209

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

لقد تشكل تفكير ماركس بفعل ثلاثة مؤثرات رئيسية. فهناك أولا ارتباطه بالراديكاليين الفلسفيين، الذين كان مماثلا لهم في معارضته للرومانتيكية وسعيه إلى إيجاد نظرية اجتماعية تصف نفسها بأنها علمية، فقد أخذ عن ريكاردو نظرية القيمة المرتكزة على العمل، وإن كان قد فسرها بطريقة مختلفة. فقد كان ريكاردو ومالثوس يبنيان تفكيرهما على أساس تسليم ضمني بأن النظام الاجتماعي القائم ثابت لا يتغير، ومن ثم فإن المنافسة الحرة تجعل أجور العمل باقية عند مستوى الكفاف، مما يؤدي إلى ضبط أعداد السكان. أما ماركس فيأخذ بوجهة نظر العامل الذي يستغل الرأسمالي عمله. فهذا العامل ينتج قيمة تفوق أجره، وهذه القيمة الفائضة يبتزها الرأسمالي من أجل منفعته الخاصة، وعلى هذا النحو يكون مستغلا. ولكن هذه ليست في الواقع مسألة شخصية؛ إذ إن إنتاج سلع على نطاق صناعي يقتضي تضافر أعداد كبيرة من البشر وكميات ضخمة من المعدات. وعلى ذلك ينبغي فهم الاستغلال من خلال نظام في الإنتاج، ومن خلال علاقات الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية ككل بهذا النظام.

وهذا يؤدي بنا إلى المصدر الثاني لتفكير ماركس، وهو المذهب الهيجلي؛ ذلك لأن الأمر الهام عند ماركس، بقدر ما كان عند هيجل، هو النسق الكلي لا الفرد. فالنسق أو النظام الاقتصادي هو الذي ينبغي التصدي له، لا الشرور أو الأضرار الجزئية. وفي هذه الناحية كان ماركس على اختلاف تام مع ليبرالية الراديكاليين وإصلاحاتهم. فالمذهب الماركسي يرتبط أوثق الارتباط بنظريات فلسفية هي في أساسها هيجلية. وقد يكون هذا هو السبب الذي لم يجعل للماركسية أية شعبية حقيقية في إنجلترا في أي وقت إذ إن الإنجليز في عمومهم لا يتأثرون كثيرا بالفلسفة.

كذلك كان هيجل هو الأصل الذي استمدت منه نظرة ماركس التاريخية إلى التطور الاجتماعي. فهذه النظرة التطورية ترتبط بالجدل (الديالكتيك)، الذي اقتبسه ماركس بلا تغيير عن هيجل. فالمسار التاريخي يتقدم بطريقة جدلية. وهنا نجد تفسير ماركس هيجليا تماما في منهجه، وإن كان كل منهما ينظر إلى القوة المحركة للتاريخ بطريقة مختلفة. فعند هيجل يكون مجرى التاريخ تحققا ذاتيا متدرجا للروح التي تصبو إلى المطلق. أما ماركس فيستعيض عن الروح بأساليب الإنتاج، وعن المطلق بالمجتمع اللاطبقي. فكل نظام في الإنتاج يولد بمضي الوقت توترات داخلية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة التي ترتبط به. ثم تنحل هذه المتناقضات، كما يسميها ماركس، إلى مركب أعلى. والطابع الذي يتخذه الصراع الجدلي هو الحرب الطبقية، وهي حرب تظل مستعرة إلى أن يحل محلها، في ظل الاشتراكية، مجتمع لا طبقي. وما إن يتم بلوغ هذه المرحلة حتى لا يعود هناك شيء يحارب من أجله، وتستطيع العملية الجدلية عندئذ أن تهدأ وتستريح. لقد كانت جنة الله في الأرض، عند هيجل، هي الدولة البروسية، أما عند ماركس فهي المجتمع اللاطبقي.

وينظر ماركس إلى تطور التاريخ بطريقة لا تقل حتمية عن هيجل، وكلاهما يستنبط نظرته هذه من نظرية ميتافيزيقية. لذلك فإن النقد الموجه إلى هيجل يمكن أن ينطبق بلا تغيير على ماركس. والواقع أن ملاحظات ماركس، بقدر ما تكشف عن فهم ذكي لأحداث تاريخية معينة وقعت بالفعل، لا تحتاج إلى منطق تستنبط منه كما تدعي.

ولكن، على حين أن العرض الذي قدمه ماركس كان هيجليا في منهجه، فإنه انتقد بشدة تأكيد هيجل للطبيعة الروحية للعالم. وهكذا قال ماركس إن من الواجب أن نقلب هيجل رأسا على عقب، وحقق ذلك عن طريق الأخذ بالمذاهب المادية التي شهدها القرن الثامن عشر. وفي هذه المادية نجد العنصر الرئيسي الثالث في الفلسفة الماركسية. ولكن ماركس يقدم هنا أيضا تفسيرا جديدا للنظريات القديمة. فإذا تركنا جانبا العنصر المادي في التفسير الاقتصادي للتاريخ، وجدنا أن مادية ماركس الفلسفية ليست من النوع الآلي. بل إن ما كان يقول به ماركس أقرب إلى أن يكون نظرية في الفاعلية ترتد إلى فيكو.

وقد عبر عن هذه المسألة في عبارة مشهورة وردت في قضاياه الإحدى عشرة عن فويرباخ (1845م) فقال: «لقد اقتصر الفلاسفة على تفسير العالم على أنحاء شتى، ولكن المهمة الحقيقية هي تغييره.» وهو يتقدم في هذا الصدد بمفهوم للحقيقة يذكرنا إلى حد بعيد بصيغة فيكو، ويستبق بعض أشكال المذهب البرجماتي. فالحقيقة عنده ليست مسألة تأمل، وإنما هي شيء ينبغي إثباته بالممارسة. أما النظرة التأملية فترتبط بالنزعة الاشتراكية اللاطبقية.

إن ما يحاول ماركس القيام به هو أن يمزج بين المذهب المادي وبين فكرة الفاعلية التي طورتها المدرسة المثالية بوجه عام، وهيجل بوجه خاص. ونظرا لأن المذاهب الآلية كانت قد تخلت عن فكرة الفاعلية هذه، لعدم وجود مكان لها فيها، فإنها أتاحت الفرصة للمثالية كيما تطور هذا الجانب من النظرية، وإن كان ماركس قد رأى بالطبع ضرورة قلبها رأسا على عقب قبل أن يمكن الإفادة منها على أي نحو.

أما عن تأثر فيكو، فربما لم يكن ماركس على وعي كامل به، وإن كان من المؤكد أنه عرف كتاب «العلم الجديد» وقد أطلق على نظريته الخاصة اسم المادية الجدلية، مؤكدا بذلك عنصرها التطوري والهيجلي.

من هذا كله يتضح لنا أن النظرية الماركسية معقدة وعالية المستوى إلى حد بعيد. والواقع أن نظرية المادية الجدلية هي مذهب فلسفي يدعي أنصاره أنه ينطبق على نطاق شامل. وقد أدى ذلك، كما هو متوقع، إلى قدر كبير من التفكير النظري الفلسفي، على الطريقة الهيجلية، حول مسائل كان من الأفضل تركها للبحوث العلمية التجريبية. ويظهر أول مثال لذلك في كتاب إنجلز «ضد دورنج

Anti-Duhring » الذي انتقد فيه نظريات الفيلسوف الألماني دورنج. غير أن التفسيرات الديالكتيكية المفصلة للسبب، الذي يجعل الماء يغلي، على أساس تغيرات كمية تتراكم حتى تصبح تغيرات كيفية، وعلى أساس التناقض والنفي ونفي النفي - كل هذا لا يقل شططا عن فلسفة الطبيعة عند هيجل. فلا جدوى في الواقع من التنديد بالعلم التقليدي بحجة أنه يستهدف غايات بورجوازية.

ناپیژندل شوی مخ