223

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

Benedetto Crce (1866-1952م) نجد ضربا آخر من المثالية، مستمدا في بعض جوانبه من الهيجلية، وإن كان التأثير المباشر لفيكو أهم في هذه الحالة. ولم يكن كروتشه فيلسوفا أكاديميا، بل كان يتمتع باستقلال اقتصادي طوال حياته المديدة. ونظرا إلى مكانته الدولية فقد صمد للعهد الفاشي دون أن يلحق به أذى بالغ، وشغل بعد الحرب عدة مناصب في الحكومة الإيطالية.

وقد ألف كروتشه بغزارة في التاريخ والأدب، وأسس في عام 1905م مجلة أدبية ترأس تحريرها، اسمها «النقد

La Critica ». ومن السمات المميزة لنظرته الفلسفية، اهتمامه بعلم الجمال، نظرا إلى تلك التجربة العينية التي يمر بها الذهن حين يتأمل عملا فنيا.

ولقد كان كروتشه يشارك هيجل رأيه القائل إن الحقيقة روحية، إذ إن الاتجاه الواحد عند هيجل لا يترك مجالا للصعوبات المعرفية التي أثارتها التجريبية الإنجليزية، ولا حتى لتلك التي أثارتها نظرية كانت. ولكن على الرغم من أن إلحاح هيجل على الجدل جعله يؤكد أن العمليات الذهنية تنطوي على قهر إيجابي للعقبات، فإن كروتشه يبدو وكأنه يعود هنا مباشرة إلى معادلة فيكو القائلة بأن الحقيقة هي الفعل

Venum Factum . وعلى أية حالة فإن كروتشه كان واعيا ببعض نقاط الضعف الرئيسية في الهيجلية كتطبيق الجدل على الطبيعة، والتقشات الثلاثية التي تنطوي على ممارسات عددية سحرية، ولكن أكبر أخطاء هيجل هو مفهوم المذهب المثالي عنده، وهو المفهوم الذي وجهنا إليه من قبل بعض الملاحظات النقدية، ونستطيع أن نضيف الآن إلى ما قلناه أن هناك نوعا من التعارض بين فكرة التطور الجدلي وفكرة بلوغ أهداف نهائية. أما كروتشه فيحتفظ بفكرة التطور وإن لم يقبل الوصف الذي قدمه هيجل لها. وبدلا من أن يقول بالمسار الجدلي، قال بشكل معدل من أشكال نظرية المراحل عند فيكو؛ ذلك لأن فيكو كان يعتقد أن هذه التطورات دائرية، بحيث يعود كل شيء في النهاية إلى نقطة البداية الواحدة، وهو رأي يرجع كما رأينا، إلى أنبادقليس. أما كروتشه فقد نظر إلى هذه التغيرات على أنها تسير إلى الأمام، بحيث إن العقل، حين يعود إلى المرحلة الأصلية ، يكون قد اكتسب خلال مساره السابق استبصارا جديدا.

ولكن ينبغي أن نعترف بأن كروتشه، على الرغم من كل ما رفضه من هيجل، يظل يحتفظ في كتاباته بقدر معقول من الجدل، فهو يتحدث في كتابه عن علم الجمال بطريقة تذكرنا بمنطق هيجل إلى حد بعيد، ولنستمع إليه وهو يقول: «إن الرابطة الوثيقة بين الخطأ والصواب تنشأ من أن الخطأ البحت، الخالص، لا يمكن تصوره، ونظرا إلى أن من المستحيل تصوره، فهو غير موجود. إن الخطأ يتكلم بصوتين، أحدهما يؤكد البطلان، ولكن الآخر ينكره، وهذا تصادم بين نعم ولا، يسمى بالتناقض.» هذا النص يفيد أيضا في إبراز فكرة كروتشه القائلة إن الذهن مطابق للواقع، فليس في العالم شيء لا يمكننا أن نكتشفه من حيث المبدأ. وأي شيء يستحيل تصوره لا يمكن أن يكون موجودا، ومن ثم فإن ما هو موجود هو أيضا قابل لأن يتصور، ومما تجدر ملاحظته أن برادلي يؤمن بالشكل العكسي لهذه القضية، إذ رأى أن ما يمكن تصوره لا بد من أجل ذلك أن يكون موجودا، وقد صاغ فكرته هذه على النحو الآتي : «ما يمكن وجوده، وينبغي وجوده، موجود.» وأخيرا فإن التأثير الهيجلي هو الذي جعل كروتشه يعرض فيكو كما لو كان فيلسوفا عقلانيا ينتمي إلى القرن التاسع عشر، على حين أنه كان في الواقع أفلاطونيا ينتمي إلى القرن السابع عشر.

أما في فرنسا فإن أقوى الفلاسفة تأثيرا عند نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد اتخذ وجهة نظر مختلفة في رد فعله على العلم، فهنري برجسون

H. Bergson (1859-1941م) ينتمي إلى التراث اللاعقلي الذي يرجع إلى روسو والحركة الرومانتيكية، وقد أكد برجسون، كالبرجماتيين، أهمية الفعل فوق كل شيء آخر، وكان في ذلك يعبر عن قدر من نفاد الصبر تجاه الاستخدام الدقيق والنزيه للعقل في الفلسفة والبحث العلمي، فمن أهم سمات الفكر العقلي بحثه عن الدقة. وتمثل القواعد التي نص عليها ديكارت في كتاب «المقال في المنهج» وصفا جيدا لهذه السمة. وأهم ما نلاحظه في هذا الصدد هو أننا، حين نحاول اقتناص الحركة العابرة للتجربة وحصرها داخل إطار اللغة، نوقف تدفق الواقع وصيرورته، ونضع في مكانها صورة لفظية سكونية هزيلة له. هنا نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة مشكلة هرقليطس وبارمنيدلس القديمة، والهدف الذي يسعى إليه برجسون هو الدفاع عن حقيقة الصيرورة في التجربة، في مقابل تشويه الصيغ الجامدة التي تنتمي إلى العقل وصورته عن العالم.

إلى هذا الحد تذكرنا مشكلة برجسون بمشكلة برادلي. غير أن الحل الذي أتى به برجسون للمشكلة مختلف كل الاختلاف. فقد كانت ميتافيزيقا برادلي مرتبطة في النهاية ارتباطا وثيقا بالنظريات المنطقية التي تبنى عليها، ومرتبطة بوجه خاص بنظرية عن الحقيقة تقوم على فكرة الرابط. أما عند برجسون فإن المنطق ذاته هو العنصر الذي ينبغي تجاوزه. وبهذا المعني يمكن أن يوصف برادلي بأنه عقلي، على حين أن برجسون لا عقلي.

إن فلسفة برجسون، على العكس من الفلسفات الواحدية، من مثالية ومادية، في القرن التاسع عشر، تعود إلى النظرة الثنائية إلى العالم. غير أن القسمين اللذين أرجع الكون إليهما، يختلفان عما قالت به النظريات الثنائية السابقة، فأحدهما هو المادة، كما كانت الحال عند ديكارت، أما الآخر فهو نوع من المبدأ الحيوي يختلف عن الشطر الذهني في العالم، الذي قال به الفلاسفة العقليون. هاتان القوتان الكبيرتان: الحيوية من جهة، والمادية من جهة أخرى، تشتبكان في صراع دائم يحاول فيه الاندفاع الإيجابي للحياة أن يتغلب على العقبات التي تضعها أمامه المادة الجامدة. وفي هذه العملية تتشكل القوة الحيوية إلى حد ما، بالظروف المادية التي تعمل فيها، ولكنها تحتفظ مع ذلك بصفة الحرية الأساسية فيها، ويرفض برجسون نظريات التطور التقليدية نظرا إلى ميولها العقلانية، التي لا تسمح بانبثاق أي شيء جديد بصفة أساسية. فاللاحق يبدو متضمنا على نحو ما في السابق، أو محكوما به، مما يهدد بضياع حرية الفعل التي ينسبها برجسون إلى القوة الحيوية. فالتطور في رأيه ينتج تجديدا أصيلا، وهو خلاق بالمعنى الحرفي. هذه النظرية تعرض في أشهر كتبه، الذي يحمل عنوان «التطور الخلاق». والواقع أن نوع المسار التطوري الذي يفترضه برجسون مأخوذ مباشرة من تشبيه الخلق أو الإبداع الفني، فكما أن ما يحرك الفنان إلى الفعل هو نوع من الحافز الخلاق، كذلك تعمل القوة الحيوية في الطبيعة، أي أن التغيرات التطورية تحدث عن طريق اندفاعات خلاقة مستمرة تهدف إلى إيجاد سمات جديدة معينة لم يكن لها وجود من قبل.

ناپیژندل شوی مخ