74

هوا جديده

حواء الجديدة

ژانرونه

رأس البر في 4 أغسطس سنة 1906

حضرة الصديق الفاضل

أدركتني روايتك «حواء الجديدة» في رأس البر، وقد جئته للاشتغال بالبطالة والدأب على الفراغ التماسا للراحة من عناء القلم، فهجرت الكتب والورق وعفت الأصول والمسودات والبروفات، وعاهدت نفسي أن لا أطالع كتابا مهما يكن موضوعه على حين أن المطالعة تسلية رجال العمل في ساعات الفراغ، أما جماعة الكتاب فإنها تذكرهم بأوقات المشقة، فراحتهم بالبعد عنها، فلما جاءتني روايتك لم أر بدا من قراءتها قياما بالواجب، فبدأت بتصفحها وأنا أصبر نفسي على ذلك؛ لأني أكثر رغبة في مطالعة كتب التاريخ والعلم مني في مطالعة كتب الفكاهة، لكنني ما كدت أتصفح بعضها حتى خيل لي أني أطالع كتابا فلسفيا علميا أخلاقيا، فبعد أن كنت أصبر نفسي على المطالعة أصبحت لا أصبر عنها، واستغرقت في الموضوع ولذ لي إعمال الفكرة فيه، فأعجبني ما تضمنه الكتاب من الأدلة على فساد الرجل، وإلحاقه عار فساده بالمرأة، فهو يأكل الحصرم وهي تضرس، فتمثلت لي فظاعة ذلك الأمر تمثيلا واضحا، ولم أعجب من إجادتك في وصف العواطف وتشريح الأخلاق، فقد عهدتك من نوابغ هذا العصر في هذا الشأن ومؤلفاتك شاهدة على ذلك، وإنما أعجبت ببراعتك في أسلوب تعبيرك عن حال إيفون وغيرهما ، وانتقادك العادات الشائعة في الزواج، وتربية البنات بين أظهرنا وتبيانك ما يقع على المرأة من الظلم في أحكام الناس، وما تقاسيه في سبيل المحافظة على شرفها، وأنها تشترك في الذنب مع الرجل، وتتحمل العقاب وحدها.

سبكت ذلك في سياق رواية غرامية ضمنتها من القواعد الاجتماعية والمبادئ الأدبية الإحساسية ما يجدر أن يكون مثالا ينسج على منواله، لا سيما في حالتنا الحاضرة وهيئتنا الاجتماعية في أوائل انتقالها إلى نظام التمدن الحديث، ولا يزال معظمها فوضى.

فأهنئك بذلك وأرجو أن يكون كتابك بدء نهضة جديدة في تأليف الروايات الأخلاقية، ولي ملاحظات تتعلق بما وصفت به إيفون عروس روايتك من الطهارة، وسمو الآداب مع ما سوغته لنفسها من مساكنة رجل بلا زواج، وقلت: إنها فعلت ذلك اضطرارا وما رأيناها يئست من العيش الحلال، فلم تقص شعرها ولا اقتلعت أضراسها كما فعلت عروس «البؤساء»، وإذا قيل: إنها فعلت ذلك رغبة في الرجل، فقد نزلت عن المكان الذي وضعتها فيه، ولا عبرة بما ذكرته من الفصل بين ذاتها الجسدية وذاتها الروحية، فإن ذلك يخالف المألوف والمعقول فكيف يكون جسد الإنسان دنسا وروحه طاهرة، والكلام في ذلك يطول ولا محل له هنا.

على أني أغتنم هذه الفرصة لإبداء ملاحظة تتمة لما تركته حواء الجديدة من الأثر في ذهني، ذلك أن الرواية فلسفية أخلاقية حسنة التناسق، شريفة المغزى تنصر المرأة على الرجل في أمور يشعر بها القارئ، وتشترك عواطفه مع المرأة؛ لأنها مظلومة وينقم على الرجل؛ لأنه ظالم، ولكن هذه العلة عامة في العالم المتمدن وغيره، وقد كانت شأن البشرية من أقدم أزمنة التاريخ ولن تزال إلى ما شاء الله، وإذا كان إصلاحها ممكنا فأساتذتنا في العلم والفلسفة أولى منا به، فإذا كان مرادك مجرد تصوير هذا الظلم فقد أحسنت وأجدت، وأما إذا كان المراد إصلاحه فقد أضعت الكلام عبثا.

ولا يخفى عليك أننا في حاجة إلى إصلاح داخلي حقيقي في آدابنا الاجتماعية على نحو ما جاء عرضا في أثناء كتابك، ولكنه قليل لا يشفي غليلا. إن في آداب اللغة فراغا كبيرا لكثير من ضروب التأليف، ولا سيما الروايات وخصوصا التهذيبية الأخلاقية، وقد ثبت مما قرأناه لك حتى الآن أنك كاتب أخلاقي، فاصرف جهدك إلى سد هذا الفراغ، اكتب الروايات في انتقاد العادات والأخلاق المضرة في هيئتنا الاجتماعية التي يرجى إصلاحها.

اجعل أبحاثك نقد حالتنا الاجتماعية، وما يعتورها من النقص أو الفساد، ومثل أضراره تمثيلا واضحا، واستعن بالخيال للتنميق والترغيب وبين ظهرانينا عشرات من العادات الأصيلة والدخيلة تفتقر إلى إصلاح، وإصلاحها ميسور وقريب، وإنما نحتاج إلى من ينبه إليها تنبيها مؤثرا، وليس أفضل من الروايات للوصول إلى هذه الغاية، إما على المراسح أو في الكتب لعكوف الناس على مطالعة الروايات كبارا وصغارا، فأقترح عليك باسم آداب هذه اللغة أن تؤلف الروايات في تقبيح الرذائل الشائعة، كالكذب مثلا ولا سيما المستتر منه وراء المجاملة مع الحث على اتباع الصدق ونحوه من الفضائل، ألف في بيان فظائع المقامرة والمسكر والبورصة وغيرها من الرذائل والمنكرات، التي نئن تحت أعبائها. على أن الروايات الفلسفية على نحو ما بسطته لي «حواء الجديدة» كبيرة الأهمية، وتفتقر إلى قريحة وقادة وعلم واسع، ولكنها من الكماليات بالنظر إلى حالنا، وأنت تعلم أننا في عصر الحقائق، وقد سبقتنا الأمم المتمدنة مسافات بعيدة بتعويلهم على الأبحاث الإصلاحية من العملية الوجهة

، وقد آن لنا أن نفعل مثل فعلهم، هذا ما أتقدم به إليك راجيا الإغضاء عن جسارتي، فإني إنما أردت الخدمة العامة التي نحن شريكان فيها، ولكل امرء رأي، والسلام.

جورجي زيدان (4)

ناپیژندل شوی مخ