220

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

لقد تميزت الفترة المتأخرة من القرن التاسع عشر بعدد من التطورات الجديدة التي كان لها تأثيرها في المناخ العقلي لعصرنا الحاضر. فهناك أولا انهيار الأساليب القديمة في الحياة، التي كانت جذورها ترجع إلى عصر ما قبل التصنيع. ذلك لأن النمو الهائل في القدرة التكنولوجية جعل الحياة عملية أعقد بكثير جدا مما اعتدنا أن نراها عليه من قبل. وليس من مهمتنا هنا أن نقرر إن كان هذا خيرا أو شرا، بل يكفينا أن نلاحظ أن المطالب المفروضة على عصرنا أشد تنوعا بكثير، وأن الشروط المطلوبة منا لكي نواصل حياتنا المعتادة أشد تعقيدا بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى.

هذا كله ينعكس على المجال الثقافي والعقلي بدوره. فعلى حين أنه كان في وسع شخص واحد من قبل أن يكون متمكنا من عدة فروع علمية، أصبح من الصعب على نحو متزايد في الوقت الراهن، أن يكتسب شخص واحد معرفة متينة حتى بميدان علمي واحد. والواقع أن تفتيت الميادين العقلية إلى أجزاء يزداد نطاقها ضيقا بالتدريج، قد أدى في العصر الحاضر إلى ارتباك حقيقي في لغة الحوار، وهذه الحالة غير الصحية إنما هي حصيلة تغيرات معينة فرضت نفسها مع نمو المجتمع التكنولوجي المعاصر، فحتى عهد ليس بعيدا في الماضي كانت تسود في كافة أرجاء أوروبا الغربية، لا في بلد بعينه فحسب، خلفية مشتركة يتقاسمها كل من بلغوا مستوى معينا من التعليم، وبالطبع لم تكن هذه مظهرا للشمول أو المساواة في الفرص؛ فقد كان التعليم عادة، في تلك الفترة، مرتبطا بامتياز خاص، وكان من نصيب قلة محظوظة، وهو وضع أزيل في الوقت الراهن إلى حد بعيد. فالمعيار الوحيد المقبول الآن هو الكفاءة، التي هي ميزة من نوع مختلف. على أن هذا الأساس المشترك للتفاهم قد اختفى منذ ذلك الحين، وأصبحت مطالب التخصص وضغوطه توجه الشباب إلى قنوات أضيق، قبل أن تتاح لهم فرصة تنمية اهتمامات أوسع، وفهم أفضل للعالم. ونتيجة لهذا كله أخذت تزداد إلى حد بعيد صعوبة الاتصال والتفاهم بين أولئك الذين يكرسون أنفسهم لفروع مختلفة في البحث.

غير أن القرن التاسع عشر قد تولد عنه عامل آخر أوضح، من العوامل المؤدية إلى صعوبة الحوار والتفاهم. فقد شهد ذلك القرن انهيار ثم موت وسيلة التعبير التي ظلت منذ عهود قديمة وسيلة مشتركة بين المثقفين في كافة الأمم الأوروبية؛ فقد كانت اللاتينية هي لغة الباحثين والمفكرين والعلماء منذ عصر شيشرون حتى عصر النهضة. ولكن حين كتب جاوس

Gauss

مؤلفه المشهور عن السطوح المقوسة باللاتينية، في أوائل القرن التاسع عشر، كان ذلك قد أصبح نوعا من التمسك بتقليد غابر. أما اليوم فإن الباحث في أي فرع ينبغي عليه أن يلم بلغتين حديثتين أو ثلاث غير لغته الخاصة، إذا ما أراد الاطلاع على الأعمال التي تتم في ميدان تخصصه، وقد أصبحت هذه مشكلة غير هينة، لم يتم الاهتداء إلى حل لها حتى الآن، وإن كان يبدو أن لغة حديثة ما سيتعين عليها، بمضي الوقت، أن تؤدي الوظيفة التي كانت اللاتينية تقوم بها من قبل.

ومن السمات الجديدة الأخرى للحياة العقلية في القرن التاسع عشر، الانفصال بين النشاط الفني والنشاط العلمي. ويعد هذا الانفصال تراجعا إذا ما قورن بالمزاج العقلي الذي كان سائدا لدى أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة. فعلى حين أن هؤلاء المفكرين الأسبق عهدا كانوا ينشدون العلم والفن في ضوء مبدأ عام واحد من التوافق والتناسب، فإن القرن التاسع عشر قد تمخض، بتأثير الحركة الرومانتيكية، عن رد فعل عنيف ضد الأضرار التي بدا لهم أن التقدم العلمي يلحقها بالإنسان. فقد خيل إليهم أن الأسلوب العلمي في الحياة بمعامله وتجاربه، يخنق روح الحرية والمغامرة التي لا يستغني عنها الفنان. ومن الغريب أن الرأي القائل بأن النظرة التجريبية لا تكشف أسرار الطبيعة، قد أعرب عنه جوته من قبل، وكان ذلك قطعا في إحدى حالاته الرومانتيكية. وعلى أية حال فإن التضاد بين المعمل ومرسم الفنان يعبر بوضوح عن الانفصال الذي أشرنا إليه.

وفي الوقت ذاته حدث نوع من التباعد بين العلم والفلسفة، فخلال القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كان أولئك الذين قاموا بدور هام في الفلسفة، في معظم الأحيان. أشخاصا لا يمكن أن يوصفوا بأنهم مجرد هواة في المسائل العلمية. غير أن هذا الاتساع في نطاق النظرة الفلسفية اختفى خلال القرن التاسع عشر، في إنجلترا وألمانيا على الأقل، وكان ذلك راجعا في المحل الأول، إلى تأثير الفلسفة المثالية الألمانية. أما الفرنسيون فكانوا في ذلك الحين، كما ذكرنا من قبل، محصنين ضد تأثير تلك المثالية الألمانية، لسبب بسيط هو أن لغتهم لا تتلاءم بسهولة مع هذا النوع من الفكر التأملي، ونتيجة لذلك، لم يكن للانفصال بين العلم والفلسفة نفس القدر من التأثير في فرنسا، ولكن هذا الانشقاق استمر على وجه العموم منذ ذلك الحين. صحيح أن العلماء والفلاسفة لا يتجاهل كل منهم الآخرين تجاهلا تاما، ومع ذلك يبدو من المعقول أن نذكر أن كل فريق كثيرا ما يخفق في فهم ما يقوم به الفريق الآخر. وهكذا فإن مغامرات بعض العلماء المعاصرين في ميدان الفلسفة ليست في أغلب الأحيان، أكثر توفيقا من محاولات الفلاسفة المثاليين في الاتجاه المضاد.

أما على الصعيد السياسي فإن القرن التاسع عشر كان في أوروبا عصر خلافات قومية متزايدة، على خلاف القرن الأسبق الذي لم يكن ينظر إلى تلك المسائل بمثل هذه الحدة. ففي القرن الثامن عشر كان في وسع النبلاء الإنجليز أن يقضوا شهور الشتاء على سواحل البحر المتوسط، كما اعتادوا من قبل، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تخوض حربا ضد إنجلترا، وهكذا كانت الحرب، مع كل قبحها، أخف إلى حد بعيد مما أصبحت عليه بعد ذلك. ولكن الوضع قد اختلف في الحروب القومية الكبرى التي نشبت خلال الأعوام المائة الأخيرة، فأصبحت الحرب أكفأ بكثير، شأنها شأن العديد من الأمور في حياتنا المعاصرة. والشيء الوحيد الذي أنقذ العالم من الدمار الكامل هو انعدام الكفاءة الأزلي في حكامه. ولو قدر لشخص في مثل عبقرية أرشميدس أن يمسك بمقاليد الحكم في أيامنا هذه، بحيث تكون الآلات الموضوعة تحت تصرفه قنابل ذرية بدلا من المنجنيق، لكان مصيرنا الفناء الفوري.

على أن الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر لم تستطع أن تتنبأ بكل هذه التطورات، بل كان يسود، على العكس من ذلك، نوع من التفاؤل العلمي جعل الناس يؤمنون بأن مملكة السماء أوشكت أن تحل في الأرض، وأدى التقدم السريع الذي تحقق في العلم والتكنولوجيا إلى الاعتقاد بأننا أوشكنا على حل جميع مشكلاتنا، وكان المتوقع أن تكون فيزياء نيوتن هي الأداة التي تضطلع بهذه المهمة، غير أن كشوف الجيل التالي قد أحدثت صدمة عنيفة لدى أولئك الذين ظنوا أن كل ما تبقى أمامنا هو تطبيق المبادئ المعروفة للنظرية الفيزيائية على الحالات الخاصة التي تعرض لنا . كذلك فإن الكشوف المتعلقة بالتركيب الداخلي للذرة قد أدت في عصرنا الراهن، إلى زعزعة النظرة الهادئة المستقرة التي كانت سائدة عند نهاية القرن الماضي.

ورغم هذا كله فما زال هناك قدر من هذه النزعة التفاؤلية العلمية سائدا؛ إذ يبدو أن إمكانات تشكيل العالم عن طريق العلم والتكنولوجيا لا حد لها، وفي الوقت ذاته هناك شك متزايد، حتى بين الخبراء أنفسهم، في أن العالم الجديد الذي تخلقه هذه التكنولوجيا قد لا يكون نعمة خالصة كما يتخيل أنصاره المتحمسون؛ ذلك لأن جيلنا الحالي قد أتيحت له فرص عديدة لكي يلاحظ أثناء حياته إحدى النتائج المؤسفة لهذا العالم الجديد، وهي أن من الممكن إلغاء قدر كبير من الاختلافات بين البشر، هذا الإلغاء قد يجعل المجتمع أكثر كفاءة وأكثر استقرارا، ولكنه سيكون بالتأكيد بداية النهاية بالنسبة إلى كل جهد عقلي، في العلم أو في أي ميدان آخر. والواقع أن هذا النوع من الحلم هو في أساسه وهم هيجلي، يفترض أن هناك حالات نهاية قصوى يمكن بلوغها، وأن البحث العقلي عملية يمكن أن تقف عند حد. غير أن هذا رأي باطل، والصحيح، على العكس من ذلك، هو أن البحث لا حدود له، وربما كانت هذه الحقيقة الأخيرة هي التي ستحمينا آخر الأمر من ذلك النوع من الأهداف الذي يحلم به صناع الأوهام الطوباوية من آن لآخر.

ناپیژندل شوی مخ