224

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

أما بالنسبة إلى الإنسان، فإن العملية التطورية قد أوصلتنا إلى حيوان طغى فيه العقل على الغريزة. ويرى برجسون أن هذا أمر مؤسف، تماما كما رأى روسو من قبل. فقد اتجه عقل الإنسان إلى خنق غرائزه، وسلبه بذلك حريته. ذلك لأن العقل يفرض قيوده الذهنية الخاصة على العالم، فيقدم بذلك صورة مشوهة له. وهكذا نرى إلى أي حد تبتعد هذه الآراء عن موقف العقليين الذي يرى في العقل قوة تحقق لنا التحرر.

وأعلى أشكال الغريزة هو الحدس، الذي هو نوع من النشاط الروسي يتوافق بصورة مباشرة مع العالم. فعلى حين أن العقل يشوه التجربة، نجد الحدس يندمج فيها على ما هي عليه. والعيب الذي يشوب العقل في رأي برجسون هو أنه لا يتطابق إلا مع الانفصال السائد في العالم المادي. وواضح أن هذا الرأي يرتبط بفكرة اللغة بوصفها إطارا يضم مفاهيم يسودها الانفصال. أما الحياة فهي في جوهرها متصلة، ومن ثم يعجز العقل عن فهمها، ولذا ينبغي علينا أن نعود مرة أخرى إلى الغريزة.

ويرتبط التمييز بين العقل والحدس عند برجسون بتمييز آخر مواز له بين المكان والزمان. فالعقل، الذي يفكك العالم أو يحلله، يعمل بطريقة لا زمانية، شبيهة بالحلم. ولو عدنا إلى استخدام التقابل الذي أشرنا إليه من قبل بين النظري والعملي، بالمعنى الاشتقاقي لهاتين الكلمتين، لوجدنا العقل نظريا، فهو يتأمل العالم بطريقة هندسية، وبالنسبة إليه يكون هناك مكان دون أن يكون ثمة زمان. غير أن الحياة مسألة عملية تنساب في الزمان، وهنا يكون للحدس دوره. صحيح أن لعمليات التشريح المكانية التي يقوم بها العقل بعض الأهمية، ولكنها مع ذلك عقبة في وجه الفهم الصحيح للحياة. أما الزمن الذي تتحدث عنه النظريات الفيزيائية فليس زمنا بالمعنى الحقيقي، وإنما هو نوع من المجاز المكاني، والزمن الحقيقي للحدس هو ذلك الذي يطلق عليه برجسون اسم الديمومة

duree

وهو شيء يصعب وصفه، ويبدو أن برجسون يتصوره على أنه نوع من التجربة البحت التي تطغي علينا عندما نتوقف عن التفكير العقلي ونترك أنفسنا في انسياب مع موجة الزمان، وربما جاز لنا أن نشبه هذه الفكرة بأحوال المعرفة الوجودية كما تحدث عنها كيركجور، وكما أخذ بها الوجوديون اللاحقون بعد تعديلها.

وترتبط نظرية الزمان عند برجسون بالوصف الذي يقدمه للذاكرة. ففي الذاكرة يصطنع العقل الواعي نوعا من الاتصال بين الماضي والحاضر؛ ذلك الماضي الذي لم يعد يمارس فعلا، والحاضر الذي هو فعال الآن. وبالطبع فإن هذه الطريقة في الكلام تفترض نفس ذلك الزمن الرياضي الذي حرص برجسون في غير ذلك من المواضع على استبعاده لصالح الديمومة، فلا بد أن يكون الماضي والحاضر منفصلين حتى يكون هنالك معنى للقضية السابقة المتعلقة بالفعل. وفضلا عن ذلك، فهناك خلط ينشأ من المعنى المزدوج الذي ينسب إلى كلمة الذاكرة، إذ نعني بالذاكرة أحيانا النشاط العقلي المتعلق بالتذكر هنا، وفي الوقت الراهن، ونعني بها أحيانا أخرى الحدث الماضي الذي يتم تذكره على هذا النحو. وهكذا فإن الخلط بين النشاط الذهني وموضوعه يؤدي إلى الكلام عن الماضي والحاضر وكأنهما ممتزجان.

ولقد كان هذا الاتجاه المضاد للعقلانية في تفكير برجسون هو الذي أدى به إلى أن ينصرف على وجه العموم، عن تقديم أسباب مقنعة أو غير مقنعة، للآراء التي يدعونا إلى قبولها، وبدلا من ذلك اعتمد على الطابع الشعري في تقديم نماذج لآرائه. وهذا يؤدي إلى أسلوب مشوق جذاب، ولكنه لا يقنع القارئ بالضرورة. بل إن هذه صعوبة تعترض أية مجموعة من القضايا التي تستهدف تضييق نطاق العقل. ذلك لأن الكلام عن أسباب لقبول رأي معين، هو في ذاته التزام بميدان العقل.

ولعل أفضل فهم لنظرية برجسون هو أن تنظر إليها على أنها تعرض علينا بعض السمات النفسية، لا المنطقية، للتجربة. وبهذا المعنى تكون متمشية مع بعض الاتجاهات في النظرية النفسية، وهو حكم ينطبق بالمثل على الوجودية. ولقد كان أهم تطور جديد في ميدان علم النفس هو نظرية التحليل النفسي، ولكن قبل أن نقدم عرضا موجزا لها، ينبغي علينا أن نتحدث عن اتجاه آخر في علم النفس كان مضادا للتحليل النفسي في نواح متعددة، أعني ذلك الاتجاه الذي يطلق عليه، بصورة عامة اسم «السلوكية».

لقد انبثقت المدرسة السلوكية في علم النفس عن الوضعية. فهي تنكر تلك الكيانات الخفية التي كان يقول بها علم النفس الاستنباطي القديم، وتعلن تمسكها بالسلوك الظاهر، فلا أهمية إلا للأفعال التي نلاحظ أن الناس يقومون بها فعلا، وأقصى ما يمكن السماح به هو أن نتكلم عن الاستعدادات للعمل على أنحاء معينة في ظروف معينة، وذلك ضمن إطار التصورات التي نستخدمها في وصف السلوك، وهذه أمور يمكن ملاحظتها بوضوح واختبارها بطريقة تشبه إلى حد بعيد تجارب عالم الفيزياء، ولهذه الطريقة في النظر إلى الموضوع امتداد بسيط يتمثل في البحث عن تفسيرات فيزيائية كيميائية، وفسيولوجية، للظواهر النفسية، وهكذا تسير هذه النظرية في الاتجاه المادي والوضعي بالمعنى الذي أوضحناه. ولقد كان من أشهر الإنجازات التي تحققت في هذا الاتجاه، أعمال العالم الفسيولوجي الروسي بافلوف

كل عن الأفعال المنعكسة المكيفة

ناپیژندل شوی مخ