حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
التي تنسب الألوهية إلى جميع الأشياء التي يراها الإنسان البدائي، ومن هذه ننتقل إلى تعدد الآلهة، ثم إلى التوحيد، بحيث يكون الاتجاه دائما نحو المزيد من التوحيد. وفي حالة العلم يعني هذا الاتجاه أننا نسعى إلى إدراج عدد من الظواهر المتنوعة تحت فئة واحدة. أما في حالة المجتمع فإن الهدف هو الانتقال من الأفراد في اتجاه الإنسانية ككل، وهو رأي يحمل نغمة هيجلية. وعندما نصل إلى مرحلة الإنسانية الوضعية، يكون الحكم للسلطة الأخلاقية التي يملكها صفوة من العلماء، على حين أن السلطة التنفيذية يعهد بها إلى خبراء فنيين. وهكذا لا يكون التنظيم العام مختلفا كثيرا عما نجده في الدولة المثلى لجمهورية أفلاطون.
أما من الناحية الأخلاقية فإن المذهب يقتضي أن يحد المرء من رغباته الخاصة لكي يتفانى من أجل تقدم الإنسانية. هذا التأكيد لأهمية الهدف أو «القضية» إلى حد استبعاد المصالح الخاصة هو أيضا من السمات المميزة للنظرية السياسية الماركسية. وكما هو متوقع، فإن المذهب الوضعي لا يعترف بإمكان قيام نوع استبطاني من علم النفس، وهو يحرص على إنكار هذا الموضوع على وجه التحديد، على أساس استحالة قيام عملية المعرفة بمعرفة ذاتها، وهو رأي يمكننا أن نقر بصحته إذا كان يعني أنه ليس من الصحيح بوجه عام، في الموقف المعرفي، أن يعرف العارف معرفته. ولكن الوضعية باستبعادها الفروض بوجه عام على أساس أنها ميتافيزيقية تسيء فهم طبيعة التفسير.
أما فلسفة ش. س. بيرس
C. S. Peirce (1839-1914م) فتسودها نظرة مختلفة كل الاختلاف عن الوضعية. فعلى حين أن كونت قد استبعد الفروض على أساس أنها ميتافيزيقية، حرص بيرس، بعكس ذلك، على أن يبين أن صياغة الفروض نشاط ذهني أساسي له منطقه الخاص. ولقد كان إنتاج بيرس غزيرا، غير متماسك، وكان فضلا عن ذلك يتصارع مع مشكلات صعبة وأفكار جديدة، ومن هنا لم يكن من السهل الوصول إلى رأي واضح عن موقفه. ولكن مما لا شك فيه أنه واحد من أكثر العقول أصالة في الجزء الآخر من القرن التاسع عشر، وهو بلا جدال أعظم مفكر أمريكي على الإطلاق.
ولد بيرس في كيمبردج بولاية ماساشوستس، لأب كان أستاذا للرياضيات بجامعة هارفارد، حيث تلقى بيرس ذاته دراسته الجامعية. ولم تتح لبيرس فرصة الحصول على وظيفة أكاديمية دائمة مضمونة، إذا استثنينا فترتين من التدريس دامتا بضع سنوات. وقد شغل وظيفة حكومية في مصلحة المساحة، وأنتج إلى جانب أعماله العلمية، سيلا متدفقا بانتظام من الأبحاث والمقالات حول موضوعات فلسفية شديدة التنوع، وكان عجزه عن الحصول على الأستاذية راجعا، إلى حد ما، إلى تجاهله لمعايير المسايرة كما كان يتطلبها المجتمع الذي عاش فيه. وفضلا عن ذلك فإن القليلين، باستثناء بعض الأصدقاء والعلماء الباحثين، هم الذين اعترفوا بعبقريته، ولم يفهمه أحد فهما كاملا. ومما يشهد بتفانيه من أجل أهدافه أنه لم يشعر بمرارة إزاء عدم اعتراف الآخرين به. فعلى الرغم من أنه ظل طوال الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة من حياته منكوبا بالفقر والمرض، فقد ظل يواصل عمله حتى النهاية.
إن من الشائع النظر إلى بيرس بوصفه مؤسس البرجماتية. ومع ذلك فإن هذا الرأي لا يمكن قبوله إلا بتحفظات هامة جدا؛ ذلك لأن البرجماتية المعاصرة لا تنبثق من بيرس، بل مما اعتقد وليم جيمس أن بيرس كان يقوله. ويرجع ظهور هذا الخلط إلى عدة أسباب، أولها أن آراء بيرس ازدادت وضوحا في كتاباته المتأخرة، على حين أن جيمس استمد نقطة انطلاقه من صياغات مبكرة كانت عرضة لمزيد من سوء الفهم. ولقد حاول بيرس أن يتبرأ من البرجماتية التي نسبها جيمس إليه، لذا أصبح يطلق على فلسفته اسم «البرجماتوية
»، آملا أن يلفت هذا اللفظ الثقيل الذي ابتكره أنظار الناس إلى الاختلاف بين الفلسفتين.
لقد عبر بيرس في بعض من كتاباته المبكرة عن المذهب البرجماتي بصورة تسمح للمرء، إذا ما أخذها بمعنى حرفي، بالاستدلال على أن جيمس قد تأثر بها. فبيرس يربط تعريفه للحقيقة بمناقشة عامة لطبيعة البحث العلمي والدوافع الكامنة من وراء السعي إليه. ذلك لأن البحث ينشأ من نوع من عدم الرضا أو عدم الارتياح، وهدفه هو بلوغ حالة من الراحة أو الاستقرار، يتم فيها استبعاد المؤثرات المقلقة، والرأي الذي يقبله المرء في أية مرحلة من مراحل التوازن المتوسطة هذه هو الحقيقة، بقدر ما يستطيع المرء أن يعرفها. ولكن يظل المرء على الدوام عرضة للاعتقاد بأنه قد تظهر أدلة جديدة تقتضي منه تغيير موقفه. فلا يمكن أن نكون واثقين من أننا لم نرتكب خطأ. ويطلق بيرس على هذه النظرية العامة في البحث اسم «استحالة العصمة من الخطأ
Fallibilism » وهو يقول، في معرض شرحه لها، إن الحقيقة هي الرأي الذي تستقر عليه الجماعة آخر الأمر. ولكن هذا القول، إذا ما أخذ بحرفيته، ممتنع بالتأكيد. ذلك لأننا لو اعتقدنا أن العدد اثنين مضروبا في اثنين يساوي خمسة، ثم حدث في هذه اللحظة نفسها أن دمرت الأرض، فإن حسبتنا الباطلة الأولى تظل مع ذلك خطأ . صحيح أنه لو اعتقد جميع جيراني بهذا الأمر، فمن الفطنة من جانبي أن أدعي على الأقل أنني أشاركهم رأيهم، غير أن هذا أمر مختلف كل الاختلاف. وهكذا ينبغي النظر إلى قضية بيرس في سياق مذهب «استحالة العصمة» الذي قال به.
أما بالنسبة إلى تأثر أية حقيقة خاصة بعينها، فإن بيرس يؤكد أن أية عبارة تزعم أنها حقيقة ينبغي أن تكون لها نتائج عملية، أي إنها يجب أن تسمح بإمكان قيام فعل معين في المستقبل، وتكوين استعداد للتصرف على هذا النحو نفسه في كافة الظروف المماثلة. وهكذا يقال إن معنى قضية ما هو هذه النتائج العملية ذاتها. وهذه هي الصيغة التي استمد منها جيمس مذهبه البرجماتي. ولكن ينبغي أن يكون واضحا أن رأي بيرس أقرب إلى صيغة فيكو في الحقيقة الفاعلة
ناپیژندل شوی مخ