بين القصرين
بين القصرين
بين القصرين
بين القصرين
تأليف
نجيب محفوظ
بين القصرين
1
عند منتصف الليل استيقظت، كما اعتادت أن تستيقظ في هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبه أو غيره، ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها، فتواظب على إيقاظها في دقة وأمانة. وظلت لحظات على شك من استيقاظها، فاختلطت عليها رؤى الأحلام وهمسات الإحساس، حتى بادرها القلق الذي يلم بها قبل أن تفتح جفنيها من خشية أن يكون النوم خانها، فهزت رأسها هزة خفيفة فتحت عينيها على ظلام الحجرة الدامس. لم يكن ثمة علامة تستدل بها على الوقت؛ فالطريق تحت حجرتها لا ينام حتى مطلع الفجر، والأصوات المتقطعة التي تترامى إليها أول الليل من سمار المقاهي وأصحاب الحوانيت هي التي تترامى عند منتصفه وإلى ما قبيل الفجر، فلا دليل تطمئن إليه إلا إحساسها الباطن - كأنه عقرب ساعة واع - وما يشمل البيت من صمت ينم عن أن بعلها لم يطرق بابه بعد، ولم تضرب طرف عصاه على درجات سلمه.
هي العادة التي توقظها في هذه الساعة، عادة قديمة صاحبت شبابها منذ مطلعه ولا تزال تستأثر بكهولتها، تلقنتها فيما تلقنت من آداب الحياة الزوجية، أن تستيقظ في منتصف الليل لتنتظر بعلها حين عودته من سهرته، فتقوم على خدمته حتى ينام. وجلست في الفراش بلا تردد لتتغلب على إغراء النوم الدافئ وبسملت، ثم انزلقت من تحت الغطاء إلى أرض الحجرة، ومضت تتلمس الطريق على هدي عمود السرير وضلفة الشباك، حتى بلغت الباب ففتحته، فانساب إلى الداخل شعاع خافت ينبعث من مصباح قائم على الكونصول في الصالة، فدلفت منه وحملته وعادت به إلى الحجرة وهو يعكس على السقف من فوهة زجاجته دائرة مهتزة من الضوء الشاحب تحف به حاشية من الظلال، ثم وضعته على خوان قائم بإزاء الكنبة. وأضاء المصباح الحجرة، فبدت برقعتها المربعة الواسعة، وجدرانها العالية، وسقفها بعمده الأفقية المتوازية، إلا أنها لاحت كريمة الأثاث ببساطها الشيرازي، وفراشها الكبير ذي العمد النحاسية الأربعة والصوان الضخم والكنبة الطويلة المغطاة بسجاد صغير المقطع مختلف النقوش والألوان. واتجهت المرأة إلى المرآة وألقت على صورتها نظرة، فرأت منديل رأسها البني منكمشا متراجعا، وقد تشعثت خصلات من شعرها الكستنائي فوق الجبين، فمدت أصابعها إلى عقدته، فحلتها وسوته على شعرها، وعقدت طرفيه في أناة وعناية، ومسحت براحتيها على صفحتي وجهها كأنما لتزيل عنه ما علق به من آثار النوم. كانت في الأربعين متوسطة القامة، تبدو كالنحيفة، ولكن جسمها بض ممتلئ في حدوده الضيقة لطيف التنسيق والتبويب. أما وجهها فمائل إلى الطول مرتفع الجبين دقيق القسمات، ذو عينين صغيرتين جميلتين تلوح فيهما نظرة عسلية حالمة، وأنف صغير دقيق يتسع قليلا عند فتحتيه، وفم رقيق الشفتين ينحدر تحتهما ذقن مدبب، وبشرة قمحية صافية تلوح عند موضع الوجنة منها شامة سوادها عميق نقي. وقد بدت وهي تتلفع بخمارها كالمتعجلة، واتجهت صوب باب المشربية، ففتحته ودخلت، ثم وقفت في قفصها المغلق تردد وجهها يمنة ويسرة ملقية نظراتها من الثقوب المستديرة الدقيقة التي تملأ أضلافها المغلقة إلى الطريق.
ناپیژندل شوی مخ
كانت المشربية تقع أمام سبيل بين القصرين، ويلتقي تحتها شارعا النحاسين الذي ينحدر إلى الجنوب، وبين القصرين الذي يصعد إلى الشمال، فبدا الطريق إلى يسارها ضيقا ملتويا متلفعا بظلمة تكثف في أعاليه، حيث تطل نوافذ البيوت النائمة، وتخف في أسافله بما يلقى إليه من أضواء مصابيح عربات اليد وكلوبات المقاهي، وبعض الحوانيت التي تواصل السهر حتى مطلع الفجر، وإلى يمينها التف الطريق بالظلام، حيث يخلو من المقاهي، وحيث توجد المتاجر الكبيرة التي تغلق أبوابها مبكرا، فلا يلفت النظر به إلا مآذن قلاوون وبرقوق لاحت كأطياف من المردة ساهرة تحت ضوء النجوم الزاهرة. منظر ألفته منها العينان ربع قرن من الزمان ولكنها لم تسأمه، ولعلها لم تدر ما السأم طوال حياتها على رتابتها، وعلى العكس وجدت فيه أنيسا لوحشتها، وأليفا لوحدتها عهدا طويلا عاشته، وكأنه لا أنيس ولا أليف لها. كان ذلك قبل أن يأتي الأبناء إلى هذا الوجود، فلم يكن يحوي هذا البيت الكبير - بفنائه الترب وبئره العميقة وطابقيه وحجراته الواسعة العالية الأسقف - سواها، أكثر النهار والليل. وكانت حين زواجها فتاة صغيرة دون الرابعة عشرة من عمرها، فسرعان ما وجدت نفسها، عقب وفاة حماتها وسيدها الكبير، ربة للبيت الكبير، تعاونها على أمره امرأة عجوز تغادرها عند جثوم الليل؛ لتنام في حجرة الفرن بالفناء، تاركة إياها وحيدة في دنيا الليل الحافلة بالأرواح والأشباح، تغفو ساعة، وتأرق أخرى، حتى يعود الزوج العتيد من سهرة طويلة.
ولكي يطمئن قلبها اعتادت أن تطوف بالحجرات مصطحبة خادمتها مادة يدها بالمصباح أمامها، فتلقي في أركانها نظرات متفحصة خائفة، ثم تغلقها بإحكام، واحدة بعد أخرى، مبتدئة بالطابق الأول مثنية بالطابق الأعلى، وهي تتلو ما تحفظ من سور القرآن دفعا للشياطين، ثم تنتهي إلى حجرتها، فتغلق بابها، وتندس في الفراش، ولسانها لا يمسك عن التلاوة، حتى يغلبها النوم، ولشد ما كانت تخاف الليل في عهدها الأول بهذا البيت، فلم يغب عنها - هي التي عرفت عن عالم الجن أضعاف ما تعرفه عن عالم الإنس - أنها لا تعيش وحدها في البيت الكبير، وأن الشياطين لا يمكن أن تضل طويلا عن هذه الحجرات القديمة الواسعة الخالية، ولعلها آوت إليها قبل أن تحمل هي إلى البيت، بل قبل أن ترى نور الدنيا، فكم دب إلى أذنيها همساتهم! وكم استيقظت على لفحات من أنفاسهم، وما من مغيث إلا أن تتلو الفاتحة والصمدية، أو أن تهرع إلى المشربية، فتمد بصرها الزائغ من ثقوبها إلى أنوار العربات والمقاهي، وترهف السمع لالتقاط ضحكة أو سعلة تسترد بها أنفاسها.
ثم جاء الأبناء تباعا، ولكنهم كانوا أول عهدهم بالدنيا لحما طريا، لا يبدد خوفا ولا يطمئن جانبا، وعلى العكس ضاعف من خوفها بما أثار في نفسها المتهافتة من إشفاق عليهم وجزع أن يمسهم سوء، فكانت تحويهم بذراعيها وتغمرهم بأنفاس العطف، وتحيطهم في اليقظة والمنام بدرع من السور والأحجبة والرقى والتعاويذ، أما الطمأنينة الحقة، فلم تكن لتذوقها حتى يعود الغائب من سهرته. ولم يكن غريبا وهي منفردة بطفلها تنومه وتلاطفه، أن تضمه إلى صدرها فجأة، ثم تتنصت في وجل وانزعاج، ثم يعلو صوتها هاتفة، وكأنها تخاطب شخصا حاضرا: «أبعد عنا، ليس هذا مقامك، نحن قوم مسلمون موحدون.» ثم تتلو الصمدية في عجلة ولهوجة. وعندما طالت بها معاشرة الأرواح بتقدم الزمن تخففت من مخاوفها كثيرا، واطمأنت لدرجة إلى دعاباتهم التي لم تجر عليها سوءا قط، فكانت إذا ترامى إليها حس طائف منهم قالت في نبرات لا تخلو من دالة: «ألا تحترم عباد الرحمن! الله بيننا وبينك، فاذهب عنا مكرما.» ولكنها لم تكن تعرف الطمأنينة الحقة حتى يعود الغائب. أجل كان مجرد وجوده بالبيت - صاحيا أو نائما - كفيلا ببث السلام في نفسها، فتحت الأبواب أم أغلقت، اشتعل المصباح أم خمد. وقد خطر لها مرة، في العام الأول من معاشرته، أن تعلن نوعا من الاعتراض المؤدب على سهره المتواصل، فما كان منه إلا أن أمسك بأذنيها وقال لها بصوته الجهوري في لهجة حازمة: «أنا رجل، الآمر الناهي، لا أقبل على سلوكي أية ملاحظة، وما عليك إلا الطاعة، فحاذري أن تدفعيني إلى تأديبك.» فتعلمت من هذا الدرس وغيره مما لحق به أنها تطيق كل شيء - حتى معاشرة العفاريت - إلا أن يحمر لها عين الغضب، فعليها الطاعة بلا قيد ولا شرط، وقد أطاعت وتفانت في الطاعة، حتى كرهت أن تلومه على سهره ولو في سرها، ووقر في نفسها أن الرجولة الحقة والاستبداد والسهر إلى ما بعد منتصف الليل صفات متلازمة لجوهر واحد، ثم انقلبت مع الأيام تباهي بما يصدر عنه سواء ما يسرها أو يحزنها، وظلت على جميع الأحوال الزوجة المحبة المطيعة المستسلمة. ولم تأسف يوما على ما ارتضت لنفسها من السلامة والتسليم، وإنها لتستعيد ذكريات حياتها في أي وقت تشاء، فلا يطالعها إلا الخير والغبطة، على حين تلوح لها المخاوف والأحزان كالأشباح الخاوية، فلا تستحق إلا ابتسامة رثاء. ألم تعاشر هذا الزوج بعلاته ربع قرن من الزمان، فجنت من معاشرته أبناء هم قرة عينيها وبيتا مترعا بالخير والبركة وحياة ناضجة سعيدة ... بلى، أما مخالطة العفاريت، فقد مرت كما تمر كل ليلة بسلام، وما امتدت يد أحدهم إليها أو إلى أحد من أبنائها بسوء، اللهم إلا ما هو بالمزاح والمداعبات أشبه، فلا وجه للشكوى، ولكن الحمد كل الحمد لله الذي بكلامه اطمأن قلبها، وبرحمته استقامت حياتها.
حتى ساعة الانتظار هذه، على ما تقطع عليها من لذيذ المنام وما تستأديها من خدمة كانت خليقة بأن تنتهي بزوال النهار، أحبتها من أعماق قلبها، ففضلا عن أنها استحالت جزءا لا يتجزأ من حياتها، ومازجت الوفير من ذكرياتها، فإنها كانت ولم تزل الرمز الحي لحدبها على بعلها وتفانيها في إسعاده، وإشعاره ليلة بعد أخرى بهذا التفاني وذاك الحدب. لهذا امتلأت ارتياحا وهي واقفة في المشربية، وراحت تنقل بصرها خلال ثقوبها مرة إلى سبيل بين القصرين، ومرة إلى منعطف الخرنفش، وأخرى إلى بوابة حمام السلطان، ورابعة إلى المآذن، أو تسرحه بين البيوت المتكأكئة على جانبي الطريق في غير تناسق كأنها طابور من الجند في وقفة راحة تخفف فيها من قسوة النظام. وابتسمت للمنظر الذي تحبه، هذا الطريق الذي تنام الطرق والحواري والأزقة، ويبقى ساهرا حتى مطلع الفجر، فكم سلى أرقها وآنس وحشتها، وبدد مخاوفها لا يغير الليل منه، إلا أن يغشى ما يحيط به من أحياء بالصمت العميق فيهيئ لأصواته جوا تعلو فيه، وتوضح كأنه الظلال التي تملأ أركان اللوحة، فتضفي على الصورة عمقا وجلاء؛ لهذا ترن الضحكة فيه فكأنها تنطلق في حجرتها، ويسمع الكلام العادي فتميزه كلمة كلمة، ويمتد السعال ويخشوشن، فيترامى لها منه حتى خاتمته التي تشبه الأنين، ويرتفع صوت النادل وهو ينادي: «تعميرة نادية» كهتاف المؤذن، فتقول لنفسها في سرور: «لله هؤلاء الناس .. حتى هذه الساعة يطلبون مزيدا من التعميرة.» ثم تذكر بهم زوجها الغائب فتقول: «ترى أين يكون سيدي الآن؟ .. وماذا يفعل؟ .. فلتصحبه السلامة في الحل والترحال.» أجل قيل لها مرة إن رجلا كالسيد أحمد عبد الجواد في يساره وقوته وجماله - مع سهره المتواصل - لا يمكن أن تخلو حياته من نساء، يومها تسممت بالغيرة وركبها حزن شديد، ولما لم تواتها شجاعتها على مشافهته بما قيل أفضت بحزنها إلى أمها، فجعلت الأم تسكن خاطرها بما وسعها من حلو الكلام، ثم قالت لها: «لقد تزوجك بعد أن طلق زوجته الأولى، وكان بوسعه أن يستردها لو شاء، أو أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وقد كان أبوه مزواجا، فاحمدي ربنا على أنه أبقاك زوجة وحيدة.» ولو أن حديث أمها لم يجد مع حزنها وقت اشتداده، إلا أنها مع الأيام سلمت بما فيه من حق ووجاهة، فليكن ما قيل حقا، فلعله من صفات الرجولة كالسهر والاستبداد، وشر على أي حال خير من شرور كثيرة، وليس من الهين أن تسمح لوسواس بأن يفسد عليها حياتها الطيبة المليئة بالهناء والرغد، ثم لعل ما قيل بعد هذا كله أن يكون وهما أو كذبا. ووجدت أن موقفها من الغيرة، شأنها حيال المتاعب التي تعترض سبيل حياتها، لا يعدو التسليم بها كقضاء نافذ لا تملك حياله شيئا، فلم تهتد إلى وسيلة في مقاومتها إلا أن تنادي الصبر، وتستعدي مناعتها الشخصية، ملاذها الأوحد في مغالبة ما تكره، فانقلبت الغيرة وأسبابها، كطباع زوجها الأخرى، وكمعاشرة العفاريت، مما تحتمل.
جعلت تنظر إلى الطريق، وتنصت إلى السمار حتى ترامى إليها وقع سنابك جواد، فعطفت رأسها صوب النحاسين، فرأت «حنطورا» يقترب وئيدا، ومصباحاه يسطعان في الظلام، فتنهدت في ارتياح وغمغمت: «أخيرا ...» ها هو «حنطور» أحد أصدقائه يوصله بعد السهرة إلى باب البيت الكبير، ثم يمضي كالعادة إلى الخرنفش، حاملا صاحبه ونفرا من الأصدقاء الذين يقطنون هذا الحي. ووقف «الحنطور» أمام البيت، وارتفع صوت زوجها، وهو يقول في نبرات ضاحكة: أستودعكم الله ...
وكانت تنصت إلى صوت زوجها وهو يودع أصحابه بشغف ودهشة، ولولا أنها تسمعه كل ليلة في مثل هذه الساعة لأنكرته، فما عهدت منه - هي وأبناؤها - إلا الحزم والوقار والتزمت، فمن أين له بهذه النبرات الطروبة الضحوكة، التي تسيل بشاشة ورقة! وكأن صاحب «الحنطور» أراد أن يمازحه فقال له: أما سمعت ماذا قال الجواد لنفسه بعد نزولك من العربة؟ قال إنه من المؤسف أن أوصل هذا الرجل كل ليلة إلى بيته، وهو لا يستحق أن يركب إلا حمارا.
وانفجر الرجال بالعربة ضاحكين، فانتظر السيد حتى عادوا إلى السكون، ثم قال يجيبه: أما سمعت بماذا أجابته نفسه؟ قالت إذا لم توصله أنت، فسيركب البك صاحبنا.
وضج الرجال ضاحكين مرة أخرى، ثم قال صاحب العربة: فلنؤجل الباقي إلى سهرة الغد.
وتحركت العربة إلى شارع بين القصرين، واتجه السيد نحو الباب، فغادرت المرأة المشربية إلى الحجرة، وتناولت المصباح ومضت إلى الصالة، ومنها إلى الدهليز الخارجي حتى وقفت في رأس السلم. وترامت إليها صفقة الباب الخارجي وهو يغلق، وانزلاق المزلاج، وتخيلته وهو يقطع الفناء بقامته المديدة مستردا هيبته ووقاره، خالعا مزاحه الذي لولا استراق السمع لظنته من مستحيل المستحيلات، ثم سمعت وقع طرف عصاه على درجات السلم، فمدت يدها بالمصباح من فوق الدرابزين لتنير له سبيله.
2
ناپیژندل شوی مخ
وانتهى الرجل إلى موقفها فراحت تقدمه رافعة المصباح، فتبعها وهو يتمتم: مساء الخير يا أمينة.
فقالت بصوت خفيض ينم عن الأدب والخضوع: مساء الخير يا سيدي.
وفي ثوان احتوتهما الحجرة، فاتجهت أمينة إلى الخوان لتضع المصباح عليه، في حين علق السيد عصاه بحافة شباك السرير، وخلع الطربوش ووضعه على الوسادة التي تتوسط الكنبة، ثم اقتربت المرأة منه لتنزع عنه ملابسه، وبدا في وقفته طويل القامة، عريض المنكبين، ضخم الجسم، ذا كرش كبيرة مكتنزة اشتملت عليها جميعا جبة وقفطان في أناقة وبحبحة، دلتا على رفاهية ذوق وسخاء، ولم يكن شعره الأسود المنبسط من مفرقه على صفحتي رأسه في عناية بالغة، وخاتمه ذو الفص الماسي الكبير، وساعته الذهبية، إلا لتؤكد رفاهة ذوقه وسخاءه. أما وجهه فمستطيل الهيئة مكتنز الأديم، قوي التعبير، واضح الملامح، يدل في جملته على بروز الشخصية والجمال بعينيه الزرقاوين الواسعتين، وأنفه الكبير الأشم المتناسق على كبره مع بسطة الوجه، وفمه الواسع بشفتيه الممتلئتين، وشاربه الفاحم الغليظ المفتول طرفاه بدقة لا مزيد عليها. ولما تدانت المرأة منه بسط ذراعيه، فخلعت الجبة عنه وأطبقتها بعناية، ثم وضعتها على الكنبة، وعادت إليه ففكت حزام القفطان ونزعته، وجعلت تدرجه بالعناية نفسها لتضعه فوق الجبة، على حين تناول السيد جلبابه فارتداه، ثم طاقيته البيضاء فلبسها، وتمطى وهو يتثاءب وجلس على الكنبة، ومد ساقيه مسندا قذاله إلى الحائط. وانتهت المرأة من ترتيب ملابسه، فقعدت عند قدميه الممدودتين، وراحت تخلع حذاءه وجوربيه، ولما كشف قدمه اليمنى بدا أول عيب في هذا الجسم الهائل الجميل في خنصره الذي تآكل من توالي الكشط بالموسى في موضع كاللو مزمن. وغادرت أمينة الحجرة فغابت دقائق، ثم عادت بطست وإبريق، فوضعت الطست عند قدمي الرجل، ووقفت والإبريق في يدها على أهبة الاستعداد، فاستوى السيد في جلسته، ومد لها يديه، فصبت له الماء، فغسل وجهه ومسح على رأسه، وتمضمض طويلا، ثم تناول المنشفة من فوق مسند الكنبة، ومضى يجفف رأسه ووجهه ويديه، بينما حملت المرأة الطست، وذهبت به إلى الحمام. كانت هذه الخدمة آخر ما تؤدي من خدمات في البيت الكبير، وقد واظبت عليها ربع قرن من الزمان بهمة لا يعتريها الكلال، بل في سرور وانشراح، وبنفس الحماس الذي يستفزها إلى النهوض بواجبات البيت الأخرى من قبيل مطلع الشمس حتى مغيبها، فاستحقت من أجله أن يطلق عليها جاراتها اسم «النحلة» لدأبها ونشاطها المتواصلين.
وعادت إلى الحجرة فأغلقت الباب، وسحبت من تحت السرير شلتة، فوضعتها أمام الكنبة وتربعت عليها؛ إذ لم تكن ترى لنفسها الحق في أن تجلس إلى جانبه تأدبا، ومضى الوقت وهي ملازمة الصمت، حتى يدعوها إلى الكلام فتتكلم. وتراخى ظهر السيد إلى مسند الكنبة، وبدا عقب سهرته الطويلة متعبا، فثقل جفناه اللذان جرى في أطرافهما احمرار طارئ من أثر الشرب، وجعل يزفر أنفاسا ثقيلة مخمورة. ومع أنه كان يعاقر الخمر كل ليلة إلى إفراط في الشرب حتى السكر، إلا أنه لم يكن ليقرر العودة إلى بيته حتى تزايله سورة الخمر، ويستعيد سيطرته على نفسه؛ حرصا منه على وقاره، والمظهر الذي يجب أن يبدو به في بيته. وكانت زوجه الشخص الوحيد من آل بيته الذي يلقاه في أعقاب سهرته، ولكنها لم تلمس من آثار الشرب إلا رائحته، ولم تلاحظ على سلوكه شذوذا مريبا، إلا ما كان يبدو منه أول عهده بزواجها وقد تناسته، وعلى العكس من المنتظر جنت من مصاحبتها له في هذه الساعة إقبالا منه في الحديث، وتبسطا في فنونه قل أن تظفر بمثله في أوقات إفاقته الكاملة. وإنها لتذكر كم ارتعبت يوم أدركت أنه يعود من سهرته ثملا، واستدعت الخمر إلى ذهنها ما يقترن بها من وحشية وجنون ومخالفة الدين وهي الأفظع، فتقززت نفسها وركبها الذعر، وعانت لدى عودته كلما عاد آلاما لا قبل لها بها. وبمضي الأيام والليالي ثبت لها أنه حين عودته من سهرته يكون ألطف منه في جميع الأوقات، فيخفف من صرامته، وترق ملاحظته، ويسترسل في الحديث، فاستأنست إليه واطمأنت وإن لم تنس أن تضرع إلى الله أن يغفر له معصيته ويتوب عليه. وكم تمنت لو يتطبع بنفس اللين النسبي وهو صاح منتبه، وكم عجبت لهذه المعصية التي ترقق حواشيه، وتحيرت طويلا بين ما تجد نحوها من كراهية دينية موروثة وبين ما تجني منها من راحة وسلام، ولكنها دفنت أفكارها في أعماق نفسها، ودارتها مداراة من لا يطيق أن يعترف بها، ولو فيما بينه وبين نفسه. أما السيد فكان أحرص ما يكون على وقاره وحزمه، وما يصدر عنه من لطف فخلسة يصدر، وربما جرت على شفتيه ابتسامة عريضة - في جلسته هذه - لذكرى طافت به من ذكريات سهرته السعيدة، فسرعان ما ينتبه إلى نفسه، ويطبق شفتيه، ويسترق إلى زوجه نظرة، فيجدها كعادتها بين يديه خافضة العينين، فيطمئن ويعود إلى ذكرياته. والحق أن سهرته لم تكن تنتهي بعودته إلى بيته، ولكنها تواصل حياتها في ذكرياته، وفي قلبه الذي يجذبها إليه بقوة نهم إلى مسرات الحياة لا يروى، وكأنه لا يزال يرى مجلس الأنس تزينه النخبة المختارة من أصدقائه وأصفيائه، ويتوسطه بدر من البدور التي تطلع في سماء حياته حينا من بعد حين، وما برحت تطن في أذنيه الدعابات واللطائف والنكات التي تجود قريحته بدررها إذا هزه السكر والطرب، وهذه الملح خاصة يراجعها في عناية واهتمام ينضحان بالعجب والزهو ، ويتذكر أثرها في النفوس وما لاقت من نجاح وابتهاج جعلاه الحبيب الأول لكل نفس، ولا عجب؛ فإنه كثيرا ما يشعر بأن الدور الذي يلعبه في سهرته من الخطورة كأنه أمل الحياة المنشودة، وكأن حياته العملية بجملتها ضرورة يؤديها في سبيل الفوز بساعات مترعة بالشراب والضحك والغناء والعشق يقضيها بين صحبه وخلصائه، وبين هذا وذاك تسجع في باطنه أنغام حلوة لطيفة مما تردد في المجلس السعيد، فذهب معها وجاء وهتف وراءها من أعماق قلبه: «آه ... الله أكبر.» هذا الغناء الذي يحبه كما يحب الشراب والضحك والصحاب والبدور، فلا يطيق أن يخلو منه مجلسه، ولا يأبه للشقة البعيدة يقطعها إلى أطراف القاهرة ليسمع الحامولي أو عثمان أو المنيلاوي حيثما تكون مغانيهم، حتى آوت أنغامهم إلى نفسه السخية كما تأوي البلابل إلى شجرة مورقة، فاكتسب دراية بالنغم والمذاهب وتوج حجة في السمع والطرب، وكان يحب الغناء بروحه وجسمه، أما روحه فتطرب وتغمرها الأريحية، وأما جسمه فتهتاج حواسه وترقص أطرافه خاصة الرأس واليدين؛ ولهذا احتفظت نفسه لبعض المقاطع الغنائية بذكريات روحية وجسدية لا تنسى، مثل: «وليه بقى تلاويعك وهجرك» أو «يا ما بكره نعرف .. وبعده نشوف» أو «اسمع بقى وتعالى لما أقول لك» وكان حسبه أن تهفو إليه نغمة من هذه النغمات معانقة حواشيها من الذكريات كي تهيج موطن السكر من نفسه، فيهز رأسه طربا وترف على شفتيه ابتسامة أشواق، ويفرقع بأصابعه وقد يشدو مترنما إذا كان إلى نفسه خاليا. ومع هذا فلم يكن الغناء هوى منفردا يجذبه لذاته فحسب، ولكنه كان زهرة في طاقة يحلو بها وتحلو به، أهلا به ومرحبا بين الصديق الصافي والحبيب الوفي والشراب المعتق والملحة العذبة، أما أن يصفو له وحده - كما يتلقى في البيوت عن الفونوغراف - فهو جميل حبيب بلا شك، ولكنه غاب عن جوه وبيئته وملابساته، وهيهات أن يقنع به القلب، إنه يتوق إلى أن يفصل بين النغمة والنغمة بنكتة تهتز لها النفوس، وأن يسابق الترديد بالنهل من كأس مترعة، ويرى أثر التطريب في وجه الصديق وعين الحبيب، ثم يتعاونون جميعا على التهليل والتكبير. بيد أن السهرة لم يقتصر أثرها على بعث الذكريات، فمن مزاياها أيضا أنها تهيئه في أعقابها لأسلوب طيب من الحياة هو الذي تتلهف عليه زوجه المطيعة المستسلمة حين تجد نفسها بين يدي رجل حلو المعشر يتبسط معها في الحديث، ويفضي إليها بما في طويته على نحو يشعرها ولو إلى حين بأنها ليست جارية فحسب، ولكنها شريكة حياته أيضا. وهكذا راح يحدثها عن شئون البيت، فأنبأها بأنه أوصى بعض التجار من معارفه على شراء خزين البيت من السمن والقمح والجبن، وجعل يحمل على ارتفاع الأسعار واختفاء المواد الضرورية بسبب هذه الحرب التي تطحن العالم منذ ثلاثة أعوام، وكعادته كلما ذكر الحرب اندفع يلعن الجنود الأستراليين الذين ينتشرون في المدينة كالجراد، ويعيثون في الأرض الفساد. والحق أنه كان يحنق على الأستراليين لسبب خاص به، وهو أنهم بجبروتهم حالوا بينه وبين مجالي اللهو والطرب في الأزبكية، فارتد عنها مغلوبا على أمره - إلا في القليل النادر من مختلس الفرص - لأنه لم يكن يسعه أن يعرض نفسه للجنود الذين يسلبون الناس متاعهم جهارا، ويتسلون بصب ألوان الاعتداء والإهانة عليهم بغير رادع. ثم مضى يسأل عن حال «الأولاد» كما يدعوهم بلا تفرقة بين كبيرهم الكاتب بمدرسة النحاسين، وصغيرهم التلميذ بمدرسة خليل أغا، ثم تساءل بلهجة ذات معنى: وكمال؟! إياك وأن تتستري على شيطنته!
فذكرت المرأة ابنها الصغير الذي تتستر عليه حقا فيما لا خطر له من اللعب البريء، وإن كان السيد لا يعترف ببراءة أي لون من ألوان اللعب واللهو، وقالت بصوتها الخاشع: إنه يلتزم أوامر أبيه.
وصمت السيد قليلا فبدا كالشارد، وعاد يقطف من ذكريات ليلته السعيدة، ثم تراجع مؤشر ذاكرته إلى ما سبق سهرته من أحداث يومه، فذكر فجأة أنه كان يوما حافلا، ولما كان في حال لا يستحب معها كتمان شيء مما يطفو على سطح الوعي؛ فقد قال وكأنه يخاطب نفسه: يا له من رجل كريم الأمير كمال الدين حسين! أما علمت بما فعل؟ .. أبى أن يعتلي عرش أبيه المتوفى في ظل الإنجليز.
ومع أن المرأة علمت بوفاة السلطان حسين كامل أمس، إلا أنها كانت تسمع اسم ابنه لأول مرة، ولم تجد ما تقول ولكنها - مدفوعة بعواطف الإجلال للمتكلم - كانت تخاف ألا تعلق على كل كلمة يقولها بما يرضيه، فقالت: رحم الله السلطان وأكرم ابنه.
فاستطرد السيد قائلا: وقبل العرش الأمير أحمد فؤاد أو السلطان فؤاد كما سيدعى من الآن فصاعدا، وقد تم الاحتفال بتوليته اليوم، فانتقل في موكبه من قصر البستان إلى سراي عابدين .. وسبحان من له الدوام.
وأصغت أمينة إليه باهتمام وسرور، اهتمام يستثيره في نفسها أي نبأ يجيء من العالم الخارجي الذي تكاد لا تعرف عنه شيئا، وسرور يبعثه ما تجد في حديث بعلها معها عن هذه الشئون الخطيرة من لفتة عطف تزدهيها، إلى ما في الحديث نفسه من ثقافة يلذ لها أن تعيدها على مسمع من أبنائها، وخاصة فتاتيها اللتين تجهلان مثلها العالم الخارجي جهلا تاما. ولم تجد لتجزيه عن كريم عطفه خيرا من أن تردد على مسمعيه دعاء تعلم مقدما بمقدار ارتياحه إليه كما ترتاح إليه هي من أعماقها، فقالت: ربنا قادر على أن يعيد إلينا أفندينا عباس.
فهز الرجل رأسه وتمتم قائلا: متى؟ .. متى؟ .. علم هذا عند ربي .. ما نقرأ في الجرائد إلا عن انتصارات الإنجليز، فهل ينتصرون حقا أو ينتصر الألمان والترك في النهاية؟ اللهم استجب.
ناپیژندل شوی مخ
وأغمض الرجل عينيه إعياء، وتثاءب، ثم تمطى وهو يقول: أخرجي المصباح إلى الصالة.
ونهضت المرأة قائمة وذهبت إلى الخوان، فتناولت المصباح ومضت إلى الباب، وقبل أن تجوز العتبة سمعت السيد وهو يتجشأ فتمتمت: صحة وعافية.
3
وفي هدوء الصباح الباكر، وذيول الفجر لا تزال ناشبة في أسهم الضياء، تعالى صوت العجين من حجرة الفرن بالفناء في ضربات متتابعة كدوي الطبل، وكانت أمينة قد غادرت الفراش قبل هذا بنحو نصف ساعة. فتوضأت وصلت ثم نزلت إلى حجرة الفرن، فأيقظت أم حنفي - امرأة في الأربعين خدمت وهي صبية بالبيت، وفارقته للزواج، ثم عادت إليه بعد طلاق - وبينما نهضت الخادم لتعجن عكفت أمينة على إعداد الفطور. وكان للبيت فناء متسع، في أقصاه إلى اليمين بئر سدت فوهتها بعارض خشبي مذ دبت أقدام الصغار على الأرض، وما تبع هذا من إدخال مواسير المياه، وفي أقصى اليسار على كثب من مدخل الحريم حجرتان كبيرتان أقيمت الفرن في إحداهما، واستعملت بالتالي مطبخا، وأعدت الأخرى مخزنا. وكان لحجرة الفرن على عزلتها علاقة بقلبها لا تهن، فلو حسب الزمن الذي قضته بين جدرانها لكان عمرا، إلى ما تتزين به الحجرة من مباهج المواسم عند حلولها حين تتطلع إليها القلوب الهاشة لأفراح الحياة، وتتحلب الأفواه لألوان الطعام الشهية التي تقدمها موسما بعد موسم كخشاف رمضان وقطائفه، وكعك عيد الفطر وفطائره، وخروف عيد الأضحى الذي يسمن ويدلل، ثم يذبح على مشهد من الأبناء فلا يعدم دمعة رثاء وسط بهجة شاملة، هنالك تبدو عين الفرن المقوسة يلوح في أعماقها وهج النار كجذوة السرور المشتعلة في السرائر، وكأنها زينة العيد وبشائره. وإذا كانت أمينة تشعر بأنها في أعلى البيت سيدة بالنيابة وممثلة لسلطان لا تملك منه شيئا، فهي في هذا المكان ملكة لا شريك لها في ملكها، فهذه الفرن تموت وتحيا بأمرها، وهذا الوقود من فحم وحطب في الركن الأيمن يتوقف مصيره على كلمة منها، والكانون الذي يحتل الركن المقابل تحت رفوف الحلل والأطباق والصينية النحاسية ينام أو يزغرد بألسنة اللهب بإشارة منها. وهي هنا الأم والزوجة والأستاذة والفنانة التي يترقب الجميع والثقة ملء قلوبهم ما تقدم يداها، وآية ذلك أنها لا تفوز بإطراء سيدها إذا تفضل بإطرائها إلا عن لون من الطعام أحكمت صنعه وطهيه، وأم حنفي كانت اليد اليمنى في هذه المملكة الصغيرة، سواء تصدت للإدارة والعمل أم تخلت عن مكانها لإحدى فتاتيها لتتمرس بفنها تحت إشرافها، وهي امرأة بدينة في غير تنسيق ولا تفصيل، نما لحمها نموا سخيا، فراعى في نموه السمنة فحسب وأهمل اعتبارات الجمال، بيد أنها رضيت عنه كل الرضا؛ لأنها كانت تعد السمنة في ذاتها الجمال كل الجمال. ولا عجب فقد كان كل عمل لها في البيت يكاد يعد ثانويا بالقياس إلى واجبها الأول، وهو تسمين الأسرة - أو بالأحرى إناثها - بما تعد لهن من «بلابيع» سحرية هي رقية الجمال وسره المكنون، ومع أن أثر البلابيع لم يكن ناجعا دائما إلا أنه برهن على جدارته في أكثر من مرة، فاستحق ما يناط به من آمال وأحلام. فليس عجيبا بعد هذا أن تسمن أم حنفي، على أن سمنتها لم تقلل من نشاطها، فما إن أيقظتها سيدتها حتى نهضت بنفس متفتحة للعمل، وخفت إلى «ماجور» العجين. وتعالى صوت العجين الذي يؤدي وظيفة جرس المنبه في هذا البيت، فترامى إلى الأبناء في الدور الأول، ثم تصاعد إلى الأب في الدور الأعلى، منذرا الجميع بأن وقت الاستيقاظ قد أزف. وتقلب السيد أحمد عبد الجواد على جنبيه ثم فتح عينيه، وسرعان ما قطب حانقا على الصوت الذي أزعج منامه، ولكنه كظم حنقه؛ لأنه كان يعلم أنه يجب أن يستيقظ، وتلقى أول إحساس يتلقاه عادة عقب استيقاظه وهو ثقل الرأس، فقاومه بقوة إرادته وجلس في فراشه وإن كانت تغلبه الرغبة في معاودة النوم. ولم تكن لياليه الصاخبة لتنسيه واجب النهار؛ فهو يستيقظ في هذه الساعة الباكرة مهما تأخر به وقت النوم، حتى يتسنى له الذهاب إلى متجره قبيل الثامنة، ثم له في القيلولة فسحة من وقت يعتاض بها عما فاته من نوم، ويستعيد نشاطه للسهرة الجديدة. لهذا كان وقت استيقاظه أسوأ أوقات يومه جميعا، يغادر الفراش مترنحا من الإعياء والدوار. ويستقبل حياة عاطلة من حلو الذكريات ولطيف المشاعر، وكأنها تستحيل دقا في الدماغ والجفون.
وتوالت دقات العجين على رءوس النائمين بالدور الأول، فاستيقظ فهمي، وكان استيقاظه يسيرا على رغم سهره عاكفا على كتب القانون، فإذا استيقظ فأول إحساس يبادره صورة وجه مستدير تتوسط صفحته العاجية عينان سوداوان، فيهمس باطنه قائلا: «مريم»، ولو أذعن لسلطان الإغراء للبث تحت الغطاء طويلا، خاليا إلى الخيال الزائر الذي جاء يصحبه بألطف الهوى، فيرنو إليه ما دعاه الشوق ويبادله الحديث ويبوح له بأسرار وأسرار، ويتدانى إليه بجسارة لا تتأتى في غير هذا الرقاد الدافئ في مطلع الصباح، ولكنه كعادته أجل نجواه إلى صباح الجمعة، وجلس في فراشه، ثم مد بصره إلى أخيه النائم في الفراش الذي يليه وهتف: ياسين ... ياسين ... اصح.
انقطع شخير الشاب، ونفخ فيما يشبه الضيق، وتمتم من أنفه: صاح ... استيقظت قبلك.
فانتظر فهمي مبتسما حتى عاود الآخر شخيره، فصاح به: اصح ...
فتقلب ياسين في فراشه متذمرا فانحسر الغطاء عن جانب من جسمه الذي يضاهي جسم والده ضخامة وبدانة، ثم فتح عينين محمرتين تلوح فيهما نظرة غائبة ارتسمت فوقها تقطيبة تنطق بالتذمر: «أف ... كيف طلع الصبح بهذه السرعة! ... لماذا لا ننام حتى نشبع ... النظام ... دائما النظام ... كأننا عساكر.» ونهض معتمدا على يديه وركبتيه، وهو يحرك رأسه لينفض عنه النعاس، فلاحت منه التفاتة إلى الفراش الثالث، حيث يغط كمال في نومه الذي لن ينتزعه منه أحد قبل نصف ساعة فغبطه عليه «يا له من غلام سعيد!» ولما أفاق قليلا تربع على الفراش وأسند رأسه إلى يديه، ورغب في معابثة الخواطر اللذيذة التي تحلو بها أحلام اليقظة، ولكنه كان يستيقظ - كأبيه - على حال من ثقل الرأس تتعطل معها الأحلام، ولاحت لمخيلته زنوبة العوادة، فلم تترك في حساسيته أثرا مما تترك في صحوه، وإن افترت شفتاه عن ابتسامة.
وفي الحجرة المجاورة كانت خديجة قد غادرت الفراش دون حاجة إلى منبه العجين. كانت أشبه الأسرة بأمها في نشاطها ويقظتها، أما عائشة فتستيقظ عادة على الحركة التي تنبعث في السرير من نهوض شقيقتها وانزلاقها إلى أرض الحجرة في عنف متعمد يجر وراءه جدلا وملاحاة انقلبا مع التكرار نوعا من الدعابة الفظة، فإذا استيقظت وفزعت من النقار لم تنهض، ولكنها تستسلم لحلم طويل من أحلام اليقظة السعيدة قبل أن تغادر فراشها.
ثم دبت الحياة فشملت الدور الأول كله، فتحت النوافذ وتدفق النور إلى الداخل، وعلى أثره هفا الهواء حاملا صلصلة عجلات سوارس وأصوات العمال ونداء بائع البليلة، وتواصلت الحركة ما بين غرفتي النوم والحمام وبدا ياسين في جلبابه الفضفاض بلحمه المتكتل، وفهمي بطوله الفارع وقده النحيف، وكان - فيما عدا نحافته - صورة من أبيه. وهبطت الفتاتان إلى الفناء؛ لتلحقا بأمهما في حجرة الفرن، وكان في صورتيهما اختلاف قل أن يوجد مثله في الأسرة الواحدة، خديجة سمراء وفي قسمات وجهها تنافر ملحوظ، وعائشة شقراء تشع هالة من حسن ورواء.
ناپیژندل شوی مخ
ومع أن السيد أحمد كان في الدور الأعلى بمفرده إلا أن أمينة لم تدعه في حاجة إلى إنسان. وجد على الخوان طبق فنجان مملوءا حلبة ليغير ريقه عليها، وذهب إلى الحمام فتطاير إلى أنفه عرف البخور الطيب، وألفى على الكرسي ثيابا نظيفة مرتبة في عناية، فاستحم بالماء البارد كعادته كل صباح - عادة لا ينقطع عنها صيفا أو شتاء - ثم عاد إلى حجرته مستجدا حيوية ونشاطا. ثم جاء بسجادة الصلاة - وكانت مطوية على مسند الكنبة - فبسطها وأدى فريضة الصبح، صلى بوجه خاشع، وهو غير الوجه البسام المشرق الذي يلقى به أصحابه، وغير الوجه الحازم الصارم الذي يواجه به آل بيته، هذا وجه خافض الجناح تقطر التقوى والحب والرجاء من قسماته المتراخية التي ألانها التزلف والتودد والاستغفار. لم يكن يصلي صلاة آلية قوامها التلاوة والقيام والسجود، ولكن صلاة عاطفة وشعور وإحساس يؤديها بنفس الحماس الذي ينفضه على ألوان الحياة التي يتقلب فيها جميعا، كما يعمل فيتفانى في عمله، ويصادق فيفرط في مودته، ويعشق فيذوب في عشقه، ويسكر فيغرق في سكره، مخلصا صادقا في كل حال. هكذا كانت الفريضة حجة روحية يطوف فيها برحاب المولى، حتى إذا انفتل من صلاته تربع وبسط راحتيه، وراح يدعو الله أن يكلأه برعايته، ويغفر له ويبارك في ذريته وتجارته.
وفرغت الأم من تجهيز الفطور، فتركت للفتاتين إعداد الصينية، وطلعت إلى حجرة الإخوة، حيث وجدت كمالا ما زال يغط في نومه، فأقبلت عليه باسمة وحطت راحتها على جبينه وتلت الفاتحة، وجعلت تناديه وتهزه برفق، حتى فتح عينيه، ولم تدعه حتى فارق الفراش. ودخل فهمي الحجرة، فلما رآها ابتسم إليها وحياها تحية الصباح، فردت عليه قائلة ونظرة الحب تترقرق في عينيها: صباح النور يا نور العين.
وبنفس الرقة صبحت على ياسين «ابن» زوجها، فرد عليها بمودة خليقة بالمرأة التي تنزل من نفسه منزلة الأم الجديرة بهذا الاسم. ولما عادت خديجة من حجرة الفرن تلقاها فهمي وياسين - وياسين خاصة - بما يغمرانها به عادة من دعابة. وكانت مثار دعابة سواء بصورتها المتنافرة أو بلسانها الحاد، رغم ما لها من نفوذ على الأخوين بما تتعهد من شئونهما بمهارة فائقة يندر أن تجود بمثلها عائشة التي تلوح وسط الأسرة كالرمز الجميل رواء وجاذبية وعدم فائدة. وبادرها ياسين قائلا: كنا نتحدث عنك يا خديجة، وكنا نقول إنه لو كان النساء جميعا على شاكلتك لارتاح الرجال من متاعب القلوب.
فقالت على البداهة: ولو كان الرجال على شاكلتك لارتاحوا جميعا من متاعب الرءوس.
عند ذلك هتفت الأم قائلة: أعد الفطور يا سادة.
4
كانت حجرة الطعام بالدور الأعلى حيث توجد حجرة نوم الوالدين، وكان بنفس الدور غير هاتين الحجرتين أخرى للجلوس وأربع خالية إلا من بعض أدوات اللعب التي يلهو بها كمال في أوقات فراغه. وكان السماط قد أعد وصفت حوله الشلت، ثم جاء السيد فتصدره متربعا، ودخل الإخوة الثلاثة تباعا فجلس ياسين إلى يمين أبيه، وفهمي إلى يساره، وكمال قبالته. جلس الإخوة في أدب وخشوع، خافضي الرءوس كأنهم في صلاة جامعة، يستوي في هذا كاتب مدرسة النحاسين وطالب مدرسة الحقوق وتلميذ خليل أغا، فلم يكن أحد منهم ليجترئ على التحديق في وجه أبيه. وأكثر من هذا كانوا يتجنبون في محضره تبادل النظر أن يغلب أحدهم الابتسام لسبب أو لآخر، فيعرض نفسه لزجرة مخيفة لا قبل له بها. ولم يكن يجمعهم بأبيهم إلا مجلس الفطور؛ لأنهم يعودون إلى البيت عصرا بعد أن يكون السيد قد غادره إلى دكانه عقب تناول الغداء والقيلولة، ثم لا يعود إليه إلا بعد منتصف الليل، وكانت الجلسة على قصر مدتها شديدة الوطأة على نفوسهم بما يلتزمون فيها من أدب عسكري إلى ما يركبهم من رهبة تضاعف من حساسيتهم، وتجعلهم عرضة للهفوات بطول تفكيرهم في تحاميها، فضلا عن أن الفطور نفسه يتم في جو يفسد عليهم تذوقه واستلذاذه، ولم يكن غريبا أن يقطع السيد الفترة القصيرة التي تسبق مجيء الأم بصينية الطعام في تفحص أبنائه بعين ناقدة، حتى إذا عثر على خلل ولو تافها في هيئة أحدهم، أو بقعة في ثوبه انهال عليه نهرا وتأنيبا، وربما سأل كمال بغلطة: «غسلت يديك؟» فإذا أجابه بالإيجاب قال له آمرا: «أرنيهما» فيبسط الغلام كفيه، وهو يزدرد ريقه فرقا، وبدلا من أن يشجعه على نظافته يقول له مهددا: «إذا نسيت مرة أن تغسلهما قبل الأكل قطعتهما وأرحتك منهما.» أو يسأل فهمي قائلا: «أيذاكر ابن الكلب دروسه أم لا؟» ويعرف فهمي بالبداهة من يعني لأن «ابن الكلب» عند السيد كناية عن كمال، فيجيب بأنه يحفظ دروسه جيدا. والحق أن شطارة الغلام - التي استوجب عليها حنق أبيه - لم تقعد به عند الجد والاجتهاد كما يدل عليهما نجاحه وتفوقه، ولكن السيد كان يطالب أبناءه بالطاعة العمياء الأمر الذي لا يطيقه غلام اللعب أحب إليه من الطعام؛ ولهذا يعلق على إجابة فهمي قائلا بامتعاض: «الأدب مفضل عن العلم.» ثم يلتفت إلى كمال ويستطرد بحدة: «سامع يا بن الكلب!»
وجاءت الأم حاملة صينية الطعام الكبيرة فوضعتها فوق السماط وتقهقرت إلى جدار الحجرة على كثب من خوان وضعت عليه «قلة»، ووقفت متأهبة لتلبية أية إشارة. وكان يتوسط الصينية النحاسية اللامعة طبق كبير بيضاوي امتلأ بالمدمس المقلي بالسمن والبيض، وفي أحد طرفيها تراكمت الأرغفة الساخنة، وفي الطرف الآخر صفت أطباق صغيرة بالجبن، والليمون والفلفل المخللين، والشطة والملح والفلفل الأسود، فهاجت بطون الإخوة بشهوة الطعام، ولكنهم حافظوا على جمودهم متجاهلين المنظر البهيج الذي أنزل عليهم كأنه لم يحرك فيهم ساكنا، حتى مد السيد يده إلى رغيف فتناوله ثم شطره وهو يتمتم: «كلوا»، فامتدت الأيدي إلى الأرغفة في ترتيب يتبع السن؛ ياسين ففهمي ثم كمال، وأقبلوا على الطعام ملتزمين أدبهم وحياءهم. ومع أن السيد كان يلتهم طعامه في وفرة وعجلة وكأن فكيه شطرا آلة قاطعة تعمل في سرعة وبلا توقف، ومع أنه كان يجمع في لقمة كبيرة واحدة من شتى الألوان المقدمة - الفول والبيض والجبن والفلفل والليمون المخللين - ثم يأخذ في طحنها بقوة وسرعة وأصابعه تعد اللقمة التالية، إلا أنهم كانوا يأكلون متمهلين في أناة بالرغم مما يحملهم تمهلهم من صبر لا يتفق وطبيعتهم الحامية، فلم يكن ليغيب عن أحدهم ما قد يتعرض له من ملاحظة شديدة أو نظرة قاسية إذا تهاون أو ضعف، فنسي نفسه وغفل بالتالي عما يأخذها به من التأني والأدب. وكان كمال أشدهم تبرما؛ لأنه كان أعظمهم تخوفا من أبيه، وإذا كان أكثر ما يتعرض له أحد أخويه نهرة أو زجرة، فأقل ما يتعرض له هو ركلة أو لكمة؛ فلذلك كان يتناول طعامه في حذر وضيق، مسترقا النظر بين آونة وأخرى إلى المتبقي من الطعام الذي يتناقص سريعا، وكلما تناقص اشتد قلقه، وانتظر في جزع أن يصدر عن أبيه ما يدل على فراغه من طعامه فيخلو له الجو ليملأ بطنه. وعلى رغم سرعة أبيه في الالتهام وضخامة لقمته وتشبعها بشتى الأصناف، كان يعلم بالتجربة أن ما يتهدد الطعام - وما يتهدده هو بالتالي - من ناحية أخويه أشد وأنكى؛ لأن السيد كان سريع الأكل سريع الشبع، أما أخواه فكانا يبدآن المعركة حقا عقب جلاء السيد عن السفرة، ثم لا يتخليان عنها حتى تخلو الأطباق من كل شيء شهي يؤكل؛ ولهذا فما كاد السيد ينهض قائما ويفارق الحجرة حتى شمر عن ساعديه وهجم على الطبق كالمجنون مستغلا يديه الاثنتين؛ يدا للطبق الكبير، ويدا للأطباق الصغيرة، بيد أن اجتهاده بدا قليل الجدوى فيما انبعث من نشاط الأخوين، فلجأ إلى الحيلة التي يستغيث بها كلما هدد سلامته مهدد في مثل هذه الحال، وهي أن يعطس في الطبق عامدا متعمدا، وعطس فتراجع الأخوان ونظرا إليه حانقين، ثم غادرا المائدة وهما يغرقان في الضحك، فتحقق له حلم الصباح، وهو أن يجد نفسه وحيدا في الميدان.
وعاد السيد إلى حجرته بعد أن غسل يديه، فلحقت به أمينة وبيدها قدح مزجت به ثلاث بيضات نيئة بقليل من اللبن وقدمته له، فتجرعه ثم جلس ليحسو قهوة الصبح، وهذا القدح الدسم خاتمة فطوره، وهو «وصفة» من وصفات يداوم عليها بعد الوجبات أو فيما بينها - كزيت السمك، والجوز واللوز والبندق المسكرة - رعاية لصحة بدنه الضخم، وتعويضا له عما تستهلكه منه الأهواء، إلى اقتصاره على اللحوم بأنواعها والأغذية المشهورة بدسمها، حتى ليعد الأكلة الخفيفة بل والعادية «لعبا» و«تضييع وقت» لا يجملان بمثله. وقد وصف له الحشيش كفاتح للشهية - إلى فوائده الأخرى - فجربه، ولكنه لم يألفه وانصرف عنه غير آسف، وقد ساء به ظنه لما يورث من ذهول وقور مشبع بالهدوء ميال للصمت مشعر بالانفراد ولو بين الصفوة من الأصدقاء، فنفر من أعراضه تلك التي تتجافى مع سجيته المولعة بصبوات المرح ونشوات الهياج ولذات الاندماج في النفوس ووثبات المزاح والقهقهة، ولكيلا يفقد مزاياه الضرورية لفحول العشاق اعتاض عنه بنوع نفيس من المنزول اشتهر به محمد العجمي بائع الكسكسي عند مطلع الصالحية بالصاغة، وكان يعده خاصة لصفوة زبائنه من التجار والأعيان، ولم يكن السيد من مدمني المنزول ولكنه كان يلم به بين حين وآخر كلما استقبل هوى جديدا خاصة إذا كانت المعشوقة امرأة خبيرة بالرجال وأحوالهم. فرغ السيد من حسو قهوته ثم نهض إلى المرآة وراح يرتدي ملابسه التي قدمتها إليه أمينة قطعة قطعة، وألقى على صورة هندامه نظرة متفحصة، ومشط شعره الأسود المرسل على صفحتي رأسه، ثم سوى شاربه وفتله، وتفرس في هيئة وجهه ثم عطفه رويدا إلى اليمين ليرى جانبه الأيسر، ثم إلى اليسار ليرى جانبه الأيمن، حتى إذا ارتاح إلى منظره مد يده إلى زوجه فناولته زجاجة الكولونيا التي عبأها له عم حسين الحلاق، فغسل يديه ووجهه ونضح صدر قفطانه ومنديله، ثم وضع الطربوش على رأسه وأخذ عصاه وغادر الحجرة ناشرا بين يديه ومن خلفه عرفا طيبا. ذلك العرف المقطر من شتى الأزهار يعرفه أهل البيت جميعا، وإذا تنشقه أحدهم تمثل لعينيه السيد بوجهه الوقور الحازم، فينبعث في قلبه - مع الحب - الإجلال والخوف. إلا أن انتشاره في هذه الساعة من الصباح كان إيذانا بذهاب السيد، فالنفوس تتلقاه بارتياح غير منكور على براءته، كارتياح الأسير إلى صليل السلاسل وهي تنفك عن يديه وقدميه، ويعلم كل بأنه سيسترد حريته عما قليل في الكلام والضحك والغناء والحركة دون ثمة خطر. وكان ياسين وفهمي قد فرغا من ارتداء ملابسهما، أما كمال فقد هرع إلى الحجرة عقب خروج أبيه مباشرة ليشبع رغبته في محاكاة حركاته التي يختلس النظر إليها من زيق الباب الموارب، فوقف أمام المرآة ينظر إلى صورته بإمعان وارتياح، ثم قال مخاطبا أمه بلهجة آمرة وهو يغلظ نبرات صوته: «زجاجة الكولونيا يا أمينة.» وكان يعلم أنها لا تلبي هذا النداء ولكنه جعل يمسح على وجهه وجاكيتته وبنطلونه القصير بيديه كأنه يبلها بالكولونيا، ومع أن أمه كانت تغالب الضحك إلا أنه ثابر على التظاهر بالجد والصرامة، وراح يستعرض وجهه في المرآة من جانبه الأيمن إلى الأيسر، ثم مضى يسوي شاربه الوهمي ويفتل طرفيه، ثم تحول عن المرآة وتجشأ، ونظر صوب أمه، ولما لم يجد منها إلا الضحك قال لها محتجا: «لماذا لا تقولين لي صحة وعافية؟» فغمغمت المرأة ضاحكة: «صحة وعافية يا سيدي.» هنالك غادر الحجرة مقلدا مشية أبيه محركا يمناه كأنه يتوكأ على عصاه.
وبادرت الأم والفتاتان إلى المشربية، ووقفن وراء شباكها المطل على النحاسين ليرين من ثقوبه رجال الأسرة في الطريق، وبدا السيد وهو يسير في تؤدة ووقار يحف به الجلال والجمال رافعا يديه بالتحية بين حين وآخر، وقد وقف له عم حسنين الحلاق والحاج درويش بائع الفول والفولي اللبان وبيومي الشربتلي، فأتبعنه أعينا مترعة بالحب والزهو، وتلاه فهمي في مشيته المتعجلة، ثم ياسين في جسم الثور وأناقة الطاوس، وأخيرا ظهر كمال فلم يكد يخطو خطوتين حتى استدار ورفع بصره إلى الشباك الذي يعلم أن أمه وشقيقتيه مستخفيات وراءه، وابتسم، ثم واصل سيره متأبطا حقيبة كتبه منقبا في الأرض عن زلطة ليركلها.
ناپیژندل شوی مخ
كانت هذه الساعة من أسعد أوقات الأم، بيد أن إشفاقها من شر الأعين على رجالها لم يقف عند حد، فلم تكن تمسك عن تلاوة:
ومن شر حاسد إذا حسد
حتى يغيبوا عن عينيها.
5
وغادرت الأم المشربية وتبعتها خديجة، على حين تلكأت عائشة حتى خلا لها الجو، فانتقلت إلى جانب المشربية المطل على بين القصرين ومدت بصرها من ثقوب الشباك في اهتمام ولهفة. بدا من لمعة عينيها وعضها على شفتيها أنها تنتظر. ولم يطل بها الانتظار فقد مرق من عطفة الخرنفش ضابط بوليس شاب، ومضى مقبلا متمهلا في طريقه إلى قسم الجمالية، عند ذلك غادرت الفتاة المشربية في عجلة إلى حجرة الاستقبال، واتجهت إلى نافذتها الجانبية، وأدارت أكرتها ففرجت مصراعيها عن زيق ووقفت وراءه وقلبها يبعث ضربات بالغة العنف من العاطفة والخوف معا. ولما اقترب الضابط من البيت رفع عينيه في حذر دون أن يرفع رأسه - فلم يكن أحد يرفع رأسه في مصر وقتذاك - فأضاءت أساريره بنور ابتسامة متوارية انعكست على وجه الفتاة إشراقة موردة بالحياء فتنهدت ... ثم أغلقت النافذة وهي تشد عليها بعصبية - كأنها تخفي آثار جريمة دامية - وتراجعت عنها مغمضة العينين من شدة الانفعال، فأسلمت نفسها إلى مقعد، وأسندت رأسها إلى يدها وساحت في جو مشاعرها اللانهائي. لم تكن سعادة خالصة ولم يكن خوفا خالصا، كان قلبها موزعا بين هذا وتلك فهما يتجاذبانه بلا رحمة، إذا استنامت إلى نشوة الفرح وسحره قرعت قلبها مطرقة الخوف محذرة موعدة، فلا تدري أيجمل بها أن تقلع عن مغامرتها أم تتمادى في مطاوعة قلبها، كلا الحب والخوف شديد، ولبثت في تهويمها كثيرا أو قليلا، فاستكنت هواتف الخوف والتأنيب، ومضت تنعم بسكرة الحلم في ظل سلام، وذكرت - كما يلذ لها أن تذكر دائما - كيف كانت تنفض الستارة المسدلة على النافذة يوما فلاحت منها نظرة إلى الطريق من النافذة التي فتحت نصف فتحة لطرد الغبار، فوقعت عليه وهو يتطلع إلى وجهها في دهشة مقرونة بالإعجاب، فتراجعت فيما يشبه الذعر، ولكنه لم يذهب قبل أن يترك في مخيلتها أثرا باقيا من منظر نجمته الذهبية وشريطه الأحمر، منظر يخلب اللب ويسرق الخيال، فظل يتخايل لعينيها طويلا، وفي نفس الساعة من اليوم التالي - والأيام التالية - راحت تقف وراء الخصاص دون أن يراها، ولمست في فرحة ظافرة كيف يتطلع بعينيه إلى النافذة المغلقة باهتمام وتشوق، ثم كيف أخذ يستبين شبحها وراء الخصاص فتشع أساريره ضياء البهجة، وقلبها المشبوب - الذي يتمطى مستيقظا لأول مرة - ينتظر هذه اللحظة في لهفة ويذوقها في سعادة ويودعها فيما يشبه الحلم، حتى دار الشهر وعاد يوم التنفيض مرة أخرى، فانبرت إلى الستارة تنفضها وراء النافذة المواربة متعمدة - هذه المرة - أن ترى، وهكذا يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، حتى غلب التعطش للمزيد من الحب الخوف الجاثم، فخطت خطوة - جنونية - وفرجت مصراعي النافذة، ووقفت وراءها وقلبها يبعث ضربات بالغة العنف من العاطفة والخوف معا، كأنها تعلن حبها له، بل كانت كمن يقذف بنفسه من علو ساحق ليتقي نارا مستعرة تحيط به. •••
استكنت عواطف الخوف والتأنيب ومضت تنعم بسكرة الحلم في ظل سلام، ثم أفاقت من حلمها، وصممت على أن تتحامى الخوف الذي ينغص عليها صفوها فجعلت تقول لنفسها استدرارا للطمأنينة: «لم تزلزل الأرض ومر كل شيء بسلام، لم يرني أحد ولن يراني أحد، ثم إني لم أقترف إثما!» ونهضت قائمة، ولكي توهم نفسها يخلو البال ترنمت - وهي تغادر الحجرة - بصوت عذب: «يا أبو الشريط الأحمر يا للي أسرتني ارحم ذلي.» ورددتها مرة ومرة حتى جاءها صوت أختها خديجة من حجرة الطعام وهي تزعق في تهكم: يا ست منيرة يا مهدية، تفضلي، أعدت لك خادمتك السفرة.
وأثابها صوت أختها إلى نفسها تماما فيما يشبه الرجة، فهوت من عالم المثال إلى عالم الواقع مرتعبة بعض الشيء لسبب غير ظاهر - ما دام كل شيء قد مر بسلام كما قالت لنفسها - ولكن اعتراض صوت أختها - بالذات - لغنائها وخواطرها أرعبها، ربما لأن خديجة كانت تقف منها موقف المنتقد، بيد أنها طاردت هذا القلق الطارئ وأجابتها بضحكة مقتضبة، ثم جرت إلى حجرة الطعام فوجدت السماط معدا حقا وأمها مقبلة بالصينية. وقالت لها خديجة بحدة حال دخولها: تتلكئين بعيدا حتى أعد كل شيء وحدي ... كفاية لنا الغناء.
ومع أنها كانت تتلطف معها في الحديث تفاديا من حدة لسانها، إلا أن إصرار الأخرى على قرصها بلسانها كلما سنحت فرصة جعلها تتعلق أحيانا بإغاظتها، فقالت مصطنعة الجد: ألم نتفق على تقسيم العمل بيننا في البيت؟ فعليك هذا الواجب وعلي الغناء.
فنظرت خديجة إلى أمها وقالت متهكمة وهي تعني الأخرى: يمكن ناوية تكون عالمة!
ولم تغضب عائشة، وبالعكس قالت باهتمام مصطنع أيضا: وما له! ... أنا صوتي كالكروان.
ناپیژندل شوی مخ
ومع أن قولها السابق لم يستثر غيظها؛ لأنه كان بين الدعابة إلا أن كلامها الأخير استثاره؛ لأنه كان واضح الحق، ولأنها تنفس عليها جمال صوتها فيما تنفس عليها من مزايا، فقالت في تهجم: اسمعي يا ست هانم ... هذا بيت رجل شريف لا يعيب بناته أن تكون أصواتهن كصوت الحمير، ولكن يعيبهن أن يكن كالصورة لا فائدة منهن ولا نفع. - لو كان صوتك جميلا كصوتي ما قلت هذا! - طبعا! ... كنت تغنين وأرد عليك، تقولين يا بو الشريط الأحمر يا للي ... فأقول لك أسرتني ارحم ذلي، ونترك للست (مشيرة إلى أمها) الكنس والمسح والطبخ.
وكانت الأم - التي ألفت هذا النقار - قد اتخذت مجلسها، فقالت برجاء: أمسكا بالله، واجلسا لنأكل فطورنا بسلام.
وأقبلتا على السماط وجلستا وخديجة تقول: أنت يا نينة لا تصلحين لتربية أحد.
فتمتمت الأم في هدوء: سامحك الله، سأترك لك أمر التربية على ألا تنسي نفسك ... (ثم مدت يدها إلى الطبق) بسم الله الرحمن الرحيم.
كانت خديجة في العشرين من عمرها، فهي كبرى إخوتها فيما عدا ياسين - أخاها من الأب - الذي ناهز عامه الواحد والعشرين، وكانت قوية ممتلئة - والفضل لأم حنفي - مع ميل إلى القصر، أما وجهها فقد قبس من قسمات الوالدين على نهج لم يراع فيه الانسجام، ورثت عن أمها عينيها الصغيرتين الجميلتين، وعن أبيها أنفه العظيم، أو صورة مصغرة منه، ولكن ليس إلى القدر الذي يغتفر له، ومهما يكن من شأن هذا الأنف في وجه الأب الذي يناسبه ويكسبه جلالا ملحوظا، فقد لعب في وجه الفتاة دورا مختلفا.
أما عائشة فكانت في السادسة عشرة من ربيعها، صورة من بديع الحسن، رشيقة القد والقوام - وإن عد هذا في محيط أسرتها من العيوب المتروك علاجها لأم حنفي - ووجه بدري تزينه بشرة بيضاء مشربة بحمرة، وعينان زرقاوان أحسنت اختيارهما من الأب مع أنف الأم الصغير، إلى شعر ذهبي دللها به قانون الوراثة فخصها به وحدها من ميراث جدتها لأبيها. وطبيعي أن تدرك خديجة ما يقوم بينها وبين شقيقتها من فوارق، ولم تكن براعتها الفائقة في التدبير المنزلي والتطريز ولا نشاطها الدائب الذي لا يكل ولا يمل بمغنيين عنها شيئا، فوجدت على الغالب نحوها غيرة لم تراع إخفاءها مما حمل الفتاة الحسناء على البرم بها في كثير من الأحايين. ولكن من سوء الحظ أن هذه الغيرة الطبيعية لم تترك رواسب سوداء في النفس، وكفاها أن تروح عن حدتها بسخرية اللسان وسلاطته. وأكثر من هذا أن كانت الفتاة رغم مشكلتها الطبيعية أما بالفطرة عامرة القلب بالحنو نحو الأسرة التي لا تعفي أفرادها من مرارة تهكمها، فلم تكن غيرتها إلا نوبات تطول أو تقصر، ولكنها لم تنحرف بسجيتها إلى الحقد أو البغضاء، بيد أن دأبها على السخرية - الذي اقتصر في الأسرة على الدعابة - خلق منها فيما وراء ذلك من الجيران والمعارف عيابة من الدرجة الأولى، لا تقع عيناها من الناس إلا على مناقصهم كعقرب البوصلة المنجذب إلى القطب أبدا، وإذا توارت المناقص تمحلت في الكشف عنها وتكبيرها، ثم راحت تطلق على ضحاياها أوصافا تناسب عيوبهم كادت تغلب عليهم في محيط أسرتها، فهذه حرم المرحوم شوكت أقدم صديقة لوالديها تدعوها «المدفع الرشاش» لتناثر ريقها أثناء الحديث، وهذه الست أم مريم جارتهم بالبيت الملاصق لبيتهم تسميها «لله يا أسيادي» لاستعارتها بعض الأدوات المنزلية من بيتهم بين حين وآخر، كما تدعو شيخ كتاب بين القصرين «شر ما خلق» لترديده هذه الآية ضمن سورتها كثيرا بحكم وظيفته مع قبح وجهه، وبائع الفول «الأقرع» لصلعه، واللبان «الأعور» لضعف بصره، إلى تسميات مخففة بعض الشيء خصت بها أسرتها، فأمها «لمؤذن» لتبكيرها في الاستيقاظ، وفهمي «عمود السرير» لنحافته، وعائشة «البوصة» للسبب نفسه، وياسين «بمبة كشر» لسمنته وأناقته. ولم تكن سلاطة لسانها من وحي السخرية فحسب، فالحق أنها لم تخل من قسوة على من عدا أهلها من الخلق، وهكذا اتسم نقدها للناس بالعنف، وتجافى عن التسامح والعفو، كما غلب عليها عدم الاكتراث للأحزان التي تلم بالناس يوما بعد يوم، وتبدت هذه الغلظة في البيت في معاملة أم حنفي معاملة لا تلقاها من أحد سواها، بل في معاملة الحيوان الأليف كالقطط التي تحظى من عائشة بإعزاز يفوق الوصف. وكانت معاملتها لأم حنفي مثار خلاف بينها وبين أمها؛ فالأم تعامل الخدم كما تعامل أهل بيتها سواء بسواء، وكان ظنها بالناس أنهم ملائكة فلم تدر كيف تسيء الظن بأحد، على حين دأبت خديجة على سوء الظن بالمرأة تمشيا مع طبيعتها التي تسيء الظن بالناس جميعا، ولم تخف تخوفها من بياتها غير بعيد من غرفة الخزين فقالت لأمها: «من أين تجيئها هذه السمنة المفرطة؟! ... من الوصفات التي تصنعها؟! كلنا نتعاطى وصفاتها فلا نسمن سمنتها، ولكنه السمن والعسل اللذان تطفح منهما بغير حساب، ونحن نيام.»
لكن الأم دافعت عن أم حنفي ما وسعها الدفاع، ولما ضاقت بإلحاح ابنتها قالت: «فلتأكل ما تشاء، الخير كثير، وبطنها له حد لا يتعداه فلن نجوع على أي حال.» ولم يعجبها قولها وراحت تفحص صفائح السمن وبلاليص العسل كل صباح وأم حنفي ترى هذا باسمة؛ لأنها كانت تحب الأسرة كلها إكراما لستها الطيبة. وعلى النقيض من هذا كان حنان الفتاة حيال أهلها جميعا، فلم يكن يهدأ لها بال إذا أصابت أحدهم وعكة، ولما مرض كمال بالحصبة أبت إلا أن تشاركه فراشه، حتى عائشة نفسها لم تكن تطيق أن يلم بها أهون سوء، فلم يكن مثل قلبها لا في بروده ولا في رحمته.
وباتخاذها مجلسها من السماط تناست ما نشب بينها وبين عائشة من نقار، وأقبلت على الفول والبيض بشهية كانت مضرب الأمثال في الأسرة. وكان للطعام بينهن - إلى فائدته الغذائية - غاية جمالية عليا بصفته الدعامة الطبيعية للسمنة، فكن يتناولنه في تؤدة واهتمام، ويبالغن في سحقه وطحنه، فإذا شبعن لم يمسكن ولكن يستزدن منه حتى يمتلئن، على تفاوت لطاقاتهن، فكانت الأم أسرعهن إلى الانتهاء، تليها عائشة، ثم تنفرد خديجة ببقايا المائدة، فلا تتخلى عنها إلا وهي أطباق مغسولة. ولم تكن نحافة عائشة لتتناسب مع اجتهادها في الأكل فضلا عن عصيانها لسحر البلابيع، مما دعا خديجة للسخرية منها والقول بأن المكر السيئ هو الذي يجعلها تربة غير صالحة للبذور الطيبة التي تلقى فيها، كما كان يطيب لها أن تعلل نحافتها بضعف دينها، فتقول لها: «كلنا نصوم رمضان إلا أنت، تتظاهرين بالصوم، وتندسين في حجرة الخزين كالفأرة وتملئين بطنك بالجوز واللوز والبندق، ثم تفطرين معنا بنهم يحسدك عليه الصائمون، ولكن الله لا يبارك لك.» وكانت ساعة الفطور من الأوقات النادرة التي يختلين فيها إلى أنفسهن، فكانت أخلق الأوقات بالمكاشفة ونفض السرائر خاصة في الأمور التي يدعو إلى كتمانها عادة الحياء البالغ الذي تتسم به مجالس الأسرة الحاوية للجنسين. وكان لدى خديجة ما تقوله رغم انهماكها في الأكل، فقالت بصوت هادئ يختلف كل اختلاف عن الصوت الذي كانت تزعق به منذ حين قصير: نينة ... حلمت حلما غريبا.
فقالت الأم قبل أن تزدرد لقمتها مبالغة في إكرام ابنتها المخيفة: خير يا بنتي إن شاء الله.
فقالت خديجة باهتمام مضاعف: رأيت كأني أمشي على سور سطح، ربما كان سطح بيتنا أو غيره، وإذا بشخص مجهول يدفعني فأهوي صارخة.
ناپیژندل شوی مخ
وأمسكت أمينة عن تناول طعامها في اهتمام جدي فلازمت الفتاة الصمت قليلا لتستأثر بأكبر قدر من الاهتمام حتى تمتمت الأم: اللهم اجعله خيرا.
وقالت عائشة وهي تغالب ابتسامة: لم أكن أنا الشخص المجهول الذي دفعك ... أليس كذلك؟!
وخافت خديجة أن يفسد الجو بالمزاح، فصاحت بها: إنه حلم وليس لعبا فكفي عن هذرك ... (ثم مخاطبة أمها) هويت صارخة، ولكني لم أرتطم بالأرض كما توقعت بل وقعت على جواد، حملني وطار.
وتنهدت أمينة في ارتياح كأنما أدركت ما وراء الحلم واطمأنت إليه، وعادت إلى طعامها مبتسمة، ثم قالت: من يدري يا خديجة؟ ... لعله العريس!
لم يكن يباح الكلام عن «العريس» إلا في هذه الجلسة، وفي إيجاز بالإشارة أشبه، ووجب قلب الفتاة الذي لم يكربه شيء كما أكربه أمر الزواج، وكانت على إيمان بالحلم وتأويله، بحيث وجدت لكلام أمها سرورا عميقا، بيد أنها أرادت أن تداري حياءها بالسخرية كعادتها - ولو من نفسها - فقالت: أتظنين الجواد عريسا؟ ... لن يكون عريسي إلا حمارا.
فضحكت عائشة حتى تطاير نثار الطعام من فيها، ثم خافت أن تسيء خديجة فهم ضحكتها فقالت: لشد ما تظلمين نفسك يا خديجة! ... ما فيك من شيء يعاب.
فحدجتها خديجة بنظرة تنم عن الحذر والشك على حين راحت الأم تقول: أنت فتاة نادرة المثال، من يضارعك في مهارتك أو نشاطك؟ ... وروحك الخفيفة ووجهك اللطيف؟ ماذا تريدين أكثر من هذا؟
فمست الفتاة بسبابتها أرنبة أنفسها وتساءلت ضاحكة: ألا يسد هذا طريق الأزواج؟
فقالت الأم مبتسمة: كلام فارغ ... ما زلت صغيرة يا بنية.
وتضايقت لذكر الصغر لأنها لم تكن تعد نفسها صغيرة بالقياس إلى سن الزواج، وخاطبت أمها قائلة: لقد تزوجت يا نينة وأنت دون الرابعة عشرة.
ناپیژندل شوی مخ
فقالت الأم التي لم تكن في الحق دون ابنتها قلقا: لا يتقدم أمر أو يتأخر إلا بإذن الله.
وقالت عائشة في صدق: ربنا يفرحنا بك قريبا يا خديجة.
فلحظتها خديجة بريبة وذكرت كيف طلبت إحدى جاراتهم يدها لابنها، فرفض الأب أن يزوج الصغرى قبل الكبرى، وتساءلت: أتودين حقا أن أتزوج أم تتمنين أن يخلو لك السبيل فتتزوجي؟!
فقالت عائشة ضاحكة: الاثنين معا.
6
ولما فرغن من الفطور قالت الأم: عليك يا عائشة الغسيل اليوم، وعلى خديجة تنظيف البيت، ثم تلحقان بي في حجرة الفرن.
كانت أمينة توزع بينهما العمل عقب الفطور مباشرة، ومع أنهما ترضيان بحكمها، وترضى به عائشة بلا مناقشة، إلا أن خديجة تكلف بتوجيه الملاحظات على سبيل الاستعلاء أو على سبيل المشاكسة؛ فلهذا قالت: أنزل لك عن التنظيف إذا كنت تستثقلين الغسيل، أما التمحك بالغسيل للبقاء في الحمام حتى ينتهي العمل في المطبخ فعذر مرفوض مقدما.
وتجاهلت الفتاة ملحوظتها ومضت إلى الحمام، وهي تدندن فقالت خديجة متهكمة: يا بختك بالحمام يرن فيه الصوت كما يرن في نفير الفونوغراف، فغني وسمعي الجيران.
وغادرت الأم الحجرة إلى الدهليز، ثم إلى السلم ورقته إلى السطح لتجول فوقه جولتها الصباحية قبل أن تنزل إلى حجرة الفرن. لم يكن التشاحن بين الفتاتين بالجديد عليها بعد أن انقلب مع الأيام عادة مألوفة في غير الأوقات التي يوجد فيها الأب في البيت، أو التي يطيب فيها السمر بين أفراد الأسرة، وجعلت تعالجه بالرجاء والدعابة والرقة البالغة، وهي السياسة الوحيدة التي تنتهجها إزاء أبنائها؛ لأنها صادرة عن طبع لا يطيق سواها، أما ما تقتضيه التربية أحيانا من الحزم فشيء لم تعرفه، ربما تمنته دون أن تقدر عليه، وربما حاولت تجربته فغلبها التأثر والضعف، وكأنها لا تحتمل أن يقوم بينها وبين أبنائها غير أسباب المودة والحب، تاركة للأب - أو لشخصيته التي تسيطر من بعيد - تقويم المعوج وإلزام كل حدوده. لهذا لم يضعف النقار السخيف من إعجابها بفتاتيها ورضائها عنهما، حتى عائشة المولعة لحد الهوس بالغناء والوقوف أمام المرآة، لم تكن دون خديجة مهارة وتدبيرا بالرغم من تكاسلها. وكان هذا حريا بأن يمد لها في أوقات الراحة لولا ما طبعت عليه من وسوسة بالداء أشبه؛ فهي تأبى إلا أن تشرف على كل صغيرة وكبيرة بالبيت. وإذا فرغت الفتاتان من عملهما نشطت هي بالمكنسة في يد والمنفضة في يد، وراحت تتفقد الحجرات والصالات والدهاليز، متفحصة الأركان والجدران والستائر وسائر العفش، عسى أن تزيل نقطة غبار منسية، واجدة لذة وارتياحا كأنما تزيل قذى من عينيها، ومن وسوستها تلك أنها كانت تفحص الثياب المعدة للغسيل قبل غسلها، فإذا عثرت على قطعة منها قد خرقت قذارتها المألوف لم تترك صاحبها دون أن تتلطف في تنبيهه إلى واجبه، من كمال الذي يناهز العاشرة إلى ياسين الذي كان ذا ذوقين متناقضين في العناية بنفسه يتجليان في تأنقه المفرط في مظهره من البدلة والطربوش والقميص ورباط الرقبة والحذاء، وإهماله المعيب لثيابه الداخلية. ومن الطبيعي ألا تغفل هذه العناية الشاملة السطح وسكانه من الحمام والدجاج، بل كانت ساعة السطح حافلة بالحب والسرور، فيها من أغراض العمل ما فيها إلى ما تجده من فرحة اللهو والمرح. ولا عجب فالسطح هو الدنيا الجديدة التي لم يكن للبيت الكبير بها عهد قبل انضمامها إليه، خلقته بروحها خلقا جديدا على حين ظل البيت محافظا على الهيئة التي شيد عليها منذ عهد سحيق. هذه الأقفاص المثبتة في بعض جدرانه العالية يهدل عليها الحمام من وضعها، وهذه الأكواخ الخشبية يقوقئ الدجاج في مسارحها من تركيبها، وكم يملكها الفرح وهي ترمي الحب أو تضع على الأرض آنية السقيا، فيستبق إليها الدجاج وراء ديكها، وتنهال مناقيرها على الحب في سرعة وانتظام كإبر آلة الخياطة، مخلفة في الأرض التربة بعد حين ثغرات دقيقات كآثار الرذاذ. وكم ينشرح صدرها إذ تنظر فتراها رانية إليها بأعين دقيقة صافية، مستطلعة متسائلة، ناقة مقوقئة، في مودة متبادلة ينز لها قلبها الحنون. أحبت الدجاج والحمام كما تحب مخلوقات الله جميعا، فهي تناغيها مناغاة رقيقة تحسب أنها تفهمها وتتأثر لها، ذلك أن خيالها يخلع الحياة الشاعرة العاقلة على الحيوان، وأحيانا الجماد نفسه. وعندها بمنزلة اليقين أن هذه الكائنات تسبح بحمد ربها وتتصل بعالم الروح بأسباب، فعالمها بأرضه وسمائه، حيوانه ونباته، عالم حي عاقل. ثم لا تقتصر مزاياه على نعمة الحياة فيكملها بالعبادة. لم يكن غريبا بعد هذا أن تكثر معاتيقها من الديوك والدجاج معتلة بسبب أو آخر، هذه لأنها معمرة وتلك لأنها بياضة وهذا لأنها تستيقظ على صياحه، ولعلها لو تركت وشأنها ما ارتضت أن تعمل سكينها في رقابها، وإذا دعتها الظروف إلى الذبح تخيرت الدجاج أو الحمام فيما يشبه الضيق، ثم تسقيها وتترحم عليها وتبسمل وتستغفر، وتذبحها وعزاؤها أنها تستمتع بحق منحه الله المنان وأوسع به على عباده. أما أعجب ما في السطح فكان نصفه الجنوبي المشرف على النحاسين؛ حيث غرست يداها في الأعوام الخالية حديقة فريدة لا نظير لها في أسطح الحي كله التي تغطى عادة بطبقة من قاذورات الدواجن، بدأت أول ما بدأت بعدد قليل من أصص القرنفل والورد، وراحت تستكثر منها عاما بعد عام حتى نضدت صفوفا بحذاء أجنحة السور ونمت نموا بهيجا، وخطر لخيالها أن تقيم فوق حديقتها سقيفة، فاستدعت نجارا فأقامها، ثم غرست شجرتي ياسمين ولبلاب ثم أنشبت سيقانها في السقيفة وحول قوائمها، فاستطالت وانتشرت حتى استحال المكان بستانا معروشا ذا سماء خضراء ينبثق منها الياسمين ويتضوع في أرجائها عرف طيب ساحر. هذا السطح بسكانه من الدجاج والحمام، وبستانه المعروش، هو دنياها الجميلة المحبوبة، وملهاها الأثير في هذا العالم الكبير الذي لا تعرف عنه شيئا، وكشأنها في مثل هذه الساعة مضت تتعهده برعايتها فكنسته، وسقت زرعه، وأطعمت الدجاج والحمام، ثم تملت طويلا المنظر المحيط بها بثغر باسم وعينين حالمتين، ثم ذهبت إلى نهاية البستان ووقفت وراء السيقان الملتفة المتشابكة تمد بصرها من ثغراتها إلى ما يليها من فضاء لا تحده حدود.
كم تروعها المآذن التي تنطلق انطلاقا ذا إيحاء عميق، تارة عن قرب حتى لترى مصابيحها وهلالها في وضوح كمآذن قلاوون وبرقوق، وتارة عن بعد غير بعيد فتبدو لها جملة بلا تفصيل كمآذن الحسين والغوري والأزهر، وثالثة من أفق سحيق فتتراءى أطيافا كمآذن القلعة والرفاعي، وتقلب وجهها فيها بولاء وافتتان، وحب وإيمان، وشكر ورجاء، وتحلق روحها فوق ذراها أقرب ما تكون إلى السماء، ثم تستقر منها العينان على مئذنة الحسين، أحبها - لحب صاحبها - إلى نفسها، فتنفض نظرتها حنانا وأشواقا، مشوبة بحزن يطوف بها كلما ذكرت حرمانها من زيارة ابن بنت رسول الله وهي على مسير دقائق من مثواه. وتنهدت نهدة مسموعة، استردتها من استغراقها فتابت إلى نفسها، وراحت تتسلى بالنظر إلى الأسطح والطرقات فلم تزايلها الأشواق، ثم استدبرت السور وقد فاض بها التطلع إلى المجهول، المجهول بالقياس إلى الناس جميعا وهو عالم الغيب، والمجهول بالقياس إليها وحدها وهو القاهرة. بل الأحياء المتاخمة التي تترامى إليها أصواتها. ترى ما هذه الدنيا التي لم تر منها إلا المآذن والأسطح القريبة؟! ربع قرن من الزمان خلا وهي حبيسة هذا البيت لا تفارقه إلا مرات متباعدة لزيارة أمها بالخرنفش، وعند كل زيارة يصطحبها السيد في حنطور؛ لأنه كان لا يحتمل أن تقع عين على حرمه سواء وحدها أو بصحبته، لم تكن ساخطة ولا متذمرة، إنها أبعد ما تكون عن هذا. بيد أنها ما تكاد تنفذ ببصرها من ثغرات الياسمين واللبلاب إلى الفضاء والمآذن والأسطح، حتى تعلو شفتيها الرقيقتين ابتسامة حنان وأحلام. ترى أين تقع مدرسة الحقوق حيث يجلس فهمي في هذه اللحظة؟ وأين مدرسة خليل أغا التي يؤكد كمال أنها على مسير دقيقة من الحسين؟ ... وقبل أن تغادر السطح بسطت كفيها ودعت ربها قائلة: «اللهم أسألك الرعاية لسيدي وأبنائي، وأمي وياسين، والناس جميعا مسلمين ونصارى، حتى الإنجليز يا ربي وأن تخرجهم من ديارنا إكراما لفهمي الذي لا يحبهم.»
ناپیژندل شوی مخ
7
عندما بلغ السيد أحمد عبد الجواد دكانه الذي يقع أمام جامع برقوق بالنحاسين كان جميل الحمزاوي وكيله قد فتحه وهيأه للعمل، فحياه السيد تحية رقيقة وهو يبتسم ابتسامة وضيئة واتجه إلى مكتبه. وكان الحمزاوي في الخمسين من عمره، أنفق منها ثلاثين عاما في هذا الدكان، وكيلا لمنشئه الحاج عبد الجواد، ثم وكيلا للسيد بعد وفاة أبيه، وظل على الوفاء للسيد بداع من العمل والحب معا؛ فهو يجله ويحبه كما يجله ويحبه جميع من يتصل به بسبب من أسباب العمل أو الصداقة. والحق لم يكن السيد مرهوبا مخوفا إلا بين أهله، أما بين سائر الناس من أصدقاء ومعارف وعملاء فهو شخص آخر، له حظه الموفور من المهابة والاحترام، ولكنه شخصية محبوبة قبل كل شيء، ومحبوبة لظرفها قبل أي من سجاياها الحميدة الكثيرة، فلا الناس يعرفون السيد الذي يقيم في بيته، ولا أهل البيت يعرفون السيد الذي يعيش بين الناس. وكان دكانه متوسط الحجم، مكدسة رفوفه وجنباته بجوالات البن والأرز والنقل والصابون، وعند ركنه الأيسر في قبالة المدخل يقوم مكتب السيد بدفاتره وأوراقه وتليفونه، وإلى اليمين من مجلسه تقوم الخزانة الخضراء داخل الجدار يوحي منظرها بالصلابة ويذكر لونها بالأوراق المالية. وفي منتصف الجدار فوق المكتب على إطار من الأبنوس نقشت بداخله البسملة مموهة بالذهب. ولم تكن عجلة الدكان تدور قبل الضحى. فجعل السيد يراجع حسابات اليوم السابق بمثابرة ورثها عن أبيه وحافظ عليها بحيويته الموفورة، على حين وقف الحمزاوي عند المدخل شابكا ذراعيه على صدره مواصلا تلاوة ما تيسر له من الآيات في صوت باطني غير مسموع دلت عليه حركة شفتيه المستمرة، ووسوسة خافتة تند من آن لآن عن أحرف السين والصاد، ولم يتوقف عن تلاوته حتى جاء شيخ ضرير رتبه السيد للقراءة كل صباح. وكان السيد يرفع رأسه من الدفتر في فترات متباعدة فيستمع إلى التلاوة، أو يمد بصره إلى الطريق حيث لا ينقطع تيار المارة وعربات اليد والكارو، وسوارس التي تكاد تترنح من كبرها وثقلها، والباعة المغنون وهم يترنمون بطقاطيق الطماطم والملوخية والبامية كل على مذهبه، ولم تكن الضوضاء لتحول بينه وبين تركيز ذهنه بعدما اعتادها وألفها أكثر من ثلاثين عاما، فاستنام إليها حتى ليزعجه سكوتها. ثم جاء زبون فشغل الحمزاوي به، وأقبل نفر من أصحاب السيد وجيرانه من التجار ممن يحبون أن يقضوا معه وقتا طيبا، ولو لزمن وجيز يتبادلون فيه التحية ويغيرون ريقهم - على حد تعبيرهم - على دعابة من دعاباته أو نكتة من نكاته، الأمر الذي جعله يفاخر بنفسه كمحدث فائق البراعة، لا يخلو حديثه من لمعات غير مقطوعة الصلة بالثقافة العامة التي اكتسبها، لا من التعليم حيث توقف فيه دون الابتدائية، ولكن من قراءة الصحف ومصادقة نخبة من الأعيان والموظفين والمحامين الذين أهله لمخالطتهم - مخالطة الند للند - حضور بديهته ولطفه وظرفه ومنزلته كتاجر موفور الرزق، فاستجد لنفسه عقلية غير العقلية التجارية المحدودة ضاعف من اعتزازه بها ما حباه أولئك الممتازون من حب واحترام وتكريم، ولما قال له أحدهم مرة في صدق وإخلاص: «لو أتيح لك يا سيد أحمد أن تدرس القانون لكنت محاميا مفوها نادر المثال.» نفخ قوله في خيلائه الذي يحسن مداراته بظرفه وتواضعه وحلو معاشرته. ولم يطل بأحد من الوافدين الجلوس فذهبوا تباعا، وتزايدت حركة العمل بالدكان، ثم فجأة دخل رجل مهرولا كأنما دفعته يد قوية، ووقف في منتصف الدكان وهو يضيق عينيه الضيقتين ليحد بصره، وسددهما صوب مكتب السيد، ومع أنه لم يكن يفصله عنه أكثر من ثلاثة أمتار، إلا أنه أجهده في معاينته بلا طائل، ثم هتف متسائلا: السيد أحمد عبد الجواد موجود؟
فقال السيد باسما: أهلا وسهلا بالشيخ متولي عبد الصمد، تفضل، حلت البركة ...
وعطف الرجل رأسه فصادف اقتراب الحمزاوي منه ليسلم عليه، ولكنه لم ينتبه ليده الممدودة وعطس على غير انتظار، فتراجع الحمزاوي وهو يخرج منديله وقد التقت في صفحة وجهه ابتسامة وتقطيبة، واندفع الشيخ إلى المكتب وهو يتمتم: «الحمد لله رب العالمين»، ثم رفع طرف عباءته ومسح به على وجهه، وجلس على الكرسي الذي قدمه السيد له، وبدا الشيخ في صحة يحسد عليها على سنه التي جاوزت الخامسة والسبعين، ولولا عيناه الكليلتان الملتهبتا الأشفار، وفوه المندثر، ما وجد ما يشكوه، وكان يتلفع بعباءة بالية ناصلة وإن أمكنه أن يستبدل بها خيرا منها بما يجود به المحسنون، ولكنه استمسك بها؛ لأنه - فيما يقول - رأى الحسين في منامه وهو يباركه فبث فيها خيرا لا يبلى، وكان إلى كراماته في قراءة الغيب والدعوات الشافية وعمل الأحجبة معروفا بالصراحة والظرف، وبه متسع للدعابة والمزاح مما زاد من قدره عند السيد خاصة، ومع أنه كان من سكان الحي، إلا أنه لم يثقل على أحد من مريديه بالزيارات، وربما توالت الأشهر وهو غائب لا يعلم له مكان، فإذا ألم بزيارة بعد انقطاع لاقى ترحابا وأشواقا وهدايا. وقد أشار السيد إلى وكيله ليعد للشيخ الهدية المعتادة من الأرز والبن والصابون، ثم قال للشيخ مرحبا: أوحشتنا يا شيخ متولي ... منذ عاشوراء لم نستمتع برؤيتك.
فقال الرجل ببساطة وبغير مبالاة: أغيب كما يحلو لي، وأحضر كما يحلو لي، ولا أسأل عن السبب.
فابتسم السيد الذي ألف أسلوبه وتمتم قائلا: إذا غبت أنت فإن بركتك لا تغيب.
فلم يبد على الشيخ أنه تأثر لإطرائه، وعلى العكس حرك رأسه حركة تدل على نفاد الصبر وقال بخشونة: ألم أنبه عليك أكثر من مرة بألا تفاتحني بالحديث، وأن تلزم الصمت حتى أتكلم أنا؟!
فقال السيد وبه رغبة في التحكك به: معذرة يا شيخ عبد الصمد، لئن كنت نسيت تنبيهك، فعذري أني أنسيته لطول غيابك.
فضرب الشيخ كفا بكف وهتف: عذر أقبح من ذنب ... (ثم منذرا بسبابته) إذا تماديت في مخالفتي امتنعت عن قبول هديتك!
فأطبق السيد شفتيه باسطا راحتيه استسلاما حاملا نفسه على الصمت هذه المرة، فتريث الشيخ متولي ليتأكد من دخوله طاعته، وتنحنح ثم قال: ابدأ بالصلاة على سيد الخلق الحبيب.
ناپیژندل شوی مخ
فقال السيد من الأعماق: عليه الصلاة والسلام. - وأثن على أبيك بما هو أهله، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، كأني به متخذا مجلسك هذا، لا فارق بين الأب وابنه إلا أن الراحل حافظ على العمامة، واستبدلت بها هذا الطربوش ...
فتمتم السيد مبتسما: فليغفر الله لنا.
فتثاءب الشيخ حتى دمعت عيناه، ثم استطرد قائلا: وأدعو الله أن يمن على أبنائك بالفلاح والتقوى؛ ياسين وخديجة وفهمي وعائشة وكمال وأمهم آمين.
ووقع نطق الشيخ باسمي خديجة وعائشة من أذني السيد موقعا غريبا على الرغم من كونه هو الذي أفضى إليه باسميهما منذ عهد طويل ليكتب لهما حجابين، وليست أول مرة ينطق الشيخ باسميهما، ولا آخر مرة، ولكن لم يكن يتردد اسم واحدة من حريمه بعيدا عن الحجرات - ولو على لسان الشيخ متولي - حتى يقع من نفسه موقعا غريبا ينكره ولو إلى حين. بيد أنه غمغم قائلا: آمين يا رب العالمين.
فتنهد الشيخ قائلا: ثم أسأل الله المنان أن يعيد إلينا أفندينا عباس مؤيدا بجيش من جيوش الخليفة لا يعرف له أول من آخر. - نسأله وليس شيء عليه بكثير.
فعلا صوت الشيخ وهو يقول غاضبا: وأن يمنى الإنجليز وأعوانهم بهزيمة منكرة فلا تقوم لهم بعدها قائمة. - ربنا يأخذهم جميعا.
فحرك الشيخ رأسه في أسى، وقال بحسرة: كنت بالأمس سائرا في الموسكي، فاعترض سبيلي جنديان أستراليان، وطالباني بما معي فما كان مني إلا أن نفضت لهما جيوبي، وأخرجت الشيء الوحيد الذي كان معي وهو كوز ذرة فتناوله أحدهما وركله كالكرة، وخطف الآخر عمامتي وحل الشال ومزقه ورمى به في وجهي.
وتابعه السيد وهو يغالب ابتسامة تراوده، فما لبث أن داراها بالمبالغة في إظهار استيائه صائحا في استنكار: قاتلهم الله وأهلكهم.
فأتم الرجل حديثه قائلا: رفعت يدي إلى السماء، وصحت: يا جبار مزق أمتهم كما مزقوا شال عمامتي. - دعوة مستجابة بإذن الله.
ومال الشيخ إلى الوراء وأغمض عينيه ليستريح قليلا، ولبث على حاله والسيد يتفرس في وجهه مبتسما، ثم فتح عينيه وخاطب السيد بصوت هادئ ونبرات جديدة تنذر بموضوع جديد، قائلا: يا لك من رجل شهم جميل المروءة يا أحمد يا بن عبد الجواد!
ناپیژندل شوی مخ
فابتسم السيد في رضا وقال بصوت خفيض: أستغفر الله يا شيخ عبد الصمد ...
فبادره الشيخ قائلا: لا تتعجل، إن مثلي لا يلقي الثناء إلا تمهيدا لقول الحق، على سبيل التشجيع يا بن عبد الجواد.
فلاح الاهتمام والحذر في عيني السيد وتمتم قائلا: ربنا يلطف بنا.
فأشار إليه بسبابته العجراء، وتساءل فيما يشبه الوعيد: ماذا تقول، وأنت المؤمن الورع، في ولعك بالنساء؟!
كان السيد معتادا لصراحته فلم ينزعج لانقضاضه، وضحك ضحكة مقتضبة، ثم قال: ما علي من ذاك، ألا يحدث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن حبه للطيب والنساء؟
فقطب الشيخ ومط بوزه محتجا على منطق السيد الذي لم يعجبه، وقال: الحلال غير الحرام يا بن عبد الجواد، والزواج غير الجري وراء الفاجرات.
فمد السيد بصره للاشيء وقال بلهجة جدية: ما ارتضت نفسي يوما أن تعتدي على عرض أو كرامة قط، والحمد لله على ذلك.
فضرب الشيخ ركبتيه بيديه وقال بغرابة وباستنكار: عذر ضعيف لا ينتحله إلا ضعيف، والفسق لعنة ولو يكن بفاجرة، كان أبوك رحمه الله مولعا بالنساء، فتزوج عشرين مرة فلماذا لا تنتهج سبيله وتتنكب طريق المعاصي؟!
ناپیژندل شوی مخ
فضحك السيد ضحكة عالية وقال: أأنت ولي من أولياء الله أم مأذون شرعي؟! كان أبي شبه عقيم فأكثر من التزوج، وبالرغم من أنه لم ينجب سواي، إلا أن عقاره تبدد بيني وبين زوجات أربع مات عنهن، إلى ما ضاع على النفقات الشرعية في حياته، أما أنا فأب لثلاثة ذكور وأنثيين، وما يجوز لي أن أنزلق إلى الإكثار من الزوجات فأبدد ما يسر الله علينا من رزق، ولا تنس يا شيخ متولي أن غواني اليوم هن جواري الأمس، واللاتي أحلهن الله بالبيع والشراء، والله من قبل ومن بعد غفور رحيم.
فتأوه الشيخ وقال وهو يهز نصفه الأعلى يمنة ويسرة: ما أبرعكم يا بني آدم في تحسين الشر! والله يا بن عبد الجواد لولا حبي لك ما باليت أن تحدثني وأنت قاعد على فاجرة ...
فبسط السيد راحتيه وقال باسما: اللهم استجب.
فنفخ الشيخ متبرما وهتف قائلا: لولا مزاحك لكنت أكمل الناس. - الكمال لله وحده.
فالتفت إليه وهو يشير بيده كأنه يقول «فلندع هذا جانبا»، ثم ساءله بلهجة المحقق الذي ضيق عليه الخناق: والخمر؟ ... ماذا تقول فيها؟!
وسرعان ما فترت روح السيد ولاح في عينيه الضيق ولزم الصمت مليا، وآنس الشيخ من صمته تسليما فصاح بظفر: أليست حراما لا يقارفه من يحرص على طاعة الله ومحبته؟
فبادره السيد قائلا في حماس من يدفع بلاء محققا: لشد ما أحرص على طاعة الله ومحبته! - باللسان أم بالعمل؟!
ومع أن الجواب كان حاضرا إلا أنه تمهل متفكرا قبل أن ينطق به. لم يكن من عادته أن يشغل نفسه بالتفكير الذاتي أو التأمل الباطني. شأنه في ذلك شأن الذين لا يكادون يخلون إلى أنفسهم، ففكره لا يعمل حتى يبعثه إلى العمل شيء خارجي، رجل أو امرأة أو سبب من أسباب حياته العملية، وقد استسلم لتيار حياته الزاخر مستغرقا فيه بكليته، فلم ير من نفسه إلا صورتها المنعكسة على سطح التيار، ثم لم يتراخ توثبه للحياة مع تقدم العمر؛ لأنه بلغ الخامسة والأربعين ولم يزل يتمتع بحيوية فياضة مشبوبة لا يتأثر بها إلا الشاب اليافع؛ لذلك جمعت حياته شتى المتناقضات التي تراوح بين العبادة والفساد، وحازت جميعا رضاه على تناقضها دون أن يدعم هذا التناقض بسند من فلسفة ذاتية أو تدبير مما يصطنع الناس من ألوان الرياء، ولكنه كان يصدر في سلوكه عن طبيعته الخاصة بقلب طيب وسريرة نقية وإخلاص في كل ما يفعل، فلم تعصف بصدره عواصف الحيرة، وبات قرير العين. وكان إيمانه عميقا، أجل كان إيمانا موروثا لا دخل للاجتهاد فيه، بيد أن رقة مشاعره ولطافة وجدانه وإخلاصه أضفت عليه إحساسا رهيفا ساميا نأى به عن أن يكون تقليدا أعمى، أو طقوسا مبعثها الرغبة أو الرهبة فحسب، وبالجملة كان أبرز ما يتميز به إيمانه بالحب الخصب النقي. بهذا الإيمان الخصب النقي أقبل يؤدي فرائض الله جميعا، من صلاة وصيام وزكاة في حب ويسر وسرور، إلى سريرة صافية وقلب عامر بحب الناس، ونفس تسخو بالمروءة والنجدة جعلت منه صديقا عزيزا يستبق القوم إلى الري من منهله العذب، وبتلك الحيوية الفياضة المشبوبة فتح صدره لمسرات الحياة ولذائذها، يهش للمأكل الفاخر، ويطرب للشراب المعتق، ويهيم بالوجه القسيم، فينهل منها جميعا في مرح وبهجة وولع، غير مثقل الضمير بإحساس خطيئة أو وسواس قلق، فهو يمارس حقا منحته إياه الحياة، وكأنما لا تعارض بين حق الحياة على قلبه وحق الله على ضميره، فلم يشعر في ساعة من حياته بأنه بعيد عن الله أو عرضة لنقمته، وآخاه في السلام. أكان شخصين منفصلين في شخصية واحدة؟! ... أم كان اعتقاده في السماحة الإلهية بحيث لا يصدق أنها تحرم هاتيك المسرات حقا، وحتى في حال تحريمها فهي حرية بأن تعفو عن المذنبين ما لم يؤذوا أحدا؟! الأرجح أنه كان يتلقى الحياة بقلبه وإحساسه دون ثمة تفكير وتأمل، وجد بنفسه غرائز قوية؛ يطمح بعضها لله فراضها بالعبادة، ويتحفز بعضها الآخر للذات فأرواها باللهو، وخلطها بنفسه جميعا آمنا مطمئنا، دون أن يشق على نفسه بالتوفيق بينها. لم يكن يضطر إلى تبريرها بفكره إلا تحت ضغط انتقاد كالذي جابهه الشيخ متولي عبد الصمد، وفي هذه الحال يجد نفسه أضيق بالتفكير منه بالتهمة نفسها، لا لأنه يهون عليه أن يكون متهما أمام الله، ولكن لأنه لا يصدق أبدا أنه متهم، أو أن الله يغضبه حقا أن يلهو لهوا لا يصيب أحدا بأذى، أما التفكير فكان يتعبه من ناحية ويكشف عن تفاهة علمه بدينه من ناحية أخرى؛ لذلك تجهم للسؤال الذي ألقاه الرجل عليه متحديا وهو: «باللسان أم بالعمل؟» وأجابه بلهجة لا يخفى فيها الضيق: باللسان والعمل معا، بالصلاة والصيام والزكاة، بذكر الله قائما وقاعدا، وما علي بعد ذلك إذا روحت عن نفسي بشيء من اللهو الذي لا يؤذي أحدا أو يغفل فريضة، وهل حرم محرم إلا لهذا أو ذاك؟
فرفع الشيخ حاجبيه وأغمض عينيه معلنا عن عدم اقتناعه ثم تمتم: يا له من دفاع في سبيل الباطل!
وتحول السيد فجأة من الضيق إلى المرح كعادته فقال بأريحية: الله غفور رحيم يا شيخ عبد الصمد، إني لا أتصوره عز وجل غاضبا أو متجهما أبدا، حتى انتقامه رحمة خافية، وإني أقدم بين يديه الحب والطاعة والبر، والحسنة بعشر أمثالها. - أما في حساب الحسنات فأنت رابح.
ناپیژندل شوی مخ
فأشار السيد إلى جميل الحمزاوي ليأتي بهدية الشيخ وهو يقول مسرورا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وجاءه الوكيل باللفة فأخذها السيد وقدمها إلى الشيخ وهو يقول ضاحكا: في صحتك.
فتناولها الشيخ وهو يقول: رزقك الله رزقا واسعا وغفر لك.
فغمغم السيد «آمين»، ثم سأله باسما: ألم تكن يوما من أهل ذلك يا سيدنا الشيخ؟
فضحك الشيخ قائلا: سامحك الله، أنت رجل كريم طيب القلب، وبهذه المناسبة أحذركم من التمادي في الكرم؛ فإنه لا يتفق وما يطالب به التاجر من القصد.
فتساءل السيد دهشا: أتغريني باسترداد الهدية؟
فنهض الرجل وهو يقول: هديتي لا تجاوز القصد، فابدأ بغيرها يا بن عبد الجواد، والسلام عليكم ورحمة الله.
وغادر الشيخ الدكان مهرولا وغاب عن الأنظار، ولبث السيد مفكرا، ومضى يدير في نفسه ما ثار من جدل بينه وبين الشيخ، ثم بسط راحتيه في ضراعة وتمتم : «اللهم اغفر لي ما تقدم وما تأخر من ذنب، اللهم إنك أنت الغفور الرحيم.»
8
عند العصر غادر كمال مدرسة خليل أغا يضطرب في تيار زاخر من التلاميذ الذين يسدون الطريق بزحمتهم، ثم يأخذون في التفرق، بعضهم إلى الدراسة، وبعضهم إلى السكة الجديدة، وآخرون إلى طريق الحسين، على حين تتحلق جماعات منهم حول الباعة المتجولين الذين يعترضون تياراتهم عند رءوس الطرقات المتفرقة عن المدرسة بما تحمل سلالهم من اللب والفول السوداني والدوم والحلوى، وإلى هذا فلا يخلو الطريق في هذه الساعة من معارك تنشب هنا وهناك بين تلاميذ اضطروا إلى كتمان خلافاتهم في أثناء النهار تفاديا من العقوبات المدرسية. وكانت المرات التي سيق فيها إلى الاشتباك في معركة نادرة جدا، ولعلها لم تعد المرتين طوال العامين اللذين قضاهما في المدرسة، لا لندرة خلافاته التي لم تكن نادرة في الواقع ولا لكراهية للعراك، فقد أورثه اضطراره إلى تجنبه أسفا عميقا، ولكن لتقدم الكثرة الغالبة من التلاميذ عليه في السن مما جعله هو وقلة من أترابه غرباء في المدرسة يتعثرون في بنطلوناتهم القصيرة بين تلاميذ طعنوا فيما بعد الخامسة عشرة، وكثيرون منهم ناهزوا العشرين، فشقوا طريقهم في صلف وكبرياء وقد طرت شواربهم. من هؤلاء من كان يتعرض له في فناء المدرسة بلا سبب، فيخطف الكتاب من يده ويقذفه بعيدا كالكرة، أو من يسلبه قطعة من الحلوى فيدسها في فمه بغير استئذان مواصلا ما كان فيه من حديث، فلم تكن الرغبة في العراك لتنقصه، ولكنه كظمها تقديرا للعواقب، وما لباها حتى دعاه إليها أحد أقرانه الصغار، فوجد الهجوم عليه متنفسا لعواطفه الثائرة المكبوتة واسترداده لثقته بقوته ونفسه. وليس العراك أو العجز عنه بأسوأ ما لاقى من وقاحة المعتدين، فإلى هذا ما كان يترامى إلى أذنيه، سواء كان المقصود به أم غيره، من الشتائم والسباب، منه ما فطن لمعناه فحذره، ومنه ما جهله فردده في البيت بحسن نية، فأثار به عاصفة من الثورة والفزع اتصلت أنباؤها في صورة شكوى لضابط المدرسة الذي كان صديقا لأبيه ، ولكن سوء الحظ وحده هو الذي قضى بأن يكون أحد غريميه في المعركتين الوحيدتين اللتين خاضهما من أسرة فتوات معروفة بالدراسة، فلما كان عصر اليوم التالي للمعركة، وجد الغلام في انتظاره عند باب المدرسة عصابة من الشبان مدججين بالعصي في هالة من شر مستطير، ولما أشار إليه غريمه ليدل عليه تنبه لحركته وأدرك ما يتربص به من خطر، فتراجع هاربا إلى المدرسة وهو يستغيث بالضابط، وعبثا حاول الرجل أن يصرف العصابة عن مقصدها، وأغلظوا له القول حتى اضطر إلى استدعاء شرطي ليوصل الغلام إلى داره، وزار الضابط السيد في دكانه وأنبأه بما يتهدد ابنه من شر ناصحا إياه بمعالجة الأمر بالحلم والكياسة، ولجأ السيد إلى بعض معارفه من تجار الدراسة فمضوا إلى بيت الفتوات مستشفعين له، وهنالك استعان السيد بما عرف عنه من سماحة نفس ورقة شمائل، حتى ألان عريكتهم فأصدروا عن الغلام عفوهم، بل وتعهدوا بحمايته كأحد أبنائهم، ولم ينته اليوم حتى بعث السيد بمن يحمل إليهم نفحة من هداياه، ونجا كمال من عصي الفتوات، ولكنه كان كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأن عصا أبيه فعلت بقدميه ما لم تكن لتفعله عشرات العصي.
ناپیژندل شوی مخ
غادر الغلام المدرسة، ومع أنه كان لرنين الجرس المؤذن بانتهاء اليوم الدراسي فرحة في نفسه لا تعادلها فرحة في تلك الأيام، إلا أن نسائم الحرية التي نشقها خارج بوابة المدرسة بصدر رحب لم تمح أصداء الدرس الأخير الحبيب - درس الديانة - من قلبه. وقد قرأ عليهم الشيخ ذلك اليوم سورة «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن» وشرحها لهم، فتركز فيه بوعيه، ورفع أصبعه أكثر من مرة سائلا عما أغلق عليه، ولما كان الأستاذ يعطف عليه لإقباله على الاستماع لدرسه باهتمام بارز، إلى حفظه للسور حفظا جيدا، فقد أوسع صدره لأسئلته بحال يندر أن يحظى بها أحد التلاميذ، وراح الشيخ يحدثه عن الجن وطوائفهم، وعن المسلمين منهم خاصة الذين سيظفرون بالجنة في النهاية أسوة بإخوانهم من البشر، وحفظ الغلام عن ظهر قلب كل كلمة نطق بها، ولم يزل يديرها في نفسه حتى هذه اللحظة التي يعبر فيها الطريق قاصدا دكان البسبوسة على الجانب الآخر، فإلى شغفه بالديانة كان يعلم أنه لا يتلقاها لنفسه فحسب، وأن عليه أن يعيد ما وعى منها في البيت على أمه - كما اعتاد أن يفعل مذ كان في الكتاب - فيلقي إليها بمعلوماته وتستعيد هي على ضوئها ما عندها من معلومات عرفتها عن أبيها الذي كان شيخا أزهريا، ويتذاكران معارفهما طويلا ثم يحفظها الجديد من السور التي لم يسبق لها حفظها. وانتهى إلى دكان البسبوسة فمد يده الصغيرة بالملاليم التي احتفظ بها منذ الصباح، ثم تناول القطعة في ارتياح شامل لا يشعر به إلا في مثل هذا الموقف اللذيذ، مما جعله يحلم كثيرا بأن يكون يوما صاحب دكان حلوى ليأكلها لا ليبيعها، ثم واصل سيره في شارع الحسين وهو يقضم منها مسرورا مترنما. نسي وقتذاك أنه كان سجينا النهار كله، وأنه كان محروما من الحركة فضلا عن اللعب والمرح، وأنه كان عرضة في أية لحظة لعصا المدرس المسلطة على الرءوس، بيد أنه رغم هذا كله لم يكره المدرسة كراهية مطلقة؛ لأنه كان يظفر بين جدرانها بأسباب من التقدير والتشجيع - بسبب تفوقه الذي يرجع كثير من الفضل فيه إلى شقيقه فهمي - لا يحظى بعشر معشارها عند أبيه. ومر في طريقه بدكان ماتوسيان لبيع السجائر، فوقف كعادته كل يوم في مثل هذه الساعة تحت لافتتها يصعد عينيه الصغيرتين إلى الإعلان الملون الذي يصور امرأة مضطجعة على ديوان وبين شفتيها القرمزيتين سيجارة يتطاير منها خيط دخان متعرج، معتمدة بساعدها على حافة نافذة يلوح وراء ستارتها المنحسرة منظر يجمع بين حقل نخيل ومجرى من مجريات النيل، وكان يدعوها فيما بينه وبين نفسه «أبلة عائشة» لما بين الاثنتين من شبه يتمثل في الشعر الذهبي والعينين الزرقاوين، ومع أنه كان يناهز العاشرة إلا أن إعجابه بصاحبة الصورة فاق كل تقدير، فكم تخيلها متمتعة بالحياة في أبهج مظاهرها، وكم تخيل نفسه وهو يقاسمها حياتها الرغيدة بين حجرة ناعمة، ومنظر ريفي متاح لها - لهما - أرضه ونخيله وماؤه وسماؤه، يسبح في الوادي الأخضر أو يعبر النهر في قارب بدا في نهاية الصورة كالطيف، أو يهز النخيل فيساقط عليه الرطب، أو يجلس بين يدي الحسناء طامح الطرف إلى عينيها الحالمتين. على أنه لم يكن جميلا كأخويه، ولعله كان أشبه الأسرة بأخته خديجة، فمثلها قد جمع في وجهه بين عيني أمه الصغيرتين وأنف أبيه الضخم ولكن بكامل هيئته لا مهذبا بعض التهذيب كما ورثته خديجة، إلى رأس كبير يبرز عند الجبهة بروزا واضحا، جعل عينيه تبدوان غائرتين أكثر مما هما في الواقع، وكان من سوء الحظ أن نبه إلى غرابة صورته بحال مثيرة للسخرية حين دعاه أحد الرفاق بأبي «رأسين»، فأهاج غضبه وأورطه في إحدى المعركتين اللتين خاضهما، ولم يسكن خاطره الانتقام فشكا في البيت حزنه إلى أمه التي تكدرت لكدره، وراحت تعزيه مؤكدة له أن كبر الرأس من كبر العقل، وأن النبي عليه السلام كان كبير الرأس، وأنه ليس وراء التشابه بين الرسول وبينه من مطمع لطامع. ولما انتزع نفسه من صورة المدخنة واصل سيره رانيا هذه المرة إلى جامع الحسين الذي قضت نشأته بأن يكون لقلبه مثار أخيلة وعواطف لا تنضب. ومع أن المكانة التي نزلها الحسين من نفسه - تبعا لمنزلته من نفس أمه خاصة والأسرة عامة - كانت وليدة قرابته من النبي، إلا أن معرفته للنبي وسيرته لم تكن شفيعا إلى معرفته بالحسين وسيرته، وما تهفو نفسه دائما إليه من استعادة هذه السيرة والتزود منها بأنبل القصص وأعمق الإيمان، حتى لقد وجدت منه على مر القرون مستمعا مشغوفا ومحبا مؤمنا وأسيفا بكاء، فلم يهون من بلواه إلا ما قيل من أن رأس الشهيد بعد فصله عن جسده الطاهر لم يرض من الأرض مسكنا إلا في مصر، فجاءها طاهرا مسبحا ثم ثوى حيث يقوم ضريحه. وكم وقف حيال الضريح حالما مفكرا، يود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على الوجه الجميل الذي أكدت له أمه أنه قاوم غير الدهر بسره الإلهي، فاحتفظ بنضارته ورونقه حيث يضيء ظلمة المثوى بنور غرته، ولما لم يجد إلى تحقيق أمنيته سبيلا قنع بمناجاته في وقفات طويلة، مفصحا عن حبه، شاكيا إليه متاعبه الناشئة من تصوراته عن العفاريت، وخوفه من تهديد أبيه مستنجدا به على الامتحانات التي تلاحقه كل ثلاثة أشهر، ثم خاتما مناجاته عادة بالتوسل إليه أن يكرمه بالزيارة في منامه. ومع أن عادة مروره بالجامع صباحا ومساء خففت بعض الشيء من شدة تأثره به، إلا أنه لم تكن تقع عليه عيناه حتى يقرأ له الفاتحة، ولو تكرر ذلك منه مرات في اليوم الواحد، أجل لم تستطع العادة أن تقتلع من صدره بهجة الأحلام، فلم يزل لمنظر الجدران السامقة تجاوبها مع قلبه، ولم يزل لمئذنته العالية نداء ما أسرع أن تلبيه نفسه. قطع طريق الحسين، وهو يقرأ الفاتحة، ثم انعطف إلى خان جعفر، ومنها اتجه إلى بيت القاضي، ولكنه بدلا من أن يمضي إلى البيت مخترقا النحاسين عبر الميدان إلى درب قرمز على وحشته وإثارته لمخاوفه ليتفادى من المرور بدكان أبيه. كان يرتعد فرقا من أبيه ولا يتصور أنه يخاف العفريت لو طلع له أكثر منه إذا زعق به غاضبا، وضاعف من كربه أنه لم يقتنع يوما بالأوامر الصارمة التي يلاحقه بها للحيلولة بينه وبين ما تصبو إليه نفسه من اللعب والمراح، فلو أنه أذعن لمشيئته مخلصا لقضى وقت فراغه كله متربعا مكتوف اليدين لذلك لم يسعه أن يطيع تلك المشيئة الجبارة العاتية، واختلس اللهو من وراء ظهره كلما حلا له، في البيت أو في الطريق، وظل الرجل على جهل بأمره إلا أن يبلغه منه شيء بوشاية من أهل البيت إذا ضاقوا بغلوه وإفراطه. من ذلك أنه جاء يوما بسلم وارتقاه إلى عرش اللبلاب والياسمين فوق السطوح، ورأته أمه وهو على تلك الحال بين السماء والأرض فصرخت فزعة حتى أجبرته على النزول، ثم غلب إشفاقها من مغبة لعبة خطيرة كتلك على خوفها عليه من شدة أبيه، فصرحت للسيد بما كان منه، وسرعان ما دعا به وأمره أن يمد قدميه وانهال عليهما بعصاه غير مبال بصراخه الذي ملأ البيت، وغادر الغلام الحجرة وهو يظلع ليجد إخوته في الصالة وهم يغالبون ضحكهم إلا خديجة التي حملته بين يديها هامسة في أذنه: «تستاهل ... كيف تعلو اللبلاب وتناطح السماء! أحسبت نفسك زبلن؟!» على أنه فيما عدا الألعاب الخطرة كانت أمه تتستر عليه وتبيح له ما يشاء من اللعب البريء. ولشد ما يعجب كلما ذكر كيف كان هذا الأب نفسه ظريفا لطيفا معه على عهد طفولته القريبة، وكيف كان يتسلى بمداعبته وكيف كان ينفحه من آن لآخر بألوان شتى من الحلوى، وكيف هون عليه يوم الختان - على فظاعته - فملأ حجره بالشوكولاتة والملبس وشمله بعطفه ورعايته، ثم ما أسرع أن تغير كل شيء فتبدل عطفه صرامة، ومناغاته زعقا، ومداعباته ضربا، حتى الختان نفسه اتخذه أداة لإرهابه حتى اختلط عليه الأمر ردحا من الزمن، فظن أنه من الممكن حقا أن يلحقوا ما تبقى له بما ذهب! وليس الخوف وحده الذي شعر به نحو أبيه فإجلاله له لم يكن دون خوفه منه، كان يعجب بمظهره العظيم القوي، ومهابته التي تعنو لها الهام، وأناقة ملبسه، وما يعتقده فيه من قدرة على كل شيء، ولعل حديث الأم عن سيدها هو الذي هوله عنده، فلم يتصور أنه يوجد في الدنيا رجل يضارعه في قوته أو إجلاله أو ثروته. أما عن الحب فقد كان كل من في البيت يحب الرجل لحد العبادة، فانسرب حبه إلى قلبه الصغير بإيحاء البيئة، بيد أنه ظل جوهرة مكنونة في حق مغلق من الخوف والرعب. مضى يقترب من قبو درب قرمز المظلم الذي تتخذه العفاريت مسرحا لألعابها الليلية، والذي آثره لنفسه طريقا عن المرور بدكان أبيه، وعندما دخل في جوفه راح يقرأ «قل هو الله أحد» بصوت مرتفع رن في الظلمة تحت السقف المنحني، وسبقته عيناه إلى فوهة القبو البعيدة حيث يشع نور الطريق، ثم حث خطاه وهو يردد السورة لطرد من تحدثه نفسه بالظهور من العفاريت، فالعفاريت لا سبيل لها على من يدرع بآيات الله، أما أبوه فلن يدرأ غضبه عنه إذا ثار أن يتلو كتاب الله كله. وخرج من القبو إلى الشطر الآخر من الدرب، وعند نهايته طالعه سبيل بين القصرين ومدخل حمام السلطان، ثم لاحت لعينيه مشربيات بيته بلونها الأخضر القاتم، والباب الكبير بمطرقته البرنزية، فافتر ثغره عن ابتسامة فرح لما يدخره له هذا المكان من أفانين المرح، فعما قليل يهرع الغلمان إليه من جميع البيوت المجاورة إلى فناء الدار الواسع، الذي يحوي عدة حجرات تتوسطها الفرن فيكون لعب ولهو وبطاطة. وفي تلك اللحظة رأى سوارس وهي تقطع الطريق على مهل متجهة إلى بين القصرين، فوثب قلبه وشاع فيه سرور ماكر، وما لبث أن دس حقيبة كتبه تحت إبطه الأيسر، وجرى وراءها حتى أدركها ثم وثب إلى سلمها الخلفي، ولكن الكمساري لم يتركه في سروره طويلا، فجاءه يطالبه بثمن التذكرة وهو يرمقه بنظرة تنم عن ريبة وتحد، فقال له متوددا إنه سيغادرها حالما تقف؛ لأنه لا يسعه النزول وهي سائرة، فتحول الرجل عنه إلى السائق، وهتف به أن يوقف العربة وهو يزمجر غاضبا، فانتهز الغلام فرصة تحوله عنه وشب على أمشاط قدميه وصفعه، ثم وثب إلى الأرض وانطلق هاربا وشتائم الكمساري تلاحقه أشد من الأحجار المطينة! ... لم تكن خطة مدبرة، ولا هي من مختار شطارته، ولكنه رأى غلاما يفعلها في الصباح فراقت له، ثم وجدها سانحة لإعادتها بنفسه ففعل.
9
واجتمعت الأسرة - ما عدا الأب - قبيل المغيب فيما يعرف بينها بمجلس القهوة، وكانت الصالة بالدور الأول مكانه المختار حيث تحيط بها حجرات نوم الإخوة والاستقبال ورابعة صغيرة أعدت للدرس، وقد فرشت الصالة بالحصر الملونة وقامت في أركانها الكنبات ذوات المساند والوسائد، وتدلى من سقفها فانوس كبير يشعله مصباح غازي في مثل حجمه. وكانت الأم تجلس على كنبة وسيطة وبين يديها مدفأة كبيرة دفنت كنجة القهوة حتى النصف في جمرتها التي يعلوها الرماد، وإلى يمينها خوان وضعت عليه صينية صفراء صفت عليها الفناجين، يجلس الأبناء حيالها سواء من يؤذن له باحتساء القهوة معها كياسين وفهمي، أو من لا يؤذن له بحكم التقاليد والآداب فيقنع بالسمر كالشقيقتين وكمال. تلك ساعة محببة إلى النفوس يستأنسون فيها إلى رابطتهم العائلية وينعمون بلذة السمر، وينضوون جميعا تحت جناح الأمومة في حب صاف ومودة شاملة. وبدت في جلساتهم راحة الفراغ وتحرره فكانوا بين متربع ومضطجع، وبينما جعلت خديجة وعائشة تستحثان الشاربين على الفراغ من شربهم لتقرآ لهم الطالع في فناجينهم، راح ياسين يتحدث حينا ويقرأ في قصة اليتيمتين من مجموعة مسامرات الشعب حينا آخر. كان من عادة الشاب أن يهب بعض فراغه لمطالعة القصص والأشعار، لا لإحساسه بنقص تعليمه - فالابتدائية وقتذاك لم تكن مطلبا صغيرا - ولكن غراما بالتسلية وولعا بالشعر والأساليب الجزلة. وقد بدا بجسمه المكتنز في جلبابه الفضفاض كقربة هائلة إلا أن مظهره لم يتعارض - بحكم الزمن - مع قسامة في وجهه الأسمر الممتلئ بعينيه السوداوين الجذابتين وحاجبيه المقرونين وشفتيه الشهوانيتين، ونم بجملته - رغم حداثة سنه الذي لا يجاوز الواحدة والعشرين - على رجولة مفعمة بالفحولة. ولبد كمال لصقه ليلتقط ما يرمي إليه بين آونة وأخرى من نوادر القصص، وهو لا يكف عن الاستزادة منها غير مكترث لما يحدثه إلحاحه على أخيه من الضيق كي يشبع أشواقا تشتعل بخياله في مثل هذه الساعة من كل يوم، ولكن ما أسرع أن يشغل عنه ياسين بالحديث أو بالاستغراق في المطالعة متفضلا عليه بين حين وآخر - كلما اشتد إلحاحه بكلمات مقتضبة إن وجد بها الجواب على بعض أسئلته، فما أحرى أن تستثير أسئلة جديدة لا جواب لها عنده، ثم لا يفتأ يرمق أخاه وهو آخذ في المطالعة التي تبيح له مفتاح العالم السحري بعين الحسد والحزن، فكم حز في نفسه عجزه عن قراءة القصة بنفسه، وكم أحزنه أن يجدها بين يديه بحيث يقلبها كيف شاء دون أن يسعه حل رموزها، فالولوج منها إلى دنيا الرؤى والأحلام، فقد وجد في هذا الجانب من ياسين مثارا لخياله هيأ له من ألوان المسرة ما هيأ، وهيج من أسباب الظمأ وعذابه ما هيج. وكثيرا ما كان يرفع عينيه إلى أخيه ويسأله في لهفة: «وماذا حدث بعد ذلك؟» فينفخ الشاب قائلا: «لا تضيق علي بأسئلتك ولا تتعجل حظك، فإن لم أقص عليك اليوم فغدا.» ولم يكن يحزنه شيء كاستنظاره للغد حتى اقترنت لفظة الغد في ذهنه بالحسرة، ولم يكن نادرا أن يتحول إلى أمه بعد تفرق المجلس وبه أمل أن تقص عليه ما «حدث بعد ذلك»، ولكن المرأة كانت تجهل قصة اليتيمتين وغيرها مما يقرأ ياسين، إلا أنها يعز عليها أن ترده خائبا فتروي له ما تحفظ من حكايات اللصوص والعفاريت، فيروغ خياله إليها رويدا ظافرا بزاد من العزاء. في مجلس القهوة ذاك لم يكن عجيبا أن يشعر بأنه ضائع مهمل بين أهله، لا يكاد يلتفت إليه أحد، وأنهم مشغولون عنه بأحاديثهم التي لا تنتهي. فلم يتورع عن الاختلاق في سبيل الاستئثار باهتمامهم ولو إلى حين، ولذلك رمى بنفسه في مجرى الحديث معترضا تياره بجرأة، وقال بلهجة حادة فجائية كانطلاق القذيفة كأنما تذكر أمرا خطيرا بغتة: يا له من منظر لا ينسى الذي رأيته اليوم وأنا عائد! ... رأيت غلاما يثب إلى سلم سوارس ثم صفع الكمساري وركض بأكبر سرعة، فما كان من الرجل إلا أن عدا وراءه حتى أدركه ثم ركله في بطنه بكل قوته ...
وقلب عينيه في الوجوه ليرى أثر حديثه، فلم يجد ثمة اهتماما ولمس إعراضا عن خبره المثير وتصميما على مواصلة الحديث، بل رأى يد عائشة تمتد إلى ذقن أمه وتحولها عنه بعد أن همت بالإصغاء إليه، ولمح إلى هذا ابتسامة هازئة ترتسم على شفتي ياسين الذي لم يرفع رأسه عن الكتاب، فركبه العناد وقال بصوت مرتفع: وسقط الغلام يتلوى وازدحم حوله الناس، فإذا به قد فارق الحياة ...
وأبعدت الأم الفنجان عن فمها وهتفت: يا ولداه! ... أتقول إنه مات؟
وسر باهتمامها وركز قوته فيها كما يركز المهاجم اليائس قوته في نقطة ضعيفة من سور منيع، فقال: أجل مات، ورأيت بعيني دمه وهو يسيل بغزارة.
وحدجه فهمي بنظرة ساخرة كأنها تقول له: «إني أذكر لك أكثر من قصة من هذا النوع» وقال متسائلا في تهكم: قلت إن الكمساري ركله في بطنه؟ ... فمن أين سال الدم؟!
وانطفأت شعلة الظفر التي تلألأت في عينيه مذ جذب أمه إليه، وحل محلها سهوم الارتباك والحنق، ولكن أسعفه الخيال فاستردت نظرة عينيه حيويتها وقال: لما ركله في بطنه سقط على وجهه فشج رأسه!
وهنا قال ياسين دون أن يرفع عينيه عن اليتيمتين: أو أن الدم سال من فيه؛ فالدم قد يسيل من الفم دون حاجة إلى جرح ظاهري، هنالك أكثر من تفسير لخبرك المكذوب - كالعادة - فلا تخف ...
واحتج كمال على تكذيب أخيه وراح يحلف بأغلظ الأيمان على صدقه، ولكن احتجاجه ضاع في ضجة من الضحك جمعت الغليظ والرفيع من حناجر الرجال والنساء في هارموني واحدة، وتحركت طبيعة خديجة الساخرة فقالت: ما أكثر ضحاياك، لو صدقت فيما تروي من أخبار لما أبقيت على أحد من أهل النحاسين حيا ... ماذا تقول لربنا لو حاسبك على أخبارك هذه؟!
ناپیژندل شوی مخ
ووجد في خديجة مهاجما يقدر عليه، وكعادته كلما ارتطم بسخريتها راح يعرض بأنفها قائلا: أقول له إن الحق على منخور أختي!
فقالت الفتاة وهي تضحك: من بعض ما عندكم، ألسنا في البلوى سواء!
وهنا قال ياسين مرة أخرى: صدقت يا أختاه.
وتحولت إليه متحفزة للانقضاض فبادرها قائلا: هل أغضبتك! ... لماذا! ... ليس إلا أنني جاهرت بالموافقة على رأيك ...
فقالت له حانقة: اذكر عيوبك قبل أن تعرض بعيوب الناس.
فرفع حاجبيه متظاهرا بالحيرة ثم تمتم: والله إن أكبر عيب ليهون إلى جانب هذا الأنف.
وتظاهر فهمي بالاستنكار ثم تساءل في نبرات وشت بانضمامه إلى المهاجمين: ماذا قلت يا أخي، أهو أنف أم جريمة؟
ولما كان فهمي لا يشترك في مثل هذا النضال إلا نادرا، فقد رحب ياسين بقوله في حماس وقال: هي الاثنان معا، فكر في المسئولية الجنائية التي سيتحملها من يقدم هذه العروس إلى عريسها المنكود!
وقهقه كمال ضاحكا بصوت كالصفير المتقطع ولم ترتح الأم إلى وقوع ابنتها بين كثرة من المهاجمين، فأرادت أن ترجع الحديث إلى أصله وقالت بهدوء: خرج بكم الكلام الفارغ عن موضوع الحديث، كان حديثا عن السيد كمال أصدق في أخباره أم لم يصدق، ولكن أظن أنه لا داعي إلى الشك في صدقه بعد أن حلف ... أجل كمال لا يحلف كذبا أبدا.
وباخ سرور الغلام الانتقامي لتوه، ومع أن إخوته واصلوا المزاح حينا آخر إلا أنه انقطع عنهم بروحه، متبادلا مع أمه نظرة ذات معنى، ثم خاليا بنفسه متفكرا في قلق وكدر. كان يدرك خطورة الحلف الكاذب فيما يثير من سخط الله وأوليائه، ويعز عليه جدا أن يحلف كذبا بالحسين خاصة لولهه به، ولكنه كثيرا ما وجد نفسه في مأزق حرج - كما وجد اليوم - لا مخرج منه في نظره إلا بالحلف الكاذب، فينساق وهو لا يدري إلى التورط فيه. بيد أنه لم يكن ينجو، خاصة إذا ذكر بجريرته، من الهم والقلق، ويود لو يقتلع الماضي السيئ من جذوره، وأن يبدأ صفحة جديدة نظيفة، وذكر الحسين، وموقفه عند أصل مئذنته حيث تتراءى وكأن هامتها تتصل بالسماء، وسأله في ضراعة أن يعفو عن زلته وهو يشعر بغضاضة من اجترأ على حبيب بإساءة لا تغتفر. وغرق في توسلاته مليا ثم أخذ يفيق إلى ما حوله ويفتح أذنيه إلى ما يدور من حديث فيه المعاد وفيه الجديد، وقليل منه ما يسترعي انتباهه، ولكنه لا يكاد يخلو من ترديد ذكريات منتزعة من ماضي الأسرة البعيد أو القريب، وأنباء مما يجري عن مسرات الجيران وأحزانهم، ومواقف حرجة للأخوين أمام أبيهما الجبار، تنبري خديجة إلى استعادة وصفها وتحليلها على سبيل الفكاهة أو الشماتة، ومن هذه وتلك نمت للغلام معرفة تبلورت في مخيلته على صورة غريبة تأثر تكوينها غاية التأثر بما تجاذب طرفيه من روح خديجة التهجمية العيابة، وروح أمه السمحة العفوة. وانتبه أخيرا إلى فهمي وهو يقول مخاطبا ياسين: إن هجوم هندنبرج الأخير شديد الخطورة، ولا يبعد أن يكون الهجوم الفاصل في هذه الحرب.
ناپیژندل شوی مخ
وكان ياسين يعطف على آمال أخيه، ولكن في هدوء متسم بقلة الاكتراث، تمنى مثله أن ينتصر الألمان وبالتالي الترك، وأن تسترد الخلافة سابق عزتها، وأن يعود عباس ومحمد فريد إلى الوطن، ولكن أمنية من هذه الأماني لم تكن لتشغل قلبه في غير أوقات الحديث عنها، وقد قال وهو يهز رأسه: مضى أربع سنوات ونحن نردد هذا الكلام.
فقال فهمي برجاء وإشفاق: لكل حرب نهاية، ولا بد أن تنتهي هذه الحرب، ولا أظن الألمان ينهزمون! - هذا ما ندعو الله أن يتحقق، ولكن ماذا يكون رأيك لو وجدنا الألمان كما يصفهم الإنجليز؟!
ولما كانت المعارضة تشعل حدته، فقد علا صوته وهو يقول: المهم أن نتخلص من كابوس الإنجليز، وأن تعود الخلافة إلى سابق عظمتها، فنجد طريقنا ممهدا ...
وتدخلت خديجة في الحديث متسائلة: ولماذا تحبون الألمان وهم الذين أرسلوا زبلن ليلقي قنابله علينا!
وراح فهمي يؤكد - كعادته - أن الألمان قصدوا الإنجليز بقنابلهم لا المصريين، فانتقل الحديث إلى مناطيد زبلن، وما يقال عن ضخامتها وسرعتها وخطورتها، حتى استوى ياسين في جلسته ونهض إلى حجرته ليرتدي ملابسه تمهيدا لمغادرة البيت إلى سهرته المعتادة، وعاد بعد فترة وجيزة وقد تهيأ وأخذ زينته، فتراءى أنيق الملبس، جميل المظهر، وبدا بجسمه الضخم وفحولته الناضجة وشاربه النابت أكبر من سنه كثيرا، ثم حياهم وانصرف وشيعه كمال بنظرة تنم عما يغبطه عليه من التمتع بحريته في انطلاق ساحر، فلم يغب عنه أن أخاه لم يعد يحاسب - منذ تعيينه كاتبا بمدرسة النحاسين - على ذهابه أو إيابه، وأنه يسهر كما يشاء ويعود حين يشاء، ما أجمل هذا وأسعده، وكم يكون إنسانا سعيدا لو ذهب وجاء كما يحب، ومد سهرته إلى حين يشاء، وقصر القراءة - حين تتم له أداتها - على الروايات والأشعار، ثم سأل أمه فجأة: أيمكنني إذا وظفت أن أسهر في الخارج كياسين؟
وابتسمت الأم قائلة: ليس السهر في الخارج بالغاية التي يصح أن تحلم بها من الآن!
فصاح محتجا: ولكن أبي يسهر، وياسين يسهر كذلك.
فرفعت الأم حاجبيها ارتباكا وتمتمت: شد حيلك أولا حتى تصير رجلا ثم موظفا، ووقتها يفرجها ربنا!
ولكن كمال بدا متعجلا فتساءل: ولماذا لا أتوظف بالابتدائية بعد ثلاثة أعوام؟
وصاحت خديجة في سخرية: تتوظف دون الرابعة عشرة! ... وماذا تصنع إذا بلت على نفسك في الوظيفة؟!
ناپیژندل شوی مخ
وقبل أن يعلن ثورته على أخته قال له فهمي بازدراء: يا لك من حمار! ... لماذا لا تفكر في دخول الحقوق مثلي؟ ... إن ظروف ياسين القاهرة هي التي جعلته يأخذ الابتدائية في العشرين من عمره، ولولاها لأتم تعليمه ... ألا تدري كيف تتمنى يا كسول!
10
عندما صعد فهمي وكمال إلى سطح البيت كانت الشمس على وشك الاختفاء، فلاحت قرصا أبيض مسالما تولت عنه حيويته وبردت حرارته وانطفأ توهجه، وقد بدا بستان السطح المسقوف باللبلاب والياسمين في ظلمة وانية، ولكن الشاب والغلام مضيا إلى شطر السطح الآخر، حيث لا يحجب فلول النور حجاب، ثم مالا إلى السور الملاصق لسور السطح المجاور، سطح الجيران. وكان فهمي يرقى بكمال إلى هذا الوضع كل مغيب بحجة مراجعة دروسه في الهواء الطلق على الرغم من أن جو نوفمبر أخذ يميل إلى البرودة في هذه الساعة من اليوم، وأوقف الغلام بحيث جعل ظهره إلى السور، ووقف هو لقاءه، بحيث أمكنه أن يمد بصره إلى سطح الجيران الملاصق دون تلفت كلما بدا به. وهناك بين حبال الغسيل لاحت فتاة - شابة في العشرين أو نحو ذلك - وقد انهمكت في جمع قطع الثياب الجافة وتكديسها في سلة كبيرة. ومع أن كمال راح يتكلم بصوت مرتفع كعادته إلا أنها واصلت عملها وكأنها لم تنتبه إلى مجيء الطارئين. أمل كان يجيء به دواما في مثل هذه الساعة لعله يفوز منها بنظرة إذا اتفق ودعاها إلى السطح بعض شأنها، ولم يكن تحقيقه يسيرا كما دل تورد وجهه الناطق بفرط سروره، وخفقان قلبه المتتابع ببهجة مفاجئة، فجعل ينصت إلى أخيه الصغير بعقل تائه وعينين أقلقهما استراق النظر، وهي تتراءى تارة وتحتجب أخرى، أو يبدو بعضها ويغيب بعضها، كيفما اتفق موقفها من الثياب والملاءات المنشورة ... كانت فتاة متوسطة القامة صافية البشرة مع ميل إلى البياض، سوداء العينين، تنطق مقلتاها بنظرة تفيض حياة وخفة وحرارة ، إلا أن جمالها وعاطفته المتوثبة وإحساسه بالظفر لرؤيتها لم تستطع أن تمحو القلق الذي يدب وراء قلبه - وانيا حين حضورها، ثم قويا إذا خلا إلى نفسه - لجرأتها على التعرض لعينيه كأنه ليس بالرجل الذي ينبغي أن تتوارى فتاة مثلها عن عينيه، أو كأنها فتاة لا تبالي التعرض للرجال، وطالما ساءل نفسه ما بالها لا تفزع مولية كخديجة أو عائشة لو وجدت إحداهما نفسها في مثل موقفها! أي روح عجيب يشذ بها عن التقاليد المرعية والآداب المقدسة! وألا يكون أهدأ جانبا لو بدا منها ذاك الاحتشام المفتقد، ولو على حساب سروره الذي يفوق الوصف برؤيتها؟! ... بيد أنه دأب على انتحال الأعذار لها من قدم الجوار ووحدة النشأة، وربما الوداد أيضا. ثم لا يفتأ وراء نفسه يحاورها ويجادلها حتى تشجع وترضى. ولما لم يكن جريئا كجرأتها فقد جعل يختلس من الأسطح المجاورة النظر ليطمئن إلى خلوها من الرقيب؛ لأنه لم يكن مما يغض الطرف عنه أن يجرح شاب في الثامنة عشرة حرمة الجيران، وخاصة من كان منهم في طيبة جارهم السيد محمد رضوان؛ ولهذا أقلقه دائما شعوره بخطورة فعلته، وخوفه من أن يترامى نبؤها إلى أبيه فتكون الطامة، ولكن استهانة الحب بالمخاوف عجب قديم فلم يقدر شيء منها على إفساد نشوته، أو انتزاعه من حلم ساعته، فمضى يراقبها وهي تبدو أو تختفي حتى خلا ما بينه وبينها، وباتت تواجهه ويداها الصغيرتان ترتفعان وتنخفضان وأصابعها تنقبض وتنبسط على مهل وتؤدة، كأنها تتعمد إطالة عملها، وحدس قلبه ذاك التعمد وهو بين الشك والتمني ولكنه لم يقتصد في الانطلاق مع فرحته إلى أبعد الآفاق حتى استحال باطنه رقصا وأنغاما، ومع أنها لم ترفع عينيها إليه قط إلا أن هيئتها وتورد وجنتيها وتحاميها النظر إليه نمت جميعا عن شدة إحساسها بوجوده أو انعكاس وجوده على إحساسها. وبدت في هدوئها وصمتها موفورة الرزانة كأنها ليست هي هي التي تشيع الفرح والبهجة في بيته إذا زارت شقيقتيه، أو ليست هي هي التي يعلو صوتها في جنبات الدار وترن ضحكاتها، هنالك يقبع وراء باب حجرته وكتابه في يده استعدادا للتظاهر بالاستذكار إذا طرقه طارق، ويروح يستقبل بوعيه المركز أنغامها الناطقة والضاحكة بعد استخلاصها من أصوات الآخرين الملابسة لها التي لا يكاد يشعر بها كأنما وعيه مغناطيس يجذب إليه الصلب وحده من بين أخلاط شتى، وربما لحظ بعضا منها وهو يعبر الصالة، وربما التقت عيناهما في لمحة خاطفة ولكنها كافية لإسكاره وإذهاله كأنه تلقى بها رسالة خطيرة دار رأسه بخطورتها، وملأ بنظراته المسترقة من وجهها عينيه وروحه، فعلى الرغم من أنها كانت مسترقة خاطفة إلا أنها مستأثرة بروحه وإحساسه، فكانت شديدة النفاذ والقوة تأتي النظرة منها بما لا يستطيعه النظر الطويل والسبر العميق، كأنها انبثاق البرق الذي يتوهج لحظة قصيرة، فتضيء شرارته الرحاب وتخطف الأبصار، وثمل قلبه بسرور مسكر عجيب، ولكنه لم يخل - كحاله أبدا - من ظل أسى يتبعه كما تتبع رياح الخمسين مشرق الربيع؛ لأنه لم يكن يكف عن التفكير في الأربعة الأعوام التي يتم تعليمه فيها، والتي لا يدري كم من يد قد تمتد في أثنائها إلى الثمرة الناضجة لتقطفها. ولو كان جو البيت غير هذا الجو الخانق الذي تشد على عنقه قبضة أبيه الحديدية، لأمكنه أن يلتمس إلى سلام قلبه أقصر السبل، ولكنه خاف دائما أن ينفس عن آماله فيعرضها لزجرة من أبيه قاسية تطيرها وتبددها. وتساءل وهو يمد بصره فوق رأس أخيه: ترى أي أفكار تدور برأسها؟ ألا يشغله حقا إلا ما تجمع من قطع الملابس؟ ... ألم تشعر بعد بما يجذبه إلى موقفه هذا مساء بعد مساء؟ ... وكيف يلقى قلبها هذه الخطى الجريئة من ناحيته؟ ... وتخيل نفسه متخطيا سور السطوح إلى مكانها في الظلام، وتخيلها على أطوار شتى تارة تنتظره على ميعاد، وتارة تباغت بمقدمه حتى تهم بالفرار، ثم تصور ما يكون بعد ذلك وما يند عنه من بوح وشكوى وعتاب، ثم ما قد يستتبعه هذا أو ذاك من عناق وقبل، بيد أنها كانت محض تخيلات وأوهام، وكان أدرى الناس - بما جبل عليه من دين وآداب - ببطلانها ومحالها. وبدا الموقف صامتا إلا أنه كان صمتا مكهربا يكاد ينطق بغير لسان، وحتى كمال لاحت في عينيه الصغيرتين نظرة حائرة كأنه يسائل نفسه عن معنى هذا الجد الغريب، الذي يثير استطلاعه على غير جدوى، ثم نفد صبره فرفع صوته قائلا: لقد حفظت الكلمات، ألا تسمعها لي؟
وأفاق فهمي على صوته، فتناول الكراسة منه ومضى يسأله عن معاني الكلمات والآخر يجيب حتى وقعت عيناه على كلمة عزيزة وجد بينها وبين ما كان فيه سببا، وأي سبب فرفع صوته عمدا وهو يسأله عن معناها قائلا: قلب؟
وأجاب الغلام وتهجى والآخر يتلمس أثر موقع الكلمة من وجهها، ثم رفع صوته مرة أخرى متسائلا: حب؟
وارتبك كمال قليلا ثم قال بصوت يدل على الاعتراض: ليست هذه الكلمة في الكراسة ...
قال فهمي باسما: ولكني ذكرتها لك مرارا، وكان يجب أن تحفظها!
وقطب الغلام كأنه يشد قوس حاجبيه لاصطياد الكلمة الهاربة، ولكن أخاه لم ينتظر نتيجة محاولته وواصل امتحانه بنفس الصوت المرتفع قائلا: زواج.
وخيل إليه عند ذاك أنه لمح على شفتيها شبه ابتسامة، فتوالت ضربات قلبه في سرعة وحرارة، وملأه شعور بالظفر؛ لأنه أمكنه أخيرا أن ينقل إليها شحنة من الكهرباء التي تستعر في صدره، بيد أنه تساءل لماذا يا ترى لم تفصح عن تأثرها إلا عند هذه الكلمة، ألأنها استنكرت سابقتها أم أن الأخيرة كانت أول ما وعت أذناها؟! ... وما يدري إلا وكمال يقول محتجا بعد أن أعياه التذكر: هذه الكلمات صعبة جدا ...
وآمن قلبه بقولة أخيه البريئة، وذكر على ضوئها حاله ففترت فورة سروره أو كادت، وهم بالكلام ولكنه رآها انحنت على السلة ثم حملتها واتجهت نحو السور الملاصق لسطح بيته، ووضعتها عليه وراحت تضغط الغسيل براحتيها، قريبة من موقفه لا يفصلها عنه إلا ذراعان، ولو شاءت لاختارت موضعا آخر من السور ولكن كأنها تعمدت أن تتصدى له وجها لوجه، فبدت في هجومها جريئة لحد أخافه وأربكه، وإن عاود قلبه الخفقان السريع الحار، حتى شعر بأن الحياة تبيح له من كنوزها لونا جديدا لم يدره، لطيفا بهيجا مفعما حيوية وأفراحا، ولكن وقفتها القريبة لم تطل فما لبثت أن رفعت السلة بين يديها، واستدارت مولية صوب باب السطح حتى مرقت منه وغابت عن ناظريه، وجعل ينظر إلى الباب مليا دون مبالاة بأخيه الذي عاود التشكي من صعوبة الكلمة، ثم شعر برغبة في الانفراد لتملي ما استجد من تجارب الهوى، فقلب عينيه في الفضاء في تظاهر بالدهشة كأنما يتنبه إلى الظلمة الزاحفة في الأفق لأول مرة، وتمتم قائلا: آن لنا أن نعود ...
ناپیژندل شوی مخ
11
وكان كمال يستذكر دروسه في الصالة تاركا حجرة الاستذكار لفهمي وحده؛ ليكون غير بعيد عن مجلس أمه وأختيه. وكان ذلك المجلس امتدادا لمجلس القهوة، إلا أنه يقتصر على النسوة وحديثهن الخاص الذي يجدن فيه على تفاهته متعة لا تدانيها متعة، وقد جلسن كعادتهن متلاصقات كأنهن جسم واحد ذو رءوس ثلاثة في حين تربع كمال على كنبة أخرى قبالتهن فاتحا كتابه في حجره يقرأ فيه حينا، ويغمض عينيه ليحفظ عن ظهر قلب حينا آخر، ويتسلى بين هذا وذاك بالنظر إليهن والإصغاء لحديثهن. ولم يكن فهمي يوافق على استذكاره لدروسه بعيدا عن مراقبته إلا على كره، ولكن تفوق الغلام في المدرسة شفع له في اختيار المكان الذي يحب أن يستذكر فيه. والحق كان اجتهاده فضيلته الوحيدة التي تحمد له، ولولا شقاوته لاستحق عليها تشجيع أبيه نفسه، ولكنه على اجتهاده وتفوقه كانت تلم به ساعات ملل فيضيق بالعمل والنظام، حتى ليغبط أمه وأختيه على خلو بالهن وما يحظين به من راحة وسلام، وربما تمنى فيما بينه وبين نفسه لو كان حظ الذكور في هذه الدنيا كحظ النساء، إلا أنها كانت ساعات عابرة فلم تستطع أن تنسيه ما يتمتع به من مزايا دعته في أحايين كثيرة إلى التطاول عليهن بالفخر والمباهاة لداع ولغير ما داع، فلم يكن من النادر أن يسألهن وفي صوته رنة التحدي: «من منكن تعرف عاصمة الكاب؟» أو «ما معنى شاب بالإنجليزية؟» فيجد من عائشة صمتا لطيفا على حين تقر له خديجة بجهلها ثم تعرض به قائلة: «ليس لهذه الطلاسم إلا من كان له رأس كرأسك!» أما أمه فتقول له في إيمان ساذج: «لو علمتني هذه الأشياء كما تعلمني الديانة لما قصرت فيها دونك.» ذلك أن أمه - على استكانتها ورقتها - كانت شديدة الاعتزاز بثقافتها الشعبية المتوارثة عن أجيال متعاقبة منذ القدم، ولم تكن تظن أنها بحاجة إلى مزيد من العلم أو أنه استجد من العلم ما يستحق أن يضاف إلى ما لديها من معارف دينية وتاريخية وطبية، وضاعف من إيمانها بها أنها تلقته عن أبيها أو في بيته الذي نشأت فيه، وكان الأب شيخا من العلماء الذين فضلهم الله - لحفظهم القرآن - على العالمين. فلم يكن معقولا أن تعدل بعلمه علما ولو لم تجهر برأيها إيثارا للسلامة؛ ولهذا كثيرا ما أساءت الظن ببعض ما يقال للأبناء في المدارس، ووجدت ثمة حيرة شديدة سواء في تفسيره أو في السماح بتلقينه للناشئين، بيد أنها لم تعثر باختلاف يذكر بين ما يقال للغلام في المدرسة عن أمور الدين وبين ما لديها منها، ولما كان الدرس المدرسي لا يكاد يتسع إلا لقراءة السور وتفسيرها، وتبين المبادئ الدينية الأولية، فقد وجدت متسعا لقص ما عندها من أساطير لا تنفصل في اعتقادها عن حقيقة الدين وجوهره، بل لعلها رأت فيها دائما حقيقة الدين وجوهره، وجلها معجزات وكرامات عن النبي والصحابة والأولياء، وتعاويذ شتى للوقاية من العفاريت والزواحف والأمراض فصدقها الغلام وآمن بها؛ لأنها صادرة عن أمه من ناحية، ولأنها جديدة في موضوعها فلم تتعارض مع معارفه الدينية المدرسية من ناحية أخرى. وفضلا عن هذا وذاك فلم تكن عقلية مدرس الديانة - كما تتكشف في تبسطه في الحديث أحيانا - لتختلف عن عقلية أمه كثيرا أو قليلا، ثم أنه شغف بالأساطير شغفا لم يظفر بمثله في الدروس الجافة، فكان درس أمه من أسعد ساعات اليوم وأحفلها بالمتعة والخيال. أما فيما عدا الدين فلم يكن النزاع نادرا إذا تهيأت أسبابه، من ذلك أنهما اختلفا مرة عن الأرض، وهل هي تدور حول نفسها في الفضاء أو تنهض على رأس ثور، ولما وجدت من الغلام إصرارا تراجعت متظاهرة بالتسليم، ولكنها تسللت إلى حجرة فهمي وسألته عن حقيقة الثور الذي يحمل الأرض، وهل ما زال على عهده بحملها. ورأى الشاب أن يترفق بها ويجيبها باللغة التي تحبها، فقال لها إن الأرض مرفوعة بقدرة الله وحكمته. وعادت المرأة قانعة بهذا الجواب الذي سرها، وإن لم يمح من مخيلتها ذاك الثور الكبير. على أن كمال لم يؤثر هذا المجلس لاستذكاره رغبة منه في الفخر بعلمه أو حبا في النزاع الفكري، كان في الحق يحب بكل قلبه ألا يفارقهن ولو في وقت عمله، وكان يجد لمرآهن سرورا لا يعادله سرور؛ فهذه الأم يحبها أكثر من أي شيء في الدنيا ولا يحتمل تصور الوجود بدونها لحظة واحدة، وهذه خديجة وهي تلعب في حياته دور أم أخرى رغم سلاطة لسانها ووخز مزاحها، وهذه عائشة التي وإن لم تتحمس يوما لخدمة إنسان إلا أنها أحبته حبا عظيما، فبادلها حبا بحب حتى كان لا يشرب جرعة الماء من القلة، إلا إذا دعاها للشرب قبله ليضع شفتيه موضع شفتيها المبتل بريقها. ومضت الجلسة كما تمضي كل ليلة حتى قاربت الساعة الثامنة، فقامت الفتاتان وودعتا أمهما وذهبتا إلى حجرة نومهما، وعند ذاك عجل الغلام بقراءة درسه حتى فرغ منه، ثم تناول كتاب الديانة وانتقل إلى جانب أمه على الكنبة المقابلة له وهو يقول لها بصوت ينم عن الإغراء: استمعنا اليوم إلى تفسير سورة عظيمة ستعجبك جدا.
فاستوت المرأة في جلستها وهي تقول باحترام وإجلال: كلام ربنا عظيم كله.
وسره اهتمامها وهزه شعور بالغبطة والعزة لا يجده إلا حين هذا الدرس الأخير من اليوم. أجل كان يجد في هذا الدرس الديني أكثر من سبب للسعادة، فإنه يقوم في أثناء نصفه على الأقل بدور المدرس، ويحاول ما استطاع أن يستعيد ما يعلق بذاكرته من هيئة مدرسه وحركاته وما يتمثله فيه من إحساس بالاستعلاء والقوة، وإنه يستمتع في نصفه الآخر بما تلقيه عليه أمه من ذكريات وأساطير، وإنه يستأثر وحده في شطريه بأمه دون شريك. ونظر كمال في الكتاب فيما يشبه الإدلال ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا
حتى أتم السورة، ولاح في عيني الأم التردد والحيرة؛ إذ كانت تحذره من التفوه باسمي العفريت والجن درءا لشرور تذكر بعضها على سبيل التخويف، وتمسك عن البعض إشفاقا ومبالغة في الحيطة، فلم تدر كيف تتصرف وهو يتلو أحد الاسمين الخطيرين في سورة شريفة، بل لم تدر كيف تحول بينه وبين حفظها، أو ماذا تفعل لو دعاها كالمعتاد إلى حفظها معه. وقرأ الغلام في وجهها هذه الحيرة فداخله سرور ماكر، وجعل يبدأ ويعيد ضاغطا على مخارج الاسم الخطير وهو يلحظ حيرتها متوقعا أن تفصح أخيرا عن إشفاقها في لون من ألوان الاعتذار، ولكنها على شديد حيرتها لاذت بالصمت فمضى يعيد عليها التفسير كما سمعه حتى قال: ها أنت ترين أن من الجن من استمع إلى القرآن وآمن به، فلعل سكان بيتنا من هؤلاء الجن المسلمين، وإلا ما أبقوا علينا طوال هذا العمر.
فقالت المرأة في شيء من الضيق: لعلهم ... ولكن من الجائز أن يكون بينهم غيرهم، فيحسن بنا ألا نردد أسماءهم! - لا خوف من ترديد الاسم ... هكذا قال مدرسنا.
فحدجته المرأة بنظرة عتاب وقالت: المدرس لا يعرف كل شيء! - وإن كان الاسم ضمن آية شريفة؟
وشعرت حيال تساؤله بقهر ولكنها لم تجد بدا من أن تقول: كلام ربنا بركة كله.
واقتنع كمال بهذا القدر، ثم واصل حديثه عن التفسير قائلا: ويقول شيخنا أيضا إن أجسامهم من نار!
ناپیژندل شوی مخ
وبلغ بها القلق غايته فاستعاذت بالله وبسملت عدة مرات، أما كمال فاستطرد قائلا: وسألت الشيخ: هل يدخل المسلمون منهم الجنة؟ فقال: نعم، فسألته مرة أخرى: كيف يدخلونها بأجسام من نار؟ فأجابني بحدة قائلا: إن الله قادر على كل شيء ... - جلت قدرته.
فرنا إليها باهتمام ثم تساءل: وإذا التقينا بهم في الجنة ألا تحرقنا نارهم؟!
فابتسمت المرأة وقالت في ثقة وإيمان: ليس فيها أذى أو خوف.
وسرح الغلام بعينيه حالما وإذا به يسأل مغيرا مجرى الحديث فجأة: أنرى الله في الآخرة بأعيننا؟
قالت المرأة بنفس الثقة والإيمان: هذا حق لا ريب فيه.
فلاحت في نظرته الحالمة أشواق كما تلوح في الغلس بتأثير الضياء، وساءل نفسه: متى يرى الله، وفي أي صورة يتبدى؟ وإذا به يسأل أمه مغيرا مجرى الحديث فجأة مرة أخرى: أيخاف أبي الله؟!
فتولتها الدهشة وقالت في إنكار: يا له من سؤال غريب! ... أبوك رجل مؤمن يا بني، والمؤمن يخاف ربه.
فهز رأسه في حيرة وقال بصوت خفيض: لا أتصور أن أبي يخاف شيئا.
فهتفت المرأة في عتاب: سامحك الله ... سامحك الله ...
واعتذر عن قوله بابتسامة رقيقة، ثم دعاها إلى حفظ السورة الجديدة، وراحا يتلوانها آية آية ويعيدان. ولما استفرغا جهدهما نهض الغلام ليذهب إلى حجرة النوم فتبعته، حتى اندس تحت الغطاء على فراشه الصغير، ثم وضعت راحتها على جبينه وتلت آية الكرسي، وانحنت فوقه وطبعت قبلة على خده، فأحاط عنقها بذراعه ورد بقبلة طويلة صادرة من أعماق قلبه الصغير. وكانت تلقى دائما صعوبة في التخلص منه عند توديعه مساء؛ لأنه كان يبذل كل حيلته ليستبقيها إلى جانبه أطول مدة ممكنة إن لم يفز باستبقائها، حتى يغيب في نومه وهو بين ذراعيها، ولم يجد وسيلة لبلوغ غايته خيرا من أن يطلب إليها أن تتلو على رأسه - إذا ختمت آية الكرسي - سورة ثانية ثم ثالثة، حتى إذا آنس منها ابتسامة اعتذار توسل إليها معتلا بخوفه من وحدته في الحجرة، أو بما يتراءى له به من أحلام مزعجة لا تدفعها إلا تلاوة طويلة للسور الشريفة، وربما تمادى في تشبثه بها إلى حد تصنع المرض، غير واجد في تحايله هذا جورا، بل رآه عن يقين ممارسة منقوصة لحق من حقوقه المقدسة التي هضمت أفظع الهضم يوم فصل عن أمه ظلما وعدوانا، وجيء به إلى هذا الفراش المفرد بحجرة أخويه. كم يذكر مع الحسرة عهدا غير بعيد من ماضيه حين مضجعهما كان واحدا، وحين ينام متوسدا ذراعها وهي تسكب في أذنه بصوتها الرقيق قصص الأنبياء والأولياء، وحين النوم يغشاه قبل رجوع أبيه من سهرته، وينحسر عنه بعد نهوض الرجل إلى الحمام، فلم يكن يرى مع أمه ثالثا، وكانت الدنيا له بلا شريك. ثم بقضاء أعمى لم يدر له حكمة فرقوا بينهما، وتطلع إليها ليرى أثر نفيه في نفسها فما عجب إلا بتشجيعها الموحي بموافقتها وتهنئتها له قائلة: «الآن صرت رجلا فمن حقك أن يفرد لك فراش خاص.» من قال إنه يسره أن يكون رجلا، أو أنه يطمح إلى أن يفرد له فراش خاص؟! ومع أنه بلل أول وسادة خاصة له بدمعه، ومع أنه أنذر أمه بأنه لن يعفو عنها مدى الحياة، إلا أنه لم يجرؤ على التسلل إلى مضجعه القديم؛ لأنه كان يعلم أن وراء تلك الحركة الجائرة الغادرة تجثم إرادة أبيه التي لا ترد، ولشد ما حزن حتى رسبت عكارة الحزن في أحلامه، ولشد ما حنق على أمه - لا لأنه لم يسعه أن يحنق على أبيه فحسب - ولكن لأنها كانت آخر من يتصور أن يخيب عنده الأمل، بيد أنها عرفت كيف تسترضيه وترده إلى الصفاء رويدا ودأبت على ألا تفارقه بادئ الأمر حتى يوافيه النوم، وجعلت تقول له: «لم نفترق كما تزعم، ألست ترانا معا؟ وسنبقى دائما معا، لن يفرق بيننا إلا النوم الذي كان يفرق بيننا ونحن في فراش واحد.» والآن لم تعد تطفو على شعوره حسرة مما تخلف عن تلك الذكرى، واستنام إلى حياته الجديدة، بيد أنه لم يكن يدعها تذهب حتى يستنفد الحيل لاستبقائها إلى جانبه أطول مدة ممكنة، وقد قبض على راحتها في حرص شديد كما يقبض الطفل على لعبته بين أطفال يتخاطفونها. وراحت هي تتلو الآيات على رأسه حتى غافله الكرى، فودعته بابتسامة رقيقة وغادرت الحجرة، واتجهت إلى الحجرة التالية ففتحت بابها بخفة، ونظرت صوب فراش لاح شبحه في جانبها الأيمن وتساءلت في رقة: «نمتما؟» فجاءها صوت خديجة وهي تقول: كيف يتأتى لي النوم وشخير ست عائشة يملأ علي الحجرة؟!
ناپیژندل شوی مخ