المقدمة
غرض هذه الرواية
1 - لهفة فؤاد
2 - حديث الحمى
3 - وقدة الحب
4 - لقاء فيه الداء
5 - نسمات باردة
6 - سلسبيل حديث
7 - الهوى العذري
8 - صاعقة
ناپیژندل شوی مخ
9 - نار ولا نور
10 - وقد الوجد
11 - الملاك الساقط
12 - الحقد على الشرائع
13 - الولادة الثانية
14 - أنا الغريقة ما خوفي من البلل
15 - الضحية العظمى
16 - ثقل الجسد على الروح
17 - الصراع الأخير
آراء بعض العلماء في «حواء الجديدة»
ناپیژندل شوی مخ
تذييل
المقدمة
غرض هذه الرواية
1 - لهفة فؤاد
2 - حديث الحمى
3 - وقدة الحب
4 - لقاء فيه الداء
5 - نسمات باردة
6 - سلسبيل حديث
7 - الهوى العذري
ناپیژندل شوی مخ
8 - صاعقة
9 - نار ولا نور
10 - وقد الوجد
11 - الملاك الساقط
12 - الحقد على الشرائع
13 - الولادة الثانية
14 - أنا الغريقة ما خوفي من البلل
15 - الضحية العظمى
16 - ثقل الجسد على الروح
17 - الصراع الأخير
ناپیژندل شوی مخ
آراء بعض العلماء في «حواء الجديدة»
تذييل
حواء الجديدة
حواء الجديدة
تأليف
نقولا الحداد
من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر
المقدمة
طلب إلينا كثيرون من مشتركي هذه المجلة أن نطبع رواية حواء الجديدة، التي لم يبق منها ولا نسخة في المكاتب، ونقدمها بمثابة جزء من المجلة، فلم نر بدا من تلبية رغبتهم، وها نحن ننشرها بدل عددي السادس والسابع ونقدمها لجميع القراء، وسنطبع منها عددا محدودا لغير المشتركين بثمن 12 قرشا مصريا.
نقولا الحداد
ناپیژندل شوی مخ
مصر. شبرا، صيف 1929
غرض هذه الرواية
في حين أن المدنية الحاضرة تتباهى بتأييد الحرية والإخاء، والمساواة نرى هيئتنا الاجتماعية تئن تحت جور ثقيل؛ ذلك لأن ناموسا أدبيا يتساهل مع أحد شطريها - «الرجل» ويظلم الشطر الآخر - «المرأة» يجر الرجل المرأة إلى الدنس، والمرأة وحدها تشقى به، فأين ما تدعيه المدنية من المساواة إذا كان التمدن قد بلغ إلى القمة الآن، فلم يزل هذا الظلم الفاضح الباقي من آثار الهمجية ندبة تشوه وجهه.
لا أقصد أن أبرئ المرأة من الإثم الذي تشارك فيه الرجل، وإنما أشكو من اغتفار هذا الإثم للرجل الذي يجرها إليه وآسف لشقائها فيه وحدها، ومن سوء الحظ أن الأمم الغربية السابقة في مضمار التمدن الحديث أخذت تتسامح به مع المرأة، كما تسامحت مع الرجل كأنها تقول: إذا لم يكن بد من اغتفاره للرجل فلماذا لا يغتفر للمرأة؟ لماذا تسام المرأة وحدها العذاب به، وهي الضلع الثاني فيه؟
كان هذا الموضوع الاجتماعي يغلي في ضميري، وأنا لا أدري كيف أبث أفكاري فيه إلى أن حضرت ذات يوم تمثيل رواية مترجمة كان من جملة حوادثها العرضية أن سيد المنزل أغوى فتاة كانت وصيفة زوجته، ولما فضحت الطبيعة عارها نبذها نبذ النواة، وبقي سيدا في بيته عزيزا في قومه، وأما الفتاة فانقذفت في العالم ملطخة بعارها.
ولم يكن لهذا الحادث شأن خطير في سياق تلك الرواية، ولا كان بيت القصيد فيها بل كان كما قلته آنفا حادثا عرضيا فيها، ولم يعلق واضع الرواية أهمية عليه البتة كأنما هذا الحادث عندهم أمر عادي، ولعل السبب أنهم أصبحوا يغتفرون هذه الزلة للمرأة كما يغتفرونها للرجل.
فخرجت من دار التمثيل متأثرا من حادثة الفتاة، ومن إغفال مؤلف الرواية أهميتها، وعقدت النية على أن أضع رواية تحوم حول هذا المغزى، وقد أطمعني بالنجاح ما رد إلي من صدى الاستحسان لرواياتي الصغيرة، وما نمت تلك الليلة حتى تكون في مخيلتي هيكل «حواء الجديدة»، وفي الصباح التالي شرعت في إنشائها فنجز في أسبوعين، ثم عرضتها على من أثق بحكمهم؛ لكي يصدقوني رأيهم فيها خشية أن يخدعني الغرور، فأجازوا أنها مما يقرأ، ولولا ذلك ما أقدمت على طبعها.
ولما كانت مباحثها تمس حياتنا الأدبية اليومية كل المساس وضعتها في أفواه أشخاصها، وجعلتها من ضروريات محاوراتهم؛ لكيلا يملها القارئ بل يتلقنها من غير إعمال ذهن ويتفهمها بقليل روية، فقارئ «حواء الجديدة» يقرأ تشريحا لعضو جوهري في جسم الشريعة الأدبية؛ ولذلك يتعين عليه أن يقرأها متئدا، ويحسن أن يقف عند كل عبرة متأملا عسى أن يكون له رأي آخر، ولعله يخطئ إن عجل في قراءتها ليعلم ماذا يكون من أمر أشخاصها، إذ يفوته الغرض الجوهري المقصود منها.
يونيو سنة 1906
نقولا الحداد
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الأول
لهفة فؤاد
لي صديق طبيب قص علي قصة تصور للقارئ الاعتساف الذي ذكر آنفا أجلى تصوير، فآثر أن أرويها عبرة للقراء في الشرق لعلهم ينصفون المرأة من الرجل، أو يعدلون بينهما، وينصرفون عن الكلام فيها إلى الكلام فيه، فحسبنا وحسب المرأة ما كتب عنها وشكي منها إلى الآن، فقد آن أن يكون الرجل موضوع الشكوى والتذمر، وقد اتخذت لأشخاص الحكاية أسماء أجنبية دفعا للمظان والشبهات.
قال صديقي الطبيب: في ذات يوم من أيام الربيع انتهيت من عيادة مرضاي بعد الظهر، فلما رجعت إلى منزلي وجدت شابا ينتظرني، وهو في شرخ الشباب يناهز الخامسة والعشرين، طويل القامة قليلا ممتلئ الجسم غير بدين جميل الطلعة، يكاد يتوهج لهيب الذكاء من مقلتيه ويرتسم فؤاده على محياه، رأيته يتمشى في القاعة مضطربا، فلا تكاد قدماه تستقران على الأرض وقد غشي وجهه اكفهرار الجزع والقلق، فما دخلت عليه حتى ابتدرني بالتحية متكلفا الابتسام وجلسنا، وقال: أظن أن الدكتور بوشه هو من أتشرف بمجالسته الآن. - نعم، يا سيدي أتشرف بمعرفة حضرتك. - موريس كاسيه. - على الرحب والسعة. - أتأذن يا مولاي أن أستفهمك عن أمر. - أجيبك يا سيدي على أسئلتك كل جواب أستطيعه. - أشكر فضلك جدا وأرجو أن تسامحني على كل سؤال يعز عليك أن تجيبني عليه، فقد أسألك ما لا يجوز أن أسأله. - عسى أني أستطيع إطلاعك على كل ما تشاء. - تعالج المدموازيل إيفون مونار؟ - نعم. - أي مرض تعاني هذه السيدة؟ - علة قلبية. - هل من خطر على حياتها؟
وقد توسمت في لهجة تساؤله منتهى القلق والاضطراب، فأشفقت أن أطلعه على الحقيقة صريحة فقلت له: حياتها في يد الله على أني أؤمل شفاءها.
فازداد امتقاع وجهه وقال: إذن هي على شفا الخطر؟ - كلا، على أني لا أنكر عليك أن العلة القلبية قد استحكمت فيها، ومع ذلك فإني شديد الأمل بشفائها إذا تلطفت انفعالاتها النفسانية التي تهيج أعصابها، وتستكد قلبها الضعيف. - هذا ما أتخوف منه؛ لأني أعرفها شديدة الانفعال، فهل تظن أن المنية أقرب إليها من السلامة؟ - لا سمح الله. - لا تؤاخذني يا دكتور بوشه، أتعتقد أن العلاج ينجع فيها؟ - نعم أعتقد. - إذن تؤمل أنها تشفى؟ - نعم بإذن الله. - هل ترى أن خادمتها تقدر أن تمرضها التمريض الواجب؟ - كذا أرى، وقد ظهر لي أنها تحبها جدا، وتعنى بها بكل غيرة وإخلاص. - ما أطيبك يا فانتين!
وكنت إذ ذاك أرى سحابة الكآبة تنقشع شيئا فشيئا عن محياه، وألاحظ أن سورة اضطرابه تسكن تدريجا، وقد سري عنه قليلا، وبعد هنيهة تكلم بصوت خافت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد خارج القاعة: هل لاحظت أنها في حاجة إلى شيء؟ - لا أدري شيئا من دخائلها.
فوجم عن الكلام هنيهة، وعيناه تفحصان الأرض أمامه ثم نظر إلي، وقال بلهجة المتضرع: مولاي أتجرئني على أن التمس منك فضلا عظيما؟ - أخدمك يا سيدي كل خدمة أستطيعها. - أشكر فضلك، هل لك أن تتحرى ما إذا كانت إيفون في حاجة إلى شيء فتخبرني؟ - لا أدخر وسعا في ذلك. - أتوسل إليك أيضا أن تبذل جهدك في معالجتها، وتلازمها ما استطعت، فإذا عجزت عن مكافأتك أوفيك حياتي. - إني مفرغ كل عنايتي في هذه العليلة؛ لأني تأثرت من حالها وحسبي شفاؤها أجرا عظيما. - إن هذا لطف عظيم يا دكتور بوشه، بقي أمر آخر أرجوه منك، فاعذرني على هذه الأثقال التي أحملك إياها.
وكانت لهجة الالتماس التي خاطبني بها موريس تفتت الفؤاد لما فيها من التخشع والتأثر، فأشفقت عليه جدا وتمنيت أن أواسيه فقلت: مر ما تشاء فإني أتمنى أن أستطيع خدمة لك. - أتسمح لي أن أزورك كل يوم لأسمع أخبار المدموازيل إيفون؟ - المنزل منزلك يا سيدي، على الرحب والسعة كل حين.
عند ذلك دخل الخادم بالقهوة، وتناول موريس فنجانا ورأيت أنه يكاد يغص في كل نهلة منه، وشعرت أنه يترشفه مرغما بحكم آداب المجاملة، ويتمنى لو أعفي منه فقلت: - أراك يا مولاي في منتهى التأثر، فإن كانت القهوة لا تلذ لك الآن، فلا بأس من أن تتركها.
ناپیژندل شوی مخ
وفي الحال رد الفنجان قبل أن يرشف الرشفة الثالثة منه، ولاحظت ارتياحه إلى ذلك كأن عبئا أنزل عن عاتقه، وأدركت أن غمه بلغ أقصى ما تبلغ إليه الغموم، وشعرت حينئذ أن مؤاساته واجبة، ولكن أغلق علي أن أجد الأسلوب الأفضل لذلك؛ لأن معالجة القلوب أصعب جدا من معالجة الأبدان، بيد أني استفتيت اختباراتي الماضية، فرأيت أن أفضل علاج لآلام قلبه وأحزان نفسه أن أستدرجه إلى الحديث عن تلك المرأة، التي جزع لأمرها؛ لأن بث ما في النفس من الشجون خير مصرف لما في القلب من الغموم، فلما انتهيت من ترشف القهوة قلت: لا أجسر أن أسألك أيها العزيز عما يحملك أن تقلق هذا القلق الشديد بسبب عياء المدموازيل إيفون مونار، ولكن أرى اضطرابك أغرب من اضطراب الوالد على ولده، فأشعر أنه يجب علي أن أقاسمك أساك، ولكني لا أدري كيف أواسيك.
فتنهد تنهدا عميقا كأن سؤالي فرج شيئا من كربه ثم قال: مولاي! إيفون خلاصة حياتي، فإذا نابتها نائبة خسرت حياتي. - إذن الصلة بينكما صلة حب لا صلة نسب؟ - الظاهر كذلك ولكن الحقيقة أن صلتنا أعظم.
فاستغربت قوله هذا؛ لأني أعلم أن الناس يضعون الحب فوق كل مرتبة، وقلت: عجبا! أي صلة غير الحب أعظم من صلة النسب؟ - مولاي إن صلة النسب للتناصر ومصدرها الوجدان، وصلة الحب للتواصل ومصدرها القلب، وأما صلتي بإيفون فلا أعلم اسمها، وإنما أعلم أنها ليست للتناصر ولا للتواصل، بل للحياة، ومصدرها الروح المجردة المترفعة عن المادة، فأنا أشعر أن إيفون لازمة لكياني لزوم الروح للجسد.
فعلمت من هذا الكلام أن كلف الفتى المسكين بتلك الفتاة نادر الشدة، ولكني ظللت في حيرة إذ لم أدر ما هي علاقته الفعلية بها، بل بالأحرى لاحظت من حديثه السابق أنه لا يلازمها ملازمة العاشق الكلف، ولعله لا يتردد إليها البتة فقلت: أشعر أيها العزيز أن أساك لا يؤاسى إلا بشفاء المدموازيل إيفون، ولي أمل كبير أنها تشفى بإذن الله، فاطمئن. - إني بين يدي الله ويديك يا دكتور بوشه. - لا أضن بشيء من العناية بها، وإذا شعرت بأقل لزوم لاستشارة أطباء آخرين في علتها، فلا أستنكف أن أعقد مجمعا من كبار الزملاء لهذه الغاية. - أمتن لك بمقدار حبي لإيفون، والآن سامحني على ما اتخذته من الدالة عليك لأول معرفة. - إن هذه المعرفة الأولى يا مسيو كاسيه تساوي عندي معرفة عمر، فليتها كانت لغير هذا السبب لأقول: إني ممتن للظروف التي احتوتها والأسباب التي دعت إليها. - أشكر لطفك جدا يا سيدي ولولا ما توسمته من كرم أخلاقك، لما طمعت بفضلك هذا الطمع. - إلى الملتقى غدا يا سيدي. - مع السلامة.
ثم ضغطت على يده وقلت له باشا: تشدد يا عزيزي موريس لا تجزع.
انصرف خفيف الخطى رشيق الحركة، وأنا أشيعه إلى خارج الباب، ولما توارى عدت إلى غرفتي متأثرا من حالته، وشاعرا بميل قلبي إليه.
تمثلت منزل تلك المرأة البائسة صومعة قديسة يتعبد فيها ذلك الفتى.
الفصل الثاني
حديث الحمى
كنت إلى ذلك الحين قد عدت تلك العليلة بضع عيادات مختصرة، فلم أكن أعرف عنها شيئا، وكان منزلها في عابدين وكنت أجدها وحدها في منزلها لا يحف بها صديق ولا نسيب سوى وصيفتها فانتين وخادم وطني، فسألت فانتين عن سر وحدتها فقالت: «إن المدموازيل إيفون غريبة لا أهل لها في مصر»، فلم أستزدها بيانا، غير أني افتكرت حينئذ أن جواب فانتين لم يكن لقصد التبيان، بل لمجرد الإجابة فقط، وإذ لم يكن أمر إيفون يهمني جدا لم أكترث أن أتحرى عن حقيقته، ولكن لما كان موريس يسائلني عن صحتها تقت أن أسأله عن ملخص سيرتها، فلم أجسر على هذا الفضول.
ناپیژندل شوی مخ
وفي اليوم التالي عدت جميع مرضاي وجعلت زيارة إيفون الأخيرة؛ لكي يتسع لي الوقت لمحاضرتها، ومن حسن الحظ وجدتها أحسن حالا بالرغم مما هي فيه من السقم والهزال والونى، وظهر لي حينئذ أن ثورة انفعالاتها شرعت تخمد. - أراك اليوم أحسن حالا يا مدموازيل إيفون ولي الأمل أن يكون شفاؤك قريبا. - الشفاء والفناء عندي سيان يا دكتور بوشه، وإنما أتمنى الخلاص من هذا العذاب بأي منهما. - أظن أن سبب مرضك الحالي الهواجس المحزنة، فيجب أن تصرفيها وأنا أضمن شفاءك بإذن الله.
فتنهدت قائلة: آه، ليت ذلك في طوقي، كل شيء يستطيعه الإنسان إلا تحويل الفكر عن وجهته. - لا أجهل هذه الحقيقة يا مدموازيل إيفون، وإنما عندي لدفع الأفكار المحزنة المؤلمة وسيلة فلسفية وهي «حب النفس»، أحبي نفسك فوق كل شيء تضحي بكل العالم لأجلها، وحينئذ لا تبالين بغير مسراتك، أرى أن هذه القاعدة هي العلاج الوحيد للأفكار المحزنة والهموم المزعجة؛ لأني لم أجد مريضا بداء الفكر إلا من يهتم بشئون الآخرين.
فابتسمت ابتسامة لطيفة جدا تشف عن تسامي عقلها عن هذه الفلسفة، وانقلبت عن جنبها إلى ظهرها ولم ترد جوابا، وكان سكوتها أفصح دلالة على أنها لم تقتنع بقولي، ولكن لم يكن لها جلد على مجادلتي، وبعد هنيهة قلت لها: زارني المسيو موريس كاسيه أمس، وسألني بتدقيق عنك.
فتململت، وفي الحال أدركت أن الحديث عنه يهيج عواطفها، ولكني لم أفهم البتة لماذا. - أشكر لطفه، أتعرفه من قبل يا دكتور؟ - كلا ولكن معرفتي له أمس كانت كمعرفة عمر، فإني أعجبت بذوقه ولطفه وعظم ثقته بي. - ماذا قلت له عني؟ - قلت: إنك مقبلة على الشفاء بإذن الله، على أنه كان قلقا جدا عليك، ودقق في التساؤل عنك.
بقيت إيفون صامتة كأنها تأبى الخوض في هذا الموضوع؛ ولذلك رأيت أن اقتضاب هذا الحديث أفضل لئلا يسوءها التمادي فيه، فنهضت وودعتها ومضيت وأنا أشعر أني خارج من حضرة ملاك؛ لأن صورة تلك المرأة رسمت أثرا جميلا في صفحة مخيلتي، ولم أزل إلى الآن كلما تنبهت لها ذاكرتي تخيلت رسم فتاة وديعة سليمة الطوية أبية النفس سمحة الخلق.
ولما عدت إلى البيت وجدت بربريا ينتظرني، وفي يده رسالة لي ففضضتها وقرأت:
سيدي الدكتور بوشه
أصبحت اليوم والصداع يجنني والحمى تشويني شيا، وكنت أنتظر أن تخمد قليلا؛ لكي أستطيع أن أزورك في الموعد المعين وأتلقن منك أخبارك السارة عن مدموازيل إيفون مونار، ولكن خاب فألي فهل تتفضل علي بهذا الفضل العظيم، وهو أن تعودني في أفرغ أوقاتك؟ أمتن لك على كل حال.
موريس كاسيه
فشعرت على أثر قراءة هذه الرسالة أني أتوقع لذة من الاجتماع بموريس، والاطلاع على حقيقة صلته بإيفون، فركبت مركبتي والبربري إلى جانب الحوذي يرشده إلى منزل سيده.
ناپیژندل شوی مخ
وجدت أمه والخادمة عنده فحييت ودنوت منه، فوجدت وجهه لا يزال يتورد والحمى آخذة بالخمود، وعلمت أن أنفلونزا شديدة هاجمته، فطمأنته وأمه ووصفت له العلاج الناجع، وبعد هنيهة أوعز إلى أمه والخادمة أن تتركانا وحدنا؛ لأنه كان على مثل نار الغضا في توقع أخبار إيفون، ولما خرجتا نظر إلي والأمل يشع من مقلتيه، وهو ملقى في سريره على يمينه ووجهه إلي، وقال: عدت إيفون اليوم؟ - من غير بد. - كيف حالها؟ - أحسن من أمس، ولي الأمل أن تكون غدا أحسن من اليوم، فأبرقت أسرته وقال: أكيد؟ - لست أخدعك لكي أطمئنك فقط، بل الحقيقة هي ما أقول. - إذن تؤمل أن إيفون تشفى؟ - نعم. - إني مدين لك بحياتي. - أما زرتها يا مسيو موريس؟ - كلا. - عجيب!
فسكت، وبعد هنيهة قلت له: ألا تزورها غدا حين تستطيع الخروج. - لا أظن. - عجيب، كيف تطيق وأنت تحبها أن تجفوها في أثناء مرضها؟ - أراك يا دكتور بوشه تحرجني أن أطلعك على سر حبي لإيفون. - اعذرني على فضولي. - بل سامحني أيها العزيز، فإني أكتم عنك مصيبتي بإيفون مع أني أشعر أنك أصبحت موضع ثقتي الوحيد بالرغم من حداثة تشرفي بمعرفتك، أما أنت صديق حقيقي الآن؟
لم يكن عندي ريب بأن موريس اتخذني صديقا أمينا لأول مقابلة، وامتلأ ثقة بي وتمنى أن أبادله مثل هذه الثقة، وتلك الصداقة على أنه تسرع في ذلك قبل أن يعرفني جيدا، ولماذا؟ السبب بسيط، وهو أني كنت أعود مدموازيل إيفون كل يوم، ولو كان طبيب آخر سواي يعالجها لنال من حب موريس ودالته وثقته ما نلت، فأجبته على سؤاله: لا أظنك تشك بذلك. - إن إيفون تأبى مقابلتي، فأخاف أن تتأثر إذا زرتها. - ألا تحبك؟ - لا أظن أنها لا تحبني. - فلماذا تأبى مقابلتك إذن؟
فتنهد قائلا: هنا كل مصيبتي.
وعند ذلك ضغط على زر جرس الاستدعاء فدخلت الخادمة فقال لها: اقفلي الباب ولا يدخل علينا أحد بغير استئذان.
ارتفع قليلا على مخدته ووضع كفه تحت رأسه، وقال: يلذ لي أيها الصديق أن أقص عليك حكايتي مع إيفون؛ لأن قصها يفرج كربي، آه إيفون، إيفون، ما أهنأ الموت عند مدخل بابك.
فتبسمت قليلا فقال: لا تضحك يا عزيزي بوشه بل ارث فإن الحب أعظم ما في العالم، ولولاه لما كنت أنت بوشه الطبيب البارع، فلأجل من تهوى - ولا بد أنك تهوى واحدة؛ لأنك لم تزل شابا مثلي - تسعى إلى طلاب العلى؛ ولأجلها تمتاز عن الجماد، لا تؤاخذني على هذه السماجة في التعبير.
فأعملت الفكر في هذه الفلسفة المختصرة وقلت: صدقت، ما الإنسان إلا حيوان يحب، وما الحيوان بلا حب إلا حجر أصم، فلست أهزأ بك يا عزيزي، ولكني ابتسمت لتمنيك. إني أحترم حبك. - تبتدئ قصتي مع إيفون بحادثة نزق وطيش، وسترى أن النزق يكون أحيانا فال الخير؛ فلذلك النزق أنا مدين بحب إيفون.
ثم شرع موريس يحكي حكايته، وأنا أسمعها صامتا إلا نادرا، قال ...
الفصل الثالث
ناپیژندل شوی مخ
وقدة الحب
منذ أشهر كنت في عصاري يوم أحد في قهوة الجيزة المشرقة على النيل،
1
وإذ كانت تلك القهوة مستحدثة، وقد اتصل بها خط الترمواي من عهد قريب كانت تغص كل مساء بالمتنزهين، ولا سيما مساء الأحد؛ لأن إيثار الجديد غريزة في الإنسان.
جلست مع بعض الأصدقاء إلى إحدى الموائد كسائر الجلوس، وكان إلى الجنوب منا جماعة من الشبان يترشفون الأشربة الروحية، وقد تمادوا في الشرب حتى لعبت الخمرة بألبابهم، فصاروا يهزلون ويقهقهون إلى أن نبهوا جميع الحضور إلى مزاحهم.
وما قعدنا وطلبنا الشراب كغيرنا حتى بدت في القهوة سيدة إفرنجية هيفاء القامة رقيقة الجسم، وضاءة الطلعة نجلاء العينين كحلاؤهما، ولولا لبسها ولغتها لقلت: إنها تركية؛ لأن النجل والكحل نادران في الإفرنجيات كما تعلم، أما جمالها فلا أعرف كيف أصفه لك؛ لأنه قليل الأشباه وإنما تدرك أنه عجيب إذ تعلم أنه كان للقوم كالمغناطيس للحديد، فما بدت في الجلاس حتى طوقتها نواظرهم كلها.
هذا مجمل وصف إيفون الجسماني أذكره لك؛ لأنك لم تعرفها لعهد نضارتها، ولم ترها إلا الآن وهي زهرة ذاوية.
جلست إيفون إلى مائدة إزاء الشبان اللاغطين، وإذ كانت وحدها حسبها أولئك السكارى إحدى البغيات، فجعلوا يعرضون بها في هزلهم ومزاحهم، ويصوبون إليها مغزى تغزلهم وهم يتكلمون بالإفرنسية.
لا ألومهم على ذلك الظن؛ لأنه من أخلاق هذا الزمان أن لا يرى الناس سيدة وحدها في مكان عمومي، إلا حكموا بأنها مبتذلة واستباحوا لأنفسهم امتهانها أو مداعبتها، كأنه أصبح حراما على المبتذلة أن تكون شريفة النفس، بل أمسى عجيبا أن تكون غير المحصنة متعففة.
استفزت نشوة الخمر أولئك المجانين، فتمادوا في رقاعتهم ومزاحهم حتى صاروا يرشقون إيفون بألفاظ التحبب المستنكرة، ويرمونها بالنكات الفظة وهي صامتة رزينة كأن الكلام ليس لها، أو كأنها ليست إزاء أولئك الممازحين، ولكنها كانت تتميز غيظا وتحاول أن تخفي تغيظها.
ناپیژندل شوی مخ
تمادى أولئك الأغرار في تحرشهم بإيفون حتى اتضح تغيظها، ولم تعد تطيق الصبر وكنت كسائر الحضور ألاحظ تقطب وجهها، وأسمع هراء أولئك الأسافل، بيد أني كنت أختلف عن بقية السامعين بأني أتغيظ في داخلي وهم يضحكون لأولئك الماجنين، فيشجعونهم على التمادي في بذيء الكلام، ولما أفرط أولئك الأراذل في سفههم قلت لمن معي: عرفت أكثر مدن أوروبا وبعض مدن الشرق، فلم أجد فيها ما أجده في هذا البلد من تحرش الرجال بالسيدات، ولا أدري من أين تأتي للشبان الجرأة على أن يتحرشوا بسيدة لا يعرفونها، والأغرب أنهم وهم يرون منها النفور والاشمئزاز والاقشعرار يستمرون يغازلونها بقحة، ويطارحونها الكلام الذي يورد وجنتيها.
فقال أحد رفاقي: الحق أن كل حسنة من حسنات التمدن، الذي اتصل بهذه البلاد تمحوها هذه السيئة القبيحة.
فقلت: وايم الحق إن مواظبة الوقح على مطارحته الكلام لمن يشمئز منه لغلاظة لا توجد حتى عند همج أفريقيا، فلا أعلم بأي جرأة يفعل ذلك مدعو المدنية هنا.
فقال رفيق آخر: الذنب ذنب الحكومة؛ لأنها لا تشدد على الشرطة أن يقبضوا على كل متحرش بسيدة لا يعرفها.
فقلت: والأنكى أنه لا يوجد بين كل هؤلاء الذين هنا يسمعون هراء هؤلاء المهاذير إلا من يضحك لهم ويقهقه معهم، وليس فيهم ذو هيبة وحمية ينتهرهم، ويؤنبهم على بذاءتهم، ويدفع عن هذه السيدة قحة هؤلاء الأسافل.
كنت أقول هذا الكلام على مسمع ممن حولي، وأنا أنتفض من الغيظ وربما سمعت إيفون بعض قولي، وكان بالقرب مني شاب وطني عليه دلائل النعماء، وكان أكثر الحضور قهقهة ونفسه تحدثه بأن يشترك مع الماجنين في مزاحهم البذيء، ولاحظت أنه ذو معرفة بإيفون وأنه يتعمد نكايتها، وقد سمع أكثر قولي ولا سيما آخره فقال وقد ظهرت على وجهه أمارات الغضب: حسبها أنت مدافعا عنها. - نعم أدافع عنها، وكان الأحرى بك أن تعقل لسانك لا أن تدلعه بهذا المجون، وتقفل فمك لا أن تفتحه بهذه القهقهة القبيحة. - ما شأنك أنت؟ - شأني كشأن كل ذي عرض يحمي العرض. - كن ما شئت ولكن لا شأن لك مع سواك، الناس أحرار. - المكان عمومي فعلى كل من فيه أن يتحامى المساس بإحساسات الآخرين. - ليس من يتعرض لك بأمر. - بل إن التحرش بهذه السيدة بالبذاءة والقهقهة يسوآن الآخرين، فالأفضل أن تلزم أدبك.
وكان التحمس حينئذ قد أوقفني على قدمي من غير أن أنتبه، وهو قد وقف مثلي وكلانا يتحفز للوثوب على الآخر، وسائر من في المكان ينظر إلينا متوقعا شرا، وبعضهم يتساءلون ما الخبر، ولما رأى خصمي أن عيني حمراوان وأني متصد للقتال: قال: أتعلم أنك تدافع عن امرأة مبتذلة؟ - ولكنها أشرف نفسا منك، وأكثر تأدبا من كل معرض بها. - أراك عديم الأدب قليل الحياء. - بل أنت بذيء اللسان سافل النفس.
وهجمت عليه أريد أن أضربه فاعترض بيننا الأصدقاء، وعند ذلك وقعت من عيني لمحة على إيفون فرأيتها واقفة مع الواقفين، وهي ترتجف جازعة، وشاهدت وجهها كأن صفرة الموت قد علته - سلامتك يا إيفون يا حياتي - وسمعتها تقول: «يا الله يا الله» كأنها تخاف أن ينتهي خصامنا بسفك دماء، فقلت لها: لا تخافي يا سيدتي لا أبتغي القتال، وإنما ابتغيت أن أقطع ألسنة السفهاء.
فرأيت حينئذ شفتيها تتحركان ولم أسمع ماذا قالت، وفي الحال ولتنا ظهرها وتوارت، وعاد الناس كل إلى مكانه، وصحابي مضوا بي تحاشيا للشر.
وبعد هنيهة خمدت جمرة انفعالي، وشعرت بارتياح إلى ما فعلت وكنا وأصحابي نتحدث بإيفون وجمالها الباهر، وسماحة طلعتها ورزانتها وخيلائها وحشمتها، وتعجبوا كيف أن مومسا تتصف بصفات المحصنات.
ناپیژندل شوی مخ
فسألت موريس: إذن إيفون مومس؟
فأجاب: نعم هي مومس في عرف الجمهور، ولكنك متى اطلعت على سيرتها تستخلص منها وصفا لغير مومس.
فارقت أصحابي في آخر السهرة إلى البيت والسهاد يحاول ألا يفارقني، اضطجعت في سريري والأرق مضطجع في سرير أجفاني لم أتضجر من ذلك السهد، بل كانت مقلتاي تستلذانه، فكانت أفكاري ترفرف في جو الخيال فتعلو تارة وتهبط أخرى، وهي مجنحة بأجنحة من تذكار إيفون.
تصفحت سفر مخيلتي مرارا عديدة لأرى رسم إيفون، ورددت ما انطبع فيه من حالاتهما في حادثة الجيزة، وتمثلت جلستها إلى مائدة الشراب ويدها تتناول الكأس، وشفتيها تترشفانه ومنديلها يلثم ثغرها ويمتص السائل عن شفتيها، وتخيلت رزانتها بين الماجنين وغليان غيظها، وحلمها يبرده، ثم تصورت أزيزه وفورانه حتى كاد ينفض غطاء الكظم عن مرجل الغضب.
استعرضت في مخيلتي سيناماتوغراف هذه الحوادث مرارا، فكنت دائما أتمثل إيفون فيها ملكة بلا تاج وملاكا بلا جناحين.
كلما تصورتها مومسا قام ضميري يغالطني في هذا التصور؛ لأن مظاهرها العرضية والجوهرية كانت تختلف بعض الاختلاف عن مظاهر المومسات، كان ثوبها بسيط الزي ولكنه نفيس جدا وحلاها قليلة، ولكنها ثمينة ومركبتها فخمة جدا كمركبات العظماء.
تراءت لي إيفون حينئذ سامية المقام عزيزة الجانب شماء النفس شريفة العواطف الخلق طاهرة القلب، اعتقدت حينئذ أنها تتصف بكل هذه المحامد لماذا؟ لأني لم أكن أعرفها ولا أعرف عنها شيئا، فتأملت مظهرها في قهوة الجيزة، فكان يروي هذه المعاني.
لا يقع نظرك على شخص لأول مرة إلا ينطبع في ذهنك رسم لأخلاقه منسوخ عن ملامحه، ولا يندر أن تجده بعد الاختبار مطابقا أو مقاربا لرسمه الأول الذي انطبع في ذهنك.
ظهرت لي إيفون بعدئذ أسمى مما تخيلتها، شغلت بالي معظم الليل؛ لأنها ملأت قلبي، كانت تحدثني نفسي بأن أكون عشيقها وكان الأمل يصور لي وجودي بقربها متنعما بهواها متمتعا برضاها، ثم لا ألبث أن أكشف عن رسمها في ذهني فأرى عظمتها، وأشعر بجلالها فأتوهمها أسمى من أن تعبأ بمثلي.
لماذا؟
ناپیژندل شوی مخ
لأنها مضت بعد الحادثة من غير أن تثني علي ثناء صريحا، ولا اهتمت أن تعرف من هو الذي دافع عنها، بل أدارت ظهرها ومشت قبل أن ننتهي من مشاجرتنا القصيرة، لماذا لم أؤاخذها على هذا الإهمال، بل عزوته إلى سمو قدرها؟ لأن الحب الذي يعظم المحبوب في عيني المحب يختلق المعاذير.
أظن أن دجية الهجوع لم تنسدل على قضاء خيالاتي حتى الساعة الثالثة بعد نصف الليل، وما طنت السابعة حتى فتق بصري غشاء الكرى، وشعرت كأن عيني قد استوفتا حاجتهما من النوم.
قضيت ذلك النهار وفكري حائم حول إيفون لا يصرفه شاغل عنها، حتى يعود فينتهي إليها.
ذهبت في ذلك المساء إلى قهوة الجيزة، ولماذا لم أذهب إلى مكان آخر؟ أليس طبيعيا أن أذهب إلى هناك لعلي أصادف إيفون؟ هناك رأيتها أول مرة، وإلى هناك ظننتها تتردد لم أعلم أين يمكن أن أصادفها في غير الجيزة.
كانت قهوة الجيزة مزاري كل مساء في ذلك الأسبوع من الخامسة، حتى السابعة وإيفون لم تومض لها بارقة في ذلك الأفق. وبعد السابعة كنت أعود، فأطوف الحانات الكبرى والصغرى، فلا أعثر حتى على طيف منها، لم أكن أعرف اسمها حينئذ لأسأل عنها.
إذا كانت مومسا فلماذا لا توجد في الأزبكية؟ لماذا لا تتمشى مع رصيفاتها بين وجه البركه ونيوبار؟ لماذا لا تصادف في «سنت جايمس» ولا في «السفنكس»
2
وإذن كانت من البغيات. وإن كانت محصنة أو محظية فلماذا ذهبت وحدها إلى الجيزة؟ حرت في أمرها وكنت أزداد افتكارا بها يوما بعد آخر حتى صارت شغل بالي الشاغل، لم أعد أستطيع أن أفكر بسوى إيفون، فكان فكري كالغصن المعتدل المرن إذا لوته المشاغل عنها هنيهة، فلا يعتم أن يعتدل مصوبا إليها.
لماذا كلفت بإيفون هذا الكلف مع أني لم أعرفها، ولا رأيتها إلا مرة واحدة قصيرة؟ لأن النفس كانت تطمعني بقلبها بالرغم مما توهمته من خيلائها، حدثني ضميري أنها إذا رأتني فلا بد أن تثني علي وتلاطفني، وفي خلال ذلك على ولوعي بها فتميل إلي.
خطر لي في اليوم التاسع - وكان يوم الاثنين - أن أعدل عن التنزه في الجيزة في ذلك اليوم، لم أدر لماذا؟ مع أن نفسي كانت ميالة إلى التنزه هناك، فركبت مركبة وقصدت إلى الجزيرة وأنا أقول لنفسي: «لعلي أراها هناك.»
ناپیژندل شوی مخ
دارت المركبة بي في دائرة الجزيرة الصغرى دورتين، وإذ كانت قرب الجسر (الكبري) الذي يعبر عليه إلى طريق الجيزة لمحت على حين غفلة إيفون في مركبتها الفخمة مرت أمامي كالبرق الخاطف واجتازت الجسر.
رأتني كما رأيتها ولم تبد أقل إشارة، ولا استوقفت عربتها لتكلمني كما كنت أؤمل فاستولى علي اليأس حالا، وصرت أعلل ذلك بأنها تناست ما كان مني ولم تحسبه ذا أهمية كما ظننت، وجعلت أقنع نفسي بأن ما أحسبه مأثرة لي ليس إلا سخافة.
وكانت مركبتي قد انثنت لتستأنف دورة ثالثة، ولكن بعد هنيهة تجدد أملي؛ لأنه حيث يوجد الميل ينشأ الأمل، فأوعزت إلى الحوذي أن ينثني وينطلق إلى الجيزة؛ لأني قدرت أن إيفون قاصدة إلى هناك.
درجت بي المركبة مسافة في ذلك الطريق والوهم يصور لي أني إذا أدركت إيفون، واجتمعت بها فقد لا تعبأ بي كثيرا بل تضحك مني، وتقول في نفسها: «ما أسخف عقله! ما رآني حتى تبعني»، تجسم بي هذا الوهم؛ لأنها لم تحيني إذ رأتني ولا أمهلتني حتى أحييها؛ لذلك قلت للحوذي أن يرجع، فألوى العنان متجها إلى الجزيرة.
وما كدت أصل إلى الجسر حتى ندمت على رجوعي، ولمت نفسي على جبني وقلت: أتبعها إلى الجيزة ولتقل ما تقول، وأمرت الحوذي أن يلوي العنان ثانية فدرجت بي المركبة إلى هناك وأنا أفكر في كيفية الالتقاء بإيفون، وماذا أفعل إذا رأيتها في الحانة وماذا أكلمها، ولكن فؤادي كان شديد الخفقان حتى كنت أسمع خفوقه بأذني، وكثيرا ما ترددت في أمر لحاقها، وهمت غير مرة أن أقول للحوذي أن يرجع بي ، ولكني أسكت لساني عن ذلك مخافة أن يظنني الحوذي أهوج أو مجنونا.
ما أدركت مركبتي حانة الجيزة حتى رأيت إيفون خارجة من مدخلها الكبير، وحوذيها يدنو بالمركبة إليها، فقلت لحوذي مركبتي: أن يستمر في طريقه وغضضت نظري عنها؛ لأني خفت أن تعلم أني أتبعها، وأوهمت أني أتقدم في طريق الأهرام، أما هي فلا أدري إن كانت قد رأتني.
لعنت نفسي ألف لعنة لترددي السابق في اللحاق بها؛ لأني لو اتبعتها في الحال لأدركتها في الحانة.
وما تقدمت بي مركبتي نحو ربع كيلو متر حتى أمرت الحوذي أن يعود مسرعا ما استطاع؛ لعله يدرك عربتها فأتبعها إلى حيث تنتهي فأعلم مقرها، ولكن خاب ما أملت لأن مركبتها كانت مشدودة إلى مطهمين يسابقان الرياح، عضضت أصابعي ندما ولكن لات ساعة مندم، مر على هذه المصادفة نحو شهرين من غير أن تعاد، قل ترددي إلى الجزيرة والجيزة، وفتر وجدي حتى كدت أنسى إيفون؛ أولا لأني لم أعد أصادفها فضعف أملي بلقائها؛ ثانيا لأني لما رأيتها في الجزيرة تراءت لي كأنها لا تعرفني. علمت بعد ذلك أنها كانت في الإسكندرية مدة ذينك الشهرين.
الفصل الرابع
لقاء فيه الداء
ناپیژندل شوی مخ
جاء فصل الشتاء وفتحت الأوبرا الخديوية قلبها للمغرمين بالتمثيل، قصدت إليها لأول ليلة في ذلك العام، وكان كرسي في وسط الجانب الأيمن من الدرجة الأولى، جعلت أجيل نظري في جهات الملعب؛ لأنظر القادمين لا لأترقب إيفون؛ لأني كنت قد يئست من لقائها، ومع ذلك خطرت على بالي ليلتئذ، خاطر عار من الرجاء.
بعد بضع دقائق بدا في مقصورة (بنوار) على يميني شاب جميل الطلعة جدا أنيق المظهر عليه النعماء يلبس طربوشا، ومعه سيدة تزري بالملكات في جمالها وبهائها، ونفاسة زيها فشككت في أنها إيفون؛ لأن مظهرها كان يختلف عن المظهر الذي رأيتها فيه لأول مرة.
لا تعجب من ذلك يا دكتور بوشه، فإن التبرج يغير منظر المرأة كل التغيير، فقد ترى أختك في الأوبرا فلا تعرفها.
كنت أختلس النظرات منها كل هنيهة، وهل أستطيع أن أكف نظري عنها؟ بعد حين لاحظتني أخالسها النظر، فعادت ترمقني بألحاظ غير حادة كأنها مصوبة إلي عفوا لغير معنى؛ ولهذا لم أتأكد أنها هي نفسها، على أنها أصبحت شاغلا لبالي.
ولما انتهى الفصل رجعت عن مطل المقصورة، وجعلت تحادث الشاب الذي كان معها وفي خلال حديثهما دخل عليهما فتى إيطالي أعرفه جيدا يدعى أوغستو سلا فأنعش دخوله عليهما فؤادي، بقي معهما حتى نهاية الفصل الثاني وحينئذ لم أختلس منها إلا نظرتين أو ثلاثا، وصممت على أن أراقب أوغستوجين يخرج وأقابله وأسائله عنهما.
ومن حسن حظي أنه خرج عند نهاية الفصل الثاني، فالتقيت به في فناء الملعب فحييته تحية الصديق الحميم مع أنه لم يكن قبلا من جملة أصدقائي الأخصاء، فأجابني بتحية ودودة، وما تكلمنا جملتين حتى استدرجته إلى الموضوع الذي أنويه، فقال: إن المدموازيل مونار أعجبت بهذا الجوق الجديد. - ما شأن هذه المدموازيل؟ ومن هذا الذي معها؟
فقال متعجبا: ألا تعرف المدموازيل إيفون مونار؟ - كلا. - عجيب جدا أنك لا تعرفها، وكثيرون يعرفونها لشهرتها في الجمال واللطف والأدب. - لسوء حظي لا أعرفها، ولعلي رأيتها قبل الآن، من هذا الشاب الذي معها؟ - الأمير ص. ك. وهي محظيته الآن. - كذا. - نعم، وهو على علم وأدب. - أظنه أتى بها من أوروبا؟ - كلا بل كانت مقيمة في منزل كبير في حي الإسماعيلية، وقد جعلت بيتها شبه حانة خاصة بالكبراء المتأدبين، وفيه تعرف بها الأمير، ثم وافقته على ترك الحانة والإقامة في منزل خاص بها وهو ينفق عليها سرا. - إذن لا يزورها الآن غيره. - بل يزورها أي من شاء من معارفها في أوقات الزيارة. - هل يعلم الأمير بذلك؟ - من غير بد؛ لأنها لا تتظاهر محظية له؛ ولذلك تعيش على هواها غير أنها محافظة على عهودها معه وأمينة له أمانة الزوجة للزوج، وهو مهذب يقدر الأشخاص قدرهم؛ ولهذا وثق بها ولم يشأ بل لم يجسر أن يقيدها بقيد. - أظنك عرفتها لعهد حانتها الخاصة. - نعم؛ لأن لي صلة شغل بالأمير، فكنت أتردد معه إلى منتداها قبل أن احتظاها، والآن أزورها كثيرا مع الأمير ووحدي. - هل ترى التعرف بها عزيزا الآن؟ - أتريد التعرف بها؟
فزممت شفتي كأن الأمر لا يهمني، فقال: إنها لفي منتهى اللطف يا مسيو كاسيه، وكل معارفها عشاقها لطيب عشرتها، فإذا شئت أعرفك بها فهلم. - والأمير؟ - أعرفك به أيضا. - لا ليس الآن. - أظن أن الأمير يمضي قبل نهاية التمثيل، فإن شئت أقدمك إليها وهي وحدها. - بأي صفة؟ - عجيب! ألعل التعريف عقدة سياسية؟ - لا لست أحسبه عقدة، ولكني أود أن تقول لها في ذلك أولا، فلعلها تأبى استقبالي مراعاة لخاطر الأمير، فأعود كاسف البال. - قلت لك: إن الأمير لا يحظر عليها ذلك، على أني أستأذنها من أجلك. - لا تدعها تفهم أن الأمر كان بإيعازي، وإنما كان باستحسانك لما بيننا من الصداقة.
إذن أشير إليك من المقصورة أن تأتي. - كلا كلا، بل أرجو منك تأتي إلي وتأخذني إليها؛ لكي تجعل قيمة لصديقك الذي تقدمه لها. - حسن.
عدت إلى مقري فنظرت الأمير يودع إيفون وأوغستو، فطفر قلبي فرحا في صدري، وإذ كنت أرى أوغستو يسامرها جعلت نفسي تحدثني أنها قد تكون دون ما أنا أتوهمها، فلماذا أمثلها في نفسي شيئا عظيما؟ ولكني لم أكن أرمقها بنظرة حتى أرى من جلالها ما يوهمني أنها أرفع من أن تطولها عزة نفسي.
ناپیژندل شوی مخ
اجتهدت أن أرد نظري عن مقصورتها مدة الفصل الثالث حرصا على عزة نفسي وتجاهلا لمعرفتها، لماذا؟ لا أدري، ولما انتهى الفصل خرجت إلى رحبة الملعب الخارجية أنتظر أوغستو، لم يأت إلا بعد دقيقة تراءت لي ربع ساعة فسألته: ماذا قالت؟
فضحك قائلا: «مرحبا به.» - ماذا قلت لها؟ - «أود أن أقدم لك أحد أصدقائي، وهو شاب ظريف مهذب يدعى المسيو موريس كاسيه.» - هل دللتها علي؟ - لم تسألني ذلك. - إني لممتن لك جدا يا مسيو سلا.
صعدنا في الدرج المؤدي إلى رواق المقاصير، وأنا أكاد أتعثر بالدرجات، وأتوهم أن الأرض مرنة جدا تحت قدمي فلم أعلم كيف أمشي، ولما دخلنا شعرت أن لهيبا يتوهج من وجهي، فاستقبلتني إيفون بابتسامة كانت نسمة حياة لقلبي ، لا أنسى تلك الابتسامة السماوية ولكني لاحظت أنها بوغتت بمقابلتي، كأنها لم تكن تنتظر أن أكون أنا المقدم لها، قدمني أوغستو لها فمدت إلي يدها مصافحة، ثم قعدت على الكرسي المقابل لها، شعرت حينئذ أني لدى ملكة جليلة، وما أمهلتني أن أخاطبها بموضوع الرواية حسب عادة المتخاطبين في مثل ذلك المقام فبادأتني سائلة: أظن حضرتك الذي رأيته في حانة الجيزة منذ مدة. - ربما.
وحينئذ اتضح لون الحياء في وجهي فتفرست في وقالت: لا أظنني غلطانة، أما أنت الذي أنب يومئذ ذلك البذيء لمضاحكته أولئك السكارى؟ - أتأسف لما حصل يا سيدتي. - إني أشكر مروءتك جدا يا مسيو كاسيه، وأعترف أني قصرت عن أداء الشكر لك إذ لم يتسن لي في حينه.
فقال أوغستو: ما المسألة؟
فراوغت من سبيل سؤاله قائلا: ليس الأمر ذا أهمية. كيف رأيت الرواية يا مدموازيل مونار؟ - استحسنتها جدا؛ لأنها كلها عواطف، كدت أبكي في هذا الفصل، فابتسمت قائلا: إذن تميلين إلى الروايات الإحساسية. - جدا، وأنت؟ - لا أقرأ سواها تقريبا. - تفعل حسنا؛ لأن الروايات التي اقتصر فيها على ذكر الحيل والدسائس تعجب القارئ إعجابا فقط لأنها تدل على قدرة واضعها في اختلاق حوادثها الغريبة، ولكنها لا تفيده فائدة أدبية، وأما الروايات الإحساسية فتؤثر على نفسه التأثير المقصود منها، فإن كان مغزاها أدبيا مفيدا هذبت خلقه ودمثت طبعه، وأنا أشعر أن أخلاقي ربيبة الروايات. - ولكن مزاجك يا سيدتي لا توافقه مطالعة الروايات الإحساسية؛ لأن حوادثها المؤثرة تفعل في نفسك ما يؤثر على صحتك أحيانا.
فنظرت إلي نظرة حادة كأنها لم تعهد قبلا مثل هذا الإحساس نحوها من أحد معارفها وقالت: نعم أعلم ذلك، ولكني أشعر بلذة فائقة حتى حين أبكي متأثرة.
وعند ذلك التفتت إلى جهات الملعب وتناولت منظارها، وقدمته لي باسمة فتقبلته شاكرا، ونظرت فيه نظرة قصيرة ورددته إليها، أما هي فكانت ناظرة إلى صحن الملعب من غير اكتراث، أجلت نظري في المقاصير المقابلة لمقصورتها، فوجدت بضعة عشر منظارا متجهة إلينا، ولاحظت بعد ذلك أنه ما من منظار في الملعب إلا صوب إليها مرارا، أما هي فندر أنها نظرت في منظارها، بقينا بعد ذلك هنيهة ساكتين فاغتنمت فرصة استرسال نظرها في فضاء الملعب، وتأملت ذلك الجمال السماوي.
لو اجتمع مهرة المصورين وصانعي التماثيل، وأفرغوا كل جهدهم في أن يجمعوا في تمثال واحد صفوة المحاسن، وخلاصة الجمال نقلا عن مخيلاتهم لكان ما يصطنعونه تمثال إيفون بعينه.
هيكل متناسب الأعضاء كأنه صب في قالب مصوغ من الأذواق السليمة، لم أقدر حينئذ أن أتمثل قامتها؛ لأنها كانت جالسة، على أني ذكرت إذ رأيتها في الجيزة أنها أميل إلى الطول بالنسبة إلى جسمها، ولكنها معتدلة بالنسبة إلى سائر النساء؛ ذلك لأنها كانت أرق جسما من معدل الأجسام النسائية، ومع رقة جسمها لم تتراء لي نحيلة فكان وجهها ممتلئا، ونظرت إلى كفها العارية من القفاز (الجوانتي) فوجدتها مكسوة السطوح كالبطحاء لا منخفضات فيها ولا مرتفعات، وأناملها مستطيلة قليلا تكاد تظهر منتفخة عند عقدها الأولى، وهذا من دلائل عصبية مزاجها، وأظافرها لا تتميز عن اللؤلؤ النقي الشفاف إلا بكونها ضاربة إلى الحمرة الوردية قليلا.
ناپیژندل شوی مخ
ولولا كثافة شعرها الفاحم لتراءى رأسها صغيرا بالنظر إلى بدنها؛ لأن وجهها يتراءى كذلك، لم أشهد في حياتي رواء أصفى من رواء وجهها، فكنت أتوهم أن لأهداب جفنيها ظلا في أعماق وجنتيها كظل العشب النابت على ضفة النهر في الماء الصافي، ولا رأيت قط نجلا كنجل عينيها إذا أطرقت ظننت الجفن العلوي يغطي الجفن السفلي، وإذا رفعت نظرها فمهما انفرج جفناها لا تظهر حدقتها كلها، لا ترى لها من المقلة إلا شكل نواة لوزة مستدقة أوسطها حالك السواد وجانباها عاجيا البياض، وفوق عينيها حاجبان مقوسان دقيقان، ولكنهما حالكان - يتكاثفان حيثما يتطرفان، ولكنهما لا يتلاقيان، ويستدقان حيثما يتطرفان ولكنهما لا ينطلقان، وبينهما أنف يوناني تتوهمه شفافا، وتحته شفتان كأنهما ورقتا شقيق ملتفتان حيثما تتماسان، وبينهما قناة منحنية قليلا متحدرة الضفتين، وقد فرش قرارها مثل اللآلئ كأنها مجرى للابتسام وعذب الكلام.
كل لمحة من ملامحها تدل على عاطفة في داخلها.
إذا تكلمت تصورت قلبها بين شفتيها، ومتى تفرست خلت روحها تطل من عينيها، وإن سكنت توهمت أنك تسمع خطرات أفكارها، أو أنك ترى ضميرها يرتسم على محياها، فكأن روحها وضميرها وذكاءها وكل عواطفها قد تجسمت حتى بدت جسدا يحوي جسمها، الذي رق ولطف وشف حتى صار خيالا روحيا، رأيتها رزينة جدا ولكن البشاشة خلقة في طلعتها، ونور البشر خالد الإشعاع عن وجهها.
ولما أوشك الستار أن ينكشف عن الفصل الرابع استأذنتها وصافحتها، وعدت إلى مكاني، وبعد ذلك لم أعد ألتفت إليها إلا نادرا، فكرت بكل كلمة قالتها إيفون، أعملت ذهني في أن أستدل من حديثها معي على اكتراثها بي فلم أجد دليلا مقنعا، ذبت وجدا واحترقت غيرة؛ لأنها لم تحفل بي ولا دعتني لزيارتها ولا استبقتني في مقصورتها إلى أن ينتهي الفصل على الأقل، ولا فسحت لي مجالا لمحادثتها فوهن خيط رجائي.
بعد التمثيل ركبت مركبة، وتبعت مركبتها حتى وقفت أمام منزل باذخ في التوفيقية، وكان أوغستو معها فصعد أمامها إلى المنزل، صرفت مركبتي وبقيت أتمشى منتظرا رجوع أوغستو فلم يرجع حالا، ثم انتبهت إلى أنه لا يليق بي أن يعلم أوغستو بلحاقي بهما فانصرفت حالا.
قضيت ذلك الليل يقظ البال مضطجع الجسم، وطيف إيفون يرفرف فوق سريري واليأس والرجاء يتجاذبانني، يئست لعدم إعبائها بي كما كنت أنتظر. ولكن تيهها علي هو الذي زاد ولوعي بها، ولو لاطفتني كثيرا لعدت زاهدا بها ورافضا نعمة ساقتها الأقدار إلي، حدث لي غير مرة أني صادفت فتاة جميلة، فشغلت بالي كما شغلته إيفون حتى إذا اجتمعت بها، وظفرت منها بقبلة عدت زاهدا بها.
خطر لي أن أتذرع إلى زيارتها بواسطة أوغستو، ولكن لسوء حظي برح في اليوم التالي إلى الإسكندرية لأجل غير مسمى.
الفصل الخامس
نسمات باردة
ذهبت بعد ذلك ليلتين إلى الأوبرا فلم أجدها، فكنت أطوف الحانات الكبرى مثل سنت جايمس وغيرها، فلم أصادفها قط، تمشيت بعض الليالي حول منزلها، وأخيرا خشيت أن يلاحظ الخفير أمري فيوجس مني.
ناپیژندل شوی مخ
رأيتها ذات ليلة في الأوبرا والأمير معها، وبالرغم من مجاهدتي أن لا أنظر إليها وقعت عيني على عينها مرة، فاستدعتني بإشارة لطيفة فترددت في أول الأمر تخوفا، ولكني نفضت الجبن عني وذهبت إلى مقصورتها، فاستقبلتني والأمير بكل بشاشة وقالت له: المسيو موريس كاسيه الذي ذكرت لك مروءته.
فحنى الأمير رأسه وصافحني قائلا: أشكر لطفك يا مسيو كاسيه.
فرددت له صدى المجاملة، وانتقلت في الحال إلى حديث التمثيل، ومع أن الأمير لاطفني وهي بشت لي شعرت أن انصرافي العاجل أليق بي من البقاء، فخرجت بعد بضع دقائق أتعثر في سبيلي.
وفي ليلة أخرى ذهبت إلى الأوبرا مع أختي وخطيبتي وابن خالها ...
قال الطبيب: فقاطعته قائلا: إذن أنت خاطب؟
كنت خاطبا حينئذ وفككت عقد الخطبة لسبب سأذكره لك متي انتهيت من قصتي مع إيفون، رأيتها وفانتين وصيفتها في مقصورة مقابلنا، وقد صوب من معي المنظار إليها فجعلوا يقولون: «من هذه الجميلة؟» فقلت: إنها فرنساوية زوجة أمير شرقي، وإني تعرفت بهما مصادفة.
نظرت إليها كثيرا فلم أرها تلتفت نحونا إلا نادرا كأنها لا تعرفني، حيرني سبب تجاهلها إياي حينئذ وذبت وجدا من إعراضها.
ولما انتهى التمثيل مضيت ومن معي إلى نيوبار؛ لكي نتناول بعض الأشربة ودخلنا إلى إحدى الزوايا، فدهشت إذ رأيت إيفون والأمير أمامنا، نظر إلينا الأمير باشا فحييته مصافحا، وقدمته لمن معي وقدمتهم لإيفون فبشت لهم، ألح الأمير أن نجلس معهما فجلسنا.
كانت إيفون قليلة الكلام حينئذ، ولكنها لم تبخل البتة في ملاطفة أختي وخطيبتي، والابتسام لهما بالقدر اللائق وكذلك الأمير لم يدخر جهدا في مجاملتنا وإكرامنا، بعد بضع عشرة دقيقة التمست إيفون من الأمير أن ينصرفا فانصرفا.
صادفت إيفون بعد ذلك بضع مرار في مركبتها، ولكنها مرة واحدة رأتني فأشارت لي إشارة تحية بسيطة، كنت أتوقع أن أراها في الأوبرا لكي أزورها في مقصورتها، وصممت أن أبث لها حينئذ بعض ولوعي بها، ولكن عبرت عدة ليال وسناؤها لم يسطع في ذلك الأفق.
ناپیژندل شوی مخ
نفد صبري ولم أعد أطيق الاصطبار، صرت أشعر أن لقاء إيفون أهم لحياتي من الماء والهواء، نفر النوم من جفني وخفت أن تلاحظ أمي وأختي أرقي فتقلقان، وتبحثان عن سببه، أصبحت نزقا سوداوي المزاج فكنت أتكلف البشاشة تكلفا، قلت زياراتي لخطيبتي، وصارت توجس خيفة من زهدي بها.
وأخيرا قلت لنفسي: ماذا يمنع أن أزور إيفون في منزلها، وإن لم تكن قد جرأتني على ذلك، صممت على زيارتها مؤثرا الساعة الثالثة لذلك على أمل أن يكون مجلسها خاليا من الزوار.
الفصل السادس
سلسبيل حديث
يممت ذلك المقام السامي خافق الفؤاد. ما بالك تضحك يا عزيزي بوشه من تخوفي هذا؟ لم أكن أخاف من إيفون ولا من الأمير، وإنما كنت أخاف أن آتي أمرا تستنكره إيفون فتستثقلني فكنت أبذل جهدي أن أظهر لها خفيف الروح رقيق المزاج.
أرسلت مع البواب بطاقتي، وبقيت في المركبة، وبعد بضع دقائق عاد يقول: «تفضل»، فأوجست من تأخره وقلت: لا بد أنها ترددت، استقبلتني فانتين بطلعة باشة وفتحت لي القاعة، فوجدتها على غاية من الترتيب والنظام.
كنت أظن أن إيفون تستقبلني بثوب المنزل؛ لأني كذا أعهد رصيفاتها في منازلهن، ولكنها وافت إلي بعد عشر دقائق بثوب أنيق كأنها تستقبل زائرا نبيلا، وبعد التحية قالت باشة: كنت أنتظر زيارتك قبل الآن يا مسيو كاسيه. - ليتني عرفت أني حاصل على هذه النعمة يا سيدتي.
فابتسمت قائلة: أما خطر لك لأول تعارفنا أن تزورني. - نعم تمنيت ذلك بيد أني لم أعلم في أي الأحوال تجوز زيارتي. - ولكن كيف علمت الآن؟
فتوقفت هنيهة ثم قلت: أتيت الآن مقدما رجلا ومؤخرا أخرى؛ خيفة أن تزعجك زيارتي. - أراك حذورا جدا يا مسيو كاسيه. - لأني أعلم أن بعض الزائرين يلجئن السيدات أمثالك أحيانا إلى أن يبتسمن لهم في وجوههم، ويضحكن عليهم في أقفيتهم وهم يعلمون ذلك ولا يبالون. - ولكنك لست من أولئك الزائرين. - وأنت تجلين عن أولئك السيدات فأحمد الله على ذلك.
وكان البشر حينئذ يسطع عن محياها، وشعرت أن كل نغمة من نغمات كلامها اللطيف جذبة لي نحو فؤادها حتى صرت أتخيلها أخيرا منطرحة على ذراعي، أو متكئة على صدري، وكل ما كنت أراه من خيلائها وتيهها في الماضي أصبح حينئذاك وداعة ورقة، وكل ما توقعته من تدللها وإعراضها وجدته لطفا ورضى وتعطفا؛ ولذلك انقلب تخوفي السابق إلى جرأة، وتحول ترددي إلى دالة ويأسي إلى أمل، وبعد سكوت هنيهة قالت بلهجة رقيقة جدا وبثغر باسم، وقد لاحظت أن ظليلا من الحمرة غشي وجهها: ما الذي حملك يا مسيو موريس على زيارتي الآن؟ - ألعلك لا تستقبلين الزوار الآن؟
ناپیژندل شوی مخ