142

عقلي وعقلک

عقلي وعقلك

ژانرونه

وقصارى ما نعرف الآن أن النيوروز والسيكوز كلاهما يعود إلى احتباس العواطف والشهوات، وأن الأول هو اختلال عاطفي أحدث كربا وضيقا ولكنه لم يبلغ العقل، ولكن الاختلال في الثاني قد بلغ العقل فأحدث الهذيان والخيالات.

في النيوروز نجد الضيق والكرب والحزن والعواطف محتدمة لا تطاق، ولكن العقل سليم، كالأم تفقد ابنها لأنه ضل أو تركها، فهي في شك هل هو حي أو ميت، وهذا الشك لا تطيقه، ونحن نراها لا تكاد تأكل ولا تشرب ، بل لا تكاد تقعد أو تنام، وهذه حال لا تطاق، ثم تفجأنا ذات صباح بأن ابنها قد عاد وأنه سيحضر في المساء، وعندئذ نجد أن هذه الأسطورة قد أراحت نفسها فهدأت العواطف، ولكن العقل اختل.

وحقيقة ما حدث أن الكامنة التي احتبس فيها حبها لابنها قد طغت بالوجدان وتغلبت عليه، وكما أننا نحلم بالخبز عندما ننام على جوع، كذلك الأم التي فقدت ابنها برؤيته في النوم؛ أي إن الكامنة (العقل الكامن) بعد أن تخلصت من رقابة الوجدان ثارت وانفجرت في النوم، واختلقت هذا الخيال اللذيذ لابنها حتى ترتاح العواطف، والأحلام كلها سيكوز؛ أي: اختلال عقلي وقتي يفرج عن العواطف المحتبسة في الكامنة.

ولكن إذا كانت العواطف متأججة، والاحتباس لا يطاق، فإن الأحلام تنتقل من النوم إلى اليقظة، والسيكوزي في هذه الحال يطلق الدنيا والواقع والوجدان، وينتهي بأن يعيش في حلم يرتاح إليه.

رجل كان ثريا وأفلس، لا يطيق هذا الهوان وهو ضائق بإفلاسه لا يعرف كيف ينظر النظر الموضوعي الوجداني؛ لأنه عاجز عن ترميم ما تحطم من كيانه المالي، وكل هذا نيوروز لا يطاق، وقد يحلم بأنه ثري وقد استرد ثروته، ولكن راحة الحلم تقتصر على النوم، فهو يلجأ، أي إن كامنته تلجأ إلى التسلط على وجدانه فتلغيه، وتجعله كأنه يعيش في حلم؛ ولذلك يفجأنا ذات صباح بقوله: إنه قد استرد ثروته في البورصة، وأنه ثري الآن لا يخشى الفقر، ويستقر على هذه العقيدة ويعيش سائر حياته في هذا الحلم الذي ينقذه مما كان يقاسي من كرب العواطف وضيقها.

وهو إذا كان في الأيام الأولى من هذا السيكوز فقد يكون من المستطاع أن نجذبه مرة أخرى إلى الواقع ونحمله على التعقل الوجداني، أما إذا مضت عليه مدة وهو يستمرئ هذه الخيالات التي قطعت ما بينه وبين الواقع فإن من الشاق - بل من المحال تقريبا - أن نرده إلى الوجدان، وإذا مضت عليه سنوات وهو في السيكوز فإن من المحال قطعا أن نعيده إلى الدنيا الواقعة - دنيا الحقائق - بدلا من دنيا الخيالات التي يعيش فيها.

وربما كانت البارانويا أبسط أنواع السيكوز؛ فإن السيكوزي هنا ينظر النظر الوجداني الموضوعي لكل شيء إلا في نقطة واحدة يختل فيها وجدانه، فقد كانت الكاتبة مي تعتقد أن هناك عصابة تنوي خطفها من مصر وحملها إلى سورية، وقد عينت لي المكان الذي كانت تقعد فيه هذه العصابة، وكان روسو يعتقد أن بعض الناس يتجسسون عليه كي يسموه، وقد فسدت علاقته مع كثير من أصدقائه بسبب هذه العقيدة، وكان هتلر يعتقد أن ألمانيا ستتغلب على هذا الكوكب كله، وعرفت في مصر شخصا يعتقد أن هتلر يرسل إلينا تيارات كهربائية (راديوئية) سوف تقضي علينا، وأحيانا نجد أحد الزوجين يسرد قصة لا تتغير عن خيانة الآخر، وأحيانا نجد شابا متعلما يقضي وقته وماله كي يبرهن أن الأرض غير كروية، إلخ. وفي كل هذه الحالات نجد التصرف وجدانيا، إلا في هذه النقطة التي تنبني على عقيدة عاطفية لا يعرف العقل؛ أي: الوجدان كيف يتصرف بها، كأن هذه البارانويا كابوس أو حلم قد انتقل من النوم إلى اليقظة.

والحالات الخفيفة من البارانويا كثيرة، ولكننا لا نلتفت إليها لأنها خفيفة؛ فإن أحد الناس يؤمن إيمانا راسخا بشيء ما أو بعقيدة معينة، ولكن لأن هذا الشيء أو العقيدة بعيدان عن علاقاتنا به؛ فإننا لا نكاد نعرفهما إلا مصادفة أو لا نعرفهما بتاتا، وإذا عرفنا شيئا منهما قلنا: إن هذا هوس خاص به فلا نباليه.

أما السيكوز المسمى مانيا فأخطر من البارانويا كثيرا؛ لأن المانيا تغمر الشخصية ولا تترك للوجدان فسحة، وهي تصيب في الأغلب الشخصية الانبساطية، أو هي مبالغة في صفاتها، ولكن المصاب يميل إلى الحزن ويسرف في البكاء أكثر مما يميل إلى طرب السرور، وإن كان هذا يحدث أحيانا. والمنظر المألوف أنك تجد سيدة تبكي وتنوح وصرختها المتكررة هي مثلا: «يا خراب بيتنا»، وقد يلجأ المصاب إلى الانتحار.

والماني؛ أي: المصاب بالمانيا قد يتناوبه الطرب: ابتهاج في ساعة من الضحك والمرح واغتمام في ساعة أخرى مع البكاء والأسى، ولكن في أغلب الأحيان يتغلب أحد الطرفين؛ فهناك مثلا ذلك المؤمن الذي غرق في الإيمان يعتقد أن ذنوبه كثيرة فلا ينقطع عن البكاء؛ لأنه هالك مقضي عليه لكثرة هذه الذنوب، وقد يبعثه الحزن على الجمود والتبلد، وأحيانا ينقلب غضبا فيهيج، وبدهي أنه إذا مضت على الماني مدة طويلة وهو في هذا المرض بعد عن الواقع؛ وبذلك يفسد وجدانه ومنطقه فيختل نظره لشئون الدنيا ويقطع الرجاء من شفائه.

ناپیژندل شوی مخ