221

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

إن الاتساع الهائل في نطاق السيطرة العلمية يثير مشكلات اجتماعية جديدة ذات طابع أخلاقي. ولو نظرنا إلى كشوف العلماء واختراعاتهم في ذاتها لكانت محايدة من الوجهة الأخلاقية، ولكن القوة التي تكسبنا إياها هي التي يمكن تحويلها في اتجاه الخير أو الشر. والواقع أن هذه ليست مشكلة جديدة بالمعنى الصحيح، ولكن ما يجعل نتائج العلم أشد خطورة في أيامنا هذه هو الفعالية المرعبة لأدوات الدمار المتوافرة في الوقت الراهن. وهنالك فارق آخر بين الوضع الراهن والأوضاع السابقة، هو أن المصادر العلمية الحديثة للقوة والسيطرة تتخذ طابعا لا تمييز فيه حين تستخدم من أجل التدمير. وهكذا ابتعدنا كل الابتعاد عما كانت عليه الأوضاع أيام الإغريق، حين كان من أفظع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها اليوناني في زمن الحرب، قطع أشجار الزيتون.

ولكننا بعد أن وجهنا كل هذه التحذيرات، ينبغي أن نتذكر أن من أصعب الأمور رؤية المرء لعصره من منظور صحيح. وفضلا عن ذلك فلم تحدث حتى الآن طوال تاريخ حضارتنا، حالة واحدة لم يتمكن فيها ذوو البصيرة والعزم في نهاية الأمر، من الوصول إلى طريقة لإصلاح الأوضاع في الوقت الذي كان يبدو فيه أن كل شيء قد ضاع، ورغم ذلك فمن الواجب أن نؤكد أننا نواجه موقفا مختلفا عن كل ما حدث في الماضي. ففي الأعوام المائة الأخيرة طرأت على الغرب تغيرات مادية لم يسبق لها في التاريخ مثيل.

لقد كان رد فعل العلم ضد الفلسفة، في المحصلة النهائية، إحدى نتائج وضعية كونت، فقد رأينا في هذا الصدد أن كونت كان حريصا على استبعاد وضع الفروض، وكان يرى أن ما يجب عمله إزاء الظواهر الطبيعية هو وصفها لا تفسيرها، ومثل هذا البرنامج يرتبط على نحو ما بالحالة العامة للتفاؤل العلمي في العصر؛ إذ لا يمكن أن يظهر موقف كهذا إزاء التفكير النظري إلا حين يسود الشعور بأن العمل العلمي قد وصل إلى درجة من الاكتمال وأن النهاية باتت على مرمى البصر.

ومن الجدير بالملاحظة، بالنسبة إلى هذا الموضوع بالذات، أن هناك فقرة كتبها نيوتن، يقتبسها الكثيرون بمعزل عن سياقها، فيؤدي ذلك إلى تشويهها، ففي معرض حديث نيوتن عن الطريقة التي تسير بها الأشعة الضوئية قال بطريقة حذرة أنه لا يضع فروضا، فهو لا يحاول أن يقدم تفسيرا، ولكنه لا يقصد أن هذا مستحيل. ومع ذلك يمكننا أن نعترف بأنه حين تطرح نظرية قوية مثل نظرية نيوتن، تظل تستخدم طوال وقت ما استخداما فعالا دون حاجة إلى مثل هذه الفروض. وبقدر ما اعتقد العلماء أن فيزياء نيوتن توشك على أن تحل جميع المشكلات الباقية، كان من الطبيعي أن يؤكدوا أهمية الوصف على حساب التفسير. ومن جهة أخرى فإن الفلاسفة المثاليين كانوا يميلون، على الطريقة الهيجلية، إلى الجمع بين كافة فروع البحث في نسق واحد شامل. وفي مقابل ذلك رأى العلماء أن أبحاثهم ينبغي ألا تدرج ضمن فلسفة واحدية كهذه. أما المطلب الوضعي بضرورة التزام حدود التجربة ووصفها، فقد تم الربط عن وعي بينه وبين العودة إلى «كانت» وأتباعه. ذلك لأن البحث عن تعليلات للظواهر والسعي إلى تقديم تفسيرات، يعني الخوض في ميدان الأشياء في ذاتها، حيث لا تنطبق المقولات المستخدمة في التفسير أصلا. لذلك لا بد أن تكون مهمة تقديم التفسيرات مهمة وهمية خداعة.

هذا الموقف من النظرية العلمية هو الطابع المميز لمجموعة كاملة من العلماء المهتمين بالنتائج الفلسفية لأعمال البحث العلمي، ولكن ينبغي أن نلاحظ، في صدد استخدامهم لاسم «كانت» في هذه المسألة، أن وجهة النظر التي يمثلها هؤلاء المفكرون ليست كانتية بالمعنى الأصلي للكلمة. ذلك لأن نظرية المعرفة عند «كانت»، كما رأينا من قبل، تجعل إطار مقولات التفسير شرطا ضروريا للتجربة. وفي هذا السياق الحالي يوصف التفسير بأنه غير علمي؛ إذ يفترض أنه يتجاوز التجربة. ولذا لا يمكن أن يقال عن هؤلاء العلماء الوضعيين أنهم فهموا «كانت» فهما سليما.

ولقد كان أشهر ممثلي هذه الجماعة هو إرنست ماخ

E. Mach (1838-1916م) الذي يقدم إلينا كتابه «علم الميكانيكا» عرضا وضعيا للميكانيكا. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، حرص كل الحرص على تجنب استخدام المصطلح المدرسي الذي تسرب بقدر ما إلى فيزياء نيوتن. ومن أوضح أمثلته مصطلح «القوة». فالقوة ليست شيئا يمكن رؤيته. بل إن كل ما يمكننا قوله هو أن الأجسام تتحرك على أنحاء معينة. لذلك استغنى ماخ عن القوة وعرفها من خلال تصور حركي بحت هو عجلة السرعة

acceleration . وبالطبع فإن ماخ لا يعتزم تقديم ميكانيكا تكون أكثر إحكاما من حيث هي علم، بل إن الممارسة الوضعية هي في الواقع تطبيق «لسكين أوكام» على ما يبدو أنه نمو طفيلي زائد لتصورات علمية لا جدوى منها. ولن يمكننا أن نبحث هنا بالتفصيل عما إذا كان هناك مبرر لعملية الإزالة هذه. ولكن من المهم أن نؤكد مسألة واحدة فيما يتعلق بالمنهج العلمي بوجه عام. فاستبعاد الفروض معناه إساءة فهم وظيفة التفسير في العلم؛ ذلك لأن الفرض يفسر بقدر ما يعلل الظواهر ويتنبأ بالمستقبل. وإذا لم يكن هو ذاته موضوعا للبحث، فمن الممكن أن يظل يفسر، وذلك على الأقل بقدر ما لا يتعارض مع الوقائع، ولكنه لا يفسر إلا لأنه يظل هو ذاته بلا تفسير. وعندما يراد إيجاد تعليل له هو ذاته لا يعود يفسر، بل ينبغي تعليله بفرض آخر، يظل بدوره بلا تفسير، وليس في ذلك أي غموض؛ إذ إنك لا تستطيع أن تفسر على الفور كل شيء في آن واحد. ولكن الوضعيين يخطئون حين يذهبون إلى أنك لا تستطيع أن تفسر أي شيء على الإطلاق؛ ذلك لأننا لو افترضنا أننا قررنا التخلي عن كل الفروض، فكيف إذن سنظل نمارس علمنا؟ إن كل ما يتبقى عندئذ سيكون نوعا من التصنيف على غرار ما قام به بيكن ، وهذا التصنيف، كما رأينا، لن يفيدنا كثيرا، وهكذا فإن مجرد استمرار العلم في طريقه هو في ذاته تفنيد لوضعية مفكرين مثل ماخ. ونستطيع أن نجد أوضح وأصرح نقد للمذهب الوضعي في أعمال مايرسون

E. Meyerson (1859-1933م) حيث نجد نظرية في العلم تستلهم روح «كانت» بطريقة أصيلة في مبدئها العام، وإن لم تتقيد بتفاصيلها.

والواقع أن الفلاسفة العلميين، في محاولاتهم إيجاد بدائل علمية لا يطلقون عليه بازدراء اسم «الميتافزيقا». قد وقعوا في كثير من الأحيان في مشكلات ميتافيزيقية خاصة بهم، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب. فعلى الرغم من أنه قد يكون لهم بعض الحق في رفض التأملات الميتافيزيقية للفلاسفة، فإنهم لم يدركوا أن البحث العلمي ذاته يمضي في طريقه على أساس فروض مسبقة معينة. وإلى هذا الحد، على الأقل، يبدو أن «كانت» كان على حق. فالفكرة العامة للسببية مثلا، شرط مسبق للعمل العلمي، وهي ليست نتيجة بحث، وإنما هي افتراض مسبق، حتى ولو كان ضمنيا فحسب، يستحيل بدونه السير في طريق البحث. ولو نظرنا، في ضوء هذه الملاحظات، إلى التجديدات الفلسفية التي ظهرت مؤخرا في كتابات العلماء لما وجدناها مثيرة للاهتمام إلى الحد الذي تبدو عليه للوهلة الأولى.

ناپیژندل شوی مخ