، أو الوجود الشخصي، يوصف دائما بأنه يشير إلى ما يتجاوز ذاته. ولن يكون المرء قد ظلم ياسيرز لو وصف هذه الفكرة بعبارات أرسططالية فقال إن الوجود الشخصي ينطوي في ذاته على رصيد لا حدود له من الإمكانات
. وفي سعي الأنا إلى تجاوز ذاته، يتوافق مع نوع ثالث من الوجود، يمكن تسميته بالمتعالي، وهو وجود في ذاته يشمل النوعين السابقين معا، وعلى الرغم من أن ياسبرز لا يضع لنفسه أهدافا كتلك التي كان يستوحيها المثاليون، فمن الواضح كل الوضوح أن ضروب الوجود الثلاثة عنده هي نموذج جيد للمسار الجدلي، وبهذا القدر ينبغي أن تكون داخلة على نحو ما في نطاق المعقول. وهذه كما رأينا من قبل، صعوبة كامنة في أية نظرية تهدف من حيث المبدأ إلى تقييد دور العقل. صحيح أن من حق مثل هذه النظرية أن تستشهد بحقائق مألوفة، كالقول إن الناس تحركهم الانفعالات مثلما يحركهم العقل، وربما أكثر منه. ولكن هذا ليس تقييدا للعقل. أما حين تصل إلى نظرية عقلية تحاول أن تهدم العقل ذاته، فعندئذ ينشأ تناقض لا سبيل إلى حله. ذلك لأن من الضروري الاستعانة بالعقل من أجل تفسير أي شيء على الإطلاق. وهكذا فإن إنكار قدرة العقل لا يمكن أن يعبر عنه بأية طريقة نظرية، بل يظل غير قابل للتعبير عنه، ويدفعنا إلى الصمت.
ويمكن القول إن الوجوديين أنفسهم قد اعترفوا بذلك إلى حد ما، ومن ثم كانوا أحيانا يحبذون الصمت، حتى ولو لم يكونوا قد مارسوه بأنفسهم. أما ياسبرز فقد كان واعيا بهذه الصعوبة، وحاول التخفيف منها بالقول إن العقل له أهميته في نهاية المطاف.
وعلى أساس هذا التقسيم للوجود، يرى ياسبرز أن العلم، الذي هو بالضرورة ذو طابع تفسيري، لا بد أن يخفق في التوصل إلى إدراك أصيل لحقيقة الواقع ... ذلك لأننا حين نسمح بوجود تمييز بين التفسير وموضوعه، نعترف ضمنا بهذا الإخفاق، والفكرة الضمنية هي أن كل القضايا إنما هي تشويه للوقائع، لمجرد أن القضية ليست هي الشيء الذي تتحدث عنه.
ناپیژندل شوی مخ