وبالرغم من خطورة الموقف لم تخف على السيد حدة اللهجة التي خاطبه بها ابنه، بل لم يخل الرجل من ضيق إلى تقديره لحاله وحزنه أن يعود إلى توكيد قوله السابق، فلما لم يفعل استطرد قائلا في هدوء نسبي: إن ما يدفعه إلى الزواج من امرأة تكبره بعشرة أعوام هو الطمع في مالها وعقارها.
وجد السيد في تحول النقاش إلى هذه النقطة فائدة لم تغب عن ألمعيته؛ فهو ينزع الفتى من تركيز تفكيره في أمور أشد حساسية وأبعث للألم، وبحسبه أنه يصرفه عن النظر فيما يدفع أمه إلى الزواج إلى ما يدفع الرجل، وإلى هذا كله لم يخف عليه ما في رأي ابنه من وجاهة فيما يتعلق بالزوج، فسرعان ما اقتنع به، وشاركه مخاوفه فيه. أجل إن هنية - أم ياسين - غنية لدرجة لا بأس بها، وقد سلمت لها ثروتها من العقار على ما خاضت من تجاريب الزواج والهوى، بيد أنها كانت فيما مضى شابة حسناء ذات سحر وسلطان، يخاف منها ولا يخاف عليها، أما الآن فبعيد عن الاحتمال أن تملك نفسها - فضلا عن أنفس الآخرين - ما ملكت، وإذن فثروتها خليقة بأن تبدد في معركة الغرام التي لم تعد من رماتها، وإنه لحرام وأي حرام أن يخرج ياسين من جحيم هذه المأساة جريح الكرامة وصفر اليدين. وقال السيد يخاطب ابنه وكأنه يحاور نفسه ويستلهمها الرأي: أراك على حق يا بني فيما تقول، إن امرأة في سنها صيد يسير خليق بأن يغري الطماعين من البشر، فما عسى أن نفعل؟ أنتلمس سبيلا إلى ذاك الرجل لنحمله على العدول عن مغامراته؟! ... إن الحملة عليه بالوعيد والتهديد سلوك لا ترتضيه آدابنا وما عرفنا به بين الناس، كذلك التوسل إليه بالرجاء والاقتناع مهانة لا تهضمها كرامتنا ... فلم يبق أمامنا إلا المرأة نفسها! ... ولست أجهل ما حفرت بينك وبينها من قطيعة كانت بها - ولا تزال - خليقة، بل الحق أني لا أرتاح إلى أن تصل ما انقطع بينك وبينها لولا ما استجد من أعذار قهرية، فللضرورة أحكام، ومهما يشق عليك الرجوع فهو رجوع إلى أمك، ومن يدري فلعل ظهورك المفاجئ في أفقها يردها إلى شيء من الصواب.
وبدا ياسين أمام أبيه كالوسيط أمام المنوم المغناطيسي في اللحظات التي تسبق ما يوحي به إليه، ذاهلا صامتا، فوشى حاله بنفاذ تأثير الرجل إلى نفسه، أو لعله دل على أنه لم يفاجأ بهذا الاقتراح، وأنه يحتمل أن يكون مما دار بنفسه قبل مجيئه، بيد أنه تمتم قائلا: أليس ثمة حل أوفق؟
فقال السيد بقوة ووضوح: أراه أوفق الحلول.
فقال ياسين وكأنه يحادث نفسه: كيف أرجع إليها؟! ... كيف أزج بنفسي في ماض فررت منه، وليس أحب إلي من أن يبتر من حياتي بترا! ... لا أم لي ... لا أم لي.
ولكن بالرغم من ظاهر قوله شعر السيد بأنه وفق إلى جذبه إلى رأيه فقال بلباقة: هذا حق، ولكن لا أظن أن ظهورك أمامها فجأة بعد ذاك الغياب الطويل يمضي بلا أثر، لعلها إذا رأتك بين يديها شابا ناضجا أن تتحرك أمومتها فتجفل مما عساه يسيء إلى كرامتك وتعدل عن سيرتها ... من يدري؟!
فطامن ياسين رأسه غارقا في أفكاره، غير مبال بما دل عليه من ضيق ويأس، كان يرتعد خوفا من وقوع الفضيحة، ولعل هذا كان أفظع ما يكربه، ولكن خوفه على ضياع الثروة التي ينتظر أن يرثها يوما لم يكن دون ذلك، وما عسى أن يفعل؟! ... مهما يقلب أوجه الرأي فلن يجد حلا أوفق مما ارتأى أبوه، بل إن صدور الرأي عن أبيه ألبسه في نظره - على تقلقل حاله - وجاهة وأعفاه هو من هموم كثيرة، ليكن ... هكذا قال في نفسه، ثم قال مخاطبا أباه: كما ترى يا أبي.
18
لما بلغت به قدماه طريق الجمالية انقبض صدره حتى شعر بأنه يختنق. لقد غاب عنه أحد عشر عاما، أحد عشر عاما تصرمت فلم ينازعه القلب إليه مرة واحدة، أو ترف عليه ذكرى من ذكرياته إلا في هالة قاتمة مقبضة نسج وشيها من مادة الكابوس، والحق أنه لم يكن غادره ولكن واتته فرصة ففر منه فرارا، ثم ولاه ظهره غاضبا يائسا، ثم تجنبه بكل قوة نفسه فلم يعرفه بعد ذلك كغاية في نفسه أو معبرا إلى سواه من الأحياء، بيد أنه هو الحي كما عهده في طفولته وصباه، لم يتغير منه شيء، ما زال ضيقا تكاد تسده عربة يد إذا اعترضت سبيله، وها هي بيوته تكاد تتماس مشربياتها، ودكاكينه الصغيرة في تلاصقها وزحمتها والطنين الصادر عنها كخلايا النحل، وأرضه التربة بفجواتها المفعمة وحلا، وغلمانه الذين يغشون جوانبه ويطبعون على أديمه آثار أقدامهم الحافية، وسابلته الذين لا ينقطع لهم تيار، ومقلى عم حسن ومطعم عم سليمان، كل أولئك باق كما عهده فتكاد ترف على شفتيه ابتسامة حنان يريد ثغر طفولته أن يفتر عنها لولا مرارة الماضي وسقم الحاضر.
وتراءت لعينيه عطفة قصر الشوق فخفق قلبه بقوة حتى كاد يصم أذنيه، ثم لاحت على رأس منعطفها الأيمن سلال البرتقال والتفاح منضدة على الطوار أمام دكان الفاكهة، فعض على شفتيه وغض طرفه في خزي. الماضي ملطخ بالعار، مدفون الرأس في الطين من الخجل، دائم الجأر بالشكوى من الخزي والألم، ولكنه كله في كفة وهذا الدكان في كفة وحده، بل إنه يرجح به؛ إذ إنه رمزه الحي الباقي على الزمن. جمعت في صاحبه وسلاله وفاكهته وموقعه وذكرياته الخزي متبجحا والألم ناطقا بالهزيمة مولولة. وإذا كان الماضي أحداثا وذكريات هي بطبعها عرضة للتخلخل أو النسيان، فهذا الدكان يقوم شاهدا مجسما يكشف مخلخله ويستحضر منسيه. وكان كلما تقدم من المنعطف خطوة تقهقر عن الحاضر خطوات طاويا الزمن على رغم إرادته، وكأنه يرى في الدكان «غلاما» يرفع رأسه إلى صاحبها، ويقول: «نينة تطلب منك أن تحضر الليلة.» أو كأنه يراه وهو عائد بقرطاس الفاكهة ضاحك الأسارير، أو وهو يلفت نظر أمه في الطريق إلى الرجل، فتجذبه من ذراعه بعيدا أن يلفت إليهما الأنظار، أو وهو ينشج باكيا أمام منظر الافتراس الوحشي الذي يخلقه خلقا جديدا - كلما ورد على ذهنه - على ضوء تجاربه الراهنة فينقلب البشاعة نفسها، طفقت الصور الملتهبة تطارده وهو يجد في الفرار منها، ولكنه ما إن يتملص من قبضة إحداها حتى يقع في قبضة الأخرى، مطاردة عنيفة وحشية أثارت في أعماقه بركان الحنق والحقد، فواصل السير إلى غايته وهو على أسوأ حال «كيف أمرق إلى العطفة وعلى رأسها هذا الدكان ... وهذا الرجل؟ ... أتراه بموقفه القديم منه؟ ... لن ألتفت نحوه، أي قوة ماكرة تغريني بالنظر، أيعرفني إذا التقت عينانا؟! ... إذا بدا منه أنه عرفني قتلته، ولكن كيف له أن يعرفني؟ ... لا هو ولا أحد من الحي، أحد عشر عاما، تركته غلاما وأعود إليه ثورا ذا قرنين! ثم لا تواتينا القوة على إبادة الحشرات السامة التي لا تنفك تلدغنا ...»
ناپیژندل شوی مخ