ومال إلى العطفة مسرعا بعض الشيء، متخيلا القوم وهم يستطلعونه بأنظارهم متسائلين: «أين ومتى رأينا هذا الوجه؟!» ورقي في الطريق المتصاعد في غير استواء، جامعا عزمه على نفض الغبار الخانق عن وجهه ورأسه ولو إلى حين، وتشجيعا لعزمه فر بنفسه بعيدا وراح يتأمل ما حوله ويحدث نفسه قائلا: «لا تضق بالطريق المتعب فكم كنت تفرح به صغيرا وأنت تتزحلق على منحدره فوق لوح من الخشب!» بيد أنه عاد يقول حين تراءى له جدار البيت: «إلى أين أسير؟! ... إلى أمي! ... يا للعجب! لا أصدق، كيف ألقاها وكيف تلقاني! ... وددت لو ...» ومال يمينا إلى عطفة مسدودة، ثم اتجه إلى أول باب في جانبها الأيسر، هو البيت القديم بلا أدنى شك، قطع الطريق إليه كما كان يقطعه وهو صغير، بلا تردد أو تساؤل وكأنه ما تركه إلا أمس القريب، ولكنه اقتحم بابه هذه المرة باضطراب غير معهود، ورقي في الدرج بخطوات ثقيلة بطيئة، وبالرغم من قلقه وجد نفسه يتفحصه باهتمام مطابقا بينه وبين صورته المحفوظة في خياله، فألفاه أضيق قليلا مما في ذاكرته وقد تآكلت بعض جوانبه، وتهدمت أجزاء صغيرة من أطراف درجاته المطلة على بئر السلم، وسرعان ما حجبت الذكريات الحاضر كله. ومر وهو على تلك الحال بالدورين المأجورين حتى انتهى إلى الدور الأخير، ووقف لحظات يتنصت وصدره يعلو وينخفض، ثم هز منكبيه كالمستهين ونقر على الباب، وبعد دقيقة أو نحوها فتح الباب عن وجه خادم متوسطة العمر ما إن تبينت فيه رجلا غريبا، حتى توارت وراء الباب وهي تسأله في أدب عما يريد. وثارت أعصابه فجأة وبلا داع معقول لما بدا من الخادم من جهل بشخصه، فدخل بأقدام ثابتة واتجه نحو حجرة الاستقبال وهو يقول بلهجة آمرة: قولي لستك ياسين هنا. «ترى ماذا تظن الخادم بي؟» ... والتفت وراءه فوجدها مسرعة إلى الداخل؛ إما لأن لهجته الآمرة غلبتها على أمرها، وإما ... وعض على شفتيه وهو يمرق إلى داخل الحجرة، إنها حجرة الضيوف كما قدر بلا وعي في لهوجته وحدته، ولكن ذاكرته كانت تعرف أركان البيت بلا دليل، ولو وجد في ظرف غير الظرف لطاف مسترجعا ذكرياته من الحمام الذي كان يحمل إليه وهو يبكي إلى المشربية التي كان ينظر من وراء ثقوبها إلى موكب الزفة مساء بعد مساء. ترى أأثاث الحجرة الراهن هو أثاث الماضي البعيد؟ إنه لا يذكر من الأثاث القديم إلا مرآة طويلة ثبتت في حوض مذهب تنبثق من ثغرات في سطحه ورود صناعية مختلفة الألوان، وتركز في زاويتيه المتباعدتين فنايير تتدلى من أعناقها أهلة بلورية طالما ولع بالعبث بها والنظر خلالها إلى المكان، فيلوح في حلل غريبة يذكر إغراءها وإن غاب عنه منظرها، ولكن لا داعي للتساؤل فأثاث اليوم غير أثاث الأمس، لا لجدته فحسب، ولكن لأن حجرة امرأة مزواج خليقة بأن تتغير أو تتجدد، كما تغير أبوه، وتاجر الفحم، والباشجاويش. وركبه توتر وضيق فأدرك أنه لم يطرق باب البيت القديم فحسب، ولكنه نكأ جرحا متورما وغاص في قيحه. ولم يطل انتظاره، ولعله جاء أقصر مما يتصور؛ إذ ابتدر أذنيه وقع أقدام متتابعة متدافعة، وصوت يتردد محاورا نفسه بكلام علا جرسه ولم يستبن ألفاظه، ثم أحس بها - وهو لم يزل مولي الباب ظهره - وضلفة الباب المغلقة تطقطق تحت صدمة منكبها، ثم جاءه هتافها وهي تقول بأنفاس مبهورة: ياسين! ... ابني! ... كيف أصدق عيني؟! ... ربي ... صار رجلا!
وتدافع الدم إلى وجهه المكتنز، واستدار نحوها في ارتباك وهو لا يدري كيف يلقاها ولا كيف يكون اللقاء، ولكن المرأة أعفته من تدبير أمره فهرعت إليه واحتوته بذراعيها، وضمته إليها بشدة عصبية وراحت تقبل صدره - وهو غاية ما وسع شفتاها أن تبلغاه من جسمه المنتصب - ثم اختنقت نبراتها واغرورقت عيناها، فدفنت وجهها في صدره مستسلمة مليا ريثما تسترد أنفاسها. لم يكن حتى تلك اللحظة قد أتى حركة أو نطق بكلمة، ومع أنه شعر شعورا عميقا أليما بأن جموده أشد من أن يحتمل إلا أنه لم يبدر منه ما ينم عن حياة، أي حياة، فلازم جموده وخرسه، بيد أنه كان متأثرا غاية التأثر وإن لم يتضح له نوع التأثر بادئ الأمر بحال يطمئن إليها، ولكنه على حرارة استقبالها لم يجد رغبة للارتماء في حضنها أو تقبيلها، لعله لم يستطع أن ينزع الذكريات المحزنة الناشبة في نفسه كمرض مزمن رافقه منذ الصبا، ومع أنه وجه إرادته بعزم وتصميم إلى إخلاء المسرح من الماضي في اللحظة الراهنة ليملك فكره وحكمته، إلا أن الماضي المطرود انعكس على صفحة قلبه ظلالا قاتمة كذبابة نشت عن الفم بعد أن خلفت وراءها جرثومة تسري، فأدرك في ذاك الموقف الرهيب أكثر مما أدرك في ماضيه كله، الحقيقة المحزنة التي طالما أدمت فؤاده، وهي أن أمه قد اقتلعت من صدره. ورفعت المرأة رأسها إليه كأنها تدعوه إلى تقريب وجهه فلم يستطع الإباء وأدنى وجهه منها، فقبلته في خديه وجبينه، التقت أثناء العناق عيناهما، فلثم جبينها تأثرا بارتباكه وحيائه لا لعاطفة أخرى، ثم سمعها تغمغم: قالت لي ياسين هنا، قلت ياسين! من يكون هذا؟! ولكن من يكون غيره؟ ليس لي إلا ياسين واحد، ذاك الذي حرم بيتي على نفسه وحرم نفسه علي، فماذا حدث؟ وكيف استجيب الدعاء آخر الدهر؟! وجئت عدوا كالمجنونة لا أصدق أذني، وها أنت، أنت دون غيرك والحمد لله، تركتني غلاما وعدت إلي رجلا، كم قتلني الشوق إليك وأنت لا تحس لي وجودا!
وأخذته من ذراعه إلى الكنبة فمضى معها وهو يسائل نفسه: متى تنحسر هذه الموجة الطاغية من الاستقبال الحار حتى يتبين الطريق إلى هدفه؟ وجعل يسترق إليها النظر في استطلاع مقرون بالدهشة والقلق ... كأنها لم تتغير إلا أن يكون جسمها قد زاد امتلاء، ولكنه لا يزال محافظا على حسن تقطيعه، أما الوجه القمحي المستدير والعينان السوداوان المكحولتان فعلى سابق عهدهما تقريبا من القسامة البارعة. ولم يرتح إلى ما رآه على صفحة الوجه والعنق من زواق كأنه كان ينتظر أن تغير أعوام القطيعة من دأبها القديم على العناية بنفسها، وولعها بالتبرج لداع ولغير ما داع أي حتى في تلك الأوقات التي تخلو فيها إلى نفسها. وجلسا جنبا إلى جنب وهي تحدق إلى وجهه بحنان تارة وتقيس طوله وعرضه بعينين معجبتين تارة أخرى، ثم تمتمت بصوت متهدج: آه يا ربي لا أكاد أصدق عيني، أنا في حلم، هذا ياسين! أي عمر ذهب هباء، كم دعوتك ورجوتك، وبعثت إليك الرسول تلو الرسول، ماذا أقول؟ ... دعني أسألك كيف قسا قلبك علي لهذا الحد؟ ... كيف أعرضت عن دعواتي الحارة؟ كيف تصاممت عن نداء قلبي المكروب؟ ... كيف ... كيف؟ ... كيف نسيت أن لك أما منزوية هنا؟
ووقف انتباهه عند الجملة الأخيرة فوجدها غريبة تدعو إلى السخرية والرثاء معا، وكأنها أفلتت منها في ذهول الانفعال، أجل يوجد شيء وأشياء تذكره صباح مساء بأن له أما، ولكن أي شيء وأي أشياء؟!
ورفع إليها عينيه في حيرة دون أن ينبس، فالتقت عيناهما لحظة، وابتدرته المرأة قائلة في لهفة: لماذا لا تتكلم؟
فخرج ياسين من حيرته بتنهدة مسموعة ثم قال وكأنه لم يجد بدا مما قال: ذكرتك كثيرا، ولكن آلامي كانت أفظع من أن تطاق.
وقبل أن يتم كلامه كان النور الذي ينبعث من نظرتها قد خمد، واحتلت الحدقتين غمامة خيبة وفتور ساقتها رياح تهب من جوف الماضي الأسيف، فلم تعد تطيق التحديق في عينيه وخفضت جفنيها وهي تقول بلهجة حزينة: ظننتك برئت من أحزان الماضي، وإنها، علم الله، لا تستحق بعض ما أوليتها من غضب حملك على هجري أحد عشر عاما.
وعجب لعتابها عجبا أحنقه، واستنكره استنكارا ذر على غضبه المكتوم فلفلا، فانفعل انفعالا لولا القصد الذي جاء من أجله لثار بركانه، أتعني المرأة حقا ما تقول؟ أهان عليها ما فعلت لهذا الحد؟ أم تظن به الجهل بما كان؟! بيد أنه ضبط أعصابه بقوة إرادته التي لم تغفل عن هدفها، وقال: تقولين إنها لا تستحق غضبي؟ ... أراها تستحق الغضب كل الغضب وأكثر.
فتركت ظهرها يسقط على مسند الكنبة كشيء تهدم، ورمته بنظرة بين العتاب والاستعطاف قائلة: ما وجه العيب في أن تتزوج امرأة بعد طلاقها؟
فشعر بنيران الغضب تتأجج في عروقه، وإن لم تبد منها آثار إلا في انطباق شفتيه ثم التصاقهما، لا زالت تتكلم ببساطة كأنها مقتنعة على يقين ببراءتها! ... وتتساءل عن وجه العيب في أن تتزوج «امرأة» بعد طلاقها، حسن، لا عيب في أن تتزوج «امرأة» بعد طلاقها، أما أن تكون المرأة أمه فهذا شيء آخر، شيء آخر جدا، وأي زواج الذي تعنيه؟! ... إنه زواج وطلاق، ثم زواج وطلاق، ثم زواج وطلاق؟ ... هناك ما هو أدهى وأمر، ذلك «الفكهاني»! ... أيذكرها به؟ ... أيصفعها بما في نفسه من مر ذكرياته؟ أيصارحها بأنه لم يعد جاهلا كما تظن؟ وأرغمته حدة الذكريات على الخروج عن اعتداله هذه المرة، فقال بامتعاض شديد: زواج وطلاق، زواج وطلاق، هذه أمور شائنة لم تكن لتليق بك، ولشد ما مزقت نياط قلبي بلا رحمة.
ناپیژندل شوی مخ