222

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

أما بالنسبة إلى دلالة القضايا وإجراءات البحث العلمية، فقد كان الاتجاه يسير نحو طرحها جانبا لصالح شكل من أشكال الطقوس الرياضية، فقد أدت كشوف العلم إلى زعزعة النظرة النيوتونية إلى العالم، بكل ما كانت تتصف به من صلابة واكتمال. غير أن العلماء بدلا من أن يحاولوا توسيع مدى النظرة، اكتفوا - على وجه العموم - بمعالجة مشكلاتهم عن طريق الاستعانة بنظريات رياضية يمكن أن تأتي بنتائج مرضية إذا ما فسرت بالطريقة المناسبة. وهكذا فإن الخطوات الوسطى، المتعلقة بالحساب والتحويل، تترك وحدها، وتقوم بوظيفة مجموعة من القواعد فحسب. والواقع أن هذا الموقف، الذي هو واسع الانتشار، وإن لم يكن ساريا على الجميع، يذكرنا إلى حد بعيد بالنزعة الصوفية العددية عند الفيثاغوريين وأتباعهم في عصر النهضة المتأخر.

أما في الفلسفة ذاتها فقد أدت هذه الاتجاهات العامة إلى إيجاد حركة متباعدة عن العلم، ولا يتمثل ذلك فقط في عودة ظهور الاتجاهات المثالية في القارة الأوروبية، بل إنه يصدق أيضا على الفلسفة الإنجليزية التي تسير في اتجاه لغوي إلى حد بعيد. فإذا بدأنا بالحديث عن هذه الأخيرة (أي الفلسفة الإنجليزية) لوجب أن نوافق على الرأي القائل إنه ليس من مهمة الفلسفة بالفعل أن تقوم باكتشافات، بل إن مهمتها تنحصر في تقدير مزايا الطرق المختلفة في الكلام عن الأمور التي تعترف بها جميع الأطراف. وهذه، على أية حال، إحدى المهام التي كانت الفلسفة تقوم بها على الدوام. ومع ذلك فإن الآراء الفلسفية المختلفة قد تساعد على تقدم البحث العلمي أو تعوقه بدرجات مختلفة.

فإذا عدنا إلى ميدان الفلسفة بمعناها الصحيح، وجدنا أن المسرح الفلسفي في إنجلترا كانت تسيطر عليه، في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، المثالية التي انتقلت إليه من داخل القارة: ففي بريطانيا يأتي المطر من أيرلندة وتأتي المثالية من ألمانيا. غير أن الشخصية الرئيسية في هذا الميدان لم تكن تساير التراث الهيجلي كلية، تلك الشخصية هي برادلي

F. H. Bradley (1846-1924م) الذي درس وألف في أكسفورد، وصاغ رفضا نقديا للمثالية، وكان يهدف إلى بلوغ «مطلق» يذكرنا بالله أو الطبيعة عند اسبينوزا أكثر مما يذكرنا بالفكرة المطلقة عند هيجل. أما المنهج الجدلي الذي اتبعه في مناقشاته فلم يكن مبدأ للنمو العضوي، كما كان بالفعل عند هيجل، وإنما كان سلاحا كلاميا على طريقة أفلاطون والسابقين عليه من الإيليين. بل إن برادلي يبذل جهدا خاصا من أجل معارضة النزعة العقلية الواحدية عند هيجل، التي كانت تنطوي على اتجاه إلى التوحيد بين المعرفة والوجود، وهو رأي يرتد آخر الأمر إلى سقراط والفيثاغوريين. فبرادلي يحاول الهبوط إلى ما هو أدنى من الفكر العقلي ومقولاته، إلى مستوى الشعور المحض أو التجربة الخالصة، وهذه هي المرحلة التي نستطيع فيها أن نتحدث عن الواقع الفعلي

reality . أما الفكر فهو دائما نوع من التزييف لا يوجد فعليا، فالفكر يبعث مظاهر فحسب، لأنه يشوه الواقع الفعلي إذ يضفي عليه إطارا دخيلا من التصنيفات والارتباطات. وهكذا يرى برادلي أنه لا مفر لنا، خلال عملية التفكير، من أن نوقع أنفسنا في تناقضات. وقد عرض برادلي هذه النظرية في كتاب أطلق عليه اسم «المظهر والحقيقة».

إن محور هجوم برادلي على الفكر هو أنه بالضرورة «علائقي»، والعلاقات توقعنا في التناقض، كما يحاول أن يثبت. ولكي يبرهن برادلي على هذه النتيجة غير العادية يستخدم شكلا آخر من أشكال حجة «الرجل الثالث» على النحو الذي استخدمتها عليه شخصية بارمنيدس، في محاورة أفلاطون، ضد نظرية المشاركة عند سقراط. فلما كانت الصفات والعلاقات متميزة من جهة ومتلازمة من جهة أخرى، فلا بد أن يكون في وسعنا أن نميز، في أية صيغة أو كيفية بعينها، بين الجزء الذي هو كيفي بالمعنى الصحيح، والجزء الذي يحدد الروابط العلائقية. غير أننا لا نستطيع أن نقوم بتمييز كهذا بين الأجزاء المختلفة لصفة أو كيفية، وحتى لو أمكننا ذلك، لواجهتنا مشكلة الربط بين الجزأين مرة أخرى، مما يؤدي إلى علاقة جديدة تثير حجة الرجل الثالث، من جديد.

1

وهكذا فإن ميدان الفكر، ومعه العلم، يشوبه التناقض، ومن ثم فهو ينتمي إلى ميدان المظهر لا الحقيقة. والواقع أن برادلي يصل هنا، ولكن بطريقة ملتوية تدعو إلى الدهشة، إلى نفس النتيجة التي وصل إليها هيوم، وإن كانت الأسباب التي أدت به إلى ذلك مختلفة. ولكنه مثل هيوم يرفض فكرة الذات لأنها تنطوي على علاقات. أما ألوهية الأديان التقليدية فتنتمي بدورها، ولنفس السبب، إلى ميدان المظهر.

وبعد أن تخلص برادلي من المظهر على هذا النحو، يجد الحقيقة في «المطلق»، الذي يمكن تشبيهه «بالواحد» في المدرسة الإيلية، ولكننا نستشعره من الداخل على مستوى أقرب إلى الطابع المباشر من الفكر العقلي. في هذا المطلق تتحد جميع الاختلافات وتحل جميع الصراعات. ولكن هذا لا يعني إلغاء المظاهر؛ ففي حياتنا اليومية نفكر في العلم ونمارسه، مما يجعلنا نندمج في المظهر. وبالمثل فإن الشر الذي يرتكبه الناس متغلغل في العالم اليومي العادي، بوصفه مظهرا. غير أن هذه النقائص تختفي في المطلق.

وفي فلسفة بندتو كروتشه

ناپیژندل شوی مخ