211

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

Montpellier

الجامعية القديمة، لعائلة محترمة وتقليدية من موظفي الحكومة. وكان أبوه ملكي النزعة، وكاثوليكيا متزمتا، ولكن كونت سرعان ما تجاوز النطاق والحدود لتربيته العائلية. وخلال دراسته في معهد البوليتكنيك بباريس، طرد من المعهد بسبب اشتراكه في تمرد طلابي ضد أحد الأساتذة. وقد أدى ذلك فيما بعد إلى منعه من الحصول على وظيفة جامعية . وفي سن السادسة والعشرين نشر أول عرض تخطيطي لمذهبه الوضعي، ثم ظهر كتابه «دراسة في الفلسفة الوضعية» في ستة مجلدات، بدءا من عام 1830م. وخلال الأعوام العشرة الأخيرة من حياته، كرس قدرا كبيرا من وقته لوضع معالم ديانة وضعية، كان يريد منها أن تحل محل العقائد الشائعة. وهكذا كان كتابه المقدس الجديد يجعل الإنسانية هي العليا، بدلا من الألوهية. ولقد كان كونت طوال حياته معتل الصحة، وكان يعاني من نوبات من الاكتئاب العقلي وضعته على حافة الانتحار. وكان يرتزق من تقديم دروس تعليمية خاصة، مصحوبة بهدايا من الأصدقاء والمعجبين، الذين كان من بينهم جون استوارت مل. ولكن يبدو أن كونت كان صبره ينفد من أولئك الذين لا يقبلون أن يعترفوا دواما بعبقريته، مما أدى آخر الأمر إلى فتور صداقة مل له.

إن فلسفة كونت تحمل ملامح شبه مع تفكير فيكو، الذي كان كونت قد درسه، فهو يستمد من فيكو فكرة أولوية التاريخ في أمور البشر، كما أمده هذا المصدر بفكرة المراحل المختلفة في التطور التاريخي للمجتمع البشري. وكان فيكو ذاته قد استمد ملاحظته هذه من دراسة للأساطير اليونانية. وقد أخذ كونت بالرأي القائل إن المجتمع ينتقل من حالة لاهوتية أصلية، مارا بمرحلة ميتافيزيقية، لينتقل أخيرا إلى ما يسميه بالمرحلة الوضعية، التي تنتقل بالمسار التاريخي إلى نهايته السعيدة. وفي هذا الصدد كان فيكو مفكرا أكثر واقعية، فاعترف بأن المجتمع يمكن أن ينتكس من فترات رقي وإنجاز حضاري إلى عهود بربرية تعود من جديد، كما حدث بالفعل في العصور المظلمة التي أعقبت تفكك العالم الروماني. وربما كان هذا ينطبق على عصرنا الحاضر أيضا. فإذا عدنا إلى كونت، وجدناه يقول إن المرحلة الوضعية يحكمها العلم العقلاني. وتلك هي نظرية كونت المشهورة في مراحل التطور الثلاث. وقد تصور البعض أننا نجد هنا صدى معينا لهيجل، ولكن التشابه سطحي. ذلك لأنه لا ينظر إلى التطور من مرحلة إلى التالية بطريقة جدلية (ديالكتيكية)، أما مسألة كون المراحل ثلاثا فهي صدفة بحت. والأمر الذي يشترك فيه هيجل بالفعل مع كونت هو فكرته التفاؤلية في قيام حالة كمال نهائية يصل إليها المسار التاريخي. وكما رأينا فقد كانت لماركس آراء مماثلة، وهكذا كان هذا أحد الأعراض العامة للنزعة التفاؤلية في القرن التاسع عشر.

تذهب النظرية الوضعية إلى أن جميع الميادين العلمية قد مرت بهذا التطور ذي المراحل الثلاث. والعلم الوحيد الذي لم يتم اجتياز جميع العوائق حتى الآن هو الرياضة. أما في الفيزياء فإن المفاهيم الميتافيزيقية ما زالت موجودة بكثرة، وإن كان الأمل معقودا على ألا تكون المرحلة الوضعية بعيدة. وسوف نرى فيما بعد كيف أن ماخ

Mach

قد قدم تفسيرا وضعيا للميكانيكا بعد خمسين عاما من عصر كونت. والشيء الذي حاول كونت أن يفعله هو، قبل كل شيء، ترتيب ميدان الدراسة العلمية بأكمله ترتيبا منطقيا شاملا. وفي هذه المحاولة أثبت أنه خليفة حقيقي للفلاسفة «الموسوعيين». وبطبيعة الحال فإن فكرة القيام بترتيب كهذا هي فكرة قديمة إلى أبعد حد، ترتد إلى أيام أرسطو. ويسهم كل علم في هذا التسلسل في تفسير العلوم التي تليه، ولكن ليس تلك التي تسبقه. وبذلك نصل إلى قائمة كونت، التي تبدأ بالرياضة ثم الفلك والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء وتنتهي بعلم الاجتماع.

والعلم الهام حقا هو الأخير. وقد نحت كونت لفظ «علم الاجتماع

Sociology » ليدل على ما كان يمكن أن يسميه هيوم «علم الإنسان». وفي رأي كونت أن هذا علم لم يقم بعد، ولذا نظر إلى نفسه على أنه مؤسسه. ويعد علم الاجتماع من الوجهة المنطقية آخر العلوم وأعقدها في السلسلة وإن كنا نحن، واقعيا، نحس بالألفة تجاه الأوضاع الاجتماعية التي نحيا فيها أكثر مما نحس بها تجاه بديهيات الرياضة البحت. وهذا يكشف عن مظهر آخر لأولوية العامل التاريخي، على نحو ما صادفنا من قبل عند فيكو. ذلك لأن الحياة الاجتماعية للإنسان هي مسار التاريخ.

ولقد كانت المرحلة الوضعية للحياة الاجتماعية التي ألهبت خيال كونت، تتسم بالعيوب التي تشترك فيها جميع المذاهب الطوباوية. فهنا نجد تأثيرا ملحوظا للمثالية على تفكير كونت، وإن لم تكن الطريقة التي استمد بها هذا التأثير واضحة كل الوضوح. إنه يرى أن هناك، في كل مرحلة من مراحل التطور الثلاث، اتجاها متدرجا إلى التوحيد، يمر هو ذاته بثلاث خطوات. ففي المرحلة اللاهوتية نبدأ بحيوية الطبيعة

Animism

ناپیژندل شوی مخ