207

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

ژانرونه

في هذه المسألة كان هو الأصح. فبينما دعا مالثوس إلى «التعفف»، نجد كوندورسيه يدعو من قبله إلى تحديد النسل بالمعنى الحديث. وهذا أمر لم يغفره له مالثوس أبدا؛ إذ إن مثل هذه الأساليب كانت تندرج، وفقا لنظريته الأخلاقية الصارمة ضمن فئة الرذيلة، وكان ينظر إلى تحديد النسل بطرق مصطنعة كما لو كان معادلا، على نحو ما، لممارسة البغاء.

والواقع أن جماعة الراديكاليين كانت في البداية منقسمة حول هذه المسألة العامة. فقد كان بنتام يؤيد مالثوس، على حين أن مل، الأب والابن، كانا أقرب إلى الاتفاق مع آراء كوندورسيه. وقد قبض على جون استوارت مل ذات مرة وهو في الثامنة عشرة، خلال قيامه بتوزيع كتيبات عن وسائل تحديد النسل وسط حي عمالي فقير، وحكم عليه بالسجن جزاء على هذه الجريمة. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن يظل موضوع الحرية، في عمومه واحدا من أهم الموضوعات التي كانت تشغل اهتمامه.

على أن كتاب «دراسة في السكان» كان مع ذلك إسهاما عظيم الأهمية في الاقتصاد السياسي، وقدم عددا من المفاهيم الأساسية التي طورت بعد ذلك في ميادين أخرى. ومن أهم هذه المفاهيم، تلك التي استمدها داروين (1859-1882م)، وهي مبدأ الانتقاء الطبيعي، وفكرة الصراع من أجل البقاء. فعندما ناقش داروين مشكلة المعدل الهندسي لزيادة الكائنات العضوية، وما يترتب عليه من صراع، قال في كتابه «أصل الأنواع» (1859م)، إن هذه هي نظرية مالثوس مطبقة بقوة مضاعفة على العالمين الحيواني والنباتي بأسرهما، إذ لا يمكن أن تكون هناك، في هذه الحالة، زيادة مستحدثة في الغذاء، ولا ضبط للتناسل على سبيل الحرص ففي هذا الصراع الذي يخوضه الجميع من أجل وسائل العيش المحدودة، يكون النصر للكائن العضوي الأفضل تكيفا مع بيئته، وهذه هي نظرية بقاء الأصلح عند داروين. وهي بمعنى ما مجرد امتداد لفكرة المنافسة الحرة كما قال بها أنصار بنتام. غير أن هذه المنافسة ينبغي عليها، في الميدان الاجتماعي، أن تخضع لقواعد معينة، على حين أن التنافس الدارويني في الطبيعة لا يعرف قيودا. وعندما ترجمت نظرية بقاء الأصلح إلى اللغة السياسية، أصبحت مصدرا تستلهم منه دكتاتوريات القرن العشرين جانبا من تفكيرها السياسي. على أنه لو كان داروين نفسه قد شهد هذه الامتدادات لنظريته، لكان من المستبعد أن يقرها، لأنه كان هو ذاته ليبراليا، وكان يؤيد جماعة الراديكاليين وبرنامجها الإصلاحي.

أما الجزء الآخر من أعمال داروين، والأقل أصالة بكثير، فهو نظرية التطور، التي ترتد في بدايتها، كما رأينا، إلى الفيلسوف اليوناني أنا كسيمندر. فكل ما فعله داروين هنا هو أنه قدم كمية هائلة من التفصيلات الواقعية المبنية على ملاحظته الدءوب للطبيعة. أما براهينه على التطور فإن قيمتها تتفاوت، ولكنها كانت قطعا ترتكز على أسس أقوى من تلك التي ارتكز عليها سلفه اليوناني الكبير. وعلى أية حال فإن النظرية الداروينية كانت هي التي طرحت فرض التطور لأول مرة على ساحة النقاش الشعبي الواسع. ولما كانت تفسر أصل الأنواع على أساس الانتقاء الطبيعي من كائن عضوي كلي قديم، فإنها كانت معارضة للقصة التي تضمنها سفر التكوين، والتي كانت تدافع عنها الكنيسة الرسمية. وقد أدى ذلك إلى صراع مرير بين الداروينيين وبين المسيحيين المتمسكين من جميع الطوائف. ولقد كان من أقوى أنصار داروين في هذا الصراع عالم البيولوجيا الكبير توماس هكسلى

Thomas Huxley . وإذا كانت هذه الصراعات قد خفت حدتها منذ ذلك الحين إلى حد ما، فينبغي أن نلاحظ أنه كانت تثار، في وقت احتدام النزاع، مشاعر عارمة حول مسألة وجود أصل مشترك بين الإنسان والقردة العليا. وأنا شخصيا أعتقد أن اقتراحا كهذا لا بد أن يجرح مشاعر القردة، على حين أن القليلين فقط من البشر هم الذين يغضبون منه في أيامنا هذه.

وهناك طريق آخر للتطور بدأ مع الراديكاليين وأدى مباشرة إلى الاشتراكية وإلى ماركس. ففي عام 1817م نشر ريكاردو (1772-1823م)، الذي كان صديقا لبنتام وجيمس مل، كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي والسياسة الضريبية». في هذا الكتاب عرض ريكاردو نظرية سليمة في الربح، تجاهلتها الأوساط العلمية، ونظرية في القيمة تربطها بالعمل، وترى أن القيمة التبادلية لأية سلعة تتوقف على كمية العمل المبذول فيها فحسب. وقد أدى ذلك بتوماس هودسكين

Hodgskin

إلى أن يقول، في عام 1825م، بأن من حق العامل أن يحصل على أرباح القيم التي ولدها. أما تقديم ربح إلى الرأسمالي أو صاحب الأرض، فليس إلا سرقة.

وفي الوقت ذاته وجد العمال مدافعا عن قضيتهم في شخص روبرت أوين

Robert Owen

ناپیژندل شوی مخ