210

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

لقد كان ماركس على الأرجح مصيبا عندما قال إن الاهتمامات العلمية العامة لمجتمع ما تعبر بقدر معين عن المصالح الاجتماعية للفئة المسيطرة عليه. وهكذا يمكن القول إن إحياء علم الفلك في عصر النهضة تم لصالح التوسع التجاري، وزاد من قوة الطبقة الوسطى الصاعدة، وإن كان في وسع المرء أن يلاحظ أنه ليس من السهل تفسير إحدى الظاهرتين من خلال الأخرى. غير أن هذه النظرية يشوبها عيبان أساسيان: فمن الواضح أولا أن حل مشكلات جزئية خاصة في ميدان علمي معين لا يتعين أن يكون مرتبطا على أي نحو بأي شكل من أشكال الضغوط الاجتماعية. وليس معنى ذلك بالطبع أن ننكر أن هناك حالات تعالج فيها مشكلة معينة استجابة لحاجة وقتية عاجلة. ولكن المشكلات العلمية في عمومها لا تحل بهذه الطريقة. وهذا يؤدي بنا إلى نقطة الضعف الثانية في التفسير المادي الجدلي، وأعني بها عدم اعترافه بالحركة العلمية بوصفها قوة مستقلة. ولنقل هنا، مرة أخرى، إن أحدا لا ينكر وجود روابط هامة بين البحث العلمي وأمور أخرى تحدث في المجتمع. غير أن ممارسة العلم قد اكتسبت، بمضي الوقت، قوة دفع خاصة بها، تضمن لها قدرا معينا من الاستقلال الذاتي. وهذا يصدق على كافة أنواع البحث الموضوعي المنزه من الغرض. وعلى ذلك، فبينما كان للمادية الجدلية أهميتها في إيضاح أهمية المؤثرات الاقتصادية في تشكيل حياة المجتمع، نجدها تخطئ حين تفرط في تبسيط الأمور على أساس هذه الفكرة الرئيسية.

ويؤدي ذلك، في الميدان الاجتماعي، إلى عدد من النتائج الغريبة. ذلك لأنك إن لم توافق على النظرية الماركسية، فسينظر إليك على أنك لست منحازا إلى صف التقدم. واللفظ المبجل الذي يطلق على أولئك الذين لم ينزل عليهم الوحي الجديد هو «رجعي». وهكذا يكون الاستنتاج حرفيا، هو أنك تعمل ضد التقدم، في اتجاه تراجعي. غير أن المسار الجدلي يضمن أنه سيتم اكتساحك في الوقت المناسب، لأن التقدم لا بد أن ينتصر في النهاية. وهكذا تصبح هذه هي الحجة التي يبرر بها استخدام العنف في التخلص من العناصر غير المسايرة. وهنا نجد الفلسفة الماركسية السياسية تصطبغ بصبغة العقيدة ذات الرسالة المحددة، التي عبر عنها مؤسس عقيدة أخرى أسبق منها بقوله: من ليس منا فهو علينا. وواضح أن هذا ليس هو المبدأ الذي يمكن أن تقوم عليه أية نظرية ديمقراطية.

كل هذا يقودنا إلى القول بأن ماركس لم يكن مفكرا سياسيا نظريا فحسب، بل كان أيضا كاتبا ثوريا تحريضيا. وكثيرا ما تتخذ كتابته لهجة السخط والاستقامة الأخلاقية، وهي لهجة بعيدة عن المنطق كل البعد إن كان الجدل سيسير في طريقه الحتمي مهما كان الأمر. فإذا كانت الدولة، كما قال لينين فيما بعد، سوف تذبل، فلا معنى لإثارة ضجة حولها مقدما. غير أن هذا الهدف التاريخي البعيد، وإن كان يدعو إلى الإعجاب لو تأملناه بطريقة نظرية، لا يقدم عزاء كبيرا لأولئك الذين يعانون في هذا المكان، وفي هذه اللحظة. وعلى ذلك فإن السعي إلى أي تحسين للأوضاع يمكن الحصول عليه هو، في كل الأحوال، أمر جدير بالاحترام، حتى لو لم يكن متمشيا تماما مع نظرية التطور الجدلي للتاريخ. ذلك لأن ما تدعو إليه هذه النظرية هو قلب الأوضاع القائمة بالعنف. وبالطبع يبدو هذا الجانب من النظرية، في أساسه، تعبيرا عن المحنة الأليمة للطبقة العاملة في القرن التاسع عشر، وهو بالفعل مثال جيد لتفسير ماركس الاقتصادي للتاريخ، الذي يفسر الأفكار والنظريات السائدة في أي عصر من خلال النظام الاقتصادي السائد. ولكن هذه النظرية تقرب إلى حد الخطر من البرجماتية في ناحية واحدة على الأقل؛ إذ يبدو أنها تستغني عن الحقيقة لصالح الأفكار المسبقة التي تتحكم فيها العوامل الاقتصادية. فإذا ما طبقنا هذا المعيار على النظرية ذاتها، لوجب أن نقول إنها هي ذاتها إنما تعكس أوضاعا اجتماعية معينة في زمن محدد. ولكن الماركسية في هذه النقطة تفترض ضمنا أنها استثناء من هذه القاعدة، إذ تؤكد أن التفسير الاقتصادي للتاريخ على النمط المادي الجدلي هو الرأي الصحيح.

ولم يكن ماركس ناجحا كل النجاح في تنبؤاته عن التطور الجدلي للتاريخ. فقد تنبأ فعلا، بقدر من الدقة، بأن نظام المنافسة الحرة سيؤدي بمضي الوقت إلى تكوين احتكارات. وهذا أمر نستطيع التوصل إليه بالفعل من خلال النظرية الاقتصادية التقليدية. ولكن الأمر الذي أخطأ فيه ماركس هو افتراضه أن الأغنياء سيصبحون أكثر غنى، والفقراء أكثر شرا، إلى أن يصل التوتر الجدلي لهذا «التناقض» إلى حد من القوة يحتم قيام الثورة. فلم يكن هذا هو ما حدث على الإطلاق، بل إن البلدان الصناعية في العالم قد ابتكرت طرقا للتنظيم خفضت من حدة الصراع الاجتماعي عن طريق الحد من حرية التصرف في الميدان الاقتصادي وإدخال مشاريع الرعاية الاجتماعية. وعندما جاءت الثورة بالفعل، لم تحدث، كما تنبأ ماركس، في الجزء الغربي الصناعي من أوروبا، وإنما في روسيا الزراعية.

إن الفلسفة الماركسية هي آخر مذهب فلسفي عظيم أنتجه القرن التاسع عشر؟ وأهم أسباب جاذبيتها الشديدة وتأثيرها الواسع هو الطابع الديني لتنبؤاتها الطوباوية، فضلا عن العنصر الثوري في برنامج العمل الذي تدعو إليه. أما عن خلفيتها الفلسفية فإنها، كما حاولنا أن نبين، لا تتصف بالبساطة الشديدة أو بالجدة التامة التي تنسب إليها في كثير من الأحيان. فالتفسير الاقتصادي للتاريخ هو واحد من عدد من النظريات العامة في التاريخ، التي استمدت أصلها الأول من هيجل. ومن الأمثلة الأخرى لهذه النظريات، نظرية كروتشه

Croce

في التاريخ بوصفه قصة الحرية، وهي نظرية تنتمي إلى الجيل التالي. ولقد كانت نظرية التناقض عند ماركس، على وجه الخصوص، مستمدة مباشرة من هيجل، وهي تواجه نفس الصعوبات التي واجهها هذا الأخير. وقد أدى ذلك، من الوجهة السياسية إلى إثارة مشكلات على قدر غير قليل من الضخامة في عصرنا هذا. فحوالي نصف العالم اليوم تحكمه أنظمة تثق ضمنيا بنظريات ماركس. ومن هنا فإن إمكان التعايش السلمي معها يقتضي قدرا من التخفيف من الالتزامات النظرية الصارمة.

أما في فرنسا، فإن حركة «الموسوعيين» الفلسفية قد وجدت خليفة لها في شخص أوجست كونت

August Comte (1798-1857م). ولقد كان كونت يشارك الراديكاليين الفلسفيين احترامهم للعلم ومعارضتهم للعقائد السائدة، وأخذ على عاتقه تقديم تصنيف شامل لكل العلوم، بادئا بالرياضة ومنتهيا إلى علم الاجتماع. ولقد كان مثل معاصريه الإنجليز، معارضا للميتافيزيقا، وإن لم يكن قد عرف، مثلهم أيضا، إلا القليل عن المثالية الألمانية. ونظرا إلى الحاجة إلى ضرورة البدء بما هو معطى مباشرة في التجربة، والامتناع عن محاولة تجاوز الظواهر، فقد أطلق على مذهبه اسم «الفلسفة الوضعية». ومن هذا المصدر جاء اسم المذهب الوضعي.

ولد كونت في مدينة مونبلييه

ناپیژندل شوی مخ