226

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

لقد كانت القوة المسيطرة في الفلسفة الأمريكية، منذ نهاية القرن الماضي، هي صورة معدلة للبرجماتية. وكان أهم ممثليها هو جون ديوي

John Dewey (1859-1952م)، الذي كان أجداده ينتمون إلى منطقة نيو إنجلاند، ومن ثم فقد تغلغل فيه التراث الليبرالي الذي اشتهرت به هذه المنطقة. وكانت اهتماماته واسعة المدى دائما، تتجاوز نطاق الفلسفة الأكاديمية. وربما كان أقوى تأثير له هو ذلك الذي مارسه في ميدان التربية، وهو موضوع كانت له فيه إسهامات كثيرة منذ أن أصبح أستاذا للفلسفة بجامعة شيكاغو عام 1894م. وإذا كنا نلاحظ في أيامنا هذه أن الفرق بين التعليم بمعناه التقليدي والتدريب المهني الذي يستلزمه المجتمع التكنولوجي على نحو متزايد؛ إذا كنا نلاحظ أن هذا الفرق لم يعد واضحا بما فيه الكفاية، فإن من أهم أسباب ذلك تأثير أعمال ديوي.

إن فلسفة ديوي تتضمن ثلاثة مفاهيم رئيسية ترتبط بتطورات معينة حدثت من قبل، أولها هو العنصر البرجماتي، الذي تحدثنا عنه من قبل. فديوي يشارك بيرس رأيه القائل إن عملية البحث أساسية، ويأتي بعد ذلك التأكيد على الفعل، على نحو كان أقرب إلى برجسون منه إلى البرجماتية. صحيح أن البرجماتيين كانوا مقتنعين، كما ذكرنا من قبل، بأهمية الفعل ولكن ينبغي أن نتذكر هنا أن جيمس قد أساء فهم بيرس، وأن الفاعلية التي كان يتحدث عنها بيرس أقرب بكثير إلى ما كان في ذهن فيكو عندما صاغ معادلة: الحقيقة هي الفعل. وثالثا ففي نظرية ديوي قدر واضح من الفكر الهيجلي، ويظهر ذلك بوجه خاص في تأكيده أن الهدف النهائي للبحث هو الوصول إلى الكل العضوي أو الموحد. وهكذا ينظر إلى الخطوات المنطقية التي تحدث خلال سعينا إلى تحقيق هذا الهدف على أنها أدوات توصل إلى هذا الكل. هذه النظرة «الأداتية

Instrumental » إلى المنطق تشترك في عناصر كثيرة مع الجدل الهيجلي، إذا ما تأملنا هذا الأخير على أنه أداة تؤدي إلى النسق الكامل، وقد رفض ديوي، كبقية أتباع المدرسة البرجماتية، أن يتقيد بالتصورات التقليدية للصواب والخطأ كما توارثناها من الفلسفة الرياضية عند فيثاغورس وأفلاطون، وبدلا من ذلك تحدث ديوي عن إمكانية الحكم بطريقة مبررة

warranted assertability ، وهي فكرة مستمدة من بيرس، وإن كان ينبغي أن نضيف تحفظا هو أن بيرس قد اعترف في مرحلته المتأخرة بوجود إجابة واحدة عن أي سؤال، مهما كانت بعيدة المنال.

وفيما يتعلق بهذه المسألة العامة، أعني الاستغناء عن الحقيقة بمعناها المطلق، نستطيع أن نوجه نفس النقد الذي تحدثنا عنه من قبل في صدد بروتاجوراس. فلنفرض أن شخصا أكد أنني إنسان يبعث على الضجر؛ عندئذ، لو سألته بروح برجماتية، عما إذا كان لديه ما يبرر به هذا الحكم، فماذا عساه يجيب؟ الواقع أنه ربما كان من المفيد له أن يعتنق مثل هذه الآراء عني، وفي هذه الحالة قد يشعر بالميل إلى أن يجيب عن سؤالي بالإيجاب، ولكنه سواء أجاب بنعم أو لا، فإنه يتجاوز بذلك، على الفور، نطاق مبادئه البرجماتية؛ ذلك لأن المسألة لا تعود عندئذ مسألة تبرير، فهو لا يفكر في ذرائع ثانوية أو مبررات على الإطلاق، لأن هذا يؤدي به إلى تسلسل لا نهائي، بل إنه حين يجيب بنعم أو لا. يفترض ضمنيا معنى مطلقا للحقيقة، ولا يغير من ذلك احتمال أن يكون مخطئا في حكمه على هذه المسألة، أو أنه قد يقدم بنية حسنة إجابة يتضح بطلانها. فمع هذا كله، ينبغي أن يقبل ضمنا بمعيار مطلق حتى يستطيع تقديم أية إجابة على الإطلاق. هذا النوع من النقد لا ينطبق فقط على النظريات البرجماتية عن الحقيقة، بل على أية نظرية تسعى إلى تعريف الحقيقة من خلال أية معايير أخرى.

والواقع أنه ليس من الصعب أن ندرك من أين تأتي هذه المحاولة من أجل إدراج المنطق ضمن إطار الفعل، فمصدرها، في الأساس هو النقد البرجسوني القائل إن النظريات الموضوعية التقليدية في المنطق لا تسمح بظهور أي شيء جديد وأصيل في العالم. فالمنبع الذي تستلهمه هذه الطريقة في التنظير هو الرغبة في التجديد وفي التوسع الاجتماعي. وهنا نستطيع أن نجد، في نهاية المطاف، خلطا بين تنوع النشاط البشري وبين الإطار الثابت الذي نعبر من خلاله عن هذا النشاط في اللغة والمنطق. ولو لم يدرك الإنسان هذه المعايير ويعترف بها لتعرض بسهولة لتجاوز نطاق المعقول وإغفال الحدود التي لا تتعداها قدراته.

أما الشخصية الرئيسية الثانية التي ينبغي أن نذكرها في هذا الصدد فهي الزميل السابق لكاتب هذه السطور، أ. ن. هوايتهد

A. N. Whitehead (1861-1947م) وقد تحدثنا عنه من قبل بوصفه منطقيا رياضيا. ولكن اهتماماته أخذت تتغير بالتدريج، بعد كتاب المبادئ الرياضية، في اتجاه المشكلات الفلسفية التي يثيرها العلم المعاصر، وانتهي به المطاف إلى الميتافيزيقا. وفي عام 1924م بدأ طريقا يكاد يكون جديدا كل الجدة، بعد أن عين أستاذا للفلسفة في هارفارد. وفي كثير من الأحيان نجد كتاباته التي تنتمي إلى السنوات المتأخرة من حياته شديدة الغموض عسيرة الفهم. وعلى الرغم من أن وصف أي كتاب بأنه صعب ليس في ذاته نقدا بالطبع، فلا بد أن أعترف بأن التأملات الميتافيزيقية لهوايتهد تبدو في نظري غريبة إلى حد ما، ومع ذلك فسأحاول أن أتحدث عنها بإيجاز.

إن هوايتهد يرى أن علينا، لكي نفهم العالم، ألا نتابع تراث جاليليو وديكارت، الذي يقسم عالم الواقع إلى صفات أو كيفيات أولية وثانوية. فمثل هذا الطريق لا يوصلنا إلا إلى صورة تشوهها المقولات العقلانية، بل إن العالم يتألف من مجموعة لا نهائية من الأحداث العينية التي يبدو أن كلا منها يذكرنا بمونادة ليبنتس. ولكن الأحداث، على خلاف المونادات، وقتية وتتلاشى لكي تفسح الطريق لأحداث أخرى. هذه الأحداث تحدث على نحو ما للأشياء، وهكذا نستطيع أن نشبه مجموعات الأحداث بصيرورة هرقليطس، والأشياء بأفلاك بارمنيدس. وبطبيعة الحال فإن هذه، إذا ما أخذت منعزلة، كانت تجريدات، ولكنها في عملياتها الفعلية ترتبط فيما بينها ارتباطا لا ينفصم.

ناپیژندل شوی مخ